اخر الاخبار:
في أربيل.. صلاة لـ"راحة نفس" البابا - الجمعة, 25 نيسان/أبريل 2025 18:21
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

شخابيط ذات معنى: ثقافة "حشو المصران"// د. عامر ملوكا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. عامر ملوكا

 

عرض صفحة الكاتب 

شخابيط ذات معنى: ثقافة "حشو المصران"

د. عامر ملوكا

 

ظاهرة مترسخة في العديد من المجتمعات، حيث يُنظر إلى تناول الطعام بكميات كبيرة وكأنه ضرورة حتمية بغض النظر عن الشعور بالشبع أو الحاجة الفعلية. هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك فردي، بل هي انعكاس لحقب تاريخية مرت بها المجتمعات، تركت بصماتها على العادات الغذائية والتقاليد الاجتماعية. ترتبط هذه الثقافة ارتباطًا وثيقًا بظروف تاريخية صعبة مرت بها مجتمعاتنا، مثل المجاعات والقحط وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والحروب . فخلال فترات الشدة، كان الطعام نادرًا، وأصبح الشعور بالشبع عند توفره فرصة نادرة لا يمكن تفويتها. وقد ورثت الأجيال اللاحقة هذا التصور، حتى في أوقات الوفرة، فبقيت عادة الإفراط في الأكل وكأنها استجابة فطرية لخوف متوارث من الجوع. إلى جانب ذلك، فإن زيادة عدد السكان مع محدودية الموارد جعلت من تأمين الغذاء أولوية أساسية، ما عزَّز الميل إلى تناول أكبر كمية ممكنة عند توفر الطعام. في المجتمعات التقليدية، كان الطعام يُعتبر رمزًا للكرم والقوة، ومن هنا أصبح تناول كميات كبيرة منه وسيلة لإثبات الرفاهية أو حتى الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة.

 

على المستوى النفسي، يُعَدُّ تناول الطعام أحد أكثر الطرق شيوعًا للشعور بالراحة والأمان، إذ أنه يشبع غريزة البقاء الأساسية التي تعد أولى حاجات الإنسان وفق هرم ماسلو. فبدون تحقيق الاكتفاء الغذائي، لا يستطيع الإنسان التوجه نحو مستويات أعلى من الحاجات، مثل تحقيق الأمان الاجتماعي أو الطموح. ولذلك، فإن الطعام يصبح بالنسبة للكثيرين وسيلة لتهدئة التوتر والقلق، خاصة في المجتمعات التي تعاني من ضغوط اقتصادية أو عدم استقرار. كما أن هناك بعدًا فيسيولوجيًا لهذا السلوك، حيث إن الجسم مبرمج على تخزين الطاقة تحسبًا لأوقات الحاجة، وهو ما يدفع الإنسان إلى الأكل حتى بعد الشعور بالشبع. ومع تكرار هذا السلوك، يصبح عادة متأصلة يصعب تغييرها.

 

يمكن ملاحظة هذه الثقافة في تفاصيل الحياة اليومية، خصوصًا في مجتمعاتنا الشرقية. على سبيل المثال، عندما كنا أطفالًا، كانت وجباتنا عادة تتكون من الأرز والمرق مع قطعة لحم. ولكن كان معظمنا يتناول الأرز والمرق أولًا ثم يترك اللحم للنهاية، وذلك لأننا كنا نعتقد أن اللحم سوف ناكله حتى لو شبعنا، أما إذا بدأنا باللحم، فربما نشبع وقد لا نكمل باقي الطعام. هذا التصرف، على بساطته، يعكس ثقافة حشو المصران . مثال آخر هو ما نلاحظه في الدعوات المجانية للأكل، حيث يُقبل الناس على تناول الطعام حتى وإن لم يكونوا جائعين، بدافع الاستفادة القصوى من الفرصة المتاحة. هنا، تتحول عملية الأكل إلى تصرف لا إرادي تقريبًا، قائم على موروث ثقافي أكثر منه حاجة فعلية. إضافةً إلى ذلك، حتى وقت ليس بالبعيد، كان يُنظر إلى الإنسان ذو الوزن الثقيل على أنه يتمتع بصحة جيدة وتعافٍ، وكان يُنظر إلى النساء الأكثر وزنًا على أنهن أكثر جمالًا وصحة ولديهن قدرة أكبر على الإنجاب. ولا يزال كثيرون حتى اليوم يتناولون الطعام بسرعة وكأنهم في سباق، خشية نفاد الأكل قبل حصولهم على حصتهم، حتى وإن كان الطعام متوفرًا بكثرة. لقد انتقلت مثل هذه العادات إلى الأجيال الجديدة، حتى أصبحنا نتصرف وكأنها جزء من تكويننا الجيني.. هذه النظرة المجتمعية عززت من ثقافة الأكل المفرط، حيث أصبح الامتلاء الجسدي دليلًا على الرفاهية والصحة بدلاً من كونه مؤشرًا على العادات الغذائية غير المتوازنة.

رغم أن ثقافة "حشو المصران" متجذرة في مجتمعاتنا، إلا أن هناك حاجة إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالطعام. فمع تغير الظروف الاقتصادية والمعيشية، ومع ازدياد الوعي الصحي، أصبح من الضروري التشجيع على أنماط غذائية متوازنة تقوم على تلبية الحاجة الفعلية للجسم دون إفراط. التثقيف الغذائي، والتوعية بأهمية الأكل المتزن، وتعزيز العادات الصحية، كلها خطوات ضرورية للتحرر من الموروثات التي لم تعد تتناسب مع العصر الحديث. فالأكل يجب أن يكون وسيلة للحفاظ على الصحة والطاقة، وليس مجرد استجابة لعادات موروثة أو ضغوط اجتماعية. ثقافة "حشو المصران" ليست مجرد سلوك عفوي، بل هي انعكاس لتاريخ طويل من المعاناة والاحتياجات غير الملباة. ومع ذلك، فإن التحولات الحديثة تفرض علينا إعادة النظر في هذه العادات، بما يحقق توازنًا بين إشباع الغرائز والحفاظ على الصحة وجودة الحياة. فالتغيير يبدأ من الوعي، والوعي هو أول خطوة نحو التحرر من سلوكيات أصبحت جزءًا من الماضي.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.