د. ادم عربي
في التسيير والتخيير... هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟
د. ادم عربي
سؤال التسيير والتخيير لم ينشأ عبثاَ؛ بل فرضته حاجة الإنسان لفهم حدود إرادته الحرة وتعامله مع القوى التي تشكل واقعه. إن إدراك الإنسان لعجزه عن تحقيق كل ما يريده دفعه للتساؤل عن طبيعة حرية الإرادة. فالعجز المتكرر عن منع حدوث المصائب أو تحقيق الرغبات يجعل الفرد يبرر ذلك بالقول: "كان قضاءً وقدرًا".
ومع ذلك، فإن التعمق في هذا السؤال لا يتعلق فقط بفهم "ما الذي يسيّرنا؟" بل أيضاً بـ"كيف يمكننا استثمار إرادتنا لتغيير مجرى حياتنا ضمن إطار القيود التي نعيش فيها؟".
الحرية ليست مُطلقة؛ بل هي نتاج وعي الإنسان بالضرورة الطبيعية وقوانينها الموضوعية . فمن دون هذا الوعي، تصبح الحرية فكرة مجردة بعيدة عن التطبيق ،فليس بمقدوركَ القول " أنا حر أفعلُ ما أُريد ".
على سبيل المثال، حين يسأل الإنسان: "هل أنا حر في تحضير كوب من القهوة؟"، الجواب يعتمد على الظروف، وبعبارة أخرى نعم ولا، يمكنني تحضير كوب القهوة إذا استوفيت شروطه الطبيعية: كغلي الماء وانحلال القهوة فيه. لكن إذا رفض الماء الغليان أو امتنعت مادة القهوة عن الذوبان، فإن حريتي تصبح معدومة.
الفعل الإنساني يتطلب توافقاً بين الإرادة الذاتية والقوانين الموضوعية. إذا لم يدرك الإنسان ضرورة هذا التوافق، فقد تذهب توقعاته أدراج الرياح، ويبوء سعيه بالفشل. إدراك الضرورة لا يعني الاستسلام والإستحذاء لها، بل يعني معرفة كيف يمكن توظيفها لتحقيق الأهداف المرجوة.
هذا الفهم يحول ولا بدَّ أنْ يحول النقاش من "هل أنا مخيّر أم مسيّر؟" إلى سؤال عملي أكثر: "كيف أحقق هدفي ضمن الشروط الموضوعية؟".
ولا بدَّ من ذكر المنظور الديني لهذه المسألة ، أفعال الإنسان تقع ضمن علم الله وإرادته. إذا أتى الإنسان بفعلٍ ما، فإن هذا الفعل كان معلوماً لله منذ الأزل، لأن الله هو العليم بكل شيء. لذلك، لا يمكن للإنسان أن يفعل شيئاً يناقض علم الله أو إرادته.
لكن هذا لا يعني أن الإنسان بلا إرادة حسب الفقهاء. يرى بعض الفقهاء أن الله وهب الإنسان حرية الاختيار ضمن الإطار الذي رسمه له. فالإرادة الإنسانية جزء من الإرادة الإلهية الشاملة، لكنها ليست مطلقة أو منفصلة عنها، وهذا لهو لغو الكلام بعينه، ما دمت لا استطيع القيام بعمل يخالف مشيئة الله، فانا مُسيّر ولست مُخيّر وليس باستطاعتي أن اكون مُخيّر.
بعيداً عن الدين ولتوضيح الأمر من منظور الطبيعة بقوانينها ، تخيّل أن لدينا ذرات الأكسجين "تفكر" و " تعقل" وترغب هذه الذرات في تكوين جزيء ماء. لن يتحقق هذا الهدف إلا إذا اجتمعت مع ذرتي هيدروجين وفق القوانين الطبيعية. إذا حاولت ذرات الأكسجين وحدها دون الهيدروجين تكوين الماء، ستفشل ، فكما نعلم الماء يتكون من ذرتين هيدروجين وذرة اوكسجين.
هذا المثال يوضح أن الحرية ليست القدرة على تحقيق كل شيء، بل هي القدرة على العمل بفعالية ضمن القوانين الموضوعية التي تحكم الكون.
الحرية تعني أن تأتي نتائج الفعل متوافقة مع توقعات الفاعل. لكنها لا تتحقق إلا إذا وعى الإنسان القوانين الطبيعية والموضوعية وعمل بما يتفق معها. إرادة الإنسان وحدها لا تكفي لتحقيق الأهداف، بل يجب أن تترافق مع فهم عميق للواقع الموضوعي والالتزام بالشروط التي يتطلبها النجاح.
عباس بن فرناس أراد الطيران، لكنه فشل لأن محاولته لم تأخذ في الحسبان قوانين الطيران. ومن ثم لم ينجح البشر في تحقيق هذا الحلم إلا بعد اكتشاف القوانين الطبيعية للطيران والعمل بما يتوافق معها.
من يدرك القانون الموضوعي ويطبقه بوعي يحقق النجاح، حيث تتطابق نتائجه مع توقعاته. أما من يجهل هذا القانون ولا يلتزم به، فيواجه الفشل، إذ تأتي نتائجه مخالفة لتوقعاته. هنا يتجلى الفارق الأساسي بين الحرية والعبودية، وبين التخيير والتسيير. والحرية، مثلها مثل المعرفة، هي سلم يصعده درجة درجة ،ولن يصل إلى نهايته او الى درجته العليا، لأنها ببساطة بلا نهاية.
الإنسان، خلافاً لما يعتقده كثيرون، لا يُولَدُ حرا، ولن يمتلك من الحرية والمعرفة إلا بقدر ما ورثه وما استطاع إنتاجه. إنه في رحلة صعود لا نهائية من العبودية إلى الحرية، ومن الجهل إلى المعرفة. فالإنسان المولود حديثا يمثل العبودية المطلقة والجهل المطلق أو القصوى.
الضرورة تحكم كل شيء نراه من حولنا؛ فكل ما نشأ أو ظهر هو نتيجة لاجتماع أسباب وجوده. وبالتالي، لا يمكن لشيء أن ينشأ دون أن تكتمل أسباب وجوده. هذه هي الحتمية التي لا مجال للشك فيها، ولا ينكرها إلا من فقد البصر والبصيرة. فما لم يوجد مما كان يُفترض وجوده هو ببساطة ما لم تكتمل أسبابه بعد، وهي أسباب قد نعرف بعضها ونجهل بعضها الآخر.
وما لم يوجد رغم ضرورة وجوده قد يكون أجهضته قوى وأسباب طارئة نسميها المصادفة. على سبيل المثال، شجرة كانت على وشك الإثمار، إذ قاربت أسباب إثمارها الاكتمال، لكنها لم تُثمر لأن ريحا عاتية اقتلعت جذورها. هذه الريح تجسد المصادفة، ولكنها في ذاتها لم تكن سوى نتيجة لحتمية أخرى؛ فقد اجتمعت أسباب وجودها وظهرت.حتى هلاك الشجرة والطريقة التي هلكت بها هما جزء من الحتمية، إذ لا توجد واقعة تخلو من الضرورة.
الإنسان مُسيّر لأنه يخضع لقوانين الطبيعة التي لا يمكنه تجاوزها. فمثلاً، لا يستطيع الإنسان أن يتنفس تحت الماء دون أدوات مساعدة، أو يطير دون وسائل متوافقة مع قوانين الفيزياء ، لكنه في الوقت ذاته مخيّر ضمن حدود هذه القوانين. يستطيع استخدام معرفته بالقوانين لتحقيق أهدافه، كابتكار الغواصات أو الطائرات.
من حيث الإرادة الذاتية ، فالإنسان يمتلك إرادة حرة تخوله اتخاذ قرارات واختيار أفعاله، لكنه ليس مطلق الحرية. خياراته تتأثر بمجموعة من العوامل مثل التربية، الثقافة، البيئة، والظروف المحيطة.
أما الحرية الحقيقية فهي ليست قدرة مطلقة على فعل كل شيء ما ، بل هي وعي الإنسان بحدود الضرورة الطبيعية والاجتماعية، واستخدامه لهذه المعرفة لتحقيق الأهداف الممكنة.
الإنسان مسيّر ومخيّر في نفس الوقت. هو مخيّر في حدود ما يتيحه له الواقع، ومسيّر ضمن الإطار العام للقوانين الطبيعية والضرورات التي تحكم حياته. الإجابة ليست ثنائية مطلقة؛ بل تعكس تداخلاً بين إرادة الإنسان الذاتية والقيود التي تحكم وجوده.