كـتـاب ألموقع

الفقيد - قصة قصيرة// د. ميسون حنا

• 

تقييم المستخدم:  / 0

سيئجيد 

المجموعة: ميسون حنا

تم إنشاءه بتاريخ الأحد, 15 آب/أغسطس 2021 10:40

كتب بواسطة: د. ميسون حنا

الزيارات: 2053

د. ميسون حنا

عرض صفحة الكاتبة 

الفقيد - قصة قصيرة

د. ميسون حنا

للفقيد الرحمة، تبودلت العبارات التي تشيد بخصال الراحل، قال أحدهم أنه طيب القلب، نقي كالثلج، وآخر نعته بالكرم والسخاء، وآخر بالتسامح والصفح عن زلات الآخرين، نعتوه بطيب المعشر، واللطف، ودماثة الخلق، وقالوا كان متميزا ومتفوقا في مهنته مما جعله من الناجحين، وكان لا يسد بابه أمام طالب حاجة سواء كانت معنوية أو مادية، حتى أن أحدهم ادعى أنه كان يراه في منامه ساطعا كنجمة … قالوا أشياء كثيرة نسيت معظمها لتوالي العبارات التي كانت تتلى على مسامع متلقي العزاء، وفكرت مع نفسي، وتذكرت أن هذه الصفات تتكرر  في كل مجالس العزاء، وتتلى بسخاء ما دام قد غادر الميت دنيانا، ولن يسمع إطراءاتنا التي بخلنا بها لنرددها على مسمعه في حياته، ولو تجردنا وذكرنا الحقيقة فسندرك أن فقيدنا كان لا يخلو من صفات سلبية تناسيناها الآن، ولكننا كنا نتناسى إيجابياته في حياته، وخصاله الحميدة التي بهرجناها هي خصاله على كل حال، ولو نزعنا عنها عبارات المبالغة التي جمّلتها في مجلس العزاء لتوافق وتتناغم مع مشاعر ذويه ومقربيه إلا أنها لا تخلو من الحقيقة، ولكننا كنا ننسى طيب خصاله في دنياه، فوجدتني من حيث لا أدري أشكر الموت لعظمته، أشكره لأنه يتيح لنا لحظات صدق نستشف فيها حميد الخصال للفقيد، ونترك عكسها ليرذلها التاريخ وينساها، ولكن العجيب أن هذا لا يتحقق، فبعد فترة من الزمن ليست ببعيدة ننسى ما قلناه أمام اللحد، ونستذكر السلبيات لفقيدنا ثم نقول: لا تجوز على الميت إلا الرحمة، وبهذه العبارة ننهي ثرثراتنا ونسد الباب على ما تخفيه آعماقنا من أحقاد، وغيرة، وكراهية، وينتهي الأمر إذا كان ينتهي.

      نظرت للجالسين في مجلس العزاء ، أخذوا يتململون بعد أن أعرب كل منهم عما في جعبته من إطراءات ومديح، وأبدوا حزنهم على الراحل، وقبل انفضاض المجلس تقدم شاب عشريني وشد على يد نجل الفقيد وقال: لا تجوز على الميت إلا الرحمة، ورمقه بنظرة ذات مغزى، فتململ نجله وشعر بحرج الموقف وفكّر، قد يكون لوالده أعداء ، ولكن أنّا لعدو من أعدائه أن يأتي لتشييعه، ٬من أين ظهر هذا الشاب؟ نظر إليه، ألفاه لا يزال يحدجه بنظرات تحمل في طياتها معاني كثيرة، قال له بتحفظ: كلامك ملغوم، ونظراتك كذلك. قال الشاب: الفقيد كان رئيسي في العمل، وقد طردني إثر فرية وصلت إليه لم يتحقق من صحتها، وأنا لدي دليل براءتي، ولم يتح لي فرصة الدفاع عن نفسي، فأنا حاقد عليه. قال نجله: نعرفه عادلا، ورئيسا محبوبا . قال الشاب: لمداهنيه هو محبوب، أما عكس ذلك فلا. تنحنح نجله متلعثما ، وتدخل أحدهم وأمسك بذراع الشاب وهمس في أذنه أن يؤجل العتاب الذي لا نفع من ورائه ما دام الراحل قد غادر دنيانا ولن يستمع لأدلة براءته كما يدعي، فليؤجل هذا إلى وقت آخر. صرخ الشاب: أعرف أني أنفخ في قربة مخرومة وقد رُفضت من عملي وانتهى الأمر، ولن يعود الفقيد إلى الحياة ليستمع إلي ولكني مخنوق، أريد أن أنفس عما أكابده من ظلم وكبت وألم، ناهيك عن فقداني لمصدر رزقي. أنا أبحث عن عمل الآن، ولكن شهادته ضدي تقف عائقا أمام تبوئي لوظيفة محترمة، فلو كنت مكاني ستلومه في مماته ، وصرخ: نعم أنا ألومه وأحمّله مسؤولية ضياعي، وأعلم أني أفعل هذا لأنفس عن بالون يكاد ينفجر في أعماقي، وأقول ها أنا أرفع أمري إلي الله ليرى ظلامتي وأنا لحكمه أنصاع. قال هذا وغادر المجلس أمام دهشة المعزين، أما نجله فقد تلعثم وشلت المفاجأة لسانه فلم ينطق بحرف، تبادل الحاضرون النظرات، ولم ينتظروا الزمن الذي افترضته في بداية سردي للواقعة ليبحثوا عن سلبياته، بل بدأ الهمس بين الجالسين، وحتما هو همس قادح لسلبيات طفت على السطح، وقد تبدو أكثر مما كنت أتوقع، حيث عجت القاعة بفوضى مكبوتة، أطرق ذوو الفقيد وقد مسهم ضيق وكرب، أما الجالسون فبعد أن ينهي أحدهم انتقاداته التي همسها في أذن جاره يرفع عقيرته بالدعاء للميت ويقول: للفقيد الرحمة.

• < السابق
• التالي >