اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

الأساس النفسي للتمسك بالخطأ// صائب خليل

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

صائب خليل

 

عرض صفحة الكاتب

الأساس النفسي للتمسك بالخطأ

صائب خليل

19 أيلول 2019

 

في منتصف القرن الماضي، انتشرت في الولايات المتحدة اخبار حادثة ادهشت علماء النفس. كانت هناك مجموعة دينية تقودها امرأة، تؤمن بنسخة حديثة من قصة نوح، مفادها ان الشر قد انتشر في العالم وان الههم قرر افناء الأرض، لكنه سيرسل سفينة فضاء لتأخذ تلك المجموعة الى السماء وتنقذها من الهلاك. أعلنت قائدة المجموعة موعدا محدداً باليوم والساعة لوصول تلك السفينة المنقذة، وبدأ الانتظار. ولم يتحدث افراد المجموعة للناس والصحافة الا بشكل قليل، أما لأنهم كانوا يشعرون ان قصتهم لا يصدقها أحد، أو لأنهم لم يكونوا يريدون ان ينضم اليهم الكثير، لأن السفينة قد لاتسع الجميع.

وفي اليوم المحدد وقف الجميع ينتظر في حديقة منزل قائدتهم وكلهم توق لوصول السفينة، لكن السفينة لم تصل!

أعلنت المرأة أنها استلمت رسالة وحي بتغيير الموعد، واعطت يوماً آخر ووقتاً آخر، وانصرف الجميع في انتظار الموعد الجديد، لكن الخيبة تكررت، ومرة ثانية لم تأت السفينة. ما الذي حدث لأتباع هذه المرأة؟

البعض منهم اعتبر القصة كلها خدعة وترك المجموعة، كما ينتظر، لكن ما ادهش المراقبين كثيراً ان الباقين "ازداد ايمانهم" بالمجموعة، وفسروا غياب السفينة على أن آلهتهم قد اعفت البشر من ذنوبها وتركت فكرة القضاء عليهم، امتناناً للمجموعة المؤمنة بها، المخلصة لها! وصار هؤلاء اكثر جرأة في الحديث عن دينهم وبدأوا يدعون الناس للانضمام اليه!

 

لا شك اننا ندهش لمن يصدق مثل تلك القصة، ثم يصر عليها بعد برهان خطأها مرتين، ثم يبرر ذلك بهذا الشكل! وقد نعتبر هؤلاء مجموعة مختلة عقلياً، أو ان المجتمع كان متخلفاً، وان مثل هذا لا يمكن ان يحدث لإنسان عاقل في هذا الزمان.

 

ربما ليس بالضبط، لكن نسخاً مخففة من تلك القصة تحدث الآن، كل يوم في كل مجتمع.

 

كلنا لاحظنا كيف يستغرب كل فريق منا من الفرق الأخرى، لأنها "تتمسك بخطأ" موقفها حتى بعد ان يصير "واضحاً للجميع" انه خطأ! ويعزى ذلك الدفاع عن الخطأ غالباً الى "المصلحة" والاستفادة من بقاء الخطأ. ولأننا لا نجد له تفسيراً منطقيا، فإننا نسمي مثل هذا التصرف أحيانا "نفاق" او "مشاعر طائفية" أو ان صاحبنا "تأخذه العزة بالإثم". وفي كل الأحوال فأننا نشعر بالغيظ من هؤلاء ونعتبرهم "محتالون" يعرفون الحق وينكروه.

لكن تفسيراتنا كثيرا ما تصطدم بحقيقة محيرة، حين نرى شخصاً نعرفه جيداً كشخص أمين، يتخذ مواقف مغايرة لطبيعته التي نعرفها ويصر على الدفاع عن خطأ واضح. وأنا شخصياً اعرف الكثيرين ممن هم أنأى ما يكون عن الطائفية، لكنهم يدافعون عن مواقف واضحة الخطأ، ولا يجد من لا يعرفهم تفسيراً لذلك سوى الطائفية! كذلك نجد على وسائل التواصل الاجتماعي عدداً كبيرا من الناس (عدا المجندين) ممن يدافع عن المالكي ويرى فيه الأمل، رغم انه يعلم أن صاحبه يجلس ويتملق اشخاصاً يعترف بأنهم فاسدين او حتى مخربين. وكثيرين يرون أن مقتدى الصدر مازال يحارب الاحتلال رغم ان الآخرين يرون بوضوح انه لم يعد له سوى التصريحات الكلامية، اما خياراته السياسية فأنسب ما تكون للاحتلال. ووجد العبادي ايضاً يوماً، أبرياء يدافعون عن انه "يعمل بصمت ودهاء" رغم كل الكوارث التي تسبب بها، وحتى عبد المهدي الذي يمكن تسطير قائمة طويلة من الجرائم الاقتصادية والسيادية الحديثة باسمه، يجد من يدافع عنه. وخارج العراق نفتح افواهنا دهشة ان السيسي نفسه يجد من يدافع عنه، وفي لبنان هناك من يدافع عن السنيورة رغم اكتشاف تواصله مع العدو لتحديد الأماكن التي يجب ان يقصفها من بيروت عام 2006، وآخرين مدانين بجرائم قتل يقودون احزاباً. هناك من يصر على أن صدام كان بطلاً عربيا كبيراً، رغم كل الحقائق المتوفرة عن وحشيته وفساد حاشيته ورغم إمكانية اثبات انه تسبب بأشد اذى للأمة في تاريخها الحديث. والبعض الآخر مصر ان اردوغان هو من سيقود الامة الإسلامية بوجه اعدائها، ويصدق قصة اسطول الحرية لغزة، رغم انها حقيقة لا ينكرها الاتراك ان علاقتهم مع إسرائيل بلغت اقصى تطورها في عهده! ماذا عن ايران؟ البعض في العراق يرى أن الآخرين ينكرون حقيقة انه لولاها لما دحر داعش، والبعض الآخر يرى ان الأولين ينكرون مدى تدخلها في العراق وسيطرتها "الواضحة" على من يحكمه!

 

هل هؤلاء كلهم "يراعون مصلحتهم" فـ "ينافقون" و "يكذبون" عمداً و"ينكرون الحق الواضح"؟

في كل من هذه التهم بعض الحقيقة.. ولكن ليس كما نتصور.

 

قصة المجموعة الدينية وسفينة الفضاء، والمراوغة المدهشة للحقيقة الواضحة، دفعت علماء النفس الى دراسة هذه الحالة. واكتشفوا ظاهرة إنسانية عامة اسموها "التنافر المعرفي"(1). وفكرتها ان العقل عندما يستلم حقيقة مزعجة، فإنه يصاب بالألم. وانه سيسعى بطبيعته للتخلص او التخفيف من ذلك الألم، مثلما يسعى للأكل للتخلص من ألم الجوع.

يجب ان نتذكر هنا ان العقل ليس سوى عضو من أعضاء الجسم الإنساني، وبالتالي فأن مهمته الأساسية، مثل بقية الأعضاء، هي الحفاظ على حياة هذا الجسم، وليس البحث عن الحقيقة، كما نتصور غالباً! العقل يبحث عن الحقيقة عادة لأن "معرفة" الحقيقة في صالح بقاء الجسم على قيد الحياة. لكنها احياناً، في حالة الصدمات مثلا، قد تصبح قاتلة أو مؤلمة وبالتالي يجب التخلص منها. وتلك هي حالات تنافر المعرفة مع مصلحة الجسم الإنساني وقدرته على البقاء.

وكلما كان ذلك الألم اشد، كلما طلب الجسم او الجهاز العصبي من العقل النجدة باختراع "حقيقة أخرى" تنقذه من الألم. وكلنا يعرف حالات الأم التي يموت طفلها، فتنكر ذلك وتبقى تتصرف على انه مازال حيا.

 

لكن ليس من الضروري ان تكون الصدمة بتلك القوة لكي تسبب محاولة العقل لإنكار الحقيقة. فأي حقيقة "مؤلمة" او "مكلفة" عصبيا، تثير رغبة ما، بإنكارها او تعديلها بشكل يزيل الألم او يقلله.

وبالنسبة للعقائد السياسية والاجتماعية، فأن "الكلفة" العصبية لاكتشاف حقيقة ما، تتناسب مع درجة أهمية ما تحطمه تلك الحقيقة في انفسنا من آمال أو "مساند معرفية" (تصورات تساعدنا على فهم العالم والعيش فيه). وبالتالي فكلما كان "استثمارنا" اكبر في التصور الذي حطمته معرفتنا الجديدة، أي كلما كنا مرتبطين بذلك التصور، كلما بذلنا من اجله مالاً وخصصنا له وقتا، وعلقنا عليه آمالاً، كلما كان مؤلماً لنا تقبل حقيقة تحطمه، وبالتالي استدعينا العقل وطلبنا منه ان "يعدل" الحقيقة لكي تكون اقل ألماً، ومن هنا تأتي صعوبة الاعتراف بالحقائق الجديدة، ونبدو "منافقين" نرى الحقيقة وننكرها وكذابين نراوغ الحقيقة الخ.

 

مما يساعد العقل على تلك المراوغة هو اننا لا نعيها. انها تحدث دون ان نشعر. وتحدث في الغالب بشكل خفي، ونادراً ما يضطر العقل للمراوغة بشكل مباشر. فلو اعترف من نحبه من الساسة مثلا بإسرائيل، وكنا نكره ذلك بشدة، فسيكون صعب علينا ان نراوغ تلك الحقيقة. لكن ان فعل ما هو في صالح إسرائيل، دون اعتراف صريح، فيمكننا عادة ان نجد لفعله تفسيرات أخرى، دون ان نكتشف اننا نراوغ. وغالباً سيساعدنا هو في إيجاد تلك التبريرات وسنقبلها منه بدون تمحيص، لأننا أصلا نبحث عن حل لمشكلة تلك الصدمة، وعن طريقة لتخفيف الألم. لذلك يبدو الشخص متحيزاً في مدى تساهله في محاسبته ومراجعته للدلائل والاثباتات على صحة ما يحب، وتشدده بالمقابل في طلب الاثباتات على صحة ما لا يحب من الحقائق.

 

إذن مراوغة الحقائق المؤلمة، ميكانيكية نفسية يدافع الفرد بها عن سلامته العصبية، فهي مفيدة ولا يجب تجنبها، اليس كذلك؟

ليس بهذه البساطة. فهذه الميكانيكية تكونت في عصور قديمة لإنسان مختلف الحاجات. ونستطيع ان نفهم أن تطور التواصل في المجتمع وتطور حجمه وتعقيد نظامه، يجعلنا بحاجة الى أن نعرف "الحقيقة" لكي نستطيع ان نتعامل ونتفق على الموقف. فإن كان لكل فرد حقائقه التي يتجنبها وتلك التي يدافع عنها، صار التواصل بين الأفراد عسيرا. نحن بحاجة إلى "حقائق مشتركة" تمكننا من التعامل، ولا يمكن ان تكون تلك إلا "الحقائق الحيادية"، أي "الحقائق" ببساطة. لذلك صار من واجب الفرد أكثر من قبل، ان يقاوم الرغبة في مراوغة الحقائق التي تؤلمه، أي ان يتحمل بعض الألم من أجل الحقيقة.

 

ضغط الألم ليس بنفس قوة التأثير في الأشخاص المعرضين لتلك الحقائق. فمثلما تؤلم بعض الضربات اشخاصاً اشد مما تؤلم اخرين، فهذا هو ما يحصل في حالة "التنافر المعرفي". كذلك، مثلما يختلف الناس في استعدادهم لتحمل الألم من اجل قضيتهم، يختلفون في مدى تمسكهم بالحقائق رغم المها. فنرى البعض يراوغ بسهولة وآخر يبتلع الصدمة ويبقى مصراً على الحقيقة، رغم ما تسببه له من ألم. ولذلك نعتبر البعض صادقاً يبتع الحقيقة والبعض الآخر مراوغاً.

 

أود هنا ان اضيف أجمل عبارات الإمام علي في تقديري وهي : الحق لا يعرف بالرجال.. وإنما يعرف الرجال بالحق.. فاعرف الحق تعرف اهله والله داؤنا العضال اننا نعرف الحق بالرجال .. ولا نعرف الرجال بالحق.."

وكأن الإمام علي احس فطرة بتأثير التحيز، ايجاباً وسلباً، في حب "الرجال" او كرههم، لتحديد "الحق" وحذر من هذه الحالة، ورأى فيها "داؤنا العضال" في مدى انتشاره، وصعوبة تقبل الفرد للحقائق المؤلمة!

 

لكن هل يمكن ان نغير طبيعتنا ونقاوم الرغبة بتخفيف الألم بالمراوغة، أم أننا محكومون بمراوغة الحقيقة دائماً عندما لا تناسبنا؟

إن معرفة هذه الطبيعة البشرية تسهل علينا التعامل مع حالات "التنافر المعرفي"، فهي تخدمنا في ناحيتين: الأولى هي تسهيل فهم دوافع الآخرين لمراوغة الحقائق، وبالتالي تسهل التعامل معهم عندما يمارسون تلك المراوغة، بدلاً من الحيرة ونظرة الاستنكار المندهش لموقفهم. والثانية هي انها تساعدنا على تحمل ألم الحقائق المؤلمة، دون مراوغتها، وأن نحاول أن نعرّض الحقائق التي تريحنا وتلك التي تؤلمنا لنفس الحرص والتشدد على المراجعة والتمحيص. أن نراقب انفسنا وهي تسعى لمغالطة الحقيقة، وربما ان نبتسم لها ونقول: "امسكتك!"

هذه الروحية ضرورية لتجانس وتفاهم المجتمع ولتجنب تقسيمه إلى أطياف وطوائف ومجموعات غير قادرة على الحوار، لأن أي منها غير قادر، او غير راغب بتحمل بعض الألم من اجل "الحقيقة المجردة".

 

(1) التنافر المعرفي : cognitive dissonance

  

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.