اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

المتسول- قصة قصيرة// د. ميسون حنا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. ميسون حنا

 

عرض صفحة الكاتبة 

المتسول- قصة قصيرة

د. ميسون حنا

 

كنت في ذلك اليوم أشعر ألما في معدتي، لا أشكو القرحة ، ولا التهاب الأمعاء، ولا سوء الهضم، إذ لا يوجد هضم إطلاقا … هو الجوع إذن الذي يحثني لأثور على واقعي، وأقتنص سانحتي، وأحصل على ما يسد رمقي، لكن كيف وأنا أفتقد هذه السانحة التي لا تأتي، علما بأنني لا أسرق، ولا أتسول، ولكني كذلك بلا عمل، وكوني باطلا عن العمل إلا أني لست متسولا كما سبق وقلت، ولا إتكاليا ، ولا متسلقا على أكتاف الآخرين … أنا في الحقيقة طرقت أبوابا كثيرة لأحصل على عمل، ولم أكن آتخير مهنة دون غيرها، لا ،،، بل كنت مستعدا أن أعمل فجميع المهن مناسبة أمام احتياجي، وتعطشي لعمل يسكن آلام معدتي، لكن دوري في ديوان الخدمة المدنية بعيد جدا، هو في الحقيقة لا يقترب، حيث أنني كلما استطولته ، أذهب وأراجع، وأستفسر فأراه يزداد تباعدا، وأترك لكم تقدير الأسباب، والشركات تقلص من موظفيها، ولا تضيف موظفا جديدا ليكون عبئا عليها فتصرف راتبا إضافيا هي بغنى عنه، والورشات تفعل ذات الشيء في تخفيض عدد العمال لنفس السبب، ولكي أفتح مصلحة يلزمني مال، والمال معدوم بدليل أني جائع، وكرامتي لا تسمح لي أن إتسول، أكرر هذا بإصرار، وبعد تفكير. وتمحيص لمعت في ذهني مهنة لا تتطلب رأس مال، ولا شهادات علمية، ولا شهادات خبرة، ولا شهادة حسن سيرة وسلوك، ولا حتى واسطة، كل ما يلزمني أن أحمل زجاجة ماء، وقطعة قماش مبللة، وأمسح واجهات السيارات على الإشارات لأحظى ببضعة قروش تطيل أمد بقائي على حياة مهمشة أعيشها مسحوقا ، إذن هذا هو الحل الوحيد الذي وجدته بعد عناء وتسكع بين ديوان الخدمة المدنية، والشركات ، والورشات، والمحلات، والمطاعم، والمخابز، وحتى البسطات، كنت أبحث عمن يؤجرني بسطة أجلس بها على قارعة الطريق دون جدوى.

 

     وقفت على إشارة قريبة من بنك، لعل من يغادره ممتلئة جيوبه يفيض على ببضعة قروش مقابل مسح زجاج سيارته … كنت واقفا أنتظر، وإذ لمحت الإشارة حمراء هرعت نحو سيارة باشا، وباشرت عملي، بدأت أمسح الزجاج الأمامي، انتهرني صاحب السيارة ممتنعا عن تقديم خدمتي، فتوجهت لسيارة أخرى، وعندما ابتسم صاحبها استبشرت خيرا، ومسحت الزجاج بهمة ونشاط، ومددت يدي، لكن الإشارة تغيرت، وغادرتني السيارة دون أن أستلم أجري، هززت رأسي آسفا، منكسفا ،لاعنا الإشارة التي لا تمهلني الوقت الكافي، وأخذت أنتظر مزاجها لينقلب مرة أخرى لصالحي، وفعلا أضاءت حمراء متوهجة، وكررت المحاولة، ومسحت زجاج سيارة بإخلاص، وكنت حريصا لأكسب الوقت قبل أن يعتل مزاجها فتخضر، وتوجهت لصاحب السيارة قرب النافذة، لكنه ابتسم بسخرية، ورمقني باستهزاء، ثم شتمني، واتهمني بامتهان التسول المبطن، وأغلق الزجاج دوني، ولا أريد أن أحدثكم عن جرح مشاعري، فأنا من البداية رافض فكرة التسول حفاظا على كرامتي، فأصونها وأفتخر بما أملك من خلق رفيع، واحترام لذاتي، وهذه ثروتي التي لا تُسكت جوعي ولكنها تُشعرني بالرضى، ولكني الآن كمن لطمتني العتبة … فأنا حقيقة أتسول مستعملا زجاجتي وقماشتي المبللة . صدق الرجل ونبهني للحقيقة التي غابت عني عندما قررت أن أقف علي الإشارة، ثرت لواقعي اللعين، وقذفت بالزجاجة على الأرض، ورميت قطعة القماش ودستها ، وجلست على الرصيف حائرا ، ووضعت يداي على رأسي مهموما، إذ بفتاة رقيقة تمر قربي وترمي عشرة قروش أمامي، وتغادر أمام دهشتي، وعندما تمالكت نفسي نظرت إليها أريد أن أشرح لها آني لست متسولا، ومددت العشرة قروش لأعيدها إليها، لكنها لم تنتبه، وواصلت دربها، نظرت إليها متباعدة، والعشرة قروش في يدي لا تزال، ودون إرادتي سالت دموعي، كانت ساخنة، تلفح حرارتها خدي، جلست مطأطئا رأسي، والغريب أن المحسنين من المارة، أغدقوا علي برائزهم ، نظرت إذ أنا أملك ثمن كيلو من الخبر … ثم جلست في اليوم التالي، وقلت أجمع ثمن الخبز وأنطلق، لكني من حيث لا أدري، أصبحت أطيل البقاء، فأشتري مع الخبز شيئا آخر… وهكذا امتهنت مهنة كنت رافضا لها رفضا باتا، لكن الدهر قُلّب، انقلب ضدي أو معي سيان، النتيجة أنني أصبحت متسولا لامعا كما ترونني اليوم، ولم آبه لموظفي التنمية اللذين يقتادوني بين فينة وأخرى لأمتثل للقانون، وأكتب تعهدا بألا أعود للتسول، وأدفع غرامة مالية، وأٌكفل وأخرج من معتقلي لأجلس في صباح اليوم التالي مادا يدي، ممارسا مهنتي التي ألفتها مع الزمن.

 

    أنا الآن في يسر، ولم أعد جائعا، لكني فقدت آدميته واحترامي لذاتي، فقدت كرامتي التي هدرتها أمام نظرات المحسنين إذ يرثون حالي ويحتقرونني ، نعم … إذ كنت أنا نفسي أحتقرها فما بالكم أنتم؟ باختصار فقدت الرضى … فقدت ثروتي التي كنت أملكها وأنا معدم، لأغرق في ثراء مزيف، لكني لم أختر مهنتي، بل هي التي اختارتني، وكنت منقادا إليها. قد تقولون كان باستطاعتي بعد حصولي على رآس مال مناسب أن أعتزلها وأُنشيء مصلحة ما، لكني عبد مأجور، فمهنتي استعبدتني ، والعبد أسير مالكه، فلا تلوموني، ولا أطلب منكم أن تحترموني، ولكني أتمنى أن أكون مهمشا، ضعوا برائزكم بين يدي ولا ترمقوني… تجاهلوني … فقط تجاهلوني.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.