مبدعون وابطال الحرية

سلاماً للقائدة الانصارية فكتوريا يلدا (شيرين ـ ام عصام)// كمال يلدو

  

سلاماً للقائدة الانصارية فكتوريا يلدا (شيرين ـ ام عصام)

كمال يلدو

 

قد تقترن حادثة ما او يقترن مكان بشخص او بإسم، وقد تمضي الايام، ولا أحد يضمن أنتبقى الذكرى او ترحل وتغيب. على إنلهذه القاعدة استثناءً كبيراً، ارتهن بإمرأة لا يمكن تجاهل اسمها عندما يأتي الحديث عن سـير المضحيات والنصيرات المناضلات الجسورات، خاصة امام المحطات الكثيرة التي مرت على الحركة  الوطنية. فقدكانت ومازالت في قلب (المعمعة) كما يقولون ولا يبدو انها تعبت، بل تصر بأنها ممتلئة بروح الشباب وستبقى هكذا، ولكل من يشك بالأمر، عليه أن يجرّب!

***

 القائدة الأنصارية فكتوريا يلدا ( شيرين ـ ام عصام) من مواليد محافظة دهوك، وقضاء زاخو تحديدا، درست الابتدائية هناك، وعندما تقدمت للدراسة الثانوية تحفّظ والدها بسبب كون المدرسة كانت (مختلطة) فحُرمت من فرصة اكمال تعليمها. تزوجت من الشهيد(أفرام برخو جلبي) وهي بعمر ١٦ عاماً ، وأنجبت منه ولداً  (أدور) وله الآن بنتان ـ دينا و لونا ـ وولد واحد ـ أفرام. استشهد زوجها عام ١٩٦٥ على اثر التعذيب، ثم اقترنت بعدها بالشهيد (لازار ميخو ـ أبو نصير) عام ١٩٨١ في كردستان عقب خروجه من السجن، وتقاسما سوية العمل المسلح في فصائل الانصار، لكن ما لبث  أن اغتيل  هو الآخر غدرا في دهوك عام ١٩٩١. والآن هي مقيمة في دولة الدانمارك، وتعيش في العاصمة (كوبنهاكن) حيث تقضي جل وقتها مع أحفادها ورفاقها ورفيقاتها وبحضور النشاطات، و التفاعل مع الحياة بحيوية  خاصة حينما يتعلق الامر بالعراق وأُناسه.

عن بواكير وعيها وتعلقها بالفكر الوطني تقول النصيرة (ام عصام): كنت أخرج وألعب مع بنات الحارة بمنطقتنا في زاخو والتي كانت تسمى (محلة النصارى)، وكان إبن خالي (أفرام منصور) يعطيني  لفّات من الورق مغلفة بالنايلون ويطلب مني ايصالها الى (سمير بوتاني و جورج توما) ولم أكن اعلم ما فيها، وبعد فترة أختفى  إبن خالي (أفرام) ، ثم علمتُ بأنهم اعتقلوه وعذبوه ونفوه هو وعائلته الى جنوب العراق، ويومها عرفت بأن تهمته كانت (الشيوعية) ومنذ ذلك الزمن دخلت هذه العبارة الى قاموسي! ورغم مرور السنين فإن تلك الذكريات تعود معي كلما زرت العراق ، وزرتُ مدينة زاخو، فألتقي بالسيد (ساهر افرام) ويعود المشهد حياً وعابرا لشريط الحياة الطويل.

 بعدالزواج إنتقلنا الى كركوك، وقد كان زوجي منغمرا بالسياسةو نشطاً، وهذا ما ساهم أكثر في تعزيز وعيي الوطني والتزامي بهذا الفكر والدفاع عنه. بعد انقلاب ٨ شباط الاسود،تعرّض زوجي للاعتقال وتنقل بين سجون كركوك وبغداد وأخيرا أودع  سجن (نقرة السلمان) الرهيب، يومها لم يكن ابني (أدور) قد بلغ الاربع أعوام من عمره.لميخطر على بالي أن اترك زوجي في تلك الظروف الصعبة،  فقد كنت أزوره في كل الاماكن التي اعتقل بها . لقد تعرض للتعذيب والسجن الانفرادي، وساءت احواله الصحية فجرى نقله الى مستشفى الديوانية، وعلمتُ ذلك بطريق الصدفة اثناء مراجعتي لسجن نقرة السلمان، وكانت المفاجأة لهم بأني تمكنتُ من تحديد مكانه وزيارته، وبعد الاستفسار عن وضعه وأسباب نقله الى هناك، علمت بأنهم يزرقوا ابراً في جسمه، فسرقت واحدة منها وعرضتها على طبيبة في بغداد وقالت لي بالحرف الواحد: إن هذا سم وسيقتلوه بالموت البطئ. وفي تلك الاثناء قال لي مدير الشرطة: لماذا تراجعين هذا الشخص، انه مجرم! فقلت له: إن هذا الذي تسميه مجرم، هو زوجي ، وكان يحترمني ويدللني، ولما صارت عنده ظروف يجب أن لا اتخلى عنه، ولو فعلت ذلك  حينها سيقول الناس عني بأني خائنة وبلا حياء! فما كان من مدير الشرطة إلا أن صرخ بوجهي وقال: انتي لسانج طويل!

لم أكن أملك سلطة حتى احرره من قيده، وكنت ارى صحته تتدهور يوما بعد آخر، فتمكنت من إقناع أحد الاشخاص بإبلاغي في حالة حدوث أي مكروه له، وفعلاً وصلتُ في الوقت المناسب بعد أن كان هذا الدواء (السم) قد تمكن منه، فأخذته منهم، وهنا جن جنون المسؤولين وقالوا لي : كيف عرفت بالأمر . المهم، إني أخذته وقمت بواجبي في مواراته الثرى لكن ليس قبل أن الف جسده بالعلم الأحمر!

تكمل النصيرة (ام عصام) القول: بعد رحيل زوجي، لم يكن الامر هيناً ، لكني عزمت على مواجهة هذه الصعاب، فعدت الى المقاعد الدراسية وتمكنت من الحصول على الشهادة الثانوية في الفرع العلمي، وكم كان أملي أن ادخل (كلية القانون والسياسة) وأتخرج محامية، لكن الحياة كانت أقسى.عملت فترة في وزارة شؤون الشمال، وفي وزارة الري، وكنت المنسقة بين جميع الاندية (السريانية وعددها ٢٤ في بغداد)، أما اول تجربتي مع الاعتقال فكانت في العام ١٩٧٤ بعد أن القيت كلمة في (نادي اور العائلي) أثناء حفل اقيم بمناسبة يوم المرأة العالمي واتُهمت آنذاك بالعمل في النشاط القومي المحظور، ثم جرت التدخلات وأطلق سراحي.

بعد أن ساءت الاحوال السياسية ، غادرتُ العراق عام ١٩٧٩ وتوجهت الى بلغاريا حيث حصلت على بعثة دراسية لمدة سنة،  بعدها ذهبت الى اليمن الديمقراطي، وعملت هناك مشرفة تربوية، وكذلك مع المنظمات النسائية وقد نشأت الفة كبيرة بيني وبينهم. وفي العام ١٩٨٠ سمعتُ أن هناك جهوداً لإعادة النشاط المسلح في كردستان العراق وتشكيل فصائل الانصارمجددا، فطلبت الالتحاق، لكن يبدو ان الظروف لم تكن قد نضجت بعد، ولمّا كنتُ بعيدة (نوعاً ما) عن مكان الحدث، فقمتُ (بشكل شخصي) ببيع بعض مما تبقى لي من حاجياتي الذهبية واشتريت بطاقة للطائرة وقصدت دمشق، وهناك طرحت الامر مجدداً على رفاقي.  عبرّتُ لهم عن رغبتي الحقيقية بالألتحاق، وأن هذا الامر بالنسبة لي التزام نضالي وأخلاقي تجاه زوجي الشهيد!   تكمل النصيرة (ام عصام):حيث تعود  القصة للعام ١٩٦٣ عندما وقع زوجي في مخالب البعث، فحينها كان يريد الالتحاق بقوات الانصار التي انطلقت، لكن رفاقه منعوه وطلبوا منه البقاء في العمل المدني، وسرت الامور عكس ما كنّا نريد، إذ تعرض للاعتقال، وتركت تلك المسألة طعماً مراً عنده، حيث كان يعيدها عليّ كلما قابلته بالسجن ويقول: لو كنتُ قد التحقت بالانصار لما كنت بين أيديهم الآن، ويومها اوعدته بأني سأكون أول امراة تلتحق بالعمل الانصاري حينما يصار اليه! وها هي اللحظة قد أزفت.

لقد كان لي الشرف فعلاً أن اكون أول نصيرة ـ في قاطع بهدينان على الأقل حيثُ كان هناك التحاق من نصيرات أخريات في قاطع سوران  ـ  تلتحق مع (ام صباح) وبدأنا العمل سوية في (يكماله ـ يه ك ماله). ورغم كل ما كان يكتنف العمل الانصاري من صعوبات حياتية ولوجستية لكن وجود المرأة المقاتلة كان أمراً مفرحاً ومشجعا لدى رفاقنا الانصار الذين لم يدخروا جهدا في تقديم اية مساعدة ممكنة لانجاح مهمتنا النضالية، لكنها من الجهة الاخرى كانت أمراً صعباً على بعض المقاتلين من القوى الكردية الحليفة في المنطقة حيث لم يألفوا هذا المشهد، ناهيك عن القروين والطبيعة المحافظة للمجتمع الكردي آنذاك، إلا ان تلك التجربة أثبتت كفاءة وجرأة تُسجّل  بحروف من ذهب لهذا الفصيل الثوري الذي عبّد الطريق امام اشتراك (المرأة) في الكفاح المسلح، وكم أنا فخورة اليوم وأنا اشاهد المقاتلات الشيوعيات الايزيديات ومن كل الانتماءات يرفعن السلاح للدفاع عن وجودهن وأفكارهن ضد الطغيان والرجعية والأفكار السوداء لداعش وأخواتها.

أما عن تجربتها الانصارية فتقول (ام عصام): لم تكن سهلة أبداً، فقد كان هناك دافعاً وطنياً حماسيا يؤجج فينا روح المجابهة وتحدي النظام الدكتاتوري الذي انقلب على رفاقنا وأصدقاءنا وانتقم منهم، وعلى الرغم من الصعاب والانكسارات  والتضحيات الجسام بالرفيقات والرفاق الشهداء، وبالتضحيات الشخصية كل على حدة، وتشتت عوائلنا وأفتراقنا عن ابنائنا وأهالينا، وأستخدام النظام البعثي العفن لأبخس الطرق في ابتزازنا وأبتزاز عوائلنا وإرهابهم، لكننا لم ننحني له وكنّا شوكة وقوة عصية الشراء او الانهزام، نعم نحن احفاد اولئلك الابطال الذي كانوا يعتلون المشانق وهم يهتفون للوطن والافكار والشعب.

اما ما تقوله عنها بعض النصيرات والانصار فأنه شئ يبعث حقاً على الفخر والاعتزاز. حينما تنظر اليها وتقترب منها ، فستعلم حقا انك امام جبل أشم، ونخلة باسقة وإرادة قوية ومعرفة وثقة بالنفس نادرة. هذا ما جاء على لسان العديد من النصيرات ومنهن : دروك، ام نصار و ندى ، وذات الشئ مع الانصار ومنهم أبو باز وأبو نصار وجاويد ، فقد كانت أختا لهم وامّاً وصديقة ومعلمة ورفيقة وقائدة.  وكم من مرة أثبتت على كفاءة النصيرات حينما كانت تأخذ الرفيقات معها وتذهب لأداء بعض المهام السياسية او العسكرية او حتى في جلب المؤونة، لم تكن لتخاف ، لقد كانت شجاعة، لقد قامت بالمهام مئات المرات بدون تعب أو ملل، بل كانت تقوم بها والضحكة والنكتة لا تفارقها ابداً، لابل ان مناسبات كثيرة شهدت كيف إن (الآخرين) كانوا يُعجبون من سرعة بديهيتها ولباقة لسانها وفطنتها، ولعل حكاية المبيت  في الجامع مازالت ماثلة وطرية عند النصيرات اللواتي كنّ معها في الدورية، حينما رفض رجل الدين المسؤول عن الجامع، مبيت الفريق الانصاري النسويهناك تلك الليلة، فدخلت النصيرة (ام عصام) معه بمحاججة انتهت أن قال لها: الليلة تنامين هنا (في الجامع) وفي هذا المكان بالذات، أنا لم اشهد إمرأة بلباقتك ولا بفطرتك وجرأتك، هذه كانت ام عصام.

للعديد من النصيرات والانصار، كان معروفاً حجم التضحيات والفداء وكأس الصعاب الذي تجرعه هذا الفصيل، وقد قدموه بكل فخر واعتزاز وبطولة، لكن كيف يمكن للمواطن العادي أن يقتنع بحجم هذه التضحيات؟ كيف يمكن أن يُفسَّر له هذا الامر؟

بالحقيقة فإن "ام عصام" تجيب هؤلاء الباحثين عن الجواب والحائرين بأنها: حازت على أمر لا يباع ولا يُشترى ولا يُقدر بثمن، إنه محبة الناس! وهذه الخصال هي مثل المعادن النادرة والثمينة، وحتما تجدها فقط عند الناس التي تبدي استعداداً للجود بالغالي وبالروح من اجل قضية الشعب العادلة والافكار السامية، نعم، هكذا تفاعل معها رفاقها ورفيقاتها في مهرجاناتهم ولقاءاتهم الانصارية حينما منحوها أكثر من وسام شرف وتقدير، تثمينا لها ولدورها الريادي، وهم بذلككانوا مصيبين ومحقين.

أمّا حينما سألتها عن امنياتها للعراق فقالت: عندي ثقة بأن العراق سينهض ويقف على قدميه مجدداً، وسيكون أفضل من السابق، ولن تذهب الامور هكذا، وهذه ليست امنية أو من باب الاحلام، انه أمر واقع فحسب. لقد سقينا هذه الارض بدماء رفيقاتنا ورفاقنا ، وروينا ترابه من اغلى الأنفس، ولن تذهب هدراً، نعم أنا متفائلة وهذا اليوم آت لا محال!

 

في النهاية هناك أمران عليّ الاعتراف بهما أمامكم ايها الاعزاء: اولهما، إن (ام عصام) لم تكن لتعرف بإن الغاية من مكالماتي كانت لجمع المعلومات لغرض الكتابة، وقد رجتني كثيراً أن لا أكتب عنها، وكانت تقول : اكتب عن الرفيقات الاخريات وأعطتني قائمة بالاسماء، وتصر بأنها قدمت ما عندها!  لكني كنت أنظر للأمر من زاوية أخرى، فكيف لنا أن نحتفل بها، كيف لنا أن نقول بأعلى الصوت شكراً لك يا حبيبتنا ويا صديقتنا ويا امّنا، وبهذا اردت الاحتفال مع الكل بسرد أسطر من تلك السيرة المعطرة والمليئة بالتضحيات اليوم وليس غداً. أما ثانيا، فهو خشيتي منكم انتم الذين شهدتم على نضالها وسيرتها، بأمل أن أكون قد قدمت أسطراً لائقة بها، ولعلها ليست بالضرورة أن تكون لوحة متكاملة، لكنها على الأقل بداية متروكة للكثير منكم ايها الاعزاء لتكملوا  التفاصيل تلك  بكتاباتكم وتعليقاتكم، وإني على يقين بأنكم اهلا لها.

# الشكر والاعتزاز لمن زودني بالصور وبعض الحكايات عنها ومنهم، النصيرأبو صارم طبيب السرية المستقلة، والنصيرتان ندى و ام نصّار.

 

**كل الود والمحبة لهذه المناضلة النصيرة الباسلة "أم عصام"

**المجد لشهيداتنا وشهدائنا الابطال

**العار للأنظمة الرجعية التي عطلت قدرات الشعب وأنهكته بالأرهاب والحروب، واليوم بالفساد الأداري والسرقات ومحاربة الاقليات وإدخال داعش للعراق.

 

كمال يلدو

آذار ٢٠١٦