اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

على ضوء رفع بعثة الاتحاد الأوربي علم المثلية الجنسية في بغداد ج1// د. عامر صالح

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. عامر صالح

 

عرض صفحة الكاتب 

على ضوء رفع بعثة الاتحاد الأوربي في العراق

علم المثلية الجنسية في بغداد- الجزء الأول: في المثلية الذكورية

د. عامر صالح

 

حذفت بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق، فجر الإثنين بتاريخ 2020ـ05ـ18، تغريدة الاحتفال برفع علم “المثلية الجنسية”، فوق مقرها بالعاصمة بغداد، بعد موجة غضب وتنديد سياسية ودينية. والأحد المصادف 2020ـ05ـ17، قالت بعثة الاتحاد الأوروبي، عبر حسابها بـ”تويتر”: “بالاشتراك مع السفارة الكندية والسفارة البريطانية في العراق، ننضم اليوم في بغداد مع بعثات الاتحاد الأوروبي حول العالم في رفع علم قوس قزح (علم المثليين) للاحتفال باليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية والتحول الجنسي، وتسليط الضوء على حقوق المثليين”.

 

ولاقى الإعلان الذي تم إرفاقه بصورة لـ”علم المثليين” المرفوع في بغداد، ردود فعل سياسية ودينية غاضبة طالبت بطرد سفراء دول الاتحاد الأووربي وإغلاق مقراتها. وعبّرت وزارة الخارجيّة العراقية الأحد، عن شجبها لخطوة الاتحاد الأوروبي، ودعت كافة البعثات العاملة في البلاد إلى التقيّد بالقوانين، ومراعاة الأعراف الدبلوماسية والقِيَم السائدة في المُجتمَع. كما أدان ديوانا الوقفين السُني والشيعي الإجراء، بالإضافة إلى البرلمان العراقي، ومراجع شيعية، وكتل سياسية.

 

وقد اعتبر الكثير هذه الخطوة غير مسبوقة في العراق، الذي يعد بلداً محافظاً، وتلعب الأعراف القبلية والدينية فيه دوراً بارزاً. ولكن في 3 مارس/ آذار الماضي، أشادت السفارة البريطانية في العراق عبر “تويتر”، بما قالت إنه “اعتراف” الحكومة بحقوق المثليين في البلاد. فيما نقلت مواقع محلية عن مصادر حكومية “لم تسمها” قولها إن السلطات العراقية لم تتخذ بعد أي خطوة رسمية باتجاه الاعتراف بحقوق المثليين. وتقول المنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق المثليين، إنهم يتعرضون للاختطاف والقتل في العراق على يد مجموعات مسلحة مجهولة الهوية.

 

 ومن الضروري التذكير أنه في 17 مايو أيار 1990، حذفت منظمة الصحة العالمية المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية، بعد مرور أكثر من 100 عام على تصنيفها كحالة مرضية. وأصبح هذا التاريخ يوميًا عالميًا لمناهضة رهاب المثلية والتحول الجنسي. وعادة ما تشهد مدن عالمية مسيرات دعما للمثليين لتسليط الضوء على معاناتهم في المجتمعات التي لا تتقبلهم، حيث لا تعترف قوانين كثير من الدول بحقوقهم.

 

ومن الضروري هنا الاشارة في أطار الترابط مع تلك المناسبة العالمية, الى ان منظمة العفو الدولية حثت الحكومة العراقية في فترات سابقة على بذل المزيد من الجهود لحماية المثليين في البلاد, وذلك في اعقاب صدور تقارير عن تزايد حوادث القتل في أوساط الشباب منهم على وجه الخصوص. وجاء في الرسالة أن 25 فتى لقوا مصرعهم في العاصمة بغداد لوحدها خلال الأسابيع القليلة المنصرمة, وذلك اما لأنهم كانوا من المثليين الجنسيين, أو أن المهاجمين تصورا بأنهم كانوا كذلك. وقد انتقدت الرسالة ما أسمته "اخفاق الحكومة" العراقية بادانة حوادث القتل تلك, والتي يعتقد بأنها نفذت على أيدي رجال ميليشيات طائفية ,أو من قبل أفراد ينتمون الى عشائر وعائلات الضحايا انفسهم.

 

الكتابة عن هذا الموضوع, لما فيه من خصوصية ومحاذير وتابو عصي على الاختراق والبحث في دائرة ثقافتنا التي لاتفصح عن كل شيئ, لكي يتسنى للناس ممارسة نقد وتقويم الظواهر المختلفة بطريقة بناءة, عبر تفهم ابعادها وتعقيداتها المتشعبة, وبالتالي يكون قبولها او رفضها كليا او جزئيا مبنيا على حيثيات الالمام بها وليست من منظور أقصائي متشنج ازائها, قائم على خلفية الجهل بها فيكون عند ذلك" افضل" الحلول هو لجمها بشتى الوسائل او التعتيم عليها, لكي تنمو الظاهرة اضعافا خلف الكواليس, أن كان طبعا ما يشير الى وجود ذلك المحرم ام لا. والمحرمات لاحصر لها في ثقافتنا, ولكن الخلاف في درجة المحرم وسقف شيوعه. 

 

أن المثلية الجنسية قديمة قدم التأريخ, بشقيها: المثلية الذكرية (اللواط), والمثلية الأنثوية (السحاق). وكلا الظاهرتين موغلة في التأريخ, فالسحاق الذي يسمى" باللسبية" نسبة الى جماعة من النساء عشن في جزيرة لسبوس اليونانية في القرن السابع قبل الميلاد وأشتهرن بممارسة الجنسية المثلية, وماهذا التأريخ الا هو البداية" الرسمية" أو المعلنة فقط. أما اللواط فلا توجد دلائل تأريخية لبدايته الرسمية, ألا أن آثاره تعكس توغله هو الاخر في عمق التأريخ.

 

أن من اهم الأمور المتعلقة بالجنسية المثلية عند الذكور هي النظرة الأجتماعية لهذه الظاهرة السلوكية. ويوجد هناك تباينا لهذه النظرة عبر عصور التأريخ والحضارات المتعاقبة والمجتمعات المختلفة.فهي قد عرفت وأنتشرت في الحضارات القديمة لبلاد وادي الرافدين ومصر والهند والصين, ولايبدو أن هذه الحضارات قد أدانت هذه المماراسات, بل أن بعضها, وخاصة اليونانية القديمة قد حظيت بالكثير من التقدير كما يتضح ذلك من بعض محاورات أفلاطون, حيث يحدثنا عن عشق سقراط للغلام اليسباديس, ويذكر ديوجنيس أن سقراط عندما كان غلاما كان معشوقا لمعلمه, وارسطو كذلك المعلم الاول عند الاغريق كان أيضا يمارس الجنسية المثلية, وكذلك من أشراك عدد من آلهة الاغريق مثل "زيوس" و"بوسيدون" و"ابوللووهرميس", في العلاقات المثلية, وما ورد عن تفشي المثلية الجنسية الذكورية في أسبارطة وهي أشد المدن بأسا وشجاعة. أما الأديان السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والأسلام) فقد أدانت الجنسية المثلية وأعتبرتها مخالفا للفطرة الأنسانية وفناء للبشرية القائمة على الزوجين آصلا. وماحدث لقوم لوط من عقاب يمثل النظرة الدينية لهذه الممارسة.

 

وبالرغم من التحريم لها فقد أستمرت بالأنتشار في العصور التالية وأن كنا لانعلم بالتأكيد مدى ذلك الأنتشار بالنظر لما يترتب عليه الافضاء من عقاب. غير ان التأريخ الحديث من عصر النهضة وحتى الان قد ترك لنا أسماء مرموقة في تأريخ الفنون والاداب والحياة العامة ممن عرفوا بجنسيتهم المثلية اما في حياتهم أوبعد وفاتهم,ومنهم مايكل أنجلو, وليوناردو دافنشي, وشايكوفسكي, وبيكون, وربما شكسبير, واسكار وايلد, ولورنس, ومارسيل بروست, واللورد كيتشنر وعدد من ملوك الانجليز وغيرهم ممن لم تتناقل اسمائهم لأنهم لم يشتهروا, ولانعلم ان كانت تلك لعنة السماء عليهم ام ميزة لهم كي يتفردو.

 

أما الأتجاه المعاصر نحو مسألة الجنسية المثلية فهو أتجاه غير ثابت وغير متساوي في الكثير من البلدان والمجتمعات, فهنالك من يدين الممارسة اخلاقيا وبدون تبرير. وهنالك من البلدان ما يفرض عقوبة زجرية وتأديبية شديدة على ممارستها قد تصل الى الحبس المؤبد او القتل كما في البلدان التي تتخذ من الشرع الاسلامي واجهة لها. وهناك من يعتبر المسألة حالة مرضية تقتضي العلاج بالطرق الطبية والنفسية الممكنة, وهناك من يرفض هذه النظرة ولايعتبر الجنسية المثلية مرض من الامراض ولايفرض على الممارس لها ضرورة المعالجة بالأجبار. وفي خضم هذه الاتجاهات الاجتماعية والقانونية والدينية المختلفة يقوم أتجاها أكثر مرونة آزاء الجنسية المثلية. وهذا الاتجاه معمول به في بعض البلدان منها بريطانيا والسويد والدنمارك وهولندا وفرنسا وبعض الولايات المتحدة الامريكية وكلها اجازت الممارسة قانونيا على شرط آن تتم بين فردين راشدين ودون الاخلال بالآداب العامة.

 

ومن الضروري الأشارة هنا هو أن نسبة الممارسة في البلدان التي تسامحت قانونيا لم يزد على نسبة الممارسة في تلك المجتمعات التي تعاقب عليها وتكبحها بشدة (قد يجري ذلك على قاعدة كل ممنوع مرغوب), كما هو الحال في الكثير من المجتمعات في العالم, ومنها العربية والأسلامية حيث تشير دوائر العلاقات الأجتماعية المغلقة أن هذه الظاهرة متفشية بين أوساط وزراء ومسؤولين وسياسين ومثقفين وكتاب وحتى في أوساط المعلين وممارسي الطقوس الدينية, عدا المنتشر منها في البيئات الأجتماعية ذات الطابع الشللي, والتي تعاني من مظاهر انحراف متعددة كجرائم السرقات والقتل وغيرها. ألا ان عوامل النبذ الاجتماعي لهذه الظاهرة وصرامة العقاب لاتدعنا الى الوقوف على نسب أنتشارها, كما لانتوقع ان تنخفض هذه الظاهرة في ظل الانغلاق الاجتماعي وحالة الأنكفاء بين الجنسين والتخلف العام. وعلى اية حال فهي ظاهرة لها جذورها الممتدة في التأريخ القديم وما قبل الأسلام وما بعده ,وتشير الى ذلك بوضوح الكثير من الكتابات التأريخية من شعر ونثر ومحاورات وقصص مختلفة, وما كثافة النصوص القرآنية بهذا الخصوص الا دليل دامغ على تفشيها.

 

ومن الجدير بالذكر هنا, أن النظرة الأجتماعية للعلاقة المثلية الجنسية عبر العصور لم تتميز بالشدة والأدانة التي حظيت بها الجنسية المثلية الذكرية, قياسا بنظيرتها ,الجنسية المثلية الأنثوية, وعلى العكس فأن بعض المجتمعات القديمة, كما كان الحال في اليونان القديم ,فقد رفعت الجنسية المثلية للمرأة الى المرتبة الأسمى من علاقات الحب, غير ان الكثير من الأديان وخاصة السماوية (والأسلام منها) أدانت وأزدرت هذا الأتجاه في المرأة, وجعلتها في منزلة الزنا, غير أنها لم تذهب الى حدود الأدانة الصارمة وما يترتب عليها من عقاب كما هو الحال في اللواطية عند الذكور. وقد يفسر هذا الفارق في الظاهرتين بأن العلاقة المثلية بين الذكور هي في معظمها كاملة من الناحية الجنسية وتشمل أنتقال السائل المنوي الى الطرف الاخر, بينما لايتم هذا الانتقال في العلاقة بين أمرأتين, او قد يفسر من منظور اختلاف الاسباب الداعية الى ذلك عند كلا المثليتين.

 

اما الموقف الديني التفصيلي من المثلية الذكورية (اللواط) فقد اعتبرها أنتكاسا للفطرة الأنسانية المخالفة للمثلية, وأعتبر اللواط من اعظم الجرائم وأقبح الذنوب وأسوأ الأفعال, وضعف للعقل. ونذكر هنا بشكل خاص قصة قوم لوط ودلالتها الرمزية في أنتشار ظاهرة اللواط, فقد وردت القصة في عشرة سور قرآنية وبزخم هائل من الوعيد والتهديد والعقاب, ونكتفي هنا بما ورد في بعض الايات من سورة الاعراف/ الايات:80ـ84, قال: (ولوطا اذ قال لقومه اتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين. انكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا ان قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم أناس يتطهرون. فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطرا فأنظر كيف كان عاقبة المجرمين). وتشير النصوص القرآنية, بما فيها النص المذكور اعلاه, الى أن عقوبتهم كانت قلب ديارهم عليهم, والخسف بهم ورجمهم بالحجارة من السماء, وطمس اعينهم... الخ. تلك اذن هي الدلالات الرمزية لطابع العقوبات القرآنية التي يجب أن تستخدم ضد ممارسي اللواط. وكذلك السنة النبوية, فما جاء على لسان النبي محمد بقوله: ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل والمفعول به). وعلى هذا الأساس المستوحى من النصوص القرآنية والسنة النبوية, فقد اجمع على قتل اللوطي لكن اختلفوا في طريقة القتل, فمنهم من ذهب الى أن يحرق بالنار, ومنهم من قال, يرمى به من اعلى شاهق, ويتبع بالحجارة. وقد عمل في هذ العقوبات من قتل وحرق ورجم بعد النبي محمد وفي فترات تأريخية مختلفة. ويتفق الكثير من الفقهاء أن عقوبة اللواط اغلظ من الزنا, وعقوبته القتل على كل حال, أو يؤكد البعض القليل أن عقوبته وعقوبة الزنى سواء (أي مائة جلده). أما بالنسبة لعقوبة الجنسية المثلية الأنثوية ( السحاق), فقد أختلفت العقوبة, فمنهم من يرى أن فعل المرأة للسحاق أخف من فعل الرجل للواط من الناحية العملية, وهو شبيه بمقدمات فعل الزنا مثل التقبيل والمفاخذة والملامسة ( أي مانطلق عليه بالمداعبات), ولذلك أختلف فيه الفقهاء بين من يقول أنه زنا أو مقدمات للزنا. وفي كلتا الحالتين فهو فاحشة ومحرمة في الدين, وقد يضع قول النبي محمد سقفا لهذا الاجتهاد بقوله: ( السحاق زنا النساء بينهن).

 

وضروري الاشارة هنا أن القرآن آشار ضمنا الى وجود حالات عدم الميل الى الانثى عند بعض الرجال, كما ورد ذلك في سورة النور, في الاية(31), وهي التي تنصح المرأة بعدم اظهار زينتها (الا ماظهر منها) الى الناس, ولكن أستثنى بعض الناس الذين تستطيع ان تظهر لهم زينتها, ومن ضمنهم الاطفال وأولي الأربة. والمقصود هنا بأولي ألاربة, الرجال الذين لايشتهون النساء (أي ليست لديهم ميلا للجنس الاخر). كما أشار النبي محمد الى هذه الظاهرة عند كلا الجنسين بقوله: أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخط الله تعالى, قيل: من هم يارسول الله, قال: ( المتشبهون من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال والذي يأتي البهيمة, والذي يأتي الذكرـ يعني اللواط). وبالرغم من هذا الاعتراف بوجود هذه الظاهرة إلا ان هناك رفض مطلق لما يترتب عليها من ممارسات سلوكية.

 

أذن هذا هو الموقف الديني من ظاهرة الجنسية المثلية الذكورية, يعكس لنا أنطباعا, أنه موقف قطعي وذو حد واحد, لايرى الظاهرة في أطارها الدينامي المتغير, ولا في سياق الظروف المحيطة بها, وتلك هي سنة الميتافيزيقيا الدينية وحدودها في بحث الظواهر الاجتماعية, وتلك هي أطر" المعالجة" من هذا المنظور. الا أن المعارف العلمية في ميدان علم النفس تؤكد لنا أن ظاهرة المثلية الجنسية هي ظاهرة مرنة وذات مظاهر مختلفة في التعبير عن نفسها, وقد يتسع او يضيق مقياس المثلية أستنادا الى درجات سلمها المتعددة, وبالتالي فأن أحتواء الظاهرة ووضعها في سياقها الصحيح, هو المدخل الذي يحصر الظاهرة الى حدودها الدنيا أستنادا الى الاسباب.

 

أن الجنسية المثلية عند الذكور, حالها حال الجنسية المثلية عند الأناث. تعني بحدودها الواسعة حالات الميل أو التوجه نحو أقامة علاقة ذات طابع جنسي بين ذكر وفرد آخر من جنسه. ومن الواضح أن هذا المفهوم الواسع قد ينوه بالتساوي بين حالات الميل وحالات التوجه الفعلي, وهو أمر غير صحيح, ذلك ان توفر الميل لايعني في كل الأحوال الأتجاه نحو الممارسة الفعلية, كما أن ممارستها بالفعل لايؤكد قيام حالة الميل الى الجنسية المثلية. ويتضح الفارق بين الحالتين اذا أمعنا النظر في الدرجات المختلفة للتوجه نحو الأمور الجنسية بين فردين ذكرين, فهناك اولا اولئك الذين يتخذون سمات الانثى من حيث اللباس او الكلام او التعامل الاجتماعي, ولكن بدون ظهور أي دليل على ميل او أهتمام او توجه نحو علاقة جنسية مع ذكر اخر وبأي درجة من التماس. وهنالك البعض من الذكور ممن تعرض لهم الاحلام المثلية في حالات اليقضة, ولكنهم لايبدون اهتماما او اتجاها فعليا نحو هذا النوع من الممارسة الجنسية. وفي درجة اخرى نجد اولئك الذين يداعبون الافكار والميول الجنسية المثلية ويتمنون ممارستها لو يستطيعون. وفي درجة اقوى اولئك الذين تنشط فيهم الميول العاطفية الى فرد من نفس جنسه وتصل الى حدود التعلق سواء اتضح فيها الميل للممارسة الجنسية او لم يتضح. وبالتالي فهنالك اولئك الذين يمارسون العلاقة الجنسية المثلية بالفعل, وحتى في هذه الحالة فهنالك صور ودرجات عدة لهذه الممارسة ومدى التماس بين جسمي الشريكين من مثل اللمس, الى الاحتكاك, والى الاستمناء, والى العملية الكاملة من الولوج.

 

وعلى اية حال فأن الأهتمام من الناحية النفسية ينصب على تلك الفئة من ممارسي الجنسية المثلية لابسبب ممارستهم الفعلية لها بل بسبب انعدام الأهتمام والتوجه لديهم للعمل الجنسي الطبيعي مع الجنس الاخر. ومع انهم قادرون على مثل هذه العلاقة غير ان ارضائهم الجنسي لايحصل الابعلاقة جنسية مع فرد من نفس الجنس, وهؤلاء ينظر اليهم بأنهم الجنسيون المثليون "الحقيقيون", وهم على العموم لاخيار لديهم فيما يمارسونه "جسميا ونفسيا" بل يقبلون على الجنسية المثلية مطاوعة وبدون عناء الاختيار.

 

وهناك تفسيرات عديدة للجنسية المثلية, وليس لهذه التفسيرات كلها ان تتواجد في كل حالة من حالات الجنسية المثلية, فلكل حالة خلفيتها وظروفها ودوافعها الخاصة. والنظريات النسبية الواردة في تعليل الجنسية المثلية كثيرة بعضها ما يستند الى اسس نفسية وبعضها الى اسس اجتماعية وظرفية, وبعضها يعتمد على افتراضات بايولوجية وراثية او مكتسبة. ومع ما يتوفر في هذه النظريات المختلفة من منطق مقنع, الا ان الرأي الاكثر صوابا هو ان الاتجاه نحو الجنسية المثلية, خاصة الجنسية المثلية "الحقيقية" يتكون بفعل عوامل متعددة يصعب فرز واحد منها عن الاخرى. ويمكن ان نرصد هنا الاتجاهات العامة لهذه النظريات الواردة بخصوص الجنسية المثلية بالشكل التالي:

 

ـ أن الجنسية المثلية بدرجاتها المختلفة في الاطفال هي امر طبيعي, ولكن غير لازمة له. وتمثل دورا من أدوار النمو والنضوج الجنسي النفسي في حياة الفرد. غير أن هذا الدور ينتهي عادة بظهور الميول الجنسية نحو فرد من الجنس الآخر, غير ان استمرار الميول الجنسية نحو المثل من الجنس, قد يستمر بعد هذه المرحلة من النمو, واذا حدث ذلك فان من اسبابه تخلف الحدث في ادوار نموه الجنسي النفسي وتأخره في النمو العاطفي عما يناسب سنه.

 

ـ ممارسة الجنسية المثلية بشكل او اخر بما في ذلك العلاقة الكاملة منذ سن المراهقة وحتى الكبر قد يحدث احيانا او بشكل متواصل, وقد لايكون في هذه الممارسة اكثر من التعبير عن ضرورات التفريغ الجنسي الذي لايمكن الوصول اليه إلا عن هذه الطريقة كما هو الحال في بعض الظروف المعينة كالدراسة الداخلية (الاقسام الداخلية) والخدمة العسكرية والتجمعات الذكورية المزدحمة وانعدام منافذ التعبير الجنسي كما هو الحال في بعض المجتمعات المحافضة او المغلقة, وكما هو الحال في المجتمعات العربية والاسلامية, وجميع هذه الحالات لايمكن اعتبارها شذوذا جنسيا مطلقا بالمعنى الصحيح, وهي تنتهي عادة بأنتهاء الظروف التي أوجدتها.

 

ـ يمكن للفرد ان يتمتع بأتجاهين جنسيين في آن واحد فيكون طبيعيا في ميوله وممارساته الجنسية مع فرد من الجنس الاخر, كما أنه يميل الى او يمارس الجنسية المثلية مع فردمن جنسه. وقد يكون اتجاهه نحو ممارسة او اخرى متساويا, او أن تكون الغلبة لواحد او لأخر, ويصح اعتبار هذه المجالات بأنها انحرافا جنسيا اذا لم يتوفر ما يبرره ضرورة الجنسية المثلية بأسباب ظرفية وبتوفر الامكانيات للعلاقات الجنسية الطبيعية.

 

ـ يمكن للفرد في حالات مرضية معينة كمرض الفصام العقلي (الشيزوفرينيا), والخرف العقلي, وبعض امراض الشيخوخة أن يتراجع (ينكص) الى دور سابق من النمو الجنسي بما في ذلك الدور الجنسي المثلي.

 

ـ أما الحالات التي يتجه فيها الفرد اتجاها كليا وكاملا نحو الجنسية المثلية, ولاتتوفر لديه الرغبة والميل الى فرد من الجنس الاخر سواء قام بذلك أم لم يقم, فأن هناك العديد من النظريات التي تقدم تفسيرا لذلك, منها أن الفرد عانى منذ طفولته من عقدة الخصاء (الخوف من فقدان العضو التناسلي) وهذا مايدفعه الى تجنب العلاقة الجنسية مع المرأة لما توحي به هذه العلاقة في اللاوعي من أهلاك أو ضياع للعضو التناسلي. ونظرية أخرى تذهب الى ان الطفل كان يكره امه ولهذا يتجنب كل علاقة جنسية مع شاكلتها من نفس الجنس. ونظرية معاكسة ترى بأن السبب يعود الى أن الطفل في طفولته كان يكره والده, وهو بذلك يجد في العلاقة الجنسية مع فرد آخر وسيلة لتحقيق هذه الكراهية في النفس, وبهذا يكون العمل الجنسي المثلي تحقيقا لرغبة كامنة في النفس للتعدي على من هم من جنس ابيه والحاق الاذى بهم. ومن هذا القبيل نظرية ترد الجنسية المثلية الى أن الطفل قد تعلق بأمه في صغره والى حد التقمص لشخصيتها تلقائيا بما في ذلك خضوعها ومطاوعتها للعلاقة الجنسية, وكأن الطفل كان يكره اباه وما يمليه من رجولة وتسلط, وهو بذلك يختار اسلوب امه في الحياة بما فيه من خضوع وتقبل وسلبية. ومن النظريات التي تلاقي قبولا هي ان السلوك المتخنث في الطفولة يبدأ في بعض الاطفال كميل تلقائي نحو الاهتمامات والميول التي تمارسها الأم والابتعاد عن اهتمامات وميول الاب وغيره من ذكور العائلة.

 

والنظرية التي تلاقي قبولا اعظم في الاوساط العلمية هي ان الجنسية المثلية "الحقيقية والفعلية" تتقرر بفعل عوامل بايولوجية تنتقل بالوراثة او تحدث في فترة حاسمة من فترات النمو الجنيني ويستشهدون على ذلك بأن هنالك توافق أكبر في الجنسية المثلية بين التوائم المتشابهه اكثر مما هو موجود في غيرهم من التوائم والاخوة, كما يعزز هذه النظرية الفشل في علاج الجنسية المثلية الحقيقية في معظم الحالات, وهناك رأي أكثر تطرفا لأنصار النظرية البايولوجية, وهو أن الجنسية المثلية تمثل وجود "جنس ثالث" غير جنس الذكر والأنثى, وبأن ممارستها هو تعبير عن هذا الجنس. وهو رأي مبالغ فيه الان.

 

أن هذا التصور الواسع والمرن لظاهرة الجنسية المثلية, والذي يستند الى نتائج البحث العلمي والملاحظات الميدانية الدقيقة يدفع بأتجاه تبني برامج ملموسة تربوية ونفسية ذات طابع وقائي وعلاجي يحصر الظاهرة الى حدودها الدنيا. أما التصور الحدي لظاهرة الجنسية المثلية, والذي نراه من خلال دعاة العقوبة الصارمة والتي لاتخضع للأجتهاد من حيث قساوتها, فهي ممكن أن تستخدم سلاح يطال أناس كثيرون لأنزال التصفيات الجسدية والعقاب بهم في ظل غياب واضح للحدود بين الدين والسياسة وفوضى اختلاط السلطات. وأن القتل على المثلية الجنسية قد يتخذ منه غطاء جديدا في الصراعات السياسية الدائرة في العراق, وهو أدعاء ووسيلة للجم افواه المذاهب والطوائف الأخرى في المطالبة بدماء ضحاياها. وهو خلط غريب يثير الرعب والدموية, عدا كونه تهمة سهلة لألصاقها بالأخر المختلف , الى جانب عقوبتها القاتلة والتي لاتستند الى القانون.

 

 

وفي الوقت الذي تعكف فيه مراكز أسلامية عديده في العالم على دراسة التخفيف من عقوبة قتل المثلي فعلا الى عقوبات أخرى اخف من الاولى ,تجنبا للفتنة الأجتماعية في ظروفنا المعاصرة, وأنطلاقا من الفهم الدينى الذي مفاده: "أن الفتنة أشد من القتل وأن كل فتنة حرام", يتصدر العراق قائمة الدول التي تصدر الفتنة الأجتماعية. وفي ظل هذه الفوضى العارمة من يعلم منا, أن الكثيرون من يمارسو القتل على تهمة" المثلية" هم أنفسهم كانوا مثلين في فترة من فترات العمر, أو لايزالوا كذلك بل قد يكون ممارسة القتل هو آلية سايكوعقلية للأنتقام من الأخر والتكفير الذاتي ,عندما لاتتوفر الفرص للأنتقال الى حالة أفضل لدى  صاحبه.

 

وأذا كانت المثلية الجنسية أستثناء, والاتصال بالجنس الاخر هو القاعدة, فأن الاستثناء يتواجد جنبا الى جنب مع القاعدة ولايمكن أقصاءه بوسائل الابادة الجسدية أن وجد, بل أن الوسائل التربوية أنجع بكثير من الأولى, وتلك هي التجربة التأريخية. وعدا ذلك فأن هذا يشكل مظهرا من مظاهر تشوه القاعدة وتصدعها وعدم مقدرتها على أحتواء الأستثناء. ونحن نعلم أن الاستثناء لايتحول الى قاعدة الا في حالات محدودة جدا, كما هو الحال في السياسة, وكما هي الحالة في العراق. حيث من السهل في ظل "ديقراطيتنا العريقة" أن يتهم الجميع بالجنسية المثلية ,ويستحق القتل, ويخرج الجميع "لاشرف له", وتلك هي على ما يبدو" بدائلنا الناجعة" للكهرباء والماء ومحاربة الفساد وتحسين ظروف الحياة العامة وحقن الدماء. 

 

كان رفع علم المثلية الجنسية من قبل الاتحاد الاوربي في بغداد ليست اجراء خاص بالعراق بل في بلدان ومجتمعات عدة في العالم, وكان من الأفضل ان نفهم دوافع ذلك بعيدا عن حالات الاسقاط السيكولوجي والعداء المستفحل للغرب في ظروف خطرة يمر بها العراق يختلط فيها فهم اصدقائه من اعدائه ولازال شعبنا  يعاني من انعدام الأفق في ألتماس المستقبل والاستقرار الاجتماعي, وكان من الأفضل والأجدى ان نفهم ونساعد الناس على فهم ظاهرة المثلية الجنسية من منظور نفسي وتربوي وديني بدلا من استغلال الحدث في خلق اعداء للعراق وشعبه وهو بأمس الحاجة للدعم الدولي بعيدا عن مهاترات من لا يريد للعراق خيرا.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.