اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

عشوائيات في الحب– العشوائية40: عَنْهُنَّ أكتب– الجزء2// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب 

عشوائيات في الحب– العشوائية40: عَنْهُنَّ أكتب– الجزء الثاني

د. سمير محمد ايوب

 

قبل أن نبدأ بإعداد إفطار الرعيان، إنتبّهتُ على بُحَّةِ صوتِها وهي تسأل بجيرةٍ: ما بِكَ يا شيخي، إلى أينَ سافَرَتْ روحُك؟!

 

رفَعتُ رأسِيَ المُستَرخي بين كفَيَّ، بِصمتٍ عانقت راحتايَ وجهي. وأصابعي نَكوشْتُ شعريَ. فَرْفَكْتُ عَيْنَيَّ وهي تحدِّقُ بقلقٍ فيهما مُكملةً: أراكَ تفيضُ بِحَزَنٍ صامتٍ. عيناك حمراوان. ألْمَحُ غَيْماً مُعْتَقلا في مآقيهِما.

 

قلتُ بعد تنهيدة عميقة: ما أصعب العيش في واقعين ضاغِطَين. واقعٌ هنا، مُدجّجٌ بمختلفِ الأجِنْدَه. وثانٍ هناك، ينحو خارج السيطرة نحو الأسوأ.

 

يجتاحني حنينٌ سرطانيٌّ بِلا قائد. لم تحجب جماليّاتُ المكان هنا، رُزَمَ هواجسي السّوداويّة. إنّها تُمعنُ في قضمِ فرَحي، وتعملُ حثيثاً للإطاحة بِمُمانعةِ وقاري المُتَهيّبِ مِنْ دمعِه، والمُلتَزِم بالتخفيف مِنْ تَوجُّعِه.

 

قالت بِخجلٍ: ليَخفّ احمرارُ عينيك، لا تُحاول ضبطَ دمْعَك. ألستَ مَنْ علَّمَني ذاتَ حَزَنٍ، أنَّ بعضَ الدّمعِ حاجةٌ وبعضُه ضرورة؟! صَمَتَتْ لِثوانٍ خِلْتُها دهرا، قبل أنْ تُتابِع قائلة بتهذيبٍ بالغٍ: هل أبْتَعِدْ يا سيدي، لتطلق سراح دمعك على سجيّتِه؟!

 

أشَحتُ وجهيَ عنها خجَلاً وأنا أقول: منذُ الّلحظةِ التي استقرّ بي المقامُ هُنا معكِ، تمدّد بصريَ وتَجوّلَ في الاتجاهات الخمس. في قرى وادي الموجب وجبل شيحان وسهول قرى العمر والحمايدة والمجالي والقطرانه والاغوار والبحر الميت، ولكنّي حينَ أمعنتُ النّظرَ في جبال الخليل أمامنا، مَدّتْ فلسطينُ أصابعَ عبَقِها، ومزّقتِ القشرةَ الخارجيةَ لِسجنِ روحي. فسافَرَت غربا إلى التَّوْأمِ المُعتَقلِ في أرضِه المُحتلّة. ولم يتبقّ داخل أسمالِ الشّرنقةِ إلا جسدٌ متعبٌ بالحنين. يُعاني منْ فوضى مشاعر. لَمْ يَعُد فَرَحي في هذه الجغرافيا المُتَماسِكةِ حاكِماً بأمْرِه لوحده. ذكّرَني السياقُ هُنا، بِسياقِ الصّبا هناك.

 

قالت مُتعجّبةً: ورأسُك بينَ راحتَيك، أحسَستُ أنّك تُنْصِتٌ لشيء. بلْ ظنَنْتُك تُحاورُه. سمِعتُك تُتَمْتِمُ بأشياءَ لمْ أتَبيّنَها.

 

قلتُ مُستَسلما: نعم كنتُ مُمتلِئاً بِصوتِ مُنادٍ، يُهاتِفُني من بعيدِ السّنينِ في أقصى فلسطين.

 

قالت مُتلهّفَةً : وما كان يقولُ لَك؟

 

قلتُ بمزيجٍ من الأسى والفرح: بوميضِ عينيه وشعره الأبيض، بلسانه وشفتيه وأصابعه العشر، كان يُكرّرُ: سمير، لو قلتُ لكَ تعالَ...  قاطعتني بلهفة، نبرتُها أعلى من سابِقَتِها: وبماذا أجَبتَه؟

 

- لم أدَعْ مُحي الدين يُكملُ سؤالَه، بل قاطعتُه قائلا: أطلقُ العنانَ لساقيَّ بلا تردّدٍ. وبِكلّ خيلاءِ العمرِ أركضُ إليك. ومن كلِّ منافي الأرض باشتهاءٍ آجيؤكَ. فكلُّ الذي أنتظرُهُ ، علامةً منكَ يا شقيقَ الروح.

 

سالَتْ بقلقٍ وهي تقف قُبالَتي : ولِمَ كلُّ هذه العَجَلة؟

 

قلت مُبرّرا: لا لشي، بلْ لِكلِّ شيء. صحيحٌ أنّ جُلّ أهلِ الدّمِ لمْ يَعودوا هناك، وكثيرُ الصِّبْيةِ قد رحلوا بعد أن شابَتِ الذوائِبُ منهم, ولكنْ، لي فيها ذكرياتٌ تملؤني ، وهي الآن كثيفةً الحضور . تتجلى هنا ، في تماثل الصور والتداعيات.

 

سمعتُ يا سيدتي صوتا أعرفه منذُ بواكيرِ الصّبا، فاتِحاً ذراعيه على اتساعهما، يحاول من البعيد إغوائي، إن زرتني في شويكه يا سمير، ستجدني أيّها الشقيّ، حيث تركتَني قبل سبعين عاما. في حاكورة آل الشيخ غانم، على الراس غربيّ البلد ، بين أشجار التين والزيتون واللوز والصبر، الذي يفتَقِدُك ويسائلُني عنك.

 

يا رفيقَ الشّقاء والتّحدي، ما زالتِ المسافةُ بين سقوط المطر ليلا، وانبعاث أجمل ما في أرحام الأرض، قصيرة كتلك التي بين حيفا، وما يقابلها من شويكه، دار نايف البَرهم، وقاع وادي الشام، وجميزة سعيد العبد الله، وبيت سيدي أبو صلاح وأم الشرايط، وخلة المهادْوِه، وبير المسناوي ، وبيوت آل نايفه وآل أبو صالح.

 

وإن سألتَني عن قوسِ قُزح، أطمئنُك على أنّه ما زال لا يُخلِفُ الميعاد. قبلَ أنْ يُطلّ كلَّ صبحٍ عَلينا، يَغتَسل بلا ضجرٍ بماء الليل، وبقطرِ النّدى يتوضّأ، لِيَؤمَّ الطازجين من تابعيه وتابعيهم، من الزّهر والحنّون والنّوار والرّنجس، ويتعطر بالزعتر والشجّيرة والخبّيزة والعِلِتّْ والطّيّون، ويتزيّن بالخُرفيشِ والسّنّارية والقرّيص. وتحفُّ به أسراب الحساسين واللامي والرّكش، وعصافير اللوز والتين، والحجل والشنار والسمان، والهداهد وعروس التركمان والسنونو.

 

تهدّجَ صوتيَ واختنقتُ وأنا أقول: آهٍ يا ابنة كرَك مؤتة وميشع المُؤابي، فأنتِ مِمَّن يُتْقِنونَ فهمَ معانيَ السُّكنى في قارورَتيّ عِطرٍ في آن! وكلٌّ منهما تُصغي لوجود الآخر وإن صَمَتْ.

 

قالت وهي تقدم لي كوبا من الشاي الطازج: لا أنسى لك قولا يفيد، بأنّ الأوطان كالحب، صفحاتٌ لا تُفهَمُ بالقدرة المادية للعقل وفذلكاته وحدها، بل بالقلب المُحلّق تُعرَف. وبالفؤاد المُرَفْرِفِ في أجوائها، يُتَلقّفُ كُنهَها. العقول الخائفة من الوحدة، تشتري الوقت وتحترف التضليل وتعويم الأزمات. تبريرا لقبولها مُساكَنةَ القلق، وأبعاضَ حقوقٍ غامضةٍ، وأشباهَ حبٍّ مشبوه.

 

يا شيخي، وقد  تعلّمتُم  بناء دُروبكم، لا تؤجّلوا الاقتراب من طفولتِكم، ومن صباكم وبواكير شبابكم، ولا تُقايِضوا الدّم بالوهم، وكي لا تعيشوا زيف قلوبٍ مُختَنقةٍ، أعيدوا ترميم ما احتجب من مشاهد الذاكرة، وترتيبَ أولويّاتِها. وبالِغوا في السّيرِ على طريق الوصول، فحتى أشعة الشمس في شويكة وكل فلسطين، تعرف أنّ أرضَ الغدِ لكم، ولن تليقَ إلاّ بأمثالِكُم.

 

الأردن – 15/6/2020

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.