مقالات وآراء
الاعتزاز القومي والإيمان الديني: علاقة تكامل أم تضاد؟// د. عامر ملوكا
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 15 آذار/مارس 2025 21:40
- كتب بواسطة: د. عامر ملوكا
- الزيارات: 668
د. عامر ملوكا
الاعتزاز القومي والإيمان الديني: علاقة تكامل أم تضاد؟
د. عامر ملوكا
طالما أُثير الجدل حول العلاقة بين الاعتزاز القومي والإيمان الديني، إذ يرى البعض أن الولاء للأمة قد يتعارض مع الولاء الديني، وكأن الهوية القومية والدينية تقفان على طرفي نقيض. غير أن هذا الفهم ينطوي على تبسيط مفرط ويتجاهل الطبيعة المركّبة للهوية الإنسانية، التي تتشكل من مزيج من الدين، والقومية، واللغة، والثقافة، والتاريخ، والانتماء إلى الأرض. فهذه العناصر لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل تتداخل وتتفاعل في تشكيل وعي الإنسان بذاته ومجتمعه.
يشكل كل من القومية والدين ركيزتين أساسيتين في هوية الإنسان، إذ يمنحانه بُعدًا اجتماعيًا وروحيًا يحدد انتماءه ويوجّه سلوكه. إلى جانب ذلك، تلعب عوامل أخرى، مثل اللغة التي تعكس التراث الثقافي، والوطن الذي يُمثّل الإطار الجغرافي، دورًا في تكوين هوية الفرد. وعليه، فإن الاعتزاز القومي يُعبر عن ارتباط الإنسان بأرضه وتاريخه، بينما يمنحه الإيمان الديني أفقًا روحانيًا يُوجّه قيمه ومبادئه.
الاعتزاز القومي لا يقتصر على مجرد الشعور بالانتماء إلى وطن أو ثقافة، بل هو امتداد للهوية الجماعية التي تتجذر في اللغة والعادات والتقاليد، وهو انعكاس لحاجة الإنسان الفطرية إلى الانتماء إلى كيان يمنحه المعنى والأمان. رغم أن مفهوم القومية بمصطلحه الحديث لم يظهر إلا في القرن التاسع عشر، فإن جذوره تمتد إلى العصور القديمة، إذ لطالما كان الشعور بالانتماء إلى جماعة أو أمة جزءًا من الوعي الإنساني. وغالبًا ما يتم الخلط بين القومية والإثنية، رغم وجود فروقات جوهرية بينهما.
أما الدين، فهو رابطة روحية تجمع الإنسان بالإله وبالمجتمع المؤمن، ولا يقتصر على حدود جغرافية أو قومية، بل يتجاوزها ليشمل الإنسانية جمعاء. الأديان الكبرى تدعو إلى الإخاء الإنساني والتسامح، لكنها في الوقت ذاته لا تلغي الخصوصيات القومية، بل تؤكد على احترام التنوع الثقافي والهوية المميزة لكل أمة. ومن هنا، يمكن النظر إلى الاعتزاز القومي باعتباره تعبيرًا عن الالتزام بالقيم الأخلاقية التي يعززها الدين، مثل حب الوطن، والعمل من أجل نهضته، والدفاع عنه، وهي جميعها تتماشى مع مبادئ العدل والإحسان والتضحية التي تدعو إليها الأديان.
لطالما لعب الدين دورًا جوهريًا في تشكيل الهويات القومية عبر التاريخ، حيث كان مصدر إلهام للشعوب في مواجهة الاستعمار والاضطهاد، وساهم في بناء منظومات القيم الثقافية التي تميّز كل أمة عن غيرها. وعلى الرغم من أن الدين يحمل رسالة عالمية تتجاوز الحدود القومية، إلا أنه لا يُلغي الهوية الخاصة بكل مجتمع، بل يمنح الإنسان أفقًا كونيًا، بينما تمنحه القومية جذورًا ثقافية تربطه بتاريخه وتراثه.
مع ذلك، يمكن أن ينشأ التناقض بين القومية والدين عندما يُساء استخدامهما لأغراض سياسية أو يتم فهمهما فهمًا متطرفًا. فالتسييس المفرط قد يحوّل القومية أو الدين إلى أدوات للسيطرة والإقصاء بدلًا من كونهما عناصر توحيد، كما أن التفسير الحرفي لفكرة الولاء قد يؤدي إلى تصادم زائف بين الانتماء للأمة والانتماء الديني. لذا، فإن تحقيق التوازن بين الدين والقومية يتطلب تعزيز الوعي المشترك، بحيث يدرك الأفراد أن القومية والدين ليسا متناقضين، بل يمكن أن يتكاملا بطرق متعددة. فالقيم الدينية تُسهم في ضبط الاعتزاز القومي ومنعه من التحول إلى تعصّب أعمى، بينما تمنح القومية للدين إطارًا اجتماعيًا وثقافيًا يساعد على نشر رسالته.
يتطلب تحقيق هذا التكامل جهودًا متواصلة في مجالات التعليم والتثقيف، بحيث تُدمج مفاهيم التسامح الديني والاعتزاز القومي في المناهج الدراسية والخطاب الثقافي، دون أن تنزلق إلى التطرف أو الإقصاء. كما يُمكن للإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية أن تلعب دورًا حاسمًا في تصحيح التصورات الخاطئة التي تصوّر القومية والدين على أنهما في صراع دائم. إن القومية الحقيقية لا تعني التعصب أو التحيز، بل تقوم على الاعتزاز بالإرث الثقافي والتاريخي مع احترام الآخرين، مما يستوجب تعزيز مفهوم القومية المنفتحة التي تتقبل التعددية الدينية والعرقية، فلا يتحول الدين إلى أداة للتمييز داخل القومية، ولا تُصبح القومية وسيلة لإقصاء أتباع أديان مختلفة.
لتحقيق هذا التكامل، ينبغي التركيز على المبادئ والقيم المشتركة بين الدين والقومية، مثل العدالة، الرحمة، السلام، والتعاون من أجل التنمية. فالدين يرسّخ الأخلاق، بينما توفر القومية الأرضية الاجتماعية التي يمكن من خلالها تجسيد هذه القيم على نطاق أوسع. وعندما يصبح الدين والقومية شريكين في تحقيق هذه الأهداف، يسهمان معًا في بناء مجتمعات قوية ومتوازنة قادرة على مواجهة التحديات دون أن تنزلق إلى الصراعات والانقسامات.
ولعل أبرز الأمثلة التاريخية التي تجسّد العلاقة التكاملية بين الاعتزاز القومي والإيمان الديني تشمل تجارب مثل الهند، حيث نجح المهاتما غاندي في دمج القيم الهندوسية مع الهوية القومية في نضاله ضد الاستعمار البريطاني، معتبرًا الاستقلال الذاتي (السواراج) جزءًا من الواجب الديني والأخلاقي. كما استندت النهضة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية إلى مزيج من الاعتزاز القومي والقيم الشنتوية والبوذية، مما ساهم في إعادة بناء البلاد على أسس تحترم تقاليدها الثقافية والدينية. وفي بولندا خلال الثمانينيات، لعبت الكنيسة الكاثوليكية، بقيادة البابا يوحنا بولس الثاني، دورًا محوريًا في دعم الحركة القومية البولندية ضد الحكم الشيوعي، مما ساهم في إسقاط النظام السوفييتي هناك.
ليس هناك تعارض جوهري بين الاعتزاز القومي والإيمان الديني، بل إنهما عنصران متكاملان يشكلان هوية الإنسان والمجتمع. حين يتم فهم القومية والدين بطريقة صحيحة، يصبحان عاملين لبناء المجتمعات وتطويرها بدلًا من أن يكونا سببًا للصراعات والانقسامات. التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق التوازن بينهما، بحيث يدعم كل منهما الآخر في تحقيق الخير الفردي والجماعي.