اخر الاخبار:
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

روسيا التي أجهلها// محمد عارف

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

 

الموقع الفرعي للكاتب

روسيا التي أجهلها

محمد عارف

مستشار في العلوم والتكنولوجيا

 

بذلتُ جهدي أن لا أبكي. مشيتُ كمشنوق من صدره، ولو أجشهتُ لهويت على رصيف «نيفسكي»، الشارع الرئيسي لمدينة «بطرسبرغ»، وقد يَتَصورني الناس سكراناً، وكنتُ سكراناً بعشق مدينة ساحرة الجمال، عشت فيها خمس سنوات، وها هي بعد نصف قرن تذهلني جزرها، وقنواتها، وجسورها، وتماثيلها، وقلاعها، وأبراجها، ونساؤها ذوات الشعر الذهبي والعيون الفيروزية. واعتَصَر قلبي مزيجٌ غريب من غضب وبهجة، عندما أدركت أن حنيني المشبوب لبغداد، وأنا طالب في «جامعة بطرسبرغ» كان يجعلني أجهل كم أنا محظوظ بالعيش في إحدى أجمل مدن العالم، وأكثرها سحراً معمارياً، وثقافةً، وأناقةً.

 

ونعرف روسيا عندما نعرف أن القيصر «بطرس العظيم» كما يسمونه، أنشأ هذه المدينة عاصمة له عام 1703 في موقع صعب، تتعرشه مستنقعات وقنوات نهر «النيفا» في مصب بحر البلطيق. وأبدعت روسيا في موقعها المستحيل بين أوروبا وآسيا أدباء عالميين، مثل بوشكين، وتولستوي، ودستوييفسكي، وتشيخوف، وموسيقيين لا يتوقف عزف سيمفونياتهم حول العالم، مثل تشايكوفسكي، وكورساكوف، وشوستاكوفيتش، وسترافنسكي. و«بطرسبرغ» مدينة أحلام، وكوابيس، بينها 900 يوم من أطول حصار في التاريخ فرضه النازيون خلال الحرب العالمية الثانية، ونصف قرن من ستار حديدي مزدوج شيوعي رأسمالي. والجهل كبير بتأثير الحصار الاقتصادي الحالي على صبايا وصبيان «بطرسبرغ» الذين يتقنون الإنجليزية، ويديرون بمرح وخفة كل شيء في المدينة. «مارينا» البائعة في حانوت الكتب في متحف «الأرميتاج»، اعتبرت قولي نكتة عن تخاصمي مع موظفة البنك لأنها أعطتني كمية كبيرة من الروبلات مقابل دولاراتي. وقالت ضاحكة وهي تخفف عني: «نحن الروس نكون في أحسن حالاتنا وقت العُسر، ونموت ضَجَراً وقت اليُسر».

 

وفي أشد أوقات تاريخها عسراً، أطلقت روسيا ثورة إبداعية استوحاها عباقرة الفن والهندسة في القرن العشرين. والجهل بمصير تلك الثورة في موطنها روسيا كالجهل بما فعلته بالفكر السياسي والاقتصادي العالمي. «وأكثر ما يدهش فيها تضاعف الانفجار الإبداعي ألف مرة خلال السنوات العشر الأولى من الثورة، وفي أسوأ الظروف المادية التي ألهبت الحماس المثالي لمشروع بناء مجتمع جديد». كتب ذلك المنظر المعماري الألماني «باتريك شوماخر» في مقدمة كتاب «زهاء حديد والسبرماتية»، وفيه ذكر أن «وتيرة، وكمية، ونوعية العمل الفني الإبداعي في الفن، والعلم، والتصميم، كان مذهلاً حقاً، واستشرف بلمحة مركزة خاطفة ما احتاج إلى نصف قرن كي يتحقق في أيِّ مكان آخر في العالم. ولا شيء يستحق الذكر في الفن والتصميم عبر القرن العشرين لم يُجَرب في العقد الأول من ثورة أكتوبر». لكن لا يذكر هذا الكتاب الحافل بأعمال زهاء والفنانين الطليعيين الروس، لماذا تولت مهندسة عراقية بعث فن ثورة أكتوبر نظرياً وعملياً.

 

وعندما دعتني جامعتي «بطرسبرغ» لإلقاء محاضرة، اكتشفتُ جهلي بما يمكن أن أسميه «تكعيبية» وعي طلبة الجامعة. فالعالم بالنسبة لهم ليس صلداً مسطحاً، بل كأعمال زهاء حافل بمنحنيات وتشظيات يفككونها، ويعيدون تركيبها. ومثل زميلنا المشترك بوتين الذي تخرج عام 1975 في «جامعة بطرسبرغ»، يسمون الولايات المتحدة «الشريك»، ويتحدثون عن التفاهم، والأرضية المشتركة معها، فيما يضيع الإعلام الأميركي في مسطحات الحرب الباردة، فلا يستخلص شيئاً من اجتماع 95 دقيقة بين بوتين وأوباما في الأمم المتحدة.

 

وزميلنا السابق بوتين كزميلنا الأسبق لينين، مثالي براغماتي أنقذ روسيا من التفكك والدمار. وعندما أبرق تروتسكي، وزير خارجية ثورة أكتوبر، يخبره باشتراط الألمان المستحيل على ممثل دولة العمال والفلاحين، وهو ارتداء بدلة رسمية سوداء عند التوقيع على معاهدة الصلح، أبرق لينين: «ارتدِ حجاب النساء الشرقيات إذا اشترط الألمان ذلك لعقد الصلح ووقف الحرب»!

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.