اخر الاخبار:
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

يوم عراقي// كريم عبدالله

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

يوم عراقي

كريم عبدالله

 

شعر أبو سعيد بالخوف والأرتياب حين رأى الدبابة الأمريكية تقطع الشارع بالعرض، وقد جثت ممتدة كالغول بهيكلها الصلد الكبير المسور بالحديد والشباك والقضبان. . .

وقد كانت متمددة كسلحفاة جبارة،

مؤخرتها عند هذا الرصيف من الشارع وعنقها على الرصيف الآخر.

وكان الجنود يملأون المكان المحيط بها،

وثمة آليات أخرى ، وجنود اخرين في أماكن متفرقة على امتداد الشارع . .

وقف أبو سعيد متحيراً ،

في ذات المكان الذي يقف فيه كعادته منذ سنوات طويلة حين يخرج كل يوم من بيته عند الخامسة والنصف صباحاً، وينساب كغيره من جوف المدينة عبر الشارع الفرعي ليصل الى هذا المكان عند السادسة الا ربع ويتسلق الباص الى الدائرة التي يعمل فيها كرئيس ملاحظين في قسم التخطيط التابع للشركة العامة للصناعات الانشائية .

لقد كان الشارع خالياً الا من بعض المارة الذاهبون الى اعمالهم مشياً على الاقدام،

أذ يتسللون من خلف تلك الدبابة ، ثم يضيعون عبر الفروع الضيقة المتصلة ببعضها والتي تؤدي في نهايتها الى الشارع الرئيسي لهذه الأحياء والذي يبعد عن مكان ابو سعيد الذي يقف فيه حالياً مسافة كيلومترين او اكثر بقليل.

استولى عليه القلق ،

واستبدت به حيرة ، كيف سيتصرف بأموره . .

فهو يستطيع الآن أن يمضي مع هذه الجموع التي تشحط باقدامها على الرصيف من خلف الدبابة ، وعبر الفروع وألأزقة ، حيث يصل الى الشارع الرئيسي ، ومن هناكيتدبر أي ركوبة للوصول الى الدائرة ويمضي يوم كغيره ، لكن ماذا بشأن ولده سعيد، وابن اخته عامر، فاليوم هو اليوم ألاول في سلسلة الامتحانات الوزارية للصفوف المنتهية . .

كيف سيتدبر هؤلاء الاولاد امورهم ؟ ،

وربما بعد قليل ستغلق الطرق بالكامل كما جرى سابقا، ولمرات عديدة؟ . .

حيث تغلق الشوارع وتحاصر المدينة لعدة ساعات بالأمريكان ولا أحد يدري لم جاءوا ، ولماذا حاصروا المدينة ، ثم ذهبوا ؟ ..

ربما ستغلق الطرق عما قليل ، فيضيع على الاولاد جهد سنة دراسية كاملة ،

وتعود مرة اخرى معاناة الصف السادس الثانوي التي ينتظر الخلاص من كابوسها وثقلها الذي وضعته على كتفه طول هذا العام . .

ماذا يفعل..؟.

قلب ابو سعيد الافكار وهو واقف في ذات المكان فوجد ان افضل مخرج هو ان يتصل بهم الأن:

- اخرجوا الى مراكز امتحاناتكم الأن، قبل ان تغلق الطرق ، الامريكان في الشوارع، الان..

وجد ان هذا هو أفضل حل متاح ، فالانتظار قد يتسبب بضياع الامتحان عليهم اذا ماقام هذا الجيش الجرار بفرض حصاره المعهود على المدينة مرة أخرى،

فليخرج الاولاد الآن مبكراً بحفظ الله ورعايته، قال في نفسه وهو يجر نفسه للأنضمام الى عدد من المارين من خلف الدبابة للأنفلات من هناك وعبر السلسلة الطويلة للطريق الى اعمالهم. .

خرج الاولاد استجابة لنداء ابو سعيد في السادسة والنصف صباحاً،

وهو وقت مبكر جداً للحضور الى قاعات الامتحانات ،

ولكن للضرورة احكام كما يقولون ، ثم ان عليهم  قطع مسافات من المشي ، ولكي يكونوا خارج الطوق في وقت مبكر لضمان اداء الامتحان . .

قريباً ستفرض الجيوش طوقها ساعة ما:

فقد خرج سعيد راكضاً وهو يشد حزام بنطلونه ويتفقد الكراس والاقلام بيده، وقد رمت امه بنفسها لمرافقته مدعية انها تريد التسوق من المحلات القريبة من المركز الامتحاني ، ولم تجد غير هذه الذريعة لتقنع ولدها بمرافقته. .

وكذلك خرج عامر مع أمه التي رافقته الى الشارع الرئيسي وافترقت عنه هناك متوجهة الى عملها في صندوق دائرة الضريبة العامة ، بعد ان اثقلته وصايا الحيطة والحذر والابتعاد عن التجمعات ، والعودة سريعاً الى البيت وعدم مرافقته أحد أو الذهاب الى اي مكان بعد اجراء الامتحان . .

وقد مرقوا جميعاً من خلف مؤخرة الدبابة ، كما مرق قبلهم أبو سعيد ، وكما مرق اصحاب الوظائف والعمال الذين يضطرون بين الوقت والآخر لمثل هذه الطرق المتداخلة الملتوية للذهاب لأجل قضاء امورهم واعمالهم . .

وربما بعد الظهر،

او العصر،

ينفض هذا الطوق ،

فيعودون بطريقة أسهل ، او يسلكون نفس السبيل عند العودة . .

انتشر الجيش في الحي والأحياء المجاورة ،

وقد مسكت الدبابات والمجنزرات طرقات ومداخل المدينة ،

وراح الجنود يتوزعون في أماكن متفرقة من الحي . .

فهمدت المدينة،

وخلت ،

والتزم الأهالي بيوتهم،

ومنعت النسوة اطفالهن من الخروج للعب والتراكض والانفلات في دروب الحي كالمعتاد..

دخل سعيد الى قاعة الامتحان،

وقد ملأته امه بالرعب والاعياء ، قبل ان تفلته ليدخل الى قاعة الامتحان . .

وافترشت هي ظل الشجرة المقابلة لمركز الامتحان، وتخلت عن دعواها بأنها ستتسوق من السوق القريب ، وانها ستجلس هنا، وتنتظره لحين خروجه بالسلامة من قاعة الامتحان، فتقتاده الى البيت..

كانت الشمس تستعد للانتصاب عمودياً على المكان، فتجعل من اسطح البنايات وجدرانها ، ومن الأرصفة والطرقات كالأعمدة والصفائح الملتهبة التي تكوي ماتحتها وماحولها

إذ تعلو رائحة التعرق في كل مكان،

ويجف ريق الطلبة عطشاً،

حتى يأتي أحدهم يحمل دلواً من الماء الذي جاء به من الحنفية القريبة، إذ يخبرهم ان سعر قالب الثلج ارتفع كثيراً. .

أما عامر،

فحين وصل الى مركز الامتحان ، وجد كل ابواب القاعات مغلقة وعلى الجدران ثقوب الرصاص واثار الرشقات النارية ، وكان مدير المركز قد جمع الطلبة في احدى القاعات الداخلية لغرض نقلهم الى مكان آخر ، لأن هذا المركز ألامتحاني ليس آمناً حالياً ، ومن غير الممكن اجراء الامتحان فيه ، فقد كانت اصوات الرصاص تتعالى من هنا وهناك من وقت لآخر . . فقام بشحذ الهمم ونقلهم بواسطة بعض العربات التي تعاون الجميع بتوفيرها ومعظم اهالي الحي المجاور للمركز الأمتحاني ، فتمت عملية نقل الطلبة الى مركز آخر في المنطقة المجاورة والتي تبعد عدة كيلومترات . .

وحين وصل هذا الخبر بطريقة مشوشة الى ام عامر ، جنت ، واصطفقت جنباتها، واستولى عليها الرعب والفزع:

- ولدي ، راح ، ولدي ، سيقتلونه. .

كان العسكر قد انتشروا في المدينة،

ولا احد يعرف ماهي وجهتهم ،

وماذا وراء تراكمهم في ازقة المدينة..

وقد انتقلت الفوضى الى المدن والأحياء المجاورة ، فكانت أصوات اطلاق نار وقذائف ، ودوي انفجارات تسمع من وقت لآخر..

وحين وصل أبو سعيد الى دائرته ، كان جسمه المترهل من كل جوانبه كالأسفنجة ينز عرقاً ، وكان يتابعهم جميعاً باجراء اتصالاته مع ام سعيد وام عامر، وبالعائلة الموجودة في البيت والذين غادرهم منذ فجر هذا اليوم ، وقد انتقلت اليه عدوى ام عامر المرعبة، واستبدبه قلق كبير ،

مالعمل ،

اين ذهب عامر؟ ..

مالعمل . .

اذا فكر ابو سعيد الان بالعودة ادراجه لمتابعتهم فلن يصل اليهم في ذروه ازدحام السير هذه قبل ساعات، ويكون كل شيء قد انقضى بشأنه، انتظر ،

لابد من الانتظار ،

الصبر ، حتى تنجلي الأمور وتتوضح..

تبعثر الجميع . . تقاطعت خلجاتهم واحاسيسهم ، وتصرفاتهم . .

فسعيد ، كان يجهد نفسه ليمسك بالهدوء للتمكن من اداء امتحانه ، وامه تلك التي يراها تحت الشجرة ككومة سوداء سببت له الحرج أكثر مما ينبغي ، اذ تفترش ارض الرصيف الذي يعج عليها بالغبار ، والتراب واكياس النايلون المتطايرة . .

وعامر ، الذي باشر بمكان امتحانه الجديد وهو يظهر دور المتماسك الهادئ غير المرعوب الذي يستولي الخوف عليهوالقلق ، خاصة بعد ان ضاعت سلسة اخباره عن امه وعن خاله ابو سعيد ، كان يتصور الهلع الذي يستحوذ الان على ام عامر..

اما ام عامر ، فقد كانت في دائرتها تصطفق رعباً ، فقد اعتقدت ان ولدها الذي انقطع اتصالها عنه، ربما نقلوه الى مكان ما، اكثر قتلاً ورعباً..

وكل هذ التفاصيل كانت معبأة بثقلها ، وتواترها على صدر ابو سعيد..

كان الجميع ينتظر انقضاء هذه الساعات بسلام . .

قرؤوا ألادعية . .

وسورة ياسين . .

وآية الكرسي . .

كلهم في السر والعلن،

اللهم اجعلها برداً وسلاماً على ابراهيم وآل ابراهيم . .

تعالت الشمس ، وهي تزهق كل نسمة باردة ، حتى تحول الهواء المحيط بالناس كالزفير الذي يلسع الوجه حين يقترب من التنور . .

فاستولى عليهم الذبول والخواء جميعاً . .

وكان كل يريد ان ينهي مهمته باي وجه..

خرج سعيد الى امه . . وقد ادى امتحانه ، فنفض يده ، وزعق متبرماً من الأحراج الذي سببته له، ولكنها لم ترد عليه ، بالعكس ، غزتها الراحة وهي تراه يؤدي واجبه ويعود ، بعد ان كانت تتمزق من الانتظار تحت الشجرة وهي تقلب التهيؤات في ان أحد ما ، أو ، جهة ما ، ستهجم على المركز لامتحاني وتسلخ الطلبة . .  اوربما وضع الامريكان طناً من المتفجرات تحتهم وعما قليل ، الان ، ها ، بعد قليل، سيتطايرون..

اما عامر. . فقد تمكن من الاتصال بأمه التي راودتها تفاصيل وشائعات أشنع من هذه بمجرد ان خرج من المركز الامتحاني وتمكن من تناول تلفون احد الاصدقاء ، وابلغها انه سيكون في طريق العودة الى البيت بعد قليل..

صَبوا أخبار تطوراتهم الى ابو سعيد . . الذي شعر ببعض الراحة ، ومسح العرق الذي كان ينز من صدره ، وارخى رأسه الى الطاولة التي امامه ، وهو ينفخ بارتياح ، لكن سرعان ماتراكم عنده الأحساس بمعاناة طريق العودة الى البيت. .

بانتهاء الدوام، وانتهاء اليوم الامتحاني ، كان العشرات من الناس يتقاطرون من الشارع الرئيسي الذي يربط هذه المدن الصغيرة والأحياء المتجاورة بالعاصمة ، فرادا أو على شكل مجموعات صغيرة..

ترجلت ام سعيد من حافلة كبيرة للركاب ،وهي تجر ذيل عباءتها الذي تخلف وراءها في الحافلة ، وترجل بعدها سعيد، تأملت بعض الوجوه من هذه الجموع ، فلم تجد ام عامر وولدها ، ربما ذهبوا قبلهم ، أوربما سيأتون بعدهم. .

وبعد قليل ، ترجلت ام عامر وهي تحمل كيساً من البطاطا يجره معها ولدها عامر. .

ثم ترجل ابو سعيد من سيارة حمل صغيرة تعود لاحد اصدقائه ، شعر ابو سعيد بالغبطة وهو يراهم متجمعين على الشارع بعد ان ودع صديقه وشكره . .

تغلغلوا مع باقي الناس العائدين الى داخل هذ المدينة ، وفي نفس الطريق الفرعي الذي جاء بهم صباحاً ، حيث الأحياء المتجاورة ومعها الحي الذي يسكنون به لازالت مطوقة، ولازالت الدبابات الامريكية تقطع الشوارع بالعرض ، فتوغلوا بالشوارع الفرعية للوصول الى محلتهم ، ومن ثم بيوتهم كالآخرين. .

دُهش ابو سعيد ، ومن معه من الجموع حي وصلوا الى الزقاق الثاني بعد الشارع الرئيسي، فقد كان هذا الزقاق أشبه بمهرجان ، أو ، أحتفال بمناسبة دينية..

فقد خرج الصبية من كل البيوت الواقعة عل جانبي الزقاق يحملون أواني الماء البارد والعصير. .

وخرج الشباب يحفون بالعجائز والنساء المسنات ويحملون عنهم الأكياس والاشياء الثقيلة. .

وخرج الرجال الكبار والمسنون، يدعون الناس للتفضل والجلوس في مقدمة بيوتهم ، أو تحت ظلال الأشجار ، او ظلال البيوت ، وقد أعدوا لهم الأفرشة واماكن الجلوس لأخذ قسط من الراحة ، واعدوا لهم الماء البارد ، والشاي ، والعصير:

- استريحوا ، ارتاحوا ، أمامكم طريق طويل..

وينادي اخر:

-ارتاحوا من الحر، هذا ماء بارد... جروا نفس شوية

وآخر:

- هذا عصير ، رحم الله من شرب بثواب الموتى..

وآخر ،

وآخر.. .

كانت أفرشة الحصير النايلون تحت ظل كل شجرة وامام كل بيت . .

وكل أهل الزقاق يهرجون بالترحيب والمناداة لهؤلاء المتعبين من مشقة هذا اليوم ، وللتخفيف عن طلبة الامتحانات الذين كان يستولي عليهم القلق والخوف من كل طارئ ، والاستراحة من مشقة المشي تحت هذه الشمس ولهذه المسافة الطويلة..

تفتحت أسارير ابو سعيد حين توسط هذا المهرجان ، عادت الدماء الى عروقه التي كانت تنهت من الأعياء ، فافترش مع ام سعيد وام عامر وولديهما أحد الحصران أمام أحد البيوتات . . جاؤوهم بالماء ، والعصير. .

فأبتلت الأوردة المتيبسة رعباً وهزيمة..

ورغم ان أصوات رصاص ودوي في بعض الأرجاء ، لكنه في تلك اللحظة رأى حيطان ذلك الزقاق تبعث تهليلة مودة،

والرمل ،

والغبار،

يورق ياسميناً..

دبت الراحة والأرتياح بهم جميعاً ، وكان قسطاً من الراحة لن ينساه أبو سعيد ابداً. . .

فواصل أبو سعيد السير الى بيته من حيث جاء فجر هذا اليوم . .

وتطلع من بعيد الى النقطة التي ينطلق منها كل يوم الى دائرته ، كان المكان خالياً . .

وكانت الدبابة الأمريكية لاتزال كالسلحفاة الجبارة، تجثو بالعرض ، وتقطع الشارع.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.