مقالات وآراء

موفّق محمد: الناي الصادح بالحقيقة// محمد علي محيي الدين

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمد علي محيي الدين

 

للذهاب الى صفحة الكاتب 

موفّق محمد: الناي الصادح بالحقيقة

محمد علي محيي الدين

 

حين تُذكر الحلة، مدينة الفرات التي تحمل من عبق التاريخ ما يجلّ عن الوصف، تقفز إلى الذاكرة أسماء خطّت وجودها بحبر الوجدان، ومن بينهم الشاعر العراقي الكبير موفّق محمد، الذي لم يكن شاعرًا فحسب، بل صوتًا صافيًا للناس، ولسانًا نابضًا للوجع العراقي الذي لا يهدأ.

 

ولد موفق محمد أبو خمرة سنة 1948 في قلب الحلة، وهناك تفتحت في روحه جذوة الشعر واللغة، فكانت العربية زاده ومحبته الأولى. تخرج من قسم اللغة العربية في كلية الشريعة بجامعة بغداد عام 1972، وبدأ حياته العملية مدرسًا محبوبًا في التعليم الثانوي، لما امتلكه من روح قريبة ولسان محبّب للغة.

 

لكن موفق محمد لم يكن ليرضى أن تبقى كلماته بين جدران الصفوف. فقد أطلّ على العالم من شرفات الشعر، الشعبي والفصيح معًا، متخذًا من لسان الناس وهمومهم مركبًا ومرفأ. كتب بالفصحى، لكنها لم تكن فصحى النحاة الجامدة، بل فصحى مغسولة بماء الفرات، منقوعة بعرق الفلاح، مفردة نازلة من السطح العراقي الصلب، قادرة على أن تمشي في الأزقة وتُسمع في المقاهي وتُحسّ في القلوب.

 

تميز شعره بقدرته العجيبة على خلط الفصيح بالشعبي دون أن يفقد أحدهما وقاره أو بريقه، فكانت مفرداته كأنها مزجت النار بالماء، لكنها خرجت متجانسة، محمّلة بمرارة الواقع، وسخرية القدر، وغضب الشاعر الذي يرى وطنًا يُنهش أمامه، فيستحيل شعره صيحة احتجاج، وصرخة شجاعة لا تُخاتل ولا تهادن.

 

ولأنه صادق، كان مقبولًا، ولأنه ابن الوجع العراقي، كان شاعر الناس وهاجس السلطة. فمنذ بداياته، انبرى موفق محمد في التصدي لما جرى للعراق من دمار وتمزيق، فكانت قصائده سيوفًا من لهب، ومرايا تكشف الوجه الحقيقي لمن تقنّعوا بوجه الوطن، فيما هم ينهبونه. وما قصائده المنتشرة بصوته على "اليوتيوب"، والتي استمع لها الملايين، إلا دليل على أن الشعر حين يخرج من القلب، يدخل كل القلوب.

 

شغل الشاعر الكبير مناصب أدبية، منها رئاسة اتحاد أدباء وكتاب بابل بعد استشهاد الأديب قاسم عبد الأمير عجام، كما انتُخب عضوًا في الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب العراقيين عام 2010، وكان عضو شرف في اتحاد الشعراء الشعبيين – فرع بابل. لكن المناصب لم تُغره، ولم تغيّر من صوته أو نبرته أو قضيته، فظل على الدوام وفيًّا لجوهره: شاعرًا حرًا، لا يخضع ولا يُساوم.

 

كتب عنه النقاد والباحثون، وتُرجمت قصائده إلى لغات عدة، وكرمته المهرجانات محليًا وعربيًا وعالميًا، لكنه ظل على الأرض، يمشي بين أهله، ويكتب للناس، ويغضب لأجلهم، ويبكي حين تبكي الحلة، وتئنّ بابل.

 

لقد كان موفق محمد شاعرًا للناس، وناسًا في هيئة شاعر. شاعرًا عراقيًا حتى النخاع، تشهد عليه لهجته، وأشعاره، وصورته، وصوته، وتلك الدموع التي ما انفكت تجري حين يُتلى اسمه.

 

الفصحى والشعبي... ضفتان لجسر واحد

منذ بواكير تجربته الشعرية، تأرجح الشاعر موفّق محمد بين ضفّتين متكاملتين: الفصحى والشعبي، فكان كمن يمدّ جسرًا بين لغة الأدب العالي وهمس الناس في الأزقة والبيوت. هذا التمازج أكسبه جماهيرية واسعة ومحبّة فريدة من نوعها، إذ لم يكتب الشعر الشعبي على سبيل التسلية أو المجاراة، بل كتبه بمنتهى الجدية والموهبة، فخرج من بين يديه نصّ شعري فنيّ محكم، يتكئ على المخزون البلاغي والرمزي للغة، ويمنح الشعر الشعبي مقامًا فنيًا وجماليًا لا يقل عن الفصحى.

 

كتب في بداياته الشعر الشعبي، وحفلت بعض قصائده الفصيحة بفواصل شعبية مما حبّبه للجمهور ومنحه مقبولية واسعة، وصدر له ديوان ضمّ عددًا من قصائده الشعبية.

 

قصيدة "گام على حيله الگلب"...

من أبرز نماذج عطائه الشعبي قصيدته "گام على حيله الگلب"، التي تجمع بين حرارة العاطفة وقوة الصورة ودهشة التعبير. فهي قصيدة نابضة بالحسّ الوجداني، ومفعمة بجماليات بلاغية تدل على شاعر كبير يمسك بأدواته ويعيد تشكيل اليومي والمألوف في قوالب شعرية آسرة.

 

في مستهل القصيدة، يفتتح الشاعر بمشهد انفجار العاطفة:

    گام أعلى حيله الگلب من فتح باب ألهوه

    والگمر حدر النهد ينهث عليه الضوه

 

يصوّر "القلب" ككائن حيّ ينهض على "حيله" بعد أن فُتح عليه باب الهوى، ويمزج بين عناصر الطبيعة والجسد في مشهد بصري حسيّ، يجعل القمر منحنيًا تحت النهد، والنور يلهث عليه، وهي صورة تجريدية مدهشة.

    يلفنه قوس القزح داير مداير سوه

 

هذا السطر يحمل تشكيلاً بصريًا أخّاذًا، حيث يتحوّل العناق إلى طيف سماويّ يلفّ الجسدين بقوس قزح، رمزًا للحلم والجمال.

    لتسولف اعلى الورد كل الورد بيدي

    ولتبطّلين اللعب برويحتي زيدي

 

هنا يتجلّى الخطاب العاطفي الذكي، حيث يجعل من نفسه مركزًا للجمال والعطر، ويربط الحب بالسيادة على الحواس.

    هيجي أغاني الضوه تشگ الجسم وتفوت

    وبسكوت شرب العسل شگد طيب البسكوت

 

في هذا التصوير، يجعل الضوء أغنية تخترق الجسد، ويشبه الصمت بلذّة شرب العسل، ويختم بصورة طريفة مبتكرة: "شگد طيب البسكوت"، ما يعكس خفة ظل شعبية ممزوجة ببلاغة شعرية.

    لوز الشفايف غنه وعاللوز روحي تموت

    يحچيلي كل النهد وانه اسمع ابايدي

    ولتبطلين اللعب برويحتي زيدي

 

ذروة القصيدة، حيث تتصاعد الرغبة حتى يتماهى الجسد مع اللغة، وتصبح الأصابع أداة سمع، ويذوب العاشق في لوز الشفاه، ويكرر النداء بروحٍ لا تشبع من الحضور الأنثوي.

 

إنها ليست قصيدة غزل عابرة، بل لوحة تعبيرية حيّة، تبرهن على أن الشاعر لم يكتب الشعبي بوصفه "هامشًا" للفصحى، بل كجوهر موازٍ، يملك قدرته التعبيرية، وبلاغته الخاصة.

 

الوداع الأخير... وبقاء الصوت

في الخامس عشر من أيار 2025، أسلم الشاعر الجسور روحه بعد صراع مع المرض، ففقد العراق شاعرًا من طراز نادر، ونايًا شعبيًا صدح بالحقيقة حتى آخر رمق. شُيّع في النجف الأشرف في موكب مهيب شاركت فيه الحكومة المحلية ووزارة الثقافة واتحاد الأدباء والكتاب والمنظمات الثقافية، وأُقيمت له المجالس والمهرجانات التأبينية.

 

لكنه لم يُدفن في التراب فقط، بل زُرع في ذاكرة العراق، وفي ديوان الشعر الذي لا يصدأ. لقد رحل موفق محمد... لكن صوته باقٍ، حيّ فينا، كما الفرات.