بماذا تفكر؟ ومن أين أنتِ؟// سميرة الوردي
- تم إنشاءه بتاريخ الأربعاء, 02 تشرين1/أكتوير 2024 21:07
- كتب بواسطة: سميرة الوردي
- الزيارات: 739
سميرة الوردي
بماذا تفكر؟ ومن أين أنتِ؟
سميرة الوردي
عندما تتكرر الأسئلة تُثير في النفس استغرابًا، وفي الفكر اضطرابًا ووعيًا.
ولأكن صريحة في إجابتي بم تفكر، فيه تجاوز على ما أفكر به، أمور أفصلها في عقلي وقد تكون مجرد أفكارٍ سائبة، لا استطيع التزام موقف بها أو معها، ولا أتمكن من ترك التفكير فيها، قُطبان يتجاذبان العقل والمنطق، ليدخل الضمير بينهما؛ قد يُحسِم الأمر فيها وقد يخفق، فيكون من الأسلم تركها تتصارع في الوجدان الإنساني.
وسؤال ثاني أصادفه كلما أُدخلت لعملية جراحية بسيطة أو خطيرة، وعبر العديد من السنوات.
من أين أنت؟!
سأجيب عليهم لأن جوابي كما أعتقد لا يُثير حفيظة أحد.
من أين انت؟
سأل دكتور التخدير زميله دكتور القلب الذي وقف بجانبه:
أجابه وهما يتبادلان نظرات التعجب، ودكتور القلب يضع المشرط حول مكان العملية الجراحية التي أجراها للقلب قبل اثنتي عشرة سنة.
ناجت نفسها:
أنا من بلادً حباها الله بأجمل موقع؛ من بلادٍ شع نورها الى كل بقاع الأرض شرقًا وغربًا، شمالا وجنوبا.
استغرب دكتور التخدير من عدم تحرك المريضة أو اصدار أي تأوه ينم عن الألم؛ مما اثار دهشتهما؛ أجابه دكتور القلب لا تقلق إنها صبورة فحسب، وهي ليست المرة الأولى التي أجري لها مثل تلك العملية.
عندما يتكرر ذلك السؤال في زمن يلتبس به الحق بالباطل، يُثير السؤال شيئًا في النفس:
من أين أنت؟
حقًا من أين انا!
تلألأت أضواء الصالة ساطعةً، زادها الطبيب سطوعًا بتقريبه مصباح ضوء أكثر سطوعًا الى موضع القلب... فتحول كل ما تحتويه القاعة الى خيالات باهتة حتى الطبيبين المعالجين، أغمضت عينيها ومسكت ملاءتها بقوة لتثبت عزيمتها وتمنع نفسها من إصدار أي انفعال منها يوحي بالضعف، ومازال جوابها يتلجلج في صدرها.
أنا من بلد تكالب عليه الطامعون؛ ضاع فيه الحق وتدحرج عليه الباطل.
انحنى عليها دكتور التخدير سائلًا بصوت هامس:
من أين أنت؟
ترقرقت عينها بالدموع وارتسمت ابتسامة باهتة ساخرة على شفتيها؛ رغم انتمائهم لبلدان مختلفة لكن الغربة جمعتهم تحت سقف غرف العمليات.
أمي انتهت العملية؛ الحمد لله على السلامة.
مشيرًا للممرضة أن تمسح دموعها وتنقلها الى غرفتها.
أرادت أن تجيبهم لكنها لم تستطع.
قالت في نفسها، وهي لا ترى سوى الأضواء المتلألئة في سقف ممر المستشفى ولا تسمع سوى دحرجة عجلات النقالة على الأرض:
أنا من بلادٍ حباها الله بكل خيرٍ... يجري فيها نهران خالدان منذ الازل ... ماؤهما أعذب ماء ... وأرضها أطيب أرض.
من بلادٍ شع نور عصورها على العالم... لم يستطع تاريخ الطغاة طمرها ولا الطامعون التخلص من سحرها.
أنا من مدينة تغنى بها الشعراء والأدباء عبر العصور إذ قال عنها (الصاحب بن عباد) عندما سأله (ابن العميد) عنها:
(بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد)
وأُطْلِقَ عليها تسميات عدة (المدينة المدورة، والزوراء، ودار السلام) ... واستمر اسم دار السلام عليها، وعاصمة الدنيا في زمانها؛ مدة طويلة تيمنًا بالفردوس).
وتغنى بها الكثير من الشعراء قديمًا وحديثًا كـ (علي بن الجهم، وأبي نواس، وأبي تمام، وابن الرومي، والشريف الرضي، وسعدي، والشيرازي، والأخطل الصغير، وأحمد شوقي، والجواهري، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، ونزار قباني، وعلي جليل الوردي، وسركون بولص... وعديدون)
وقد أُلف محمد مظلوم (ديوان بغداد) للشعراء:
(قصائد آتية من بعيد ونصوص من قريب تروي فصولا من سيرة استثنائية مسكونة منذ تأسيسها بالتاريخ والأساطير والانكسار)
ليختم كتابه بقصيدته الختامية:
«القتل موجز الحكاية، من الخلد إلى النهاية... قصر للخلد يتركه الملوك المخلوعون.. إلى مناف يموتون فيها.. قصر للزهر يشمها ليل العراقيين... وهي تسمع تدبيرات مشبوهة وراء السياج.. قصر للرحاب يستريب بقصة شعر الملك الصغير ليلة مقتله؛ وقصر للنهاية التي يغادرها سجناؤها إلى الذكريات!")
بغداد يا أُغنية الشفاه يا منار العِلم...يا نشيد الحب والموت؛ تغنت بك كوكب الشرق، وفيروز، وكاظم الساهر، وموفق بهجت، والهام المدفعي وآخرون كثر...
مدينة سكنها الطغاة وهفت اليها نفوس الشعراء والأُدباء والفنانون، ولم يجدوا أفضل منها معنى وأجمل منها لفظًا فبغداد في كل قواميس العرب:
فسر معناها العلامة (مصطفى جواد) في كتابه دليل بغداد؛ فهو يرى أن أصل التسمية ربما يعود للبابلية وهي بمعنى (معسكر الآلهة) ويرجعها آخرون للكلدانية وهي بمعنى (البستان العطية) أو (منحة الله) وأجمل المعاني (بستان الحبيب).
وقد (أجمع المؤرخون والرحالة والبلدانيون على وصفها بأنها: "أم الدنيا، وسيدة البلاد، وجنة الأرض ومجمع المحاسن والطيبات، ومعدن الظرائف واللطائف")
من مدينة تألق نورها ليعم العالم.
إنها مرة أخرى يفاجئها هذا السؤال:
في مستشفى آخر جلست في صالة المستشفى، تنتظر خلو غرفة التطبيب كي تُزرق إبرة الهشاشة، وإذا بصراخ مجنون يشق المكان عابرًا للردهات الأخر، بعد عشر دقائق خرجت اثنتين من النسوة تجاوزن الأربعين من العمر...نودي عليها؛ ما أن دخلت حتى فاجأها الطبيب:
هل سمعتِ صراخها؟!
نعم سمعته، وقد تفاجأت عندما رأيتها .... ظننتها طفلة مرعوبة واذا بها..
لم يدعها الطبيب تُكمل جملتها قائلًا:
لم أفعل شيئًا، سوى رفع الضماد عن كسر قديم في ساقها، كي أتأكد من سلامته.
ثم نظر اليها نظرة متوعدة متسائلًا بسخرية:
هل ستفعلين مثلها كي أهرب:
أجابته مبتسمة:
قم بواجبك وسأتحمل تبعاته... متذكرة عندما كُسر ساعدها قريبًا من الكف وأدخلت لغرفة العمليات ووُضِعَ ماءٌ ساخنٌ على يدها وتقابل الدكتور والممرض بسحب اليد وتعديلها ولم تصدر منها أي رد فعل؛ سألها الطبيب:
من أي بلد أنت؟!
لم تجب عليه لشدة الالم.
وبعد أشهر وهي على سرير المرض لتزرق أبرتين لعلاج التهاب مفصل الركبتين للمرة العاشرة؛ سألها الطبيب عن البلاد الذي جاءت منه، وحين لم تجبه سألها:
ألم تشعري بالألم؟!
أجابته وهي تَصُرُّ بأسنانها ألمًا:
(ألم يُبدده ألم) ... ردد قولها متعجبًا:
(ألم يبدده ألم) أي يكسره ألم أو يخففه ألم.
لأنه مهاجرٌ كحالها...قالت له:
أنا من بلاد النارنج والرمان، من بلاد النخيل وورد القشقوان.... من بلدٍ...تُستخرج منه الكنوز وينهبها اللصوص، ولتبق مدارسنا من الطين وأطفالنا عراة يجلسون في قر الشتاء على الأرض ليتعلموا الأبجدية... رغم ذلك يتخرج منها علماء وأدباء، إن أرضوا الحكام وخضعوا لهم يعيشون اذلاء؛ وإن اختلفوا معهم فالسجون والقبور مأواهم.
كل من عالجوها ابتداء من أول شهرٍ وطأت قدمها أرض الغربة هذه، وعلى مدا سنوات كلهم غرباء هاربون من جحيم بلدانهم، من أجل الأمان ولقمة العيش...بلدانهم التي دمرها الربيع العربي الفاقع السواد؛ منتظرين عودتهم الى بلدانهم، والتي قد لا تتحقق.
سألها بعد أن انتهى من تضميد مكان إبر الدواء؛ إن كانت تشعر بألم أو بحاجة لشيء... قالت:
أنا من (مدينة السلام) ... يمر عليها السلام مرور الكرام مذعورًا مجيئًا ورواحًا دون بقاء.
المتواجون الان
520 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع