مقالات وآراء
شخابيط ذات معنى: من الغريزة إلى الوعي: كيف نكبح الوحش الكامن في داخلنا// د. عامر ملوكا
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 17 حزيران/يونيو 2025 21:49
- كتب بواسطة: د. عامر ملوكا
- الزيارات: 611
د. عامر ملوكا
شخابيط ذات معنى:
من الغريزة إلى الوعي: كيف نكبح الوحش الكامن في داخلنا
د. عامر ملوكا
في أعماق كل إنسان يسكن كائن مفترس. لا يظهر هذا الكائن في كل لحظة، لكنه حاضر، يتغذى على الغرائز الأولى، على الرغبة في السيطرة، على الاندفاع الغاضب، وعلى الميل إلى العنف حين تغيب البصيرة. هو ليس شيئاً غريباً عنا، بل امتداد لما كنا عليه قبل أن نصقل عقولنا بالمعرفة ونغرس في أنفسنا القيم. وجوده لا يعني أننا أسرى له، بل أننا مطالبون بمواجهته، بالصراع اليومي بين الغريزة والوعي، بين الحيوان الذي فينا والإنسان الذي نطمح أن نكونه.
حين يغلبنا الغضب، حين نرغب بالانتقام، حين نريد التفوق بأي ثمن أو نركض خلف شهوة التملك بلا وعي، فذلك هو الوحش يستيقظ فينا. لكن هناك صوت آخر، أكثر هدوءاً، أكثر حكمة. إنه صوت الإنسان الحقيقي في داخلنا، ذاك الذي يتروى، يفكر، ويختار أن يسمو. ليس المطلوب أن نخمد الغرائز أو ننكرها، بل أن نوجهها. أن نحول طاقتها إلى فعل خلاق، إلى قوة بناء لا هدم.
الإنسان يشترك مع بقية الكائنات في كثير من الصفات الأساسية. جميعنا نعيش وفق غريزة البقاء، نحب، نخاف، نرعى صغارنا، ونتعلم من محيطنا. حتى في المجتمعات الحيوانية، نجد قوانين وتنظيمات كما لدى الذئاب أو النمل أو القردة. لكن ما يميز الإنسان بحق هو قدرته على التفكير المجرد، على الحلم، على الابتكار، على أن يخلق عالماً جديداً لا أن يكتفي بالتكيف مع الواقع. اللغة الرمزية، الوعي بالزمن، وطرح الأسئلة عن الحياة والموت، كلها أبعاد لا يعرفها الحيوان، مهما تطورت استجاباته.وربط الماضي بالحاضر وبالمستقبل.
هذا الصراع الداخلي بين الوحش والإنسان لا يظل حبيس النفس، بل ينعكس على مجتمعاتنا. نراه في السياسة حين يتحول الحكم من وسيلة لتنظيم حياة الناس إلى أداة تسلط واستبداد. نراه في مشاهد العنف التي تنفجر في تفاصيل الحياة اليومية، في بيت فقد التعاطف، في شارع اختنق بالغضب، في جدال بسيط تحول إلى مأساة. في المقابل، نرى من يختار أن يكبح وحشه، لا لأنه أضعف، بل لأنه أقوى. الأب الذي يضبط غضبه، المعلم الذي يتمهل في تأديب تلميذه، الشاب الذي يرد على الإهانة بالعقل لا بالاندفاع، هؤلاء جميعاً أمثلة على ترويض الذات.
حتى على مستوى الانتماء الجمعي، حين ترتفع العصبيات القبلية والطائفية، نجد من يستجيب بنداء الغريزة الضيقة، ومن يسمو بوطنه وإنسانيته فوق كل ولاء محدود. هناك من اختار الانغلاق في قوقعة الانتماء العشائري، ومن وسع قلبه ليشمل الإنسان كإنسان، فصار جسراً للتلاقي لا جداراً للفصل.
نحن لا نولد متحضرين، ولا يوجد إنسان فوق الخطأ أو فوق الغريزة، لكن كل لحظة نكبح فيها الوحش الكامن بداخلنا، نقترب خطوة من إنسانيتنا. في واقعنا العربي تحديداً، تبدو هذه المعركة أكثر وضوحاً، حين نرى وجوهاً للوحش في الطغيان السياسي، في الانتقام الأعمى، في العنف الذي ينهش الضعفاء، في الحروب التي تشعلها الأهواء. لكنها أيضاً تظهر في وجوه مضيئة، في العدل الذي يُمارس رغم المغريات، في التسامح الذي ينتصر على الثأر، في العقل الذي يهدئ نار العصبية، وفي التعاون الذي ينتصر على الأنانية.
الإنسان حين ينسى عقله ويتحرك فقط بدافع الغريزة، يتحول إلى كائن لا يختلف كثيراً عن حيوان مفترس. لكن ما يجعله إنساناً بحق هو وعيه، قدرته على الاختيار، على الوقوف في وجه رغباته حين تتعارض مع الخير والعدالة. هناك من يملك القوة ثم يختار الرحمة، من يُظلم ثم يختار العدل، من يُستفز ثم يختار الحكمة، وهذه اختيارات لا يعرفها سوى الإنسان الواعي.
في نهاية المطاف، نحن لسنا فقط كائنات مكونة من لحم وعظم، بل أرواح تُختبر في كل موقف. كلما اخترنا الرحمة على القسوة، والتسامح على الانتقام، والعقل على الاندفاع، ثبتنا أن وحش الغريزة يمكن أن يُروض. وكلما تراجعنا أمام دوافعنا البدائية، خسرنا فرصة لنكون أكثر إنسانية. المعركة لن تنتهي، لكن كل لحظة نكبح فيها الوحش، نمنح العالم لمحة من النور.