اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

فتاة .. بلون الرماد// حسين السنيد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

فتاة .. بلون الرماد

حسين السنيد

 

اهداء ... الى روح " فرخندة" الميمونة التي احاطتها ذئاب مفترسة في مسجد " شاه دوشمشيره " في كابل . ضربوها وعروها واحرقوها ..لظنهم انها احرقت القرآن الكريم.

ذلك اليوم لم يعروا الكابليون فتاة فحسب ... بل عروا مدنهم والليل. فظلت مدنهم خاوية , ولياليهم بلا لون ...

اعلنت وزارة الاوقاف الافغانية بعد حين .. لم يعثر على اي قرآن محترق في المسجد.

 

لحظة وقفت امام غرفة صغيرة في الباحة الخلفية لمعبد المدينة, كانت تتطاير من نوافذها شرارات النار الحمراء, والدخان الاسود الذي يعمي العيون متدفقا عبر النوافذ, ككومة من الغربان السود. اصابتني الدهشة وانا ارى العجوز الحارس يخرج من الغرفة متعثرا, يحمل بين يديه الكتب النصف محترقة , وعندما احس بوجودي , وقف ونظر الى دهشتي الواجمة..

-    تعال معي ... لايجوز ان ندعهاتحترق .

ثم توارى في الغرفة المشتعلة  .

***

ملأت الأناء الفخاري بالماء وقدمته للشيخ, ارتشف قليلا وانتقل بنظراته القلقة الى الغرفة التي اطفأناها بصعوبة , دون ان يساعدنا احد او حتى يسمعنا.

لمح الشيخ عاصفة الاستغراب في عيوني , قال :

-    الغرفة هي مخزن للكتب , لا اعرف ما الذي اشعل النار هناك .

-    ربما كان تماسا كهربائيا .

ضحك العجوز باستغراب :

-    كهرباء ! الكهرباء مقطوعة عن المعبد منذ سنين .

-    كيف ؟ والمصلين ؟

-    لا احد يأتي للصلاة هنا, الم ترى المعبد مهجورا ؟

-    لماذا ؟

قلتها واعتلت نبرة الاستغراب, المعبد في قلب المدينة, المدينة الكبرى في البلاد والتي تعج بالبشر , مهجور ؟

تنهد الشيخ فيما كان يريد الوقوف , سعل عدة مرات . اطرق بنظراته ارضا..

-    انها لعنة " الفتاة "  ...

قلت بصوت عال يقرب للصراخ :

-    ماذا تقول ؟ لسنا في اساطير فراعنة .. او ملحمة بابلية , دعك من هذه التفاهات .

قابل  الشيخ ثورتي الملتهبة بابتسامة باردة .

-    نعم يا ولدي ,انا لا اؤمن ايضا بالاساطير .. ولكن الذي شهد " الفتاة " وسمع نبوءة المعلم . سيصدق ... النبوءة تحققت , انها لعنة " الفتاة".

ثم بدأ يخطو بسرعة باتجاه الغرفة التي كانت غطت صفحات الكتبجدارنها و شبابيكها  .

جريت بشكل جنوني ..

-    كلمني ...كلمني يا عم .. من "الفتاة "؟ ومن " المعلم " ؟.

 

دخلت الغرفة ورأيته منحنيا, يجمع الصفحات المنتشرة كل مكان ,نزعت حذائي وجلست بجانبه.

***

-    كلمني يا شيخ .... ماذا حصل هنا ؟

بدى الانزعاج واضحا على ملامح الشيخ من سؤالي ,تشابكت حواجبه البيضاء , وبعد ثوان من الصمت المطبق قال:

-    حدث هذا قبل 7 سنوات .

انقطع الكلام ..وراح يرتب صفحات التي طال اللهيب اطرافها فوق بعضها بعضا.

-    ماذا حدث ؟؟ سألت بصوت اقرب لصراخ.

التفت لي ورمقني بنظرات غاضبة , مسح على ذقنه الابيض بيديه المسخمة .

-    كان هذا المعبد قبلة لكل ابناء المدينة, مزدحما بالناس من الفجر حتى منتصف الليل وكان يؤدي المعلم كل الصوات ويصلون معه المئات .

جر حسرة  ونزع طاقيته ورفع ذيل زيه الطويل رصاصي اللون ووضعه في سرواله.

-    كن الفتيات يقصدن المعبد من كل احياء المدينة, طلبا للرزق والزواج, كان ينتشر في اطراف المعبد كتاب تعويذات ,لفتح الرزق والانجاب واصلاح الزوجين, كل هذه الخرافات التي لم اؤمن بها يوما.

 

قاطعته:

-    اذا لماذا كنتم تسمحون لهم ؟

تجاهل تساؤلي واستدرك بالحديث:

-    في يوم مزدحم .. شقت طريقها "فتاة" تأخر زواجها كثيرا , جائت تتصور انها ستنتصر على العنوسة بتعويدة تكتب على ظهر ورقة سكائر.

-    انها الفتاة نفسها ؟ سمعت بها.

-    وسمع بها كل العالم .. والسماء والارض .

-    ماذا حصل ..قل لي.

-    وقفت الفتاة امام كاتب تعويذات يسمونه "ملا" ... قالت له لم تفعل لي تعويذتك اي شيئ . قال لها الملا , صفي النية يا فتاة .

استشاطت غضبا  وصاحت : " اصفي النية ؟؟ وهل اريد السرقة ؟ " ..نعم كانت الفتاة غاضبة ذلك اليوم حالها حال كل الفتيات الائي فاتهن قطار الشباب وبدأت خطوط الشيخوخة يرتسمن على جبينها , دون زواج ودون حب ودون الاحساس بالامومة.

 

صمت الشيخ .. واستطعت ان ارى اولى قطرات الدمع تنسال من خلف نظاراته المؤطرة باطار اسود .

-    رمت الفتاة التعويذة في علبة الصفيح التي كان يشعل النار فيه .

كل النساء دهشن من المنظر هذا .بل حتى الرجال دهشوا و تسمروا وخيم الصمت على ذلك المكان.

 

-    و لم يرق هذا للملا كاتب التعويذة طبعا .

ابتسم الشيخ :

-    نعم .. صاح بصوته الجهوري ,حيث سمعته انا في المعبد.

-    ماذا صاح؟؟

-    اقتلو الفاسقة ..احرقت الكتاب ...احرقت كلام الله

اندهشت من كلام الشيخ .

-    احرقت كلام الله ؟ يكذب الملا ؟!التعويذة ليست كلاما من الله وليست كتابا مقدسا ..

قال الشيخ في حالة لم اقدر ان اميز السخرية من الجد فيها:

-    ياولدي ... التعويذة عند الملا اهم من الكتاب , والمعبد, والانسان. لن اطيل عليك .. ظل يصرخ الملا .. اقتلو الفاسقة ..احرقت الكتاب ..احرقت الكتاب .. وسرعان ما التفت حول الفتاة العشرات  .

-    التفو حول فتاة ؟ اين الشرطة ؟ اين كنتم انتم؟

-    لاتسألني عن اي شيئ , لا الشرطة ولا انا ولا المعلم كنا قادرين ان نوقف موجة الغضب تلك.

-    ضربوها ؟

-    ياليتهم فعلوا , جردوها من عبائتها وحجابها . نزلت عليها الهراوات والقضبان الحديدية من كل مكان .. والكل كانو يصرخون .. " احرقت الكتاب ...احرقت الكتاب .. وكانت تصرخ " لم احرق شيئا ..اسمعوني ...لم احرق الكتاب . ولكن كان صوتها المرتجف يتطوح في بحر صراخهم المتلاطم الهائج . ولا احد يسمعها.

 

كنت انظر في عيون الشيخ التي فاضت بالدموع , وبدى لي ان الدموع ليست شفافة بل فيها شيئ من اللون .

-    كان المعلم , يشاهد المنظر .. صاح هيا بنا ,نخلص الفتاة ..انهم يقتلونها . جرينا مع المعلم نحو الجموع التي انهت صلاتها للتو. اوقفونا ثلاث شبان وقالو لنا مبشرين .."ابشر يا معلم ..ابشر.. قتلنا الفاسقة التي احرقت الكتاب".

صرخ المعلم ..اي كتاب هذا ..دعوها . وحين سمع الشبان الثلاث كلام الشيخ . ضربونا على صدرونا حتى وقعنا مغشيا علينا . وحين كنت في آخر لحظاتي قبل ان يغمي علي تماما , رأيت الفتاة تسقط على حافة القبر بعد ان ركلها احد من بين الجموع . كان الاعصار الذي احاطها جردها من كل شيئ , شبه عارية ووجهها مخفيا تحت قناع من دم.

 

جلست على الارض ,متكئا على الجدار فيما شعرت برعشة تجتاح جسدي .

اكمل الشيخ كلامه:

-    حين فتحت عيوني , لم اجد المعلم بجنبي , شممت رائحة احتراق لحم الفتاة , ورأيت رمادها يتطاير من باحة خلف المسجد . وكانو العشرات يهرولون من حولي ,بل يعبرون على جسدي دون ان اشعر بهم . كانوا فرحين , كانوا منتصرين .

 

-    اين المعلم .. قتل هو الاخر ايضا ؟

 

-    غروب ذلك اليوم.. رأيته يمضي بعيدا حاملا زوادته بين يديه . جريت خلفه .. صرخت .. بكيت .. لكنه لم يلتفت لي وبعدما ابتعد حتى صار نقطة بالشفق , سمعته يصيح .. لا تستجاب دعوة في هذا المعبد بعد الفتاة ابدا , وسيمسي مهجورا وكأن لم يكن يوما .

 

ساد الليل الحالك  .. وذرات رماد الفتاة المحترقة ماتزال تحلق في الجو, وحين سكنت المدينة ونامت عيونها, تسللت عبر النوافذ لكل البيوت واخترقت الجفون واستقرت بالحدقات , في كل عين ذرة رماد واحدة , وحين طلعت شمس يوم الثاني ومع الشهيق الاول , مرقت ذرة رماد في الصدور .. ذلك اليوم اهل المدينة بقو في بيوتهم بعيون مرمودة متورمة وصدور تسعل دما .

 

 

والمعبد, بقى مظلما .. بقى منقطعا عن السماء .

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.