اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مبدعون وابطال الحرية

الفقيد زكي شيرزاد (اسكندر) وشم في بؤرة الذاكرة// عبدالمطلب عبدالواحد

 

الفقيد زكي شيرزاد (اسكندر) وشم في بؤرة الذاكرة

عبدالمطلب عبدالواحد

 

الرفيق اسكندر هو (زكي شيرزاد على) المولود سنة 1957 في قضاء الزبير من محافظة البصرة، التقيته لاول مرة في خريف عام 1981 في منطقة ناوزنك القريبة من الحدود الايرانية، والتابعة الى قضاء رانية، محافظة السليمانية، التي كانت حتى ذلك التاريخ موقعا خلفيا تضم المقر القيادي للحزب الشيوعي العراقي، في واد حصين.

على جانبي هذا الوادي وعلى قمم الجبال التي تطل عليه، انتشرت ربايا ومواقع انصارية اخرى تابعة للحزب، وهي فصيل المدفعية، فصيل مقر المكتب العسكري والمكتب السياسي، فصيل الاذاعة، وفي إلتواءات الوادي يقع فصيل السجن، وفي اعلى رابية فوقه موقع فصيل الدوشكا، وفي منتصف الوادي على السفح الايمن باتجاه نوكان فصيل مقر الفوج، وفي نوكان فصيل الادارة، الذي يضم مخزناً لتموين المقرات الانصارية، وحانوتاً صغيراً لتوفير بعض الاحتياجات للانصار.

ويقع موقع نوكان مباشرة في انعطافة واد رئيس يمر بين سفحيه منخفض لجريان المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج ومن مسارب عيون الماء المنبعثة من اعماق الجبل. يحاذي مسار الماء طريق الكرونجية (ناقلو حمولات البضائع وباعتها) الواصل بين قاسم رش، والفروشكاه (محطتا بيع وتبادل السلع المهربة عبر الحدود). يتوسط مجرى المياه الوادي الذي يشرف عليه موقع نوكان، ويتحول مساره الى نهر عرضه بضعة امتار، عليه جسر من جذوع الاشجار لعبور المارة، وفي فصل الربيع يتحول هذا النهر الى تيار هادر سريع الجريان. ابتلعت سوراته ذات نهار مفجع في ربيع (1982) النصير (صفاء يوسف ابو طحين) عندما حاول عبوره خائضا نحو الضفة الاخرى، مستنداً وممسكاً باغصان الشجر المتشابك بين جانبي النهر، غير عارف ان الامر سيأخذه الى غياب ابدي.

على السفح المقابل لفصيل نوكان وعلى امتداد الوادي والوديان الاخرى المتفرعة من بين ثناياه تنتشر مقار ومواقع لممثلي احزاب ومجاميع سياسية وانصارية، عراقية وكردستانية، وهناك ايضا موقع قيادي للاتحاد الوطني الكردستاني. وهي منطقة يسميها القرويون وادي الاحزاب. كما يوجد في تلافيف ذات الوادي ساحتان واسعتان مسطحتان، المسافة بينهما بضعة كيلومترات، ويرتبطان بطريق يتسع لحركة قوافل الحيوانات (الخيول والبغال) المحملة بالبضائع، والمسطحان هما مثابتان لاستراحة البغال والخيول، و(مكانان) لبيع وشراء وتبادل البضائع المهربة بين العراق وايران ولتجارة السلاح وتصريف العملة.

ويحويان على عدد من مطاعم التكة والكباب (المشاوي)، وهذه المطاعم والمقاهي والدكاكين مشيدة ومسقفة باعمدة من خشب السبندار المستقيم (الحور)، محاطة بانواع من البلاستيك الثخين الشفاف، شبيهة بالبيوت البلاستيكية المستخدمة للزراعة المغطاة. ومن المظاهر المألوفة ان عموم مرتادي السوق والمطاعم والمقاهي على الاطلاق متزنرون بالكلاشنكوف او بسلاح مماثل. وعابرو الطريق او الراجلون عليه تتردد على مسامعهم عبارة (بي چند؟) بالكردية، وتعني (بكم؟) والمقصود بها الاستفسار عن سعر الدولار، حيث يجري تداول هذا السؤال بين الاشخاص المرافقين لقوافل البغال والخيول المحملة بالبضائع ذهابا وايابا في كلا الاتجاهين عشرات وربما مئات المرات يوميا. وكان انصار قاعدتنا يترددون على محلات السوق بين فترة واخرى للتبضع او حتى للتسلية.

اعتصم الرفيق اسكندر بالجبل قادماً من جنوب الوطن مباشرة، ضمن مجموعة من ثلاثة رفاق من مدينة الزبير ــ محافظة البصرة ــ بعد اشتداد وتيرة المطاردة والقمع الفاشي لازلام السلطة ومؤسساتها القمعية في حملتهم القسرية لتبعيث المجتمع. غادروا مدينتهم وملاعب صباهم مرغمين في عام 1979، حفاظاً على حرية الضمير، التي جند حزب البعث الحاكم كل طاقاته لاغتصابها من المواطن العراقي الاخر الذي لا ينتمي اليه. وكان رفيقا الفكر والدرب في الرحلة (سعد اسماعيل) و(صالح موجر).

وبمساعدة الرفيق سعد الدليمي الساكن في مدينة بغداد، والذي اعتقل وغُيّب في سجون الدكتاتورية فيما بعد، تمكنوا من الوصول الى رانية، في رانية استقبلهم الرفيق (سربست محمد قادر) من اهل المدينة ومن عائلة شيوعية، ومنها تم ايصالهم الى سوار آغا ثم الى ناوزنك.

في ناوزنك تم اخضاعهم الى دورة تدريبية على السلاح الخفيف، على الرغم من ان الرفيق اسكندر يجيد استخدام السلاح، كونه ادى الخدمة العسكرية الالزامية بعد تخرجه من اعدادية الصناعة ــ قسم النجارة، وتسرح من الخدمة عام 1977. وبعد دورة استخدام السلاح والتعرف على المنطقة، شارك الرفيقان اسكندر وسعد في مفرزة فصيل بتوين التي تحركت باتجاه مناطق دوكان، ورتة، ملكان، باليسان. وفي النصف الثاني من عام 1981 عاد اسكندر مرة اخرى الى ناوزنك، ونسب الى فصيل المدفعية.

 

لفصيل المدفعية ميزة خاصة، إذ ضم بين صفوفه انصاراً من اوائل الملتحقين بالقاعدة ومن بُناتِها ومؤسسيها، عدا عن ذلك ضم اغلبية من طلبة الجامعات والمهتمين بالفكر والثقافة، بينهم الموسيقي والمسرحي والشاعر وكاتب القصة والقارئ المتابع. وكان ضمن واجباتهم اليومية، ساعة اوساعتان للمطالعة الجماعية، ومن نشاطاتهم اماس ثقافية ونشرة حائطية لنشر نتاجاتهم المتنوعة، كما يتميز الفصيل بأجوائه الرحبة وموقعه الطبيعي الجميل. في هذا الفصيل تعرفت على اسكندر الشاب الممتلئ بالطاقة والحيوية، يَشِدُك اليه للوهلة الاولى، ملامحه المرحة وشعره الفاحم السواد، وبريق مميز في عينيه يخفي حزناً غائراً في الاعماق. مثابراً، كثير الحركة، هميماً ومبادراً لا يكل عن تنفيذ المهمات بغض النظر عن صعوبتها وتكرارها عليه، وباختصار كان شخصاً استثنائياً في صبره وجهده وجهاديته العالية مؤديا تلك الاعمال بمنتهى الهدوء والاريحية.

بعد انتقال قاعدة ناوزنك باكملها الى بشتاشان خريف 1982، على اثر تحرك القوات العسكرية الايرانية للتموضع في المنطقة وفتح طرق برية لمرور الاليات العسكرية. التقينا في بشتاشان مرة ثانية للعمل سوية في فصيل جديد، قيد التكوين. تَكلفَ اسكندر بمهمة الاداري في مكتب الفصيل، وتكلف الرفيق وضاح (صباح مشرف) بمهمة المسؤول العسكري لفترة قصيرة انتقل بعدها الى قاطع بهدنان، حل محله الرفيق صامد احمد الزنبوري (ابوخلود) المنقول من قاطع بهدنان الفوج الثالث، كلا الرفيقين استشهدا في معارك بشتاشان الثانية، وقع وضاح معه الرفيق ابو مازن (فاخر محمد حسن الخليلي) في كمين على سفح جبل قنديل عند عين الماء الكائنة فوق قرية قورناقو، والرفيق صامد الزنبوري عند مشاركته باقتحام ربيئة.

الفصيل الجديد الذي اتحدث عنه يدعى فصيل كاسكان، نسبة الى قرية كاسكان التي تقع على مقربة منه، يسكنها عدد من المحسوبين على الاتحاد الوطني الكردستاني، و يشغل مقر الفصيل مكانا على تلة في منتصف المسافة بين القرية المذكورة وموقع اذاعة صوت الشعب العراقي، ويسمى تهكماً من قبل الانصار فصيل الكويت، او فصيل (الصونداميل)، وقد اكتسب هذه التسمية لبعده من مصادر الماء ـ عصب الحياة ـ وللحصول على الماء الضروري لاعداد الطعام وتنظيف الاواني والحاجات الاخرى خصص مكتب السرية للفصيل بغلا قصير القامة، هرماً خارجاً عن الخدمة، ومتقاعداً عن اداء الاحمال التقليدية التي يناط بها اقرانه.

وعليه فان في لائحة الواجبات اليومية للانصار في الموقع خفيراً يتولى مرافقة البغل لنقل الماء في قربتين مخاطتين من (الجادر) ـ وهو نوع من قماش سميك لا ينضح الماء ـ تتدليان على ظهر البغل من الجانبين يتم املاؤها من عين الماء التابعة لموقع الاذاعة، وتخزن في قدور واوان بلاستيكية للاستخدام اليومي، وكان الاستحمام في هذا الموقع ترفاً زائداُ عن اللزوم، ومن يود الاستحمام، عليه تدبير الامر مع احد فصائل الانصار القريبة. لاحقا وفي هذا المقر بالذات تعرفت على زائر كريه استضافه جسدي كواحة يعيش عليها ويتحرك فيها كيف ما يشاء ويحرمني متعة النوم ليلا، انه القمل.

كان مقر الفصيل المتشكل للتو ونحن على ابواب الشتاء القاسي يتكون من غرفة صغيرة، كانت مخصصة لاستراحة طاقم من الانصار رماة سلاح الدوشكا. وكان على الفصيل وبعدد محدود من الانصار بناء قاعة واسعة تتسع للنوم وملحقات مسقفة مهمه لاعداد وتناول الطعام وخزن المؤونة، وكان لابد من مسابقة الزمن، وقد تم فعلا انجاز البناء والتسقيف بعزيمة عالية وعمل جماعي بروح الفريق، وكان للنصير اسكندر ومثابرته ومرحه دورا مميزا في سرعة الانجاز وتوزيع المهام، وبالجهود الذاتية لرفاق الفصيل. وقد تولى الرفيق الفقيد ابو زينب البصراوي (رحمة حمود كاظم) ـ توفي في المانيا في 8/1/2015 ـ الاشراف على اعداد الطين، والقيام بمهمة (الخلفة) في البناء والتسقيف ويتوزع الاخرون على تجميع الحجر واغصان وجذوع الاشجار، الخ من الاعمال المصاحبة.

لقد اعتدنا مواجهة قسوة الطبيعة وتبعات الحياة الانصارية وصعوباتها بسلاح النكتة، وكان سلاحا سحريا فعالا، وغالباً ما نقضي شطراً من المساء في الغناء والعزف على اواني الطبخ المترافق مع ايقاع التصفيق بالايدي بطريقة الخشابة البصرية، يؤدي الاغاني بصوته الجميل الفنان صباح البصري شقيق مؤدي المقام الفنان المعروف جبار البصري الذي اشتهر بتقليد المطرب ناظم الغزالي. ومن محاسن الظروف ان درجة جيدة من الانسجام وروح الجماعة وقوة التحمل والارتياحات الشخصية والصداقات سادت بين غالبية رفاق الفصيل، حيث لعب الرفاق اسكندر، بهجت، رعد، سعد، حنتاو، ابو زينب الدور الاكبر في اشاعة اجواء البهجة رغم التعب الجسدي الذي كنا نعانيه جراء ساعات العمل الطويلة في البناء واداء الحراسات والتدريب على السلاح والخدمة الرفاقية. مضافا لذلك، تردنا بين فينة واخرى تكليفات من مكتب السرية لتنفيذ اعمال ادارية روتينية تخص فصائل اخرى في قاعدتنا الانصارية، وكان يشق علينا الامتثال دائما لمثل هذه التوجيهات، ليس لصعوبتها ولكن لعدم واقعيتها، ولذلك كنا نتحايل للتملص من تنفيذها، ومن الطبيعي ان لا تمر القضية بدون محاسبات.

كان عددنا في البداية لا يزيد على 12 نصيرا على ما اتذكر من بينهم ابو هندرين (عبدالوهاب عبدالرحمن السالم)، باسم ــ الصديق القادم من استراليا ــ، سعد (ثائر عبدالرزاق)، رفيق مصلاوي من التنظيم صلته مع الرفيق ابوخولة (باقر ابراهيم الموسوي)، ابو خليل مهندس خريج بريطانيا، ورفاق مروا سريعا لايام وتوزعوا على مواقع ومهمات اخرى، بينهم ابراهيم معروف، ابو حازم التورنجي وآخرون. بين خريف 1982 وايار 1983 اكتسب الفصيل وجوها فيما غادرته وجوه ارتباطاً بالمهام العسكرية والسياسية للقاعدة بشكل عام.

كانت خسائرنا باهضة كفصيل، جراء العدوان الغادر على بشتاشان، فقد استشهد الرفاق: سعد (ثائرعبدالرزاق) في موقع امامي على القمة الواقعة فوق قرية اشقولكة الواقعة في مدخل بشتاشان تدعى كاني ساوين واستشهد معه في هذه القمة الرفاق مام رسول، محمد حسن وقادر حسن ـ شقيقان ـ من سرية بشدر، وفي مواجهات اخرى استشهد رعد (طارق عودة)، ابو هندرين (عبدالوهاب عبدالرحمن)، ابو بسيم (رعد يوسف عبدالمجيد)،ابو خليل (حسين محسن سعيد العباس)، ابو حاتم (علي حسين بدر)، ابو يوسف(عبدالله شمسة)، ابو وطفاء (محمد صالح الساعدي). كل هذه الكوكبة من الشهداء الخالدين كانوا محسوبين على فصيلنا لحظة هجوم اوك على بشتاشان، فيما تعرض النصير اسكندر الى الاسر في يوم 3/5/ 1983 واستمر حتى شهر اكتوبر من نفس العام، واُسِرت معه النصيرة ليلى.

في تموزـ اب 1983 تشكلت سرية جديدة غالبية قوامها من الرفاق العرب الذي خاضوا ببسالة معارك بشتاشان الاولى، سميت سرية بشتاشان، وفور اكتمال قوامها عادت الى بشتاشان للمشاركة في معارك بشتاشان الثانية بالاشتراك مع قوات انصار داعمة من قاطعي اربيل وبهدنان. واتخذت لها موقعا امامياً طيلة فترة تواجدها في بشتاشان، وانسحبت مع القوى المنسحبة بعد نهاية المعارك، وخاضت معاركها بدون خسائر، وكانت تجربة مفيدة على الجانب النفسي لانصار السرية، وتعويضا معنويا لهم عن خسارة احبتهم في بشتاشان الاولى. لم يكن الرفيق اسكندر ضمن قوام السرية في البداية، لكنه التحق بها بعد خلاصه من الاسر مباشرة خلال خريف 1983.

بعد بشتاشان الثانية ارتبطت السرية بقوات قاطع اربيل التي تمركزت في قريتي ريزان وبارزان التابعتين لقضاء ميركه سور، وتحركت بمجموعات صغيرة للعبور الى القصبات والقرى المحيطة بصلاح الدين، وبعد استطلاع الوضع عبرت قوة قوامها اكثر من 60 نصيرا من ريزان الى العمق حيث تنتشر ربايا الجيش والجحوش، وخلال حركتها خاضت معركة هنارة الشهيرة، عندما هاجمت قوة مسلحة تابعة للسلطة بدباباتها ومدرعاتها ومدفعيتها وطيرانها قرية هنارة التي استضافت الانصار، واستمرت المعركة منذ الفجر حتى حلول الظلام في يوم 18/11/1983. استطاع الانصار خلالها ادارة القتال بكفاءة عالية، ولا زال صوت المقاتل علي حاجي نادر القائد الميداني الانصاري من مكبر الصوت يرن في آذان بعضنا حتى الان، يدعو بنداءاته جنود الجيش العراقي للوقوف ضد الحرب والانضمام الى المعارضة، مردداً الاناشيد الثورية. البطل علي حاجي استشهد في قرية كورة شير العليا في اربيل يوم 27/6/1984. كانت خسائرنا في هذه المعركة الشهيد ابوشهدي من البصرة وعدد من الجرحى. بعد جولة في القرى الواقعة تحت نفوذ السلطة في المنطقة للتعريف بتواجد الحزب وسياسته وباعتماد الليل للحركة والاختفاء اثناء النهار. انسحب الجزء الاكبر من القوة الى منطقة بارزان بضمنها سرية بشتاشان للاستراحة المؤقتة والتخطيط لجولة قادمة من النشاط الانصاري ، عندها اختارت السرية موقعا على جبل بارزان مقرا لها.

عام 1984 اتخذت قيادة الحزب قراراً بان تكون منطقة لولان مكانا لاعلامها المركزي ولاذاعتها، وانشأت قاعدة انصارية لهذا الغرض توسعت مع الايام لتنتشر في دراو، ارموش العليا، ارموش السفلى، موسولوك ومنطقة خواكورك، وفي هذه المنطقة اقيم المقر القيادي وموقع اذاعة صوت الشعب العراقي، وفي هذه المنطقة ايضا انعقد المؤتمر الوطني الرابع للحزب في تشرين الثاني 1985. ولحاجة هذه المواقع للحماية تم استعادة مجموعة من رفاق سرية بشتاشان الى المنطقة اواخر عام 1984، كان الرفيق اسكندر واحداً منهم. في فترة التواجد في جبل بارزان، حاول الرفيق اسكندر تمضية الوقت الفائض بالقراءة، ومحاولة كتابة الشعر، وتميزت كتاباته الشعرية، بالجمل النثرية المشحونة بالتناغم الموسيقى.

وفي موقع دراو بعدها توفرت له فرصة اكبر للقراءة. وفي ذلك الشتاء القاسي الذي استمر تساقط الثلوج فيه بشكل متواصل لمدة خمسة اسابيع في (كانون الثاني ـ شباط ) 1985، كان جهد الرفاق الاكبر منصباً على ازاحة الثلوج من على سطوح القاعات ودحلها بالباكردان (كتلة صخرية اسطوانية صقيلة وثقيلة يجري تدويرها على السطوح الطينية للمنازل ذهابا وايابا بعد تنظيفها من الثلوج لمنع تسرب الماء من خلال السقف)، وتوفير الحطب للتدفئة، وكانت الساعات الاولى من الليل للمطالعة، حيث تحوي مكتبة السرية على عدد جيد من الكتب الادبية والسياسية، مع وجود قواعد لتنظيم اوقات الاستعارة ومدتها، ويشرف على تسليم واستلام الكتب رفيق مكلف بهذه المهمة.

واتذكر من تلك الايام مشهداً للرفيق اسكندر متأبطاً المجموعة الشعرية الكاملة لسعدي يوسف، يتلو متهجداً منها مقاطع عن ظهر قلب. ومع الوقت والتجربة تطورت لديه ملكة كتابة الشعر، ولا اعلم ان كان احد يحتفظ بشيئ من كتاباته التي تحوي البساطة والعمق في آن. لقد كان عا شقاً صوفياً متيماً لم يفصح عن عشقه، ولكنك تستطيع ان تقرأ ذلك في عينيه، كما تستشفها من روح كتاباته المفعمة وجداً وجمالاً.

 

في صيف عام 1986 انتقل اسكندر الى قاطع اربيل، واستمر ضمن قوة الفوج الخامس حتى هجوم قوات السلطة في حملة الانفال عام 1988، وكان ضمن مجموعة من 23 رفيقا، تم تحريكهم الى منطقة دولي كوكا، بهدف تسفيرهم الى الخارج مرشحين للحصول على زمالات دراسية، غير ان هجوم السلطة الواسع على عموم كردستان اجبر المفرزة على تغيير مسارها اكثر من مرة باتجاهات متعاكسة وعبر مسالك وعرة مطوقة من قوات النظام وكان لابد من الدخول في قتال شرس مع قوات الجيش والجحوش لفتح ثغرة للتسلل منها لمواصلة طريق الانسحاب، وقد برعت المفرزة في قتال تكتيكي ذكي للنفاذ من الطوق. واستطاعت العبور بسلام الى الاراضي الايرانية مع جموع من العوائل العراقية. وقد عثرت المفرزة في خط انسحابها على طفلة لوحدها في قرية مهجورة، تناوبوا في حملها حتي وصولها لذويها الفارين عبر الحدود الى ايران.

تم وضعهم في معسكر احتجاز للاجئين في مدينة خوي التي تبعد عن مدينة الرضائية ثلاث ساعات، بعدها نُقلوا الى مدينة كرج. وعندما باشرت السلطات الايرانية التحقيق مع الرفاق المحتجزين، كان الرفيق اسكندر يتولى عملية الترجمة الى الفارسية، كونه يجيدها بطلاقة، ولذا شك المحققون الايرانيون بانه ايرانيا من حزب تودة، على اثرها تم اعتقاله لمدة تزيد على خمسة اشهر، ولم يطلق سراحه الا بعد تدخل قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي على اعلى المستويات لدى السلطات الايرانية. وبعد الافراج عنه من الاعتقال سافر الى سوريا، حيث توفرت له فرصة نشر مجموعة من قصائده في صحيفة الغد الديمقراطي الصادرة في دمشق على عددين. ومن سوريا هاجر صيف 1992 الى هولندا عن طريق اوكرانيا، وخلال مدة اقامته في اوكرانيا ارتبط بامرأة اوكرانية وانجبا صبية جميلة.

اسكندر النصير الشيوعي المعجون بروح التضحية والصدق ونكران الذات، استقر به المقام اخيراً في هولندا، عابراً المحطات والمسافات، متحدياً بصلابة محن واختبارات صعبة، قبل وبعد عبوره حدود الوطن، نتيجة معارك الانفال السيئة الصيت، التي استخدم فيها نظام صدام حسين الاسلحة الكيمياوية على ابناء شعبه، وعلى القرى الكردستانية العزلاء، وعلى مناطق تواجد الانصار. والتي كان للحزب الشيوعي العراقي نصيب وافر من ضحايا السلاح الكيمياوي شهداءاً، جرحى ومصابين، يحملون في اجسادهم تشوهات التأثيرات الجانبية لهذا السلاح الفتاك، المحرم دولياً، ويصارعون آلامها حتى الان. وفي هولندا "الملاذ الاخير والمستقر"، تعرف الرفيق اسكندر واحب وتزوج من شابة هولندية، غير ان مرضاً غريباً داهمه على حين غرة، عجز عنه الاطباء، وفارق بسببه الحياة في 2002 تاركاً غصة كبرى لحبيبته الهولندية ولنا جميعا رفاقا، اصدقاءا ومحبين.

 

 

- المادة مكتوبة بالاعتماد على بقايا الذاكرة، وعلى شهادات رفاق عايشوا جوانب من ذات الاحداث المدونة في هذه السطور وهم : د. سعد اسماعيل (د. سالم)، قاسم الحلفي (ملازم قصي)، عبدالوهاب عبدالرزاق (هوبي)، جميل محمد (ابوكوثر)، عبدالله حطاب (فوقي).

  

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.