اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

• "مشكلة المرأة" والمثقفون في متغيرات العقود الأخيرة (2 – 4)

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 
د. نيّره توحيدي

"مشكلة المرأة" والمثقفون في متغيرات

العقود الأخيرة  (2 – 4)

الناشطة النسوية الإيرانية د. نيّره توحيدي

"المدرسة النسوية"

تعريب عادل حبه

المثقفون المعاصرون الإيرانيون و "مشكلة المرأة"

في هذا الجزء، نعرج بشكل عام على وجهات نظر المثقفين الإيرانيين والتصورات الرائجة بين القوى السياسية المعاصرة الإيرانية حيال دور ومكانة المرأة في المجتمع، وفي نفس الوقت الاستمرار في البحث في خصوصيات "مشكلة المرأة" في إيران.

المرأة الإيرانية "حارسة التقاليد والهوية القومية"- هناك عامل مهم آخر في تحول قضية المرأة إلى مشكلة، والذي أضفى على الحركة النسوية الإيرانية خصوصية معينة، هو تداخل مشكلة المرأة مع قضية الهوية الوطنية وارتباطها بالنضالات القومية والوطنية والمعادية للامبريالية وضد الديكتاتورية. وسوف أسعى هنا وضمن توضيح هذه الخصوصية إلى تبيان تأثير وأبعاد هذه الخصوصية على مواقف ووجهات نظر المثقفين الإيرانيين المعاصرين وعلى مواقف المنظمات والأحزاب المعارضة تجاه "مشكلة المرأة". في إيران، وعلى غرار ما حدث في الولايات المتحدة وأوربا، ومع التوسع التدريجي للحياة في المدينة حصل تغيير في بنية العائلة. ولقد جرت هذه التغييرات في إيران حتى قبل أن تتحقق تغييرات اقتصادية وصناعية على غرار ما حدث في الغرب. والدليل على ذلك هو أن المجتمع الإيراني تعرّف وتأثّر بالحركات التنويرية في الغرب في ميدان حقوق المرأة، وحصلت نقاشات وجدل حول "مشكلة المرأة" بين بعض المثقفين. وجرت نشاطات، ونشرت مقالات حول القضية النسائية سواء أكانت بشكل فردي أم ضمن نطاق الجمعيات والمنظمات النسائية التي انبثقت خاصة بعد نهضة المشروطه. وتبنت هذه المنظمات الدعوة للتنوير والمساواة والاحتجاج على الظلم ضد النساء وعلى تهميشهن وضد التقاليد والأفكار المعادية للمرأة. ولكن بقيت كل هذه النضالات النسائية الإيرانية في إطار الحركة النسائية، وضمن تاريخ محدود وقصير الأمد (من المشروطة وحتى ثورة عام 1978). إلاّ أنه لم تطرح أصلاً في أغلب هذه النضالات وفي الأحداث السياسية التي كان للنساء الإيرانيات دوراً فيها، "مشكلة المرأة" والظلم المسلط عليها والقضايا المرتبطة بالعلاقات بين الجنسين وحتى الحقوق المدنية للمرأة ، أو أنها طرحت بشكل فرعي وعلى الهامش. ولا يقتصر هذا الأمر على إيران فحسب. ففي البلدان التي كانت تحت النفوذ الاستعماري، غطت المسألة القومية والنضالات التحررية الوطنية والعديد من النضالات الديمقراطية على الحركة النسائية. فمن النادر أن نجد حركات مستقلة ونامية للنساء في هذه المجتمعات، على عكس ما جرى في أوربا وأمريكا. إنه من الخطأ أطلاق صفة الحركة النسائية على أية مشاركة للنساء في النضالات الوطنية والمعادية للامبريالية وضد الديكتاتورية، أو مشاركة المرأة في النضالات المهنية والسياسية والطبقية. فالمقصود بالحركة النسائية هو كل حركة تتشكل من أجل معالجة "مشكلة المرأة" والقضايا المرتبطة بالعلاقات الجنسية غير المتساوية والظلم على أساس الجنس وعلله وأسبابه. إن النساء المشاركات في هذه الحركة، حسب ما تورده سيمون دي بوفوار، قد ارتقين إلى الحد بين "الوجدان النسائي" وبين الوعي الذاتي. هذا القول لا يعني أن القضايا الطبقية والوطنية والعنصرية لا تدخل في جدول عمل الحركة النسائية، أو لا يجري البحث فيها. ولكن هذا التداخل في مجتمعات مماثلة للمجتمع الإيراني أضحى مانعاً أمام تبلور واستقلال الحركة النسائية.

بدأت "مشكلة المرأة" في إيران من المدن، على غرار ما حدث في أوربا وأمريكا. ومن الملاحظ خلال التحولات الاقتصادية والثقافية في القرن الأخير إن حصة المرأة المدينية في الانتاج أصبح أقل وأقل. وأصبح دور المرأة ونشاطها مكرساً للبيت ولتربية الأطفال، وهي نشاطات على ضرورتها وأهميتها الحياتية ولكن ليس لها علاقة بالنشاط في السوق ولا يجلب دخلاَ للنساء. ومن الناحية العملية لا يجلب العمل البيتي أية قيمة أو اعتبار ولا يحسب له أي حساب، على اعتبار إن تنفيذ هذا العمل هو من المهام الطبيعية للمرأة. ومن ناحية أخرى فرض التوسع في المدارس والمعاهد والمعامل والأسواق، إضافة إلى التحولات التكنولوجية والخدمات الإدارية وظهور مشاغل جديدة، الحاجة إلى قوة عمل النساء. وهكذا أصبحت المرأة أمام خيارين، فأما أن تبقى بين جدران البيت وتكتفي بالقيام بـ"وظائف" الأمومة والزوجية، وتطيب خاطرها بشعارات مثل "الجنة تحت أقدام الأمهات"، وتتحول يوماً بعد يوم إلى شخصية تابعة للرجل من الناحية الاقتصادية والروحية وتقف على الهامش، أو أن تستفيد من الفرص الجديدة وتدخل ميدان المجتمع وسوق العمل، وتمتهن الحرف ومهارات العمل والتكنولوجيا. ولم يكن الدخول إلى سوق العمل خياراً بالنسبة إلى أعداد واسعة من النساء، بل هو فرض اقتصادي من أجل تأمين القوت للعائلة، لأن ما يجلبه الرجل( الأب والزوج أو الأخ) من مورد لم يعد يسد نفقات العائلة. وعلى الرغم من الموانع والقيود الكثيرة، فإن عدداً غير قليل من نساء إيران، عن طيب خاطر أم لا، تجاوزن حدود العائلة واستطعن أن ينخرطن في قوى العمل الرسمية وفي قطاع الاقتصاد الحديث. ومن اللافت للنظر إن سهم نساء الطبقة المتوسطة في إيران ممن كسبن مراتب علمية وتكنولوجية وممن تمتعن بوعي اجتماعي وسياسي قد نما نسبياً بأسرع من ما جرى حتى في بعض الدول المتقدمة كأمريكا. وحظيت "مشكلة المرأة" بتبلور موضوعي من مختلف الجوانب في هذا المنعطف التاريخي في دور المرأة الإيرانية. ولكن لم تكن العلاقات التقليدية والجنسية والثقافة القديمة على استعداد بالقبول بالدور الجديد للمرأة من ناحية ، ومن ناحية أخرى تعرضت النساء اللاتي انخرطن في سوق العمل أيضاً إلى صراع بين حقلين من المسؤوليات والأدوار ونظامين للقيم والاعتقاد. فهناك الأيديولوجية السائدة المتمثلة بالمذهب والتقاليد والاعتقادات القديمة وبنية العائلة التي تدعو إلى تمسك المرأة بوظيفتها كزوجة وأم وبقيمها، وإن كل مهارتها تتحدد في تربية "الأسود الذكور". ومن ناحية أخرى برز دور جديد هي الوظيفة المهنية والاجتماعية، إلى جانب نظراتها وتوقعاتها الجديدة التي لا توفر الفرصة والقوة لتحمل عبء كل وظائفها السابقة. ومن أجل حل هذه التناقضات والازدواجية في دور المرأة، والتي تعبر عن واقع بارز واجتماعي لـ"مشكلة المرأة" في المجتمعات المتقدمة الرأسمالية والاشتراكية، جرى السعي لإيجاد الحلول بمبادرة من الحركة النسائية أو بفعل ضغطها وتوفير الامكانيات والتسهيلات من أجل حماية الدور الجديد للمرأة. وكان من ضمن هذه المساعي العمل على تغيير القوانين لصالح المساواة في الحقوق المدنية بين الرجل والمرأة في محيط العائلة وفي السياسة والاقتصاد وفرص التعليم والعمل و .... مكننة العمل البيتي واقامة شبكة ما قبل الدراسة للأطفال ودور الحضانة في محل العمل وتوسيع شبكة المعلومات وحيازة الوسائل والأساليب للرقابة الإدارية، وتأمين العمل وإجازة فترة الولادة، والتصدي للثقافة البالية والعقائد والأفكار والعادات والتقاليد والأساليب التي تروّج لأشكال متنوعة من التمييز الجنسي وتفوق الرجل على المرأة، أو كل ما يؤدي إلى التمييز في العمل والشغل والفصل الجنسي.

والآن لنتوقف عند حال إيران وموقفها حيال مثل هذا التناقض والازدواجية التي تواجه النساء في المدينة، وما هي ردود الفعل إزائها. إن الغالبية من النساء الإيرانيات، وفي اللحظة التي تخرج من دائرة العائلة و "الداخل" وتضع قدمها في "الخارج"، وفي اللحظة التي تطأ قدميها سوق العمل وميدان الانتاج الاجتماعي، فإنهن يتعرضن إلى اتهامات من قبيل ارتكابها معصية كبيرة، اتهامات تختلف عن الاتهامات الموجهة إلى النساء العاملات في الغرب، أو اتهامات من قبيل خيانة الوطن والتنكر للثقافة والتقاليد القومية والمصالح الوطنية والتشبث والتلاعب في خدمة اهداف الاستعمار والامبريالية ومخططاتها. ويعتقد أرباب هذه الاتهامات إن العمل خارج البيت، وخاصة بالنسبة للطبقات المتوسطة والتقليدية في المجتمع لا يعني إلاّ رهن الشرف والناموس بيد الأجانب. ولا يوّجه هذا الإتهام من قبل القوى المذهبية فحسب، بل حتى من قبل القوى القومية والمثقفين غير المتدينين الذين يعبرون عن عدم اعتمادهم وشكوكهم حيال النساء العاملات في المدن، ويتهمونهن بالتلوث وعدم النجابة والأصالة التي تتمتع بها المرأة الريفية. وبعبارة أخرى " نساء ذوات نزعة غربية".

وهكذا تقع المرأة المدينية العاملة الإيرانية بين جدل المطرقة والسندان وفي ميدانين، قبل أن تجد الفرصة لإيجاد حل للصراعات داخلها في مواجهة وظيفتين لها تقليدي وجديد، وقبل أن تنال هويتها المتجانسة ونضوجها الفكري والاجتماعي بالتناسب مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية والصناعية الجديدة، وقبل أن تستطيع أن تؤسس بوعي وبشكل مبرمج لحركة من أجل تحقيق مطالبها الجديدة، أي أن يكون بإمكانها أن تدون وتطرح أجوبتها على "مشكلة النساء" في:

1- ميدان المطالبة بحقوقها والبحث عن المساواة والهوية لمواجهة التقاليد والقيود الأبوية والقديمة.

2- ميدان الوطنية والحفاظ على التقاليد والثقافة والاستقلال الوطني حيال نشاط الامبريالية ونزعتها التسلطية.

إذن نحن أمام قائمة من الاتهامات تتعلق بذنوب النساء الحديثات الإيرانيات، تتجاوز قائمة الذنوب الموجهة إلى المرأة الحديثة الغربية التي تُتهم مثلاً بـ(خيانة الأولاد والتقصير في أداء وظيفة الأم والغرور وتشتيت "بيت العائلة الدافىء" وتقليد الرجال وفقدان شخصية النساء ورقتها و...)، لنجد أن المرأة الإيرانية تتهم بذنب أكبر مثل "الطابور الخامس" لتحقيق أهداف ومخططات الامبريالية. بالطبع إن مثل هذا الاتهام لم يوجه إلى النساء الإيرانيات فقط. ففي العديد من الدول الإسلامية في الشرق الأوسط، التي لم تعاني من الاستعمار وسلطته المباشرة ووجوده العسكري، والذي يتحدد نشاطه أساساً عن طريق الملحق الاقتصادي والسياسي والنفوذ الثقافي لسفاراته، ومع ذلك فإن القوى التقليدية والمذهبية في هذه البلدان تعتبر المرأة والعائلة حاملة وجسر أصلي للنفوذ الأمبريالي.

إنني لا أتجاهل هنا واقع الضياع والإفلاس الثقافي وهوية الكثير من الرجال والنساء في المدن الحديثة عبر العقود الأخيرة في إيران، ولا أتجاهل دور "الامبريالية الثقافية" في انتشار المظاهر السلبية والتخريبية للرأسمالية كإبتذال القيم والاغتراب والفيتيشية (Fitishism)*

والاستهلاك والسطحية. ففي بداية البحث أشرت بشكل نقدي إلى أسلوب التنمية في إيران ونتائجه. فالهدف من هذا البحث هو ليس تحكيم القيم في هذا الميدان ولا نقد التنمية في إيران. ولكن هناك نقطتان ينبغي التأكيد عليهما :

الأولى: إنني لا أوافق على الأسلوب والنظرة المتبعة في إيران في العقود الأخيرة لمواجهة "الغرب". وأرى أنه من الضروري إعادة النظر وتقييم ما كتبه ديسكورس حول "النزعة الغربية". إن الحديث عن "النزعة الغربية" بتلك الصورة والمفهوم الذي طرحه وروّج له جلال آل أحمد وكل المثقفين والتقليديين المذهبيين، يحمل الكثير من الإبهام والإعوجاج الفكري والرجعية والتعصب القومي الأعمى والمشاعر غير السليمة، وهو سعي لتصوير "الشرق" مثالياً والتركيز فقط على سلبية "الغرب".

ويعتقد ديسكورس إن هذا المفهوم يفتقد إلى المستقبلية (Futurism

وإلى السعي للرقي الإبداعي والبحث عن بديل واقعي، وهو لا يخدم المثقفين الباحثين عن العدالة ولا عن التطور في البلاد، بل يشكل أرضية لتسلط القوى الرجعية والحكومة الدينية.

الثانية: باعتقادي أن سهم النساء الإيرانيات في الاستسلام والاصطفاف الثقافي والسياسي حيال الغرب لم يكن أكثر من الرجال. ولكن إذا كانت النساء الحديثات و "النزعة الغربية" هما الهدفين الأصليين لهذا الاتهام الوارد من جانب المثقفين والمعارضين المذهبيين وغير المذهبيين، فهناك دلائل فكرية تشير إلى أن جذورهما لا تكمن في المطالب المعادية للأمبريالية، بل تكمن في مشاعر وعادات واعتقادات واعية وغير واعية قائمة على التبعية للرجل والأبوية. لنلقي نظرة على الادعاء الثاني بقدر ما يتعلق الأمر بمختلف تيارات المعارضة المذهبية وغير المذهبية، والقومية واليسارية :

أ - القوى المذهبية. الجبرية الإلهي

إن البناء الايديولوجي والاخلاقي للتيارات الإسلامية، شأنها في ذلك شأن كل المذاهب الأخرى حول سلطة الرجل، تركز بالأساس على التصدي لأي تغيير في العلاقات بين الجنسين والجنس، وتؤكد على البنية الأبوية للعائلة وتعارض أي تحول في دور المرأة ووظيفتها التقليدية، إضافة إلى قضايا أخرى مثل نزع الحجاب والعباءة (چادور - في اللغة الفارسية - المترجم). وقد لقي تيار التغيير التشجيع من رضا شاه ومحمد رضا شاه والامبرياليين، وأحياناً من قوى وطنية وشعبية. إن الجبر الإلهي والحكمة الإلهية تفتي بأن على المرأة والرجل القيام بأدوار متفاوتة. فوظيفة المرأة الولادة وتربية الأطفال وتأمين الحاجات الجنسية والعاطفية للرجل، أما وظيفة الرجل فهي الكسب والعمل من أجل تأمين القوت لعائلته وحماية ورعاية الزوجة والأطفال. الموجود الأول هو موجود تابع ومتعلق بمحيط البيت والعائلة(داخلي) والثاني متعلق بالمحيط الاجتماعي (خارجي).

لقد جرى حديث طويل حول البنية الرجولية في فكر الإسلام التقليدي وسائر الأديان الكبيرة، ولا يحتاج إلى تكراره هنا. ولكن من الضروري التذكير بإنه من ضمن الدلائل التي تدفع القوى المذهبية إلى معارضة أي تحول في دور المرأة (مثل نزع العباءة وحق المرأة ومشاركتها في العمل والسياسة وغيرها) هو إضفاء لون معادي للامبريالية والوجاهة الوطنية ضد نزع الحجاب الذي فرضه رضا شاه من ناحية، ومن ناحية أخرى كضرب من الاحتجاج على المظاهر الخليعة والمبتذلة للنساء والرجال الحديثين في مدن الغرب.

الحجاب أداة سياسية

إن نهج ودوافع "نزع الحجاب" من قبل رضا شاه في سنوات 1935- 1937 وتحديد يوم 7 كانون الأول/ديسمبر يوم "تحرير المرأة" أضحى ذريعة بيد قوى المعارضة كي تربط بين نزع الحجاب وحرية المرأة وبين الديكتاتورية الشاهنشاهية والمشاريع الاستعمارية. إن البحث في تاريخ نزع الحجاب، ودوافع رضا شاه وخاصة أسلوب تطبيقه وردود فعل الشعب عليه في تلك الفترة يكشف لنا عن الكثير من النقاط الحساسة في علم النفس الاجتماعي والسياسي لـ"مشكلة المرأة" وتسييس العباءة والحجاب في إيران.

لقد أصبح الحجاب وعباءة المرأة قبل وبعد حادث "نزع الحجاب"، بمثابة وسيلة سياسية لخدمة أغراض سياسة العلاقة بين الجنسين. ولكن بمقدار ما بدا تسييس العلاقات بين الجنسين والتسلسل الهرمي للقدرة بين الرجل والمرأة في الظاهر وكأنه غير سياسي، فإن الفعل السياسي للعباءة والنقاب قد بقي هو الآخر غير مرئياً ومستوراً. إن العباءة والحجاب في الواقع يشكلان أحد عناصر ووسائل الحفاظ على العلاقات الموجودة بين الجنسين، ويعملان في خدمة تعزيز وتقوية المنطق الداخلي للرجولية. وينطوي هذا المنحى، علاوة على التبعية والنظرة الدونية حيال المرأة، على اعتقاد بأن الجنس والمظاهر الجنسية ما هي إلاّ مصدر ومظهر لإثارة الفتنة والشهوة والانحطاط، وإن التوجه صوبه والاقتراب منه سيؤدي بالرجل إلى الابتعاد عن التقوى وكبح النفس والروحانية.

لقد أصبح الحجاب والعباءة في إيران أشبه بالقيد والأغلال المكملة لكل انظمة سلطة الرجل (مثل ممارسة شد وتقييد أقدام النساء في الصين)، وهي وسائل تخدم في الأصل الاحتفاظ بتقسيم الحدود بين الرجل والمرأة. كما أنها تحدد مساحة الحركة والتنفس الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وتفيد قدرة نمو وتحرك المرأة. فعلى سبيل المثال تشير البحوث التي أجرتها نيلا كبير حول دور الحجاب في بنغلاديش والباكستان إن النساء المحجبات اللاتي يشكلن 50% من السكان، فهن لا يستفدن إلا من 20% من الفضاء العام للذهاب والاياب.

وعلى الرغم من أن نزع الحجاب التقليدي ووضع العباءة جانباً يعد خطوة ضرورية لدخول المرأة في الميدان الاجتماعي والعلاقات بين الجنسين، وإن دعم رضا شاه لنزع الحجاب في حد ذاته يعد خطوة إيجابية وتقدمية، ولكن نزع الحجاب بالإكراه وبالأوامر، وخاصة من جانب حكومة مستبدة، لم تقدم خدمة لفضح الدور السياسي للحجاب في ميدان العلاقة بين الجنسين ووجهة نظر الرأي العام حيال المرأة، بل بالعكس أصبحت العباءة بمثابة وسيلة سياسية في ميدان السياسة العامة ومؤشراً على قدرة الدولة. ولا يبدو أن دوافع الحكم وشخص رضا شاه من حملة نزع الحجاب هو إيجاد تحول أساسي في دور المرأة، أو أنه قائم على الاعتقاد بالمساواة في الحقوق وقيم المرأة والرجل. إن دوافع نزع الحجاب وتغيير ملابس النساء يشابه الأسباب التي كانت وراء التغيير الاجباري لملابس الرجال والمظهر الخارجي للرجل (مثل حلق اللحية ووضع القبعة الأوربية على الرأس..) في تركية. أي أن الدافع الرئيسي هو "التلون باللون لغربي" وعدم التخلف عن تركية في تقليدها للأوربيين. ومن هذا المنطلق أشار رضا شاه في خطاب له يوم السابع من كانون الأول/ديسمبر عام 1035 بمناسبة يوم نزع الحجاب:"منذ اليوم أصبحت إيران في عداد الدول المتحضرة.".
ويشير هدايت مخبر السلطنة، رئيس الوزراء ورئيس المحكمة العليا في السنوات العشر الأولى من حكم رضا شاه، في كتابه "ذكريات وأخطار"إلى ما يلي:"مع الأسف فإن هذا العمل المهم والبارز (نزع الحجاب)، شأنه في ذلك شأن كل الأمور في عهد الديكتاتورية، قد أوكلت إلى الشرطة والشقاة والمأمورين المرتشين. ووصل ضغط جهاز الشرطة على المواطنين بذريعة نزع الحجاب حداً بعيداً، وفُرض على الناس بالإكراه والعسف إقامة مجالس أفراح وأنس بهذه المناسبة. وإذا ما عارض أحد مشاركة زوجته في الاحتفال، من منطلق إيماني، فإنه يقع بيد المأمورين الأشداء والقساة. لقد أصطف أفراد الشرطة في تقاطعات الطرق لينزعوا العباءة عن رأس النساء، وإذا ما شاهدوا أمرأة وعلى رأسها شالاً فلا يسمح لها بالمرور في أي من الطرق...وقد شاع في طهران خبر زوجة صدر الأشراف الطاعنة في السن، وكان زوجها وزيراً للعدل، قد رفضت المشاركة في الاحتفالات. عندها قال الشاه:" إن المرأة التي لا تنصاع لك فما عليك إلاّ طلاقها. وقد تم تداول هذه الاشاعة كنادرة من النوادر في مجالس طهران، وبات الرجال يكررون تهديداتهم لزوجاتهم بتنفيذ الأمر الملكي في حالة عدم تقديم فروض الطاعة لأزواجهم".

وجاء في نفس المصدر:" وحتى في المدن والقرى فإن النساء اللاتي يضعن غطاء فوق رؤوسهن دون أن يتحجبن بالعباءة الاعتيادية، فيتعرضن إلى تمزيق غطاء الرأس. وإذا ما حاولت المرأة الفرار فيتم ملاحقتهن حتى بيوتهن.". ويستشهد نفس مخبر السلطنة على أثر نزع الحجاب الإجباري بمثل فارسي طريف:"يجري تعداد الدجاج في أواخر الخريف" **. والحقيقة إننا بعد 40 سنة نرى آثار نزع الحجاب الإجباري. ونرى أنه في يوم من الأيام لم يتم نزع الحجاب من قبل النساء طواعية، بل جرى نزع الحجاب بالقوة والإهانة والإكراه من قبل الحكم ومن أجل " التلون بلون الغرب". وفي مشهد آخر وعلى أساس نفس المنطق ونفس السياسة لجأ الحكم وموظفيه بعد الثورة إلى القوة والإكراه والإهانة والتجهيل وبدعوى "عدم التلون بلون الغرب" ووهم المواجهة مع الغرب، حيث طبق العكس وفرض الحجاب على النساء. وخلاصة القول يمكن التأكيد على أن وساوس الحكم الحالي حيال حجاب المرأة لا ينطوي فقط على اعتقادات دينية، بل إن الحجاب في الوقت الحاضر ما هو إلاّ رمز شبيه بالرافعة السياسية من أجل الحفاظ على الأسس التالية :

1-   يقتصر تعريف المرأة وهويتها والموقف منها على أنها موجود جنسي كلياً، أي أن الجنس له الغلبة على الأبعاد الإنسانية الأخرى. وتبعاً لهذا التعريف تصبح المرأة قادرة على إثارة الفتنة والوساوس الشيطانية، وتعريض التقوى للخطر (أي تقوى المرأة وتقوى الرجل). ولذا ينبغي حسب الإمكان أن تلبس المرأة الحجاب وأن تكون بعيدة عن الرجل. ومن أجل تقديم سند على هذا الادعاء نشير إلى مقابلة صحفية للسيدة الدكتورة دبيران رئيسة جامعة الزهراء (المدرسة العليا للبنات أو جامعىة فرخ سابقا)، حين تقول:" على الأخوات العزيزات الجامعيات أن ينتبهن إلى أن الملابس الإسلامية، في الوقت الذي تعتبر تكليفاً إلهياً مقدساً من الواجب إطاعته، فإنها مؤشر على الشخصية النسوية الإسلامية ووجودها ومظهر من مظاهر الاستقامة (مقابل ماذا؟؟) والحفاظ على الهوية الأصيلة والحصن الحصين الذي يتوجب حمايته من وساوس الشيطان".

2- يعتبر الحجاب ركناً مهماً من هوية المرأة الإسلامية وبديلاً ثقافياً وأيديولوجياً لمواجهة "النزعة الغربية". وبعبارة أخرى فإن المواجهة مع العدو الغربي تحتاج إلى تزريق المجتمع بحقن ضد "النزعة الغربية"، وبذلك يعتبر الحجاب بمثابة سموم مضادة وسلاح ثقافي يجري استخدامه في هذه المواجهة، أي أنه سلاح أشد فتكاً وأقوى من الأسلحة العسكرية. وتبعاً لذلك تستطرد الدكتورة دبيران قائلة:"أيتها الأخوات، حجابكن أقوى من دمي"و" إن التحجب يعد شرارة تشعل النار في قلوب الكفار الأعداء". ومن الواضح أن هذا الخطاب والأشعار والشعارات الرائجة التي قيلت بحق الحجاب هي تأكيد على الفعل السياسي للحجاب على طريق "العداء للغرب" في النهضة الإسلامية.

3- الحجاب باعتباره خندقاً في خدمة الحفاظ على التسلسل الهرمي للسلطة لصالح الرجال، أي الحفاظ على الدور والمكانة التقليدية للنساء وبنية الرجولة في العائلة، وخير شاهد على ذلك الشعار الذي يٌردد "الإسلام مدرستنا، والحجاب خندقنا". ولا يعني هذا الشعار سوى فرض الحجاب على "البدون حجاب" وعلى "الحجاب السىء"، ويعني ذلك أن تبقى المرأة في "مكانها"، ولا يسمح لها بالخروج من هذه الحدود، كما يعني التقسيم والفصل الجنسي للأعمال والحفاظ على الحدود والميادين الاجتماعية .

وسأشير لاحقاً في تطرقي إلى التناقضات والتغيرات التدريجية في نموذج "المرأة المسلمة"، وكيف أن المقاومة التي تبديها المرأة وحتى النساء المؤمنات وضغط الواقع المادي والسياسي في إيران اليوم قد أدت إلى أن الحجاب الإجباري في الجمهورية الإسلامية لم يستطع أن يقف حائلاً أمام مشاركة المرأة في المجتمع.

ب - القوى القومية والمذهبية: الجبرية البيولوجية

إن الموقف المشترك لوجهات نظر الكثير من المثقفين الوطنيين غير المذهبيين، وتناغمه مع موقف القوى المذهبية في بعض الأمور المتعلقة بالمرأة، يتحدد في الاعتقاد بنوع من المحدودية البيولوجية للمرأة، والتأكيد على التفاوت الطبيعي والبيولوجي الموجود بين المرأة والرجل. ورفع الكثير من الوطنيين وأنصار الحرية في إيران، شأنهم في ذلك شأن أقرانهم المثقفين في النهضة الديمقراطية في أوربا القرن الثامنة عشر، شعار "الحرية والمساواة والإخاء" الذي لم يخاطب في واقع الأمر إلاّ "الأخوان" ولم يفكر في "الأخوات".

فعلى سبيل المثال سار أحمد كسروي على هدى جان جاك روسو الفرنسي، وكان تقدمياً جداً في موقفه إزاء التجديد والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، إلاّ أنه وقف موقفاً مشابهاً لروسو حيال العقائد الجنسية. فعلى الرغم من دفاع كسروي عن حقوق المرأة في الكثير من الموارد، ولكنه كان يعتقد أن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت وإن للمرأة وضع متفاوت عن الرجل في ميدان التربية والتعليم والعمل، فمهمتها تكمن في متابعة حاجات الرجل والولادة وتربية الأطفال. وفي هذا الإطار يمكن الرجوع إلى ما كتبه كسروي في "الأمهات والأخوات" وفي "خلق الله الرجل كي يعمل"، وهي منطلقات مشابهة لما ورد في نظريات روسو المشار إليها في كتاب أميل زولا.

وعلى الرغم من أن الوطنيون في إيران طالبوا بنزع الحجاب وتوفير مقاعد دراسية وفرص سياسية واجتماعية للنساء، ولكن هذا المطالب كانت مشروطة بـ"أما " و"لكن"، فلم يتم الاعتراض على أسس وبنية سلطة الرجل. لقد كانت الصورة الغالبة للنساء في الأدب الإيراني هي " أن المرأة التي لا تلد .... جذّابة، وإذا ما ولدت.... فهي أم"(زن تا نزايد دلبر وجون بزايد مادر)، وهو مبدأ كان يلقى القبول بسبب:

1- الاعتقد بأن الدور الأساسي للمرأة يقتصر على الأمومة والزوجية.
2- والاعتقاد بأن النساء حاميات للسنن ومسؤولات عن حماية الثقافة والهوية القومية.

وهنا لا أود الدخول في نقاش نظري وفلسفي حول هذه النظرة حيال المرأة، لأن البحث في ذلك يستلزم تحليل الرؤية الليبرالية والجبرية البيولوجية في ماهية وطبيعة الإنسان بشكل عام والمرأة بشكل خاص، ويحتاج إلى بحث ونقد معرفي وميثودولوجي منفصل من أجل اعادة النظر نقدياً في قضايا مثل الازدواجية، والعقلانية الميكانيكية، وعلاقة العقل بالإحساس، وعلاقة الفطرة بالتربية، والمساواة المجردة وغير المجردة. ولكن ما أود الإشارة إليه في هذه المقالة هو الموقف المشترك بين القوى الليبرالية الوطنية في إيران وبين القوى المذهبية إزاء ربط قضية المرأة بالقضية الوطنية، حيث اعتبرت النساء "حاميات للسنن والهوية القومية".

ــــــــــــــــــــــــــ

*"Fitishism "، تعني التلبس بلبوس الجنس الآخر. المترجم

** مثل إيراني يقول "جوجه را آخر پائیز مى شمردند"، ويعني أن الدجاج يخرج من بيضته في الربيع ويمر في فترة الصيف ويهلك من يهلك لعوامل المرض أو جشع البشر، ولا يبق منه إلاّ القليل في أواخر الخريف ليتم تعداده "- المترجم. 

يتبع

 

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.