اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

كمال يلدو: لن نرثيكَ بدمعة حتى بعد سنين أخي رياض العوصجي

 

الموقع الفرعي للكاتب

كمال يلدو: لن نرثيكَ بدمعة حتى بعد سنين أخي رياض العوصجي

 

"هنا يرقد المأسوف على شبابه الشهيد رياض يعقوب يوسف العوصجي. استشهد بتأريخ ١١/ كانون الأول /١٩٨٠ في قاطع عبادان إثر نشوب الحرب العراقية الايرانية بتأريخ ٢٢/ أيلول/ ١٩٨٠.إبتعدتَ يا عزيزنا عن عيوننا الدامعة. قلوبنا الدامية لن تنساك الى الابد. إرحمه يا رب واعطه الراحة الأبدية".

هذا كل ما تركته لنا الأنظمة الدكتاتورية وحروبها العبثية. ففي حين استقبلت القوش ابنها البار في ذلك اليوم، لم تعلم بأنه سيكون الأول في مسلسل  سيأتي على خيرة ابنائها وبناتها النجباء، مابين شهيد في الحرب او شهيداً للأفكار السامية التي حملها.

 

ولمن عرف (رياض) عن قرب، فإنه كان شخصية طيبة ومرحة ومحب للثقافة والتفكير الحر، ولهذا إنغمر في العمل الوطني مبكراً في حياته، ولعل للاجواء اليسارية بمدينته (القوش) والقصص البطولية لقادتها الميامين، والتأريخ النضالي لعمّه (عادل عوصجي) أثرا فيما طبع حياته اللاحقة. شخصيته تلك، منحته فرصة التأثير على الكثير من أقرانه الشباب في مدينته (الحبيبية) ، والتي كانت مجاورة لمدينة الثورة ودور العمال والبلديات، حيث كانت تعج بالكادحين المتطلعين لغد افضل .

لكن في مكان ما من (الحبيبية) كانت الذئاب تخطط لشئ آخر، شئ ليس له اية علاقة بتطوير حياة الناس، او توفير افضل المدارس والخدمات لابنائهم، لابل حتى في نقل (مزبلة الحبيبية) ودخانها القاتل بعيداً خارج المدينة، لقد كانوا يخططون للكيفية التي يوقعون بها (رياض) في فخهم، بغية الاقتصاص منه ومن افكاره. انتبهَ لتلك اللعبة وحاول جاهداً الافلات منهم، تارة بالمبيت عند بيت جده

(يونس العوصجي) في الكرادة، أو بالمجئ للبيت في ساعة متأخرة من الليل وثم الخروج في اولى ساعات الصباح الباكرة. لكن حينما سيق للعسكرية فقد اصبح الصيد بين يدهم هذه المرة، إذ لم ينجُ من كثرة الاستدعاء والاستجواب والمضايقة وممارسة شتى انواع الارهاب النفسي عليه.

كان حسّه مرهفاً وبحنين متدفق لاخوته وأخواته، وتعلق كبير جداً بوالدته الراحلة (فكتوريا يونس العوصجي)، هذه المشاعر الانسانية كانت تدفعه في كثير من المرات للمخاطرة في زيارة العائلة رغم علمه بأن عيون المنظمة الحزبية كانت تحوم حول دارهم. اما والدته الغالية والتي رحلت قبل سنين قلائل، فإنها ارتدت اللون الاسود طويلاً، وغادرت الضحكة والفرح حياتها، والتف حول عيونها غضباً عارماً على المرتزقة البعثيين وكلابهم السائبة في الحبيبية، اولئك الذين سرقوا منها (مثلها مثل آلاف الامهات) عناوين الفرح والسعادة، وأذاقوهم مرّ الحياة تارة بالملاحقة والاستجواب او بالاعتقال الكيفي أو بتفتيش المنزل وارهاب افراد العائلة، بعد أن يكونوا قد استعملوا معهم اقذع الالفاظ والكلماتوالتي كانت تعبر بحق عن ثقافتهم ومبادئهم الساقطة. ولعل الموت الذي اتاها، رغم كل قساوته، قد يكون الحل النهائي في راحتها من آلام الفاجعة وذكريات العراق السيئة.

 

كان العام ١٩٧٢ وثانوية (عقبة بن نافع) في شارع فلسطين مسرح صداقتنا الأول، ثم اصبحنا زملاء في (اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي)، وكبرت احلامنا واهتماماتنا، وصرنا نفكر مثل الكبار، ونأمل بأن يحل السلم والعدالة في كل العالم، ولأننا كنا  نمتلك قلوباً صافية، فقد كنّا نحلم ايضا بالعائلة والابناء، وكان (رياض) يكن حباً جماً  للأنسانة التي أسرت قلبه، ولم يكن قد صارحها به، لكنه كان يقول: انها هي التي ستكون اماً لأولادي!

كان قد اوعدني بأن يأخذني الى مدينة اجدادي (تلكيف) حتى اراها، ومن ثم نعرّج على (القوش) ونقيم فيها لأيام، ونحضر افراح (الشيرا) ونذهب الى (بيندوايا) و (مار قرداغ)، ونشترك في احد الاعراس، وسنرقص الدبكة ونستمتع بالأغاني، وسنشاهد اشهر عازف زرنا في العالم (عليكو)، وسأسقيك اطيب عرق صنع في القوش، ونمرح ونسرح في المراعي الخضراء الجميلة. هذه كانت باختصار احلامنا الجميلة قبل ان تستفرد الوحوش البعثية بالوطن وناسه، فتحطم الاحلام وتمزق العوائل وتترك ابناء العراق لمستقبل غامض ومجهول داخل البلاد وخارجه!

ولعل فضلاً كبيراً مازلتُ مديناً به ل (رياض العوصجي) وهو تقديمي كصديق للكثير من الاحبة القادمين من مدينة القوش، هذا العهد الذي تشرفت به ولليوم. ومن الطرائف أن بعض الاخوة وفي اولى ساعات تعارفي بهم يسألون:

ـ ميكوت آيت ؟ (من اين انت؟)

ـ م ألقوش (من القوش)

ـ م بي مني كبيشت؟ (من اي عائلة ؟)

ـ م بي عوصجي، برد امعلم ياقو د بي عوصجي (ابن المعلم يعقوب العوصجي)

ـ با، محكيثوخ ليله د ألقوشنايه، ومعلم ياقو لثواله برونه شميح كمال (لهجتك ليست مثل ابناء القوش ولم نسمع بأن المعلم يعقوب عنده ابن اسمه كمال)

ـ اي لا، آنه ون برونيح، وون قيمه ب بغدد (انا ابنه ومقيم في بغداد لهذا لا تعرفوني) ، وبعدها نضحك سوية لهذه الطرفة.

 

كان صباحاً بارداً من صباحات كانون اول ١٩٨٠ حينما التقيت زميلي وصديقي (عامل اسمرو) في حارتنا بمدينة ديترويت وأخبرني بأن صديقي (رياض العوصجي) قد أُوتي به مقتولاً من جبهات الحرب، وإن  امه وخاله (حازم) لم يصدقا الأمر حتى فتحا صندوق الكفن ليتأكدا من أن الموجود به ربما يكون شخصا آخراً غير رياض!

مع كل ما يحمله هذا الخبر من حزن وألم على فقدان محب، لكني بقيتُ على قناعة بأن هذا الذي كان في الكفن (ربما) ليس رياضاً! ولعل ما يحدث لي في عشرات المرات التي زارني بها (رياض) في المنام يفسّر سر هذا التصور. فدائما كان يبدو أنيقا، وسيماً، ضاحكا ومتألقاً وكل مرة أفضل من سابقتها، فابادر الى سؤاله: يقولون عنك انك مت في الحرب، وإن خالك حازم لم يصدق الخبر حتى فتح صندوق الكفن؟  ثم يجيبني: ها إني اقف امامك، فلا تصدقهم ها ها ها!

ومن المفارقات التي تحدث لي كلما دعيتُ الى مناسبة يكثر تواجد اخوتي من مدينة القوش بها، فأسرح كثيرا في وجوه الحاضرين، خاصة الشباب (طوال القامة) وأسأل احدا من الذين أعرفهم: اليس ذاك رياض ابن المعلم يعقوب عوصجي؟ فيأتيني الجواب صادماً: لا، لا، رياض مات في الحرب! اعود ادراج دواخلي وأمنّي النفس، بأنه سيفاجئني يوما في زيارة لمدينة ديترويت، وسيقوم بالسؤال عني أول الامر، وحينها سأعلنها على الملء: إن رياض العوصجي على قيد الحياة، وها هو بيننا، وإن الموت لم يأخذه كما يدعـّون!

 

 قبور وأحزان وصور وكثير من الذكريات التي تأبى ان تفارق الذاكرة، متحدية عوامل الزمن والغربة، لابل انها تمرست على اعادة انتاج ذاتها في مشهد دراماتيكي رافض لفكرة الموت، وواضعة اياه في زاوية من حياتنا بعيدة عن الاحبة وأقرباء الروح، وكأنهم في تشكيلة لاتنطبق عليها قوانين الحياة الجارية على الآخرين!

 

كمال يلدو

كانون الأول ٢٠١٥

 

كمال يلدو ورياض العوصجي  عام  ١٩٧٣

 

 

 

ضريح رياض العوصجي في مقبرة  ألقوش

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.