اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

في حوارٍ معها.. (الجزء 14) لا يتكرر الحبُّ إلا بالموت// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

في حوارٍ معها.. (الجزء 14)

لا يتكرر الحبُّ إلا بالموت

د. سمير محمد ايوب

الاردن

 

كُلما جَثَتْ روحي على رُكْبَتَيها، وكثيراً ما باتَتْ تَضْطَر، رغمَ كلِّ الثباتِ الذي أبْديه، أكونُ ساعتها بأمسِّ الحاجةِ إلى كتفٍ قويٍّ أتوكأ عليه. لأنْضوَ ثوبَ التوجُّسِ عني، قبل أن أعلن انتصاري في الحروب المتقدة في حناياي.

 

وكلما حان وقت قهوتِنا، لم أعدْ أنهضُ مِن كسَلي. بل أحتضنُ قلبي بمفردي. وأفتشُ صمتي بحثاً عن كلماتٍ أدردِشُ بها معه. فلا يُخالِط سمعي سوى همسٌ مُلِحٌّ ناصِحٌ : خُذي يَدَكِ. إبسطيها كلَّ البسطِ. لا تُبْقِيها مَغلولةً إليَّ.

 

لمَحَتْ ظِلالَ بسمةٍ على صفحاتِ وجهي. فسارَعَتْ تؤكدُ بنبرةٍ مُستغرِبَة، تدفعُ تُهمةً غيرَ مَنطوقة: لم يَمُتْ يا شيخي، وإن كان جسده قد غفى غفوته الأخيرة، فتوفاه سبحانه منذ سنين. من حينها وهو آخر من تضمه جفناي، وأول الخاطر كلما صحوت. أبقيتُ تعمُّداً ألكثيرَ من تفاصيلنا حوليَ مُورِقَةً. ولكني كنت كلما إستجديته عودة، لا أسمع إلا صوتا هاتفا لكل حواسي: عِيشي. فأنا لستُ في الطريق إليك. لأنجو من لعنةِ الإدراك، كنت أُغمضُ عينيَّ بشدَّةٍ. ليبقى واقعي صامتاً بِلا حدودٍ، كَثرثرةِ القبورِالتي أعشقُ فصاحتَها المُباشرة.

 

تابَعَتْ دون أن تلتفِتَ إليَّ: في يومٍ مضى، خذلني كلُّ مَنْ حَوْلي . أشعروني أن طِيبَتي هي أسوأ مُقْتَنَياتي. إنقبضَ صدري ولم أعد اطيق معاركي الداخلية. فغادرتُ إلى حيث يرقد من أحببت. فهم مِشكاتي للسكون. تجولتُ مُطَوَّلاً بين شواهد القبور. حدَّثتهم بوجعي، فجبروا خاطري.

 

بَقيتُ صامِتاً أستقرأ لُغاتَها المنطوقةِ والمرئية. هي إمرأةٌ  ذات جاذبيةٍ مُلْفِتَةٍ. لكن، لا علاقة لجاذبيتها بتضاريسِ وجهها الجميل، ولا بمفردات قَوامِها الممشوق. بل نبعها أناقةُ فكرٍ أنضجهُ عَدُّ السنين، وروحٍ مُتوثِّبَةٍ تُزينُها نفسٌ لوَّامَةٌ. تَنَهَّدْتُ بضجرٍ، وأنا أُحَمْلِقُ في عينيها، وقلت لها بنبرة مُعاتِبَةٍ: ثم ماذا يا سيدتي؟

 

قالت: لا تَسَلْني من أيِّ الدروبِ تَسرَّبَ. في غَفلةٍ من حُزْنيَ، باتَ ملءَ السمعِ وملءَ البَصَر. إلتقينا في لُجَّةِ ومْضةٍ. إخترقَتْ القلبَ. واستباحَتِ الروحَ. واستبدَّتْ بالجسد. فإئتلفَ كلُّ شئٍ بكلِّ شئٍ وأوغَل. ومن ثم، بدأت تهربُ مِني شواهدُ القبور. وبِتُّ أفرحُ كثيراً بحدائقي المُهْمَلَة. أبقي أصابعي عالقةً بينَ ورقِها وزهرها. وصارت شفتاي، كلما سمعته أو رأيته أو لامسته، ترتجف دون أن تُلامِسَ شيئاً.  وتتلوى بفوضى عارمة، كلما ارتطمت بدفء فناجيلي وحوافها.

 

بَقيتُ صامِتاً مُنصِتا، وهي تتابع: أعلمُ أن الحياةَ عقيمةٌ، ولكني لست أدري إلى أي حد؟ هل الراحلون بالموت، هم آخر من في مضاربنا؟ وَيْحَ قلبي يا شيخي، أما عادَ مُتَّسِعا لِحُبٍّ جَديد؟

 

قلت: أحجياتُ الموتِ وتنويعاته، ملءُ السمعِ وملءُ البصر، في كل مَواطِنِ العرب. مع كل نفس ذائقة الموت، لم يَعُدِ الموتُ قضية البعض، بل في الحياة يكمنُ القولُ الفصل. فالحياة هنا، لا يتذوقها إلا من رَحِم ربي. وتابعتُ: تبدو القلوب يا سيدتي، حينا ككل الأماكن. تضيقُ إن غادرها حبيب. ومع تداول يوميات العيش، سرعان ما ننسى، فتعود للإتساع. وتبدو أحيانا كالطبيعة، مستبدة تكره الفراغ.

 

يَحْكي الموتُ أوجعَ قَصَصِ الحُزْن عمَّنْ فوقَ التُّراب. أما من في القبور، فهم لا يفرحون ولا يحزنون. أحياء المقابرِ ألبوماتٌ من الذكريات، مُرتَّبَةٌ مُدَقَّقَةٌ مُبَوَّبَةٌ ومُفَهْرَسَة. رسائلها تنادي، تناجي الصدى في إشتياقٍ نهرَبُ إليه، مخافةَ إعتقالِنا بِتهمة الفرح

 

أما الوجع يا سيدتي، فلا يُقاس بالزمن، وإنما بالتجربة. لا تُخبريني كم عمر معاناتك. أخبريني كم مرة حاولتِ نفضَ غبار الحزن عنك، وعيناك تُمطرُ وجعا مُمِضّاَ. كم إفتَقَدَتِ الدروبُ خبطةَ قدميك ووقع خطاها، وأنت تطاردين مواكبَ الفراشِ في الحواكير. أما زلتِ كل مساءٍ، تنتظرينَ بقلقِ أمٍّ، جلبة عودة العصافيرِ الى أعشاشها في ثنايا شجر بيتك؟ أما زلت مع قهوة المساء ووصلات ام كلثوم، تتعقبين النجوم في عتم الليل؟ أما زال صهيلُ الديكة البلدية وعصافيرُ الفجر، رفقاء فيروزياتك وأفراح قهوتك في الصباح؟

 

سيدتي، من الممكن أن تكوني سندريللا العصر. اطيعي روح قلبك، ولا تهربي. إمضِ بعيدا عن الوحدة. تمادي في احتساء قهوتك معه. فمن اختطفك من نفسك الى نفسك يستحق الحب. دون أن تنسي أن القدر مُستبِدٌّ وإن عَدَلْ. وأن الحب لن يتكرر إلا بالموت. 

 

الاردن – 18/9/2017

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.