اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

توطين الآشوريين عمل انساني واسترضائي// ترجمة وتعليق: وليم أشعيا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

 A Work of Humanity & Appeasement

GENEVA 1935

League of Nations

INFORMATION SECTION

عصبة الأمم / قسم الاعلام

جنيف ـ سويسرا ـ 1935

توطين الآشوريين عمل انساني واسترضائي

ترجمة وتعليق: وليم أشعيا عوديشو

 

الجزء الأول

مقدمة المترجم:

ضمن تأريخ العراق السياسي الحديث عانت المسألة الآشورية من تهميش وتحريف بشكل كبير من حيث تناولها بشكل غير موضوعي ومنحاز في محاولة لتشويه تأريخهم وطموحاتهم الوطنية المشروعة في العراق وطنهم الذي عاشوا فيه منذ آلاف السنين. لقد أخفي دور الآشوريين كامة في غبار الماضي وضغطوا عليه إلا انه بقي حياً بالرغم من سلسلة الكوارث والمآسي التي حلت به، ولعب دوراً مشرفاً لا سيما خلال الحرب العالمية الأولى لما كان يتمتع به رجاله من روح قتالية عالية من اجل المحافظة على حريته وكرامته بل ومن أجل رفاهية الانسانية جمعاء، ولولا الشجاعة الفائقة التي عرف بها لما بقي حتى يومنا هذا في بلدان كانت تسودها شريعة الغاب. لم يفقد الاشوريين خلال رحلاتهم المأساوية مواطنهم وممتلكاتهم وحسب، بل فقدوا ثلثي عددهم ايضاً. اما الباقون فقد قادهم المصير إلى الإحتماء تحت المظلة البريطانية والتي كانت من أقوى العوامل التي سببت ضياع أمل الآشوريين المشروع في العيش كشعب موحد في وطنهم التأريخي العراق .

منذ مذبحة سميل 1933 تقصد المؤرخون المشرقيون بشكل خاص والغربيون عموماً في إهمال المسألة الآشورية، ولعبت بريطانيا دورها السلبي من خلال عصبة الامم في عدم التوصل الى اي حل يجمع شمل الآشوريين وإسكانهم بشكل موحد في أراضيهم التأريخية ، ضاربين عرض الحائط كل القيم الانسانية ومتجاهلين مصير هذا الشعب المضطهد، لا بل أنهم باشروا في حبك سلسلة من أعمال الغدر من أجل إحتواء وتهميش المسألة الآشورية متناسين وعودهم أبان الحرب العالمية الاولى ، ولشعورهم نوعاً ما بعقدة الذنب تجاههم، اخترعوا ما سمي (مشروع توطين الآشوريين)، الذي تضمن محاولات نقل الآشوريين خارج وطنهم، وبذلك دخل مجلس عصبة الأمم في إشكالات وتعقيدات لا مبرر لها من أجل إعادة توطين الآشوريين ، وفعلاً تم نقل قسم من أبناء شعبنا وخصوصاً الناجين من مذبحة سميل 1933 عبر رحلة جديدة من المعاناة . لقد أثبت المشروع فشله التام بما واجهه من رفض بين الآشوريين لترك وطنهم اولاً، ولتكاليفه الباهضة ثانياً. وهكذا تم تقسيم شعبنا مرة أخرى، وأما القسم الذي بقي في العراق فقد عانى من الاضطهاد القومي ومحاولات سلب هويته القومية مما دفعه للهجرة خارج الوطن .

كما ويلاحظ القارىْ السياسات الطائفية والمذهبية التي مورست وما تزال ضد شعبنا وطرح قضيته من خلال إنتماء مذهبي محدد دون غيره وهذا هو شأن ساسة (فرق تسد) ، في حين إن الحقيقة التأريخية هي كون القضية الآشورية قضية جامعة للآشوريين بكافة إنتمائاتهم المذهبية والكنسية المتباينة، وساهم في مسيرته النضالية كل أبناء شعبنا، ولسنا بصدد التدليل على ذلك في هذا الموضوع فتلك حقائق لا تخفي على القاصي والداني.

كانت آثار المرحلة الاستعمارية قد انعكست على مجمل عالمنا المشرقي منذ القرن التاسع عشر وشكّل العراق والمنطقة عموماً وما تزال موقع جذب للقوى الكبرى لأسباب سياسية واقتصادية ليتعذر الفصل بين تطور الحياة السياسية والاجتماعية العراقية وسياق العلاقات الدولية الذي تركز في الغرب سابقاً، وظهور ما سمي في حينها بالمسألة الشرقية، تلك المسألة التي انطوت على تدخلات غربية تحت شعار حماية المسيحيين في الشرق الذي كان خاضعاً للدولة العثمانية وما تبعها من حروب وتداعيات. ورافق فتح الدولة العثمانية أبواب الشرق أمام البعثات التبشيرية الغربية منذ القرن الثامن عشر سلسلة من التعقيدات التي ساهمت في إشعال حرب القرم (1853-1856) بين روسيا القيصرية من جهة والدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى، ولتتفاعل تلك المواقف والتدخلات الدولية مع الأوضاع الاجتماعية والديموغرافية للمسيحيين في الشرق وخاصة لدى الآشوريون الذين انقسموا كنسياً الى عدة طوائف. وتمت تسوية المسألة الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وبما يتوافق مع مصالح الدول المنتصرة(روسيا وفرنسا وبريطانيا) وتقسيم عالمنا المشرقي الى عدة دول بموجب اتفاقية سايكس- بيكو(1915) ولذلك كان من الطبيعي أن تتفاعل المسألة الآشورية مع تطور الأحداث في شمال العراق وجنوب شرق تركيا آنذاك، وأن تصبح لاحقاً ضحية التسويات بين العراق وبريطانيا وتركيا. يجدر الاشارة هنا إلى أن الآشوريين قبل الحرب العالمية الاولى كانوا يعيشون أساساً في الامبراطورية العثمانية(العراق, سوريا, لبنان, تركيا) وفي إيران وكانوا يتمركزون في ولايات الموصل وهكاري وأرضروم ووان وأورمية والجزيرة السورية وقد أطلقت عليهم تسمية آشوريو هكاري أو آشوريو الجبال(هكاري ولاية تقع اليوم في جنوب شرق تركيا وكانت ضمن شمال بلاد ما بين النهرين سابقاً قبل تخطيط الحدود في العقد الثاني من القرن الماضي)، في حين يمثل آشوريو السهول كافة الآشوريين الذين عاشوا في المناطق الواقعة في أورمية وعينكاوا والموصل وأطرافها في سهل نينوى، وكان آشوريو الجبال لا يخضعون لكامل القوانين العثمانية وطوروا لأنفسهم نظاماً خاصاً لإدارة شؤونهم الخاصة. حيث عانى الآشوريون الكثير من حملات الإبادة والتطهير العرقي والديني وكانوا من أوائل ضحايا الارهاب المنظم وارهاب الجماعات ، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى دخل الآشوريون غمار الحرب ضد الدولة العثمانية الى جانب الحلفاء كخيار لا بد منه أملاً في الحرية والكرامة، وبالرغم من كونهم قوة قتالية غير نظامية حسب المقاييس العسكرية، إلا أن الروح القتالية العالية والمهارة التي عرفوا بها في الحروب الجبلية والمناطق التي كانوا يسيطرون عليها والتي شكلت البوابة الأكثر أماناً لتقدم القوات الروسية وعرقلة تقدم القوات التركية باتجاه آسيا الوسطى وإيران، كل تلك الأمور جعلت من دخولهم الحرب ذو أهمية سوقية في الاستراتيجية العسكرية على المدى البعيد. ولكن دخولهم الحرب كان قد جلب عليهم سلسلة من الكوارث والتي وصلت ذروتها عام (1915) مع إعلان الدولة العثمانية الجهاد المقدس ضدهم لتبدأ المذابح الرهيبة والتي استمرت لغاية عام 1920 والمعروفة تأريخياً بمذابح سيفو، والمصنفة كعمليات إبادة جماعية ضد الآشوريين والأرمن واليونانيين البونتيك، وكانت نتيجتها نزوح الآشوريون مع عوائلهم في مسيرة الموت التي توجب فيها عليهم شق طرقهم التي كان يسيطر عليها أعدائهم التقليديون باتجاه الأراضي الإيرانية ليفقدوا في تلك المسيرة حوالي ثلثي عددهم من جراء القتال المتواصل والامراض والمجاعة. وبالرغم من اعتراف بريطانيا بالآشوريين كحلفاء في الصراع ضد المانيا والدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى حسب ما جاء على لسان ممثل القوات البريطانية في قيادة ما وراء القفقاس في الاجتماع الموسع الذي عقد في مدينة أورميا الإيرانية (28/1/1917) والذي حضره الزعماء الآشوريون مع قادة عسكريون من فرنسا وروسيا إضافة إلى بيان الحكومة البريطانية (31/5/1924) والذي نص: (أن الحكومة البريطانية تنظر في حماية مصالح الشعب الآشوري واضعةً نصب عينيها الخدمات التي أدوها لقضية الحلفاء أثناء الحرب العظمى وعلاقتهم في المستقبل بالدولة العراقية، وقد قررت أن تسعى إلى مد حدودها إلى أبعد حد ممكن في الشمال لكي تستحوذ على القسم الأكبر من الشعب الآشوري). المصدر(تأريخ الوزارات العراقية/ تأليف:عبدالرزاق الحسني). إلا أن منظمة عصبة الأمم(منظمة تشكلت في 28/4/1919 من قبل الدول الموقعة على معاهدة فرساي من أجل حفظ الأمن والسلام في العالم وكان مركزها مدينة جنيف واستمرت لغاية عام 1945 لتحل محلها منظمة الأمم المتحدة ) وبريطانيا تعاملت مع المسألة الآشورية بطريقة ملتوية لتمر بمراحل معقدة وليتشتت بسببها الشعب الآشوري في المنافي. جدير بالذكر أن القضية الاشورية تم طرحها لأول مرة للمناقشة في مؤتمر باريس السلمي(18/1/1919) بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ولكن لم يتم التوصل الى أي حل منطقي لها، وكان من المقرر مشاركة وفود آشورية في المؤتمر ولكن تلك الوفود لم تستطيع الوصول كاملة الى مكان المؤتمر لأسباب سياسية والوفد الذي وصل متأخراً لم يتسنى له احراز أي نجاح يذكر بسبب إزدواجية المعايير التي أتخذها المؤتمرون وبما يؤمن مصالح الدول الكبرى فقط. وعليه فقد قرر آشوريو الجبال إعادة أراضيهم التي فقدوها بسبب أحداث الحرب بقوة السلاح، وفعلاً بدأت حملتهم العسكرية في أواسط تشرين الأول(1920) إلا أن الحملة لم تحقق أهدافها لسببين أولهما لوجستي حيث بدأ هطول الأمطار وتساقط الثلوج بغزارة وثانيهما سياسي وهو عدم رغبة بريطانيا بنجاح تلك الحملة ليتسنى لها المطالبة بولاية الموصل بعد اكتشاف النفط فيها واستخدام اراضي آشوريو هكاري كورقة للمساومة،وهكذا ضاع أمل الآشوريون في حل محنتهم في ذلك التجمع الدولي. وعندما عقدت معاهدة سيفر(10/8/1920) أوصت المعاهدة في البند رقم /62/ على كافة الضمانات لحماية الكلدوآشوريين والأقليات الأخرى المختلفة عرقياً أو دينياً المتواجدة داخل تركيا.

Article 62: The scheme shall contain full safeguards for the protection of the Assyrio-Chaldeans and other racial or religious minorities within these areas.

تضمنت معاهدة سيفر ثلاثة عشر باباً وأربعمائة وثلاثة وثلاثون بنداً ، ومن تلك البنود ما كانت متعلقة بتوزيع المناطق على الحلفاء.ولكن تلك المعاهدة ولدت ميتة ولم تحقق شيئاً يذكر وتم استبدالها بمعاهدة لوزان (24 /تموز/1923) بعد أن رفضت تركيا الاعتراف بمعاهدة سيفر. تعتبر معاهدتي سيفر ولوزان من أهم الأحداث في تاريخ الآشوريين، وبعدها تم إضافة المسألة الآشورية ومصير المهجرون الآشوريون بسبب أحداث الحرب إلى جدول أعمال مؤتمر القسطنطينية الذي عقد ضمن إطار عصبة الأمم للفترة من(19/مايس-5/حزيران/1924) وانطلاقاً من التصورات الاستراتيجية طلب ممثل بريطانيا بيرسي كوكس(الضابط السياسي الأول في العراق للفترة من 1916-1918)في ذلك المؤتمر توسيع الحدود الشمالية للعراق على حساب ولاية هكاري التي تقع فيها معظم أراضي قبائل آشوريو الجبال مبرراً طلبه بعدم رغبة الآشوريين في العيش مجدداً تحت ظل الاضطهاد ورفض تركيا القاطع في عودتهم الى أراضيهم في تلك الجبال قبل تخطيط الحدود بين تركيا والعراق بشكل نهائي. وفي السادس من آب(1924) طلبت الحكومة البريطانية من عصبة الأمم إدراج مسألة تسوية الحدود العراقية التركية ضمن جدول أعمال الدورة(30) لمجلس العصبة وحصل الاقرار بالتسوية النهائية لمشكلة الحدود في (تشرين أول من عام 1924) والذي سمي بخط بروكسل، وأصبح ساري المفعول واعتمد في حل النزاع الحدودي بين الدولتين، واعتراف اللجنة المشكلة بذلك الخصوص في ضرورة حماية الآشوريين الذين أصبحت بعض أراضيهم شمال خط بروكسل في الجانب التركي والقسم الآخر جنوب الخط في شمال العراق، وهكذا بقيت ولاية الموصل جزء من الدولة العراقية الحديثة وللأمانة التأريخية نشير هنا الى الدور المهم الذي لعبه الآشوريون وخاصة آشوريو هكاري في حسم ضم ولاية الموصل الى العراق(16/12/1925)، حيث تجلى دورهم هذا من الناحيتين العسكرية والسياسية فعسكرياً قامت الوحدات النظامية الآشورية بصد غارات القوات التركية وأصبحت القوة الوحيدة التي تحرس الحدود الشمالية في الوقت الذي كان فيه الجيش العراقي في مرحلة التكوين، وسياسياً في مطالبتهم بضم منطقة هكاري الى العراق(بالرغم من أنه لم يتم الاستجابة لذلك الطلب) إلا أنهم أثروا تأثيراً كبيراً على قرار العصبة النهائي بشأن مشكلة الموصل. وبالرغم من حل مشكلة ولاية الموصل إلا أن بريطانيا لم تنفذ التزاماتها حول ضمان حقوق القوميات العراقية التي أوصت بها قرارات مجلس عصبة الأمم والذي كان السبب المباشر في إثارة الاضطرابات والحروب الأهلية في العراق، إضافة الى النظرة القاصرة في التعامل مع التنوع القومي وآثارها السلبية على مستقبل العراق السياسي المعاصر، ومن الغريب أن بعض الكتاب والمؤرخين لا زالوا يتعاملون مع المسألة الآشورية التي كانت في مقدمة الأحداث السياسية خلال الثلث الأول من القرن الماضي في تأريخ العراق الحديث بطريقة فكرية تتطابق مع المناهج الأستبدادية للأنظمة الشمولية. استمر الآشوريون في المطالبة بحقوقهم القومية وعقدوا اجتماعاً في منطقة العمادية (حزيران من عام1932) وأصدروا وثيقة تتضمن مطالبهم في الاعتراف بهم كجزء من مكونات الشعب العراقي، ورغم كون تلك المطالب غلبت عليها صفة البساطة في محتوياتها، إلا أن بعض أفراد النخبة الحاكمة في العراق وبتأييد من بريطانيا رفضوا تلك الوثيقة، ومع قبول العراق عضواً في عصبة الأمم (في الثالث من تشرين أول عام1932) ورغم الضمانات التي قدمها ممثل العراق في العصبة حول حقوق القوميات العراقية كافة، إلا أن الأمور بدأت تسير نحو الأسوأ بخلق أجواء معادية للآشوريين وإثارة النعرات العرقية لتنتهي إلى المذابح التي طالت الآشوريون في منطقة سميل (السابع من آب عام1933) وراح ضحيتها بضعة آلاف من العزل من بينهم أطفال ونساء وشيوخ وحرق ونهب حوالي ستة وستون قرية آشورية ضمن مسلسل إرهاب الدولة المنظم. من المثير للسخرية هو مبادرة عصبة الأمم في أعقاب مذابح سميل بإصدار مشروع لتوطين الآشوريين والذي صدر كوثيقة تحت عنوان(توطين الآشوريين كعمل إنساني واسترضائي) والمتضمنة محاولات فاشلة لإعادة توطين الآشوريون الذين نجوا من المذبحة وذلك بنقلهم إلى منطقة سهل الغاب (يقع في سوريا بين اللاذقية وحماة) وفي محاولة نقلهم إلى مقاطعة(بارانا) البرازيلية وجزيرة (غويانا) البريطانية وحوض النيجر في أفريقيا الغربية والتعامل مع الشعب الآشوري وكأنه شعب لا وطن له، وهي حقيقة منافية للتأريخ كون الآشوريين من الشعوب الأصلية في بلاد ما بين النهرين وتواجدوا فيه منذ آلاف السنين وساهموا في إغناء البشرية بالحضارة التي شيدوها في العراق القديم. لقد حان وقت تسمية التطورات بأسمائها والتحلي بالشجاعة اللازمة بضرورة الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية المرحلة الراهنة وطنياً وإقليمياً ودولياً في خضم التطورات العالمية المتلاحقة، بإعتبار أن قبول الديمقراطية والتعددية السياسية والقومية والدولة المدنية كخيار لا بد منه لبناء العراق الجديد، وهذه حقيقة أكدتها أحداث تأريخ العراق المعاصر منذ ثمانية عقود من تجربة الحكم والإدارة، وليس في وسع الدولة المزمع بنائها في العراق أن تلعب أي دور سياسي إيجابي في حماية الوحدة الوطنية وحقوق القوميات العراقية إذا لم تحرر ذاتها ككيان من أي شكل من أشكال التمثيل العصبوي أو الفئوي ، أي أن وظيفة الدولة العراقية في إنصاف الجميع تبدأ من تغيير قواعد تكوين الدولة نفسها وقدرتها على تجديد نفسها من الداخل وتأمين شرعيتها في إشراك الكل في بناء الوطن باعتبار أن الوطن هو كالحرية ويجب أن يكون لكافة العراقيين.

إني على أمل أن تساهم ترجمتي هذه في تقديم خدمة متواضعة للباحثين والمهتمين بالمسألة الآشورية ليكونوا على بينة من حقيقة الوقائع والاحداث في فترة مهمة بعد الحرب العالمية الاولى.

ملاحظة المترجم :

أولاً: ان تسمية الآشوريين اينما وردت في هذا الموضوع، انما يقصد بها آشوريو هكاري فقط.

 

(الجزء الثاني)

المقدمة

لقد غيرت الحرب من وجه العالم القديم فانهارت إمبراطوريات وسلالات حاكمة وإنبعثت حريات قديمة، وظهرت للوجود حكومات ذات أنظمة ثورية. لا يوجد شعب عانى من المحن والإضطرابات مثلما عاناه الشعب الذي يحمل إسم الآشوريين، والذي وُصف بالقلة من حيث العدد ، فقياساً الى حجمهم لم يكن الآشوريين بعيدين عن المشاكل أبداً، ونظرا لقلتهم وإنعزالهم بحكم الإستيطان في المناطق الجبلية النائية،التي يصعب الوصول اليها فانهم باتوا غير معروفين للعالم الغربي حتى القرن التاسع عشر، وكما يبدو فانهم لم ينعموا بالسعادة ابداً مما جعلهم شعباً ذو سجلات تأريخية فارغة (1) كما ان فقرهم لم ينقذهم من الغزو والاعتداء من قبل الآخرين، كما لم تنقذهم قلتهم ايضا من الانشقاقات.

لقد تواجدوا لعدة قرون على هامش التأريخ، حاملين معهم اعبائه وأثقاله بعيدين ومستثنين من المجد والشهرة والمكافأة ، وعلاوة على ذلك استطاع هذا الشعب الفقير والمنقسم على نفسه وبدون اي سند ان يحمل ظلال ميراث اجداده القدامى بأمانة من جيل الى جيل آخر، ونجح نجاحاً حقيقياً في بناء أُسس إحدى اقوى الكنائس في العالم.

فهل يمكن لهذا الشعب الذي واجه عاصفة من الاقدار ان ينعم بالسعادة والسلام ؟

الصفحات التالية تبين كيف ان هناك دلائل ذات أمل وهّاج فُتحت امامهم (!!)، حيث تم الاتفاق بين عصبة الامم والحكومة البريطانية وحكومة الانتداب الفرنسي في سوريا والحكومة العراقية على وضع خطة شجاعة (2) لتذليل جميع الصعوبات وتهيئة كافة الظروف والتكاليف اللازمة لجمع شمل الآشوريين وتوطينهم في مناطق غير مأهولة بالسكان وإعادة جمعهم في مكان آمن موفرين لهم رأس المال اللازم لبدء حياة كريمة لائقة بهم.

الفصل الاول

الكنيسة الآشورية

ليس الغرض من الموضوع الدخول في تفاصيل التأريخ القديم، فالمقصود من هذا الموضوع هو تلك العلاقة بين آشوريي اليوم واولئك الذين حكموا في نينوى لوجود العديد من المؤشرات والدلائل التي تؤكد وجود هذه العلاقة.ولكن يجب علينا ان نأخذ بعين الاعتبار، ولو للحظة، سر العظمة الموجودة في الكنيسة الآشورية، ولذلك فآشوريو اليوم يعُتَبَرون وبدون شك قد نجحوا في الحفاظ على هذه الكنيسة.

اولاً: ان العظمة يجب ان تبقى بالضرورة حية في ذاكرة هذا الشعب وفي اية حال فانها وان كانت غامضة الا انها شكلت أحد العناصر الأساسية في الشخصية الاشورية.

ثانياً: انه من الانصاف الاعتراف بحقيقة الدَيّن الذي نحن مدينون به لهذه الكنيسة كإحدى المعاهد الحضارية العظيمة في الماضي، وعلى كل حال فلم يبق منها اليوم إلا القليل، يجب علينا ان نحزن ونشعر بالأسى حتى على تلك الظلال التي كانت يوما ما عظيمة، التي يجب على الاقل المحافظة عليها.

ثالثاً: انه لمن المستحسن اعادة هذه الصفحة الساحرة من التأريخ الواسع والمنسي، والى الذين يتذكرون اليوم الى أي حد وصل تأثير الكنيسة الآشورية، ليس فقط كونها انتشرت باتجاه الغرب الى سواحل البحر الابيض المتوسط بل اتجهت ايضا شرقاً الى مالبار الهندية وسومطرة والى الامبراطورية الصينية نفسها (3).حيث ان جامعاتها في نصيبين و اورهي او الرها (حاليا تسمى اورفة) كانت موجوده حتى القرن الخامس الميلادي وحتى سقوط القسطنطينية. كانت تتواجد فيها المراكز الرئيسية للعلوم الاغريقية والتي ترجمت الى لغات عدة واُرسلت الى العالم الغربي، وكان يوماً ما (25) من رؤوساء الاساقفة يدينون بالولاء للبطريركالآشوريفي هذه الكنيسة ، وحتى في القرون التي كانت في عز انتشارها وعظمتها فانها لم تتمتع بأية إمتيازات خاصة، ولم يصبها أي غرور او اغواء لتمارس قوتها السياسية. فتلك الكنيسة قد نمت وإزدهرت وترعرعت في اجواء مشحونة بالمخاطر في ظل الامبراطورية الساسانية في بلاد فارس وبعدها تحت سيطرة العرب في بغداد.

اما الايام الصعبة والمحن التي بدأت عليهم فكانت بعد (1000) سنة من المسيحية، ومنذ ذلك الوقت تعرضوا الى سلسلة من الكوارث والرعب وخاصة بعد غزو التتار، والتي بموجبها تحولت مناطقهم الغنية بالعلوم والثقافة الى بيداء مقفرة، وتأثر بذلك ايضا عدد السكان. وبعد تلك الموجة البربرية اخذ شعاع تلك الكنيسة ينحسر من الناحية العلمية شيئاً فشيئاً حتى كاد يختفي ولم تبق لها قابلية تصدير علومها عبر الحدود بعد قيام الدولة الاسلامية.

ولكن الكنيسة ظلت صامدة وأخذت تزدهر ببطء، وفي تلك الاثناء بدأ ملك التتار (ارغون) باظهار تعاطفه مع الدين المسيحي ولكن التتار لم يعتنقوا المسيحية يوماً ما ابداً. في نهاية القرن الثالث عشر أخذت فكرة تراود التتار بتشكيل إتحاد مع المسيحيين في الغرب لغزو الاراضي المقدسة. ولانجاز تلك الفكرة قام التتر بإختيار سفير لهم وهو بطريركالكنيسة الآشوريةوالذي قام بدوره بإناطة تلك المهمة الى رئيس قساوسته (صوما) لكي ينوب عنه في القيام بتلك المهمة، وقد زار السفير المعيّن مدينة روما اولاً وكان منصب البابا في ذلك الوقت شاغراً ولم يُنتخب بعد،وجرى استقباله من قبل مجلس الكرادلة، والذين قاموا بتوجيه الاسئلة اليه، وكانت تلك الاسئلة تتعلق بطريقة إيمانه. واخيرا أقنعهم بإجاباته، وسمحوا له بإقامة قداس ديني في احدى كنائس روما،وبعدها سافر الى كل من فرنسا وانكلترا وأُستقبل من قبل الملكين (فيليب) ملك فرنسا و(ادوارد الاول) ملك انكلترا، واللذان تناولا القربان المقدس من يديه.

بالرغم من أن سفرته تلك لم تسفر عن أي شيء، ولكن مع ذلك يجب علينا ان نتذكر سفرته الطويلة الى اوربا الغربية واقامته القداس امام الكرادلة الرومان وامام ملوك فرنسا وبريطانيا، حيثأُقيم ذلك القداس باللغة الآرامية وهي اللغة التي تكلم بها السيد المسيح له المجد.مع إقتراب القرن التاسع عشر بدأ دور الكنيسة الآشورية بالانحسار وإقتصرت على مجموعة من القبائل الجبلية التي كان يقودها البطريرك روحيا وقبلياً. ان عدم قدرة الكنيسة على المقاومة يعود الى جملة من الاسباب منها الغزوات المتعددة التى مرت على الشعب الآشوري، وكذلك التغييرات التي حصلت في بلاد ما بين النهرين، وبداية إنتشار الاسلام وانقسام الكنيسة مما أدى الى شل قدرتها على المقاومة، ولكن مع هذا يجدر بنا ان نعترف بالشجاعة الفائقة والاصرار على المقاومة لقرون طويلة مما أدى الى المحافظة على تراثهم القديم ككنيسة وشعب والبقاء الى يومنا هذا.

خلال القرن التاسع عشر كان القسم الرئيسي من الشعب الآشوري يعيش في المناطق الجبلية في هكاري (تركيا) وشمال فارس في منطقة (اورميا)، وكان البطريرك مار شمعون رئيس الكنيسة ورئيس جميع القبائل الموجودة هناك ويتولى قيادة السلطتين الدينية والدنيوية ، وعلى ذلك الاساس كانتالسلطات التركيةتتعامل معه كزعيم. لقد بُذلت بعض الجهود في مساعدة تثقيف تلك المجموعة المسيحية الصغيرة من قبل الكنيسة الغربية في بداية هذا القرن (4)، ولكن مع بداية الحرب العظمى فان وضعهم العام اخذ يتدهور بسرعة، حيث تقلصت مناطقهم وضعف نفوذهم، وبذلك تعتبر أحداث الحرب هي السبب الاول في وضعهم المأساوي في الوقت الحاضر ، ويتوجب على المؤرخين الحكم بإنصاف عن المسؤولين عن الوضع الحالي للآشوريين والآثار الناجمة عن هذا الوضع .سوف نعتبر انفسنا مقصرين في حالة تناول وسرد هذه الرواية بإختصار كواقعة بسيطة فقط .

 

هوامش المقدمة والفصل الأول:

المترجم(1): من الواضح ان هذا التعبير يتجاهل الدور الآشوري في بناء الحضارة الانسانية سواء من خلال الإمبراطورية الآشورية القديمة (2025- 2600 قبل الميلاد)، والإمبراطورية الآشورية الوسطى (934-1392 قبل الميلاد)، والإمبراطورية الآشورية الحديثة (609- 911 قبل الميلاد) ولغاية سقوط نينوى 612 قبل الميلاد. او من خلال الدور المشرف في المجالات الثقافية والادبية والفلسفية وحتى القرون الوسطى.

المترجم(2): لاحظ كيف ان الغرب المدافع عن حقوق الانسان يذكر بوضع خطة يصفها بالشجاعة؟ علما ان للآشوريين الحق التأريخي الكامل للعيش في وطنه الاصلي العراق، وان احد اهم الاسباب التي ادت الى تشتت الآشوريين هي دسائس الحكومة البريطانية والحكومات العراقية المتعاقبة.

المترجم(3): وصلت المسيحية إلى الصين خلال عهد سلالة تانغ (618-907 ميلادية) مع وصول البعثات التبشيرية لكنيسة المشرق النسطورية عام 635 ميلادية . ومن غير المستبعد أن عدداً من تلك البعثات كانت قد وصلت إلى الصين في الفترة التي سبقت سلالة تانغ ، ويُعتقد أن النشاط التبشيري لكنيسة المشرق في آسيا بدأ أواخر القرن الرابع الميلادي، وحازت كنيسة المشرق في النصف الثاني من القرن الثامن على تعاطف عدة مسؤولين صينيين ، وأن الآشوريين النساطرة قاموا بترجمة كتاب العهد الجديد بأكمله بالإضافة لعدة أسفار من العهد القديمالى اللغة الصينية، ونشر المسيحية في أوساط الترك وسكان ساحل ملبار بالهند.

المترجم(4): ان الجهود التي بذلتها الكنيسة الغربية لم تكن لمساعدة و تثقيف ابناء شعبنا وكنيستنا بل كانت بمثابة صافرة البداية للفواجع التي أصابت الآشوريين, حيث قامت الكنيسة الغربية وعبر إرسالياتها بتجزئة الآشوريين الى مذاهب وطوائف عديدة وقامت بإثارة الآغوات الاتراك والكوردضد الآشوريين وخلق العداوة بينهم، وبالرغم من كل ذلك إستطاعت الكنيسة الآشورية في مواجهة كافة محاولات التبعية للكنائس الغربية بمختلف توجهاتها.

 

الفصل الثاني

الآشوريين في العراق

أ ـ نزوح الآشوريين من مناطقهم الجبلية:

دخلت تركيا الحرب العالمية الاولى في شهر تشرين الثاني1914 ، وبما أن الآشوريين كانوا في ذلك الوقت تابعين للحكومة التركية ومقيمين في جبال هكاري التابعة لولاية (جوله مرك) فقد انزلقوا الى دوامة الحرب في ربيع عام 1915, وشاركوا في العمليات القتالية الى جانب روسيا وحلفائها واعلنوا رسمياً بانهم في حالة حرب مع الحكومة التركية.

بالرغم من شجاعتهم الفائقة وروحهم القتالية العالية،إلا أنهم واجهوا سلسلة من الكوارث والصعوبات الرهيبة، لذلك قرروا ترك ديارهم الجبلية واللجوء الى منطقة اورميا في ايران التي كانت تحت سيطرة القوات الروسية آنذاك، ولكن بعد قيام ثورة اكتوبر عام 1917 في روسيا انهارت الجبهة الروسية في ايران وانسحب الجيش الروسي الى بلده بأوامر من قادة الثورة البلشفية، فوجد الآشوريون انفسهم في مأزق آخر مجدداً ومجردين من أية مساعدة خارجية ومحاطين باعدائهم التقليديين من كل جانب ، وخلال هذه الفترة القاتمة اصبح وضعهم غير قابل للتحمل نهائياً في ايران ، لذلك قرروا في صيف عام 1918 التوجه نحو بلاد ما بين النهرين. من هنا بدأت الهجرة الثانية حيث تحرك شعب بكامل مقاتليه وشيوخه ونسائه وأطفاله في رحلة شاقة لقطع مسافة تزيد عن (300) ميل عبر الجبال، فعانوا من الجوع والحر والامراض التي تفشت بينهم مثل (الكوليرا، التايفوئيد، والحصبة) مما ادى الى القضاء على اكثر من نصفهم، حيث كان الشيوخ والاطفال الذين يصابون بتلك الامراض يُتركون على حافة الطريق ليلاقوا مصيرهم المحتوم خوفاً من انتشار عدواهم الى بقية الناس، بالاضافة الى هذا تعرض هذا الشعب ايضا اثناء الرحلة الشاقة الى هجمات قتالية من قبل الاتراك والفرس وبعض العشائر الكوردية، إلا أنهم استطاعوا التصدي لها ببسالة حتى وصلوا الى همدان ودخلوا الاراضي العراقية.

قامت القوات البريطانية بنصب مخيم كبير لهم في بعقوبة لغرض إسكانهم بشكل مؤقت ولمدة ثلاث سنوات ، وبعدها بُذلت الجهود لغرض اعادتهم الى موطنهم الاصلي في جبال هكاري، ولكن هذه الجهود باءت بالفشل بعد قرار مجلس عصبة الامم في نهاية عام 1925 وذلك بجعل منطقة (هكاري) تحت حماية تركيا والى الابد. (1)

لم تكن المعاناة مقتصرة على الآشوريين الذين نزحوا من تركيا فقط بل شملت جزءً لا يستهان به من آشوريي ايران والآشوريين الذين كانوا يعيشون أصلاً في الأراضي العراقية، حيث تركوا مناطقهم أيضاً بسبب الحرب العالمية الأولى. ولكل هذه الاسباب وجد البريطانيون انفسهم مسؤولين مباشرة لإيجاد حل لهذا الشعب المنكوب ، لذلك راودتهم أول فكرة تتلخص في العمل على لم شمل الآشوريين في ولاية الموصل التي كانت جزء من ولاية هكاري التركية آنذاك ومن ثم منحهم الحكم الذاتي ، ولكن هاتان الفكرتان سرعان ما تبخرتا عن التطبيق لعدم قناعة البريطانيين بإمكانية إلحاق جزء من ولاية هكاري بالعراق(2). وليس من الضروري الدخول في تفاصيل المناقشات التي حصلت بين عامي 1923-1925 لإنهاء تخطيط الحدود بين العراق و تركيا.

حصلت الموافقة على إنهاء تخطيط الحدود بين العراق وتركيا بطريقة ودية وذلك في مؤتمر لوزان عام 1923، على ان يتم ذلك خلال فترة زمنية أمدها تسعة اشهر، وفي حالة عدم التوصل الى حل نهائي خلال الفترة المذكورة، يجب احالة الخلاف الى عصبة الامم. وبما ان كافة الجهود التي بُذلت لانهاء الخلاف في مؤتمر القسطنطينية في ربيع عام 1924 باءت بالفشل، فقد تم طرح المسألة امام عصبة الامم في شهر ايلول 1924، حيث نوقشت على شكل جلسات استثنائية في مدينة بروكسل لتحديد الحدود بطريقة يتم القبول بها من قبل الطرفين، وتم إتخاذ قرار بإرسال لجنة خاصة لتحديد الحدود بين تركيا والعراق، وتم الاتفاق على الخط الذي يفصل الحدود بين البلدين والذي أُطلق عليه اسم خط بروكسل، وتم إقراره في عصبة الامم في كانون الأول 1925. في نفس السياق أوصت اللجنة المعنية بالحدود أن تمدد الحكومة البريطانية الانتداب على العراق لمدة خمسة وعشرين سنة ، لأن تجربة الحكومة العراقية حديثة العهد، وتم هذا الاقرار في معاهدة التحالف بين العراق وبريطانيا والتي سوف تستمر لمدة 25 سنة ما لم يتم الاعتراف خلال فترة الانتداب بالعراق كعضو في عصبة الامم، آخذين بنظر الاعتبار مسألة الآشوريين والاقليات الاخرى، وهذا الاقتراح حصلت الموافقة عليه من قبل الحكومة البريطانية في الاجتماع المعقود بتاريخ 16 كانون الاول عام 1925 في مجلس عصبة الامم.

إذا كان هناك أي أمل يراود ذهن الآشوريين في إحتمال عودتهم الى مناطقهم الجبلية السابقة والتي نزحوا منها بسبب إندلاع الحرب العالمية الأولى والنتائج المأساوية التي تحملها هذا الشعب، فقد خاب ذلك الأمل وذهب ادراج الرياح و تبدد نهائياً بعد إعلان المعلومات التي وردت من القنصلية التركية العامة في بغداد وبشكل رسمي في 25 حزيران 1928 والتي تقتضي بما يلي :

" ان قانون العفو التركي لا يشمل الآشوريين ولا يسمح لهم وتحت اية ظروف بالعودة الى مناطقهم الجبلية وأي آشوري يحاول العودة مجدداً سيتم معاقبته بشدة " . (3)

ب ـ محاولة اسكان الآشوريين في العراق :

بات من الضروري مواجهة الإمكانيات والمحاولات المتوفرة لإيجاد وطن (!) لإسكان الآشوريين بعد قرار عصبة الامم ، ويتم ذلك من خلال البحث داخل الحدود العراقية، لان مسألة الاسكان اصبحت صعبة جداً من حيث الموارد المالية، والاراضي المخصصة للسكن باتت محدودة، بالاضافة الى الشعور بعدم الرضى بالسكن في بعض المناطق التي يسكنها العرب، إذ أن هذا الشعور نابع من الاعتقاد بان الأقلية المسيحية غير مؤهلة للسكن، وكذلك عدم قبول السكان المجاورين للسكن معهم في هذا البلد. حيث اعتبروا عملية إسكان الآشوريين هي عملية إنحياز مغالى فيها من جانب سلطات الانتداب البريطاني للآشوريين ، وكذلك يجب ان تؤخذ الامكانيات الآشورية بنظر الاعتبار لتسهيل هذه المهمة الشاقة التي كانت تواجهها الحكومة العراقية ، وفعلاً بُذلت جهوداً كثيرة وأُخذ ايضاً بنظر الاعتبار المناطق المهجورة وغير المأهولة بالسكان لهذا الغرض ومنحهم تسهيلات جيدة من الحرية اللازمة لإدارة شؤونهم الذاتية.

في عام 1927 تم تعيين موظف خاص لمراقبة توطين الآشوريين في العراق، وبنهاية عام 1930 تم احصاء حوالي (300) عائلة لم يتم إسكانها بعد. في الحقيقة ثبُت بأنه من المستحيل إيجاد أية طريقة لإسكان الآشوريين في مجتمع واحد متجانس. ولكن هناك بصيص من الأمل قبل نهاية عام 1932. وربما توجد إمكانية لإسكانهم إذا وجدوا أنفسهم قد تكيفوا في كيان العراق السياسي.

ج ـ إنهاء الانتداب البريطاني على العراق:

في شهر ايلول عام 1929 ألمحت الحكومة البريطانية لاول مرة بإنهاء إنتدابها على العراق في نهاية عام 1932، وفي هذا التأريخ يجب الاعتراف بالعراق كدولة ذات سيادة مستقلة غير منحازة وتُقبل عضويتها في عصبة الامم. إن هذا الاعلان أثار بعض الشكوك في نفوس الاشوريين والاقليات الاخرى حول السؤال المصيري عن مستقبلهم في العراق، حيث تمت مناقشة ودراسة هذا الموضوع بعناية كبيرة من قبل اللجنة المنبثقة من قبل حكومة الانتداب ومجلس عصبة الامم خلال السنوات التي تلته ، ومن المؤكد بان مجلس عصبة الأمم لم يكن يتوقع انهاء الانتداب بهذه السرعة اثناء قيامه بتثبيت الحدود عام 1925.

لقد أُعطيت وعود مؤكدة حول ضمان حقوق الآشوريين والاقليات الاخرى في حرية التعبير والعقيدة وتوفير الحماية لهم من قبل حكومة الانتداب والمسؤولين العراقيين انفسهم ، ولكن لسوء الحظ وبسبب الاحداث التي حصلت آنذاك فإن الحماية التي وُفرت لهم لم تكن كافية وخاصة في المناطق الجبلية ، والاحداث التي وقعت كانت مؤسفة ومؤلمة ولم يكن لاحد القدرة على التنبؤ بحصولها ولولاها لاستطاع الاشوريون ان يتواجدوا داخل مملكة العراق بشكل طبيعي وآمن.

د ـ المحاولة الاخيرة لإسكان الآشوريين في العراق:

في الوقتالذي اصبح فيه العراق عضواً في عصبة الامم، تلقى مجلس العصبة عريضة من الآشوريين يطلبون فيها ان يتم نقلهم الى دولة اخرى وبحماية خاصة،أو البدء بإسكانهم في العراق كمجموعة واحدة متجانسة وضمان منحهم حكم ذاتي وإداري، وبالرغم من كافة الصعوبات فقد كانت المحاولة جارية. وبناءً على ذلك قام مجلس عصبة الامم في ايلول 1932 باستدعاء خمسة من اعضائه لاجراء دراسة دقيقة حول هذا الطلب.

بعد ذلك وعلى إثر الدراسة التي قُدمت من قبل الاعضاء الخمسة تبنى مجلس العصبة وجهة نظر لجنة الانتداب بأن "حاجة الاشوريين لحكم ذاتي داخل العراق لا يمكن قبولها ". وهذه المسألة اصبحت ولفترة طويلة إحدى نقاط الخلاف بينهم وبين الحكومة العراقية. ان الآشوريين كأمة وكنيسة عاشوا ولعدة قرون كمجموعة منعزلة، واستطاعوا ان يطوروا لانفسهم نظام حكم ذاتي تحت قيادة بطريركهم (مار شمعون) ، وعليه فالظروف داخل العراق الجديد هي مختلفة عما اعتادوا عليه وأن عزلتهم اصبحت شيئاً من الماضي البعيد، ووجود الحكومة المركزية جعل من نفوذ زعمائهم غير ضروري. وليس من السهولة معرفة حدود السلطة الروحية بوضوح وبشكل دائم ، في الحقيقة برزت خلافات خطيرة حول السلطة المؤقتة للبطريرك الآشوري مار شمعون ، حيث تمثلت إحدى الصعوبات بعدم التوصل الى حل وسط، ولكن في كافة الاحوال لم يكن في الامكان العثور على منطقة لإسكان الآشوريين كمجتمع موحد وعليه فإن أول مطلب لهم لم يتم تحقيقه.

بالرغم من ذلك فقد جرت محاولة أخرى لإسكانهم ، وتقدمت الحكومة العراقية بطلب إلى مجلس عصبة الامم بضرورة تعيين خبير اجنبي لمساعدتها في استيطان الآشوريين، على أن يبذل قصارى جهده لإسكانهم في مجتمع متجانس وموحد ، ولهذا الغرض تم إختيار الرائد تومسن وهو موظف ذو خبرة جيده تم استدعاؤه من السودان وعُيّن لدى الحكومة العراقية ووصل الى الموصل في مايس 1933.

لا يمكن القول هنا وبأية حال بان كل الاشوريين ابدوا موافقتهم الكاملة للجهود المبذولة بالنيابة عنهم ، فالصعوبات لم يتم إزالتها إنطلاقاً من حقيقة تمثلت بكون مار شمعون نفسه كان محتجزاً في بغداد خلال هذه الفترة بسبب إتهامه الحكومة المركزية العراقية بعدم منح الآشوريين الحقوق والحرية التي يجب ان يتمتع بها شعبه في العراق.

 

هوامش الفصل الثاني:

المترجم(1): لا نغالي الحقيقة اذا قلنا بانه ليس هناك شعب عانى مثل الشعب الآشوري من قهر واضطهاد، حيث بدأ الهجرة الاولى بعد سقوط عاصمته نينوى عام 612 ق.م وبقي قسم منهم حول نينوى ولا يزال لحد الآن، اما القسم الآخر فاتجه نحو المناطق الجبلية في ولاية هكاري داخل تركيا والتي كانت أصلاً جزء من شمال بلاد ما بين النهرين قبل تخطيط الحدود بين العراق وتركيا، وبدأ هجرة ثانية باتجاه ايران ثم هجرة ثالثة باتجاه العراق، وفي أيامنا هذه هاجر اكثر من نصفه الى جميع انحاء العالم بحثا عن الحرية والكرامة.

المترجم(2): كعادة الانكليز، لم ينفذوا ما وعدوا به ، ففي الوقت الذي كانوا يقنعون فيه قادة القبائل الآشورية التي نزحت بسبب أهوال الحرب العظمى بإسكانهم في مناطقهم الاصلية في ولاية الموصل والتي كانت جزء من ولاية هكاري آنذاك ، لم يلتزموا بذلك بعد تخطيط الحدود بين تركيا والعراق، إذ لم يضعوا مناطقهم الجبلية التي كانت تقع في هكاري داخل الحدود العراقية كإحدى أوراق المساومة مقابل عدول تركيا في مطالبتها بولاية الموصل الغنية بالنفط.

المترجم(3):ليس هنالك داع للدخول في التفاصيل لان القارئ يستطيع وبكل سهولة ان يستنتج كيف ولماذا اصدرت الحكومة التركية في ذلك الوقت بيان العفو والذي ينص بأنه ليس للآشوريين الحق بالعودة الى مناطقهم الجبلية وتحت مسمع وأمام انظار العالم والحكومة البريطانية بالذات ؟ فبريطانيا هي التي صاغت البيان لاسباب سياسية يعرفها ابسط متتبع لسلسلة الاحداث التي فرُضت على الشعب الآشوري آنذاك، اضافة الى كل ذلك يمكن القول بان مقررات مؤتمر لوزان وما اعقبها من معاهدات وتطورات وخاصة المتعلقة منها بمشكلة ولاية الموصل سارت كلها ضد مصالح شعوب المنطقة، وسويت الخلافات بين الغاصبين على حساب حقوقهم، وتم حل ما سمي حينها بمشكلة ولاية الموصل واستقرت سياسة الاستعمار البريطاني في الشرق الاوسط وتحقق له ما اراد.

 

(الجزء الثالث)

الفصل الثالت

البحث عن بلد جديد

أ ـ احداث آب 1933:

وقعت سلسلة من الاحداث الخطيرة خلال شهري تموز وآب 1933 انهت بصورة قطعية المحاولة الاخيرة لاسكان الآشوريين، ولعدم قناعة الآشوريين بالطريقة التي كانت الحكومة العراقية تنفذ بها طريقة إعادة اسكانهم، مما دفعهم الى محاولة ترك العراق وبسرعة، فقد قرر قسم من القادة الآشوريين ترك الاراضي العراقية وعلى مسؤوليتهم الخاصة وبدون اي سابق انذار لهم. حيث قامت مجموعة يتراوح عددها بين (800 ـ 900) آشوري بعبور نهر دجلة مع اسلحتهم الى سوريا بتأريخ (22 تموز 1933)، وفور دخولهم الى سوريا جُردوا من اسلحتهم وبعدها اعيدت إليهم وعادوا عابرين النهر الى داخل الاراضي العراقية بتأريخ (5 آب 1933) لغرض جلب عوائلهم معهم الى سوريا، واثناء عودتهم كانت هناك مجموعة من القطعات العسكرية العراقية التي تم إرسالها الى المنطقة الحدودية لغرض تجريدهم من السلاح، لذلك حصل صدام وتبادل اطلاق النار بينهما، فوقعت معارك متقطعة وسقط من جراء ذلك عدد من القتلى والجرحى من الجانبين. وفي نهاية هذا الصدام غير المتوقع عاد (550) آشوري الى سوريا. في هذا السياق ليس من الضروري وصف تأثير هذه الاحداث على الآشوريين وفي صفوف الشعب العراقي، فالغضب والانفعال شمل الجانبان، وروجت في عموم البلاد إشاعات مُبالغ فيها. وخلال بضعة ايام لاحقة وبحلول يوم (11 آب 1933) وصلت الاحداث ذروة خطورتها( المذابح بدأت يوم 7 آب 1933 وبلغت ذروتها يوم 11 آب 1933/ المترجم). ففي مكان يُدعى (سميل) قتل بضعة مئات من الآشوريين ( الارقام الحقيقية للشهداء الآشوريين قدرت ببضعة آلاف / المترجم ) (1)ووقعت عمليات السطو والنهب والقتل في القرى الآشورية المجاورة وإستمرت لعدة أيام متتالية، وهنا ليست الغاية من هذه القصة إلقاء اللوم على ما حص خلال الأحداث ، إذ أبدى ممثلوا الحكومة العراقية في مجلس عصبة الأمم تذمرهم وأسفهم بسبب الأحداث التي وقعت داخل بلدهم، واعلنوا بأن حكومتهم عازمة على إتخاذ كافة الخطوات من أجل تحسين وإصلاح أحوال الذين عانوا من تلك الأحداث ورعايتهم بدون تمييز، وقد بذلت قصارى جهدها من أجل تأمين حياتهم وإتخاذ التدابير اللازمة لكي لا تتكرر مثل تلك الأحداث المؤسفة والتي قيل عنها بأنها أحداث خلقت وضعاً يصعب فيه إيجاد أي علاج محلي لها(2).

ب ـ الأعلان عن تشكيل لجنة في عصبة الأمم:

لقد أخذت جميع المشاكل إطاراً جديداً وأصبح من الواضح أنه ليس بمقدور الحكومة العراقية والآشوريين أنفسهم تجنب الإستنتاج الذي يظهر ان بذل أية جهود إضافية، ومهما كانت صادقة، ليست كافية لبلوغ حل مقنع لهذه المشكلة. ان مجلس عصبة الأمم الذي تابع الأحداث بقلق وإهتمام بالغ كان متفقاً بالإجماع على نفس الفكرة، ولذلك فعندما صرح رئيس الوزراء العراقي بأن كل ما جرى في العراق هو لصالح ضمان سعادة الآشوريين وللمحافظة على سمعة العراق، فمن الضروري البحث عن مكان آخر جديد للآشوريين الذين يرغبون في المغادرة وترك العراق، او الذين لا يرغبون العيش بسلام داخل العراق والإندماج في الكيان العراقي،والحكومة العراقية مستعدة لتقديم المساعدة اللازمة وحسب الإمكانات المتوفرة، وكذلك سوف تستغيث وتستنجد بمجلس عصبة الامم لإكمال ما لا تستطيع عمله حول موضوع البحث عن مكان خارج العراق ليكون مفضلاً لإسكان الآشوريين، وبالرغم من أن مجلس العصبة يدرك مسبقاً الصعوبات التي ستنجم عن تلك المهمة إلا أنه لا يرفض ذلك، وبناءً على ذلك تقرر تشكيل لجنة بتأريخ 15 كانون الاول 1933 مؤلفة من ستة أعضاء، كل عضو يمثل دولة معينة لتقديم مشروع مفصل بالتعاون مع الحكومة العراقية حول إسكان الآشوريين في مكان آخر غير العراق للذين يرغبون المغادرة، وتألفت اللجنة من :

1. م. لوبيز أوليفان ( اسبانيا) رئيساً.

2. م. وليم يوربيرك (الدانمارك) نائباً للرئيس.

3. م. ديناتو يوفاسكوبا ( ايطاليا) عضواً.

4. م. دي يانغيو ( فرنسا) عضواً.

5. جـ.ك. ستيرندال بينيت ( المملكة المتحدة) عضواً.

6. م.م.تيلو ( المكسيك) عضواً.

كان مفهوماً لدى الآشوريين من الذين قرروا البقاء في العراق بانهم سيستمرون بالتمتع بالضمانات التي قدمها العراق الى عصبة الامم، ويبقون ملزمين بالتعهد في الاخلاص والولاء للحكومة العراقية. من جانبها قدمت الحكومة العراقية التأكيدات الكافية لضمان أمن الآشوريين وانها على وشك إنهاء الخطط لنقل الآشوريين الى مكان آخربالاتفاق مع عصبة الأمم، وتم تشكيل لجنة محلية برئاسة الرائد (تومسون) ليشرح من خلال تلك اللجنة فيها للآشوريين ما تم إتخاذه في جنيف من اعمال. وهذه اللجنة التي كانت تضم ممثلين من لجنة مجلس العصبة أصبحت فيما بعد مسؤولة بشكل مباشر عن إستشارة الآشوريين وتنظيم عملية مغادرتهم من العراق. في هذه الاثناء قامت الحكومة العراقية ببناء مخيم في الموصل والذي ضم ما يقارب (1500) عائلة معظمهم من النساء والاطفال اليتامى والمهجرين من اماكن سكناهم بسبب أحداث آب 1933 ، وكان مجلس العصبة على اطلاع مستمر وكامل حول مجريات الامور داخل المخيم ويقوم بمساعدة وتذليل الصعوبات التي يعاني منها سكان المخيم.

بعد مرر سنتين على اقامة المخيم، تم اقفاله في شهر حزيران عام 1935 عندما تم اجلاء آخر نزلاء المخيم الى محل سكناهم المؤقت على ضفاف نهر الخابور في سوريا.

ج ـ الاستيطان في الخابور:

ان الاشوريين الذين حصلوا على اللجوء في سوريا بعد احداث آب 1933 والذين بلغ عددهم (550) شخصاً سكنوا بشكل مؤقت في اعالي وادي الخابور. وبعد مرور بضعة اشهر حصلت الموافقة على إلحاق زوجاتهم وأطفالهم وبعض الاقارب بهم إنسجاماً مع الموافقة التي حصلت بين كل من مندوبي الحكومة الفرنسية والحكومة العراقية. وكان معظمهم من مخيم الموصل ، وبناء على الطلب المقدم من قبل الحكومة الفرنسية فقد قام السيد م. برونير ممثل دائرة نانسين للاجئين في سوريا حاملاً على عاتقه اسكان هؤلاء اللاجئين بالتعاون مع النقيب دوبريز المندوب الاعلى للحكومة الفرنسية. بحلول شهري أيلول وتشرين الأول من عام 1935 تم بناء ثلاثة قرى تستوعب إسكان جميع الآشوريين اللاجئين فيها قبل حلول موسم الامطار. قام السيد م. لوبيز اوليفان رئيس لجنة عصبة الامم بوضع الترتيبات اللازمة مع الحكومة العراقية في حزيران عام 1935 لنقل (340) من النساء والاطفال الذين لا زالوا في مخيم الموصل، واختير أيضاً حوالي ألف شخص من بين الآشوريين الاكثر فقراً القاطنين في الموصل لنقلهم واسكانهم في منطقة الخابور. فاصبح من الضروري تزويد هذا العدد من السكان بمحطات ضخ الماء والتي يمكن بواسطتها ارواء مساحة تزيد عن (1000) هكتار.

وفي هذا الوقت بدأ المهاجرون الآشوريون بحراثة الاراضي لزراعتها بالخضراوات كما تم تجهيزهم بعدد من المواشي كالابقار والاغنام والماعز لان المناطق المجاورة لهم كانت مراعي خصبة لتربية تلك المواشي كما تم ايضاً بناء طاحونتين للمهاجرين لغرض تزويدهم بالدقيق.

في شهر ايلول من عام 1935 تم جلب المزيد من الآشوريين الى منطقة الخابور حتى بلغ عددهم الاجمالي حوالي (6000) شخص، وان هذه المحاولة الاخيرة لنقلهم الى منطقة الخابور أدت الى الهيمنة الكاملة على مستوطنة الخابور من قبل أبناء العشائر الآشورية، ولقد خُطط لهذه المستوطنة لتبقى وقتاً لا يقل عن (4) سنوات لحين انهاء عملية اصلاح الاراضي في منطقة (الغاب) (3) في سوريا.

د. إرسال وفود الى البرازيل وجزيرة (غويانا) البريطانية:

كانت لجنة عصبة الأمم تفتش منذ شهر تشرين الأول عام 1933 حتى منتصف علم 1935 عن مكان مناسب لاسكان الآشوريين في جميع انحاء العالم، وكرّست اللجنة اهتمامها وبالتعاون مع الحكومة البرازيلية في ربيع علم 1934 لإمكانية إسكانهم في مقاطعة (بارانا) البرازيلية (4) , حيث ان هذا المكان المزمع إسكانهم فيه كان مدار بحث وتمحيص بموجب تقرير ارسله القنصل السويسري في العاصمة البرازيلية، والذي كان منتدباً من قبل حكومته في وقت مبكر للبحث نيابةً عن دائرة نانسين (الدائرة الخاصة باللاجئين/المترجم)، وكان من الضروري التأكد من الظروف المناخية والطبيعية والظروف الاخرى في مقاطعة (بارانا) لتتلائم مع الآشوريين بحيث يستطيعون التكيف مع تلك الظروف ليساهموا في تطوير المقاطعة. لدراسة تلك الظروف قامت اللجنة بالرسال العميد (براون) الذي كان احد قادة الفرق العسكرية الآشورية (الليفي) (5) في العراق لعدة سنوات، وكان هذا القائد ملماً بحاجة الآشوريين من متطلبات العيش في تلك المنطقة وعلى معرفة بالطبع والشخصية الآشورية، وثمة مؤشرات جيدة لنجاح خطة الاسكان. لقد تبين من خلال تقارير العميد (براون) ومساعده (جونسن) السكرتير العام لدائرة نانسين في البرازيل للفترة من شباط الى مايس 1934، ان المنطقة المختارة تصلح لاسكان الآشوريين مع الاخذ بعين الاعتبار الخطط الخاصة لنقل الآشوريين الى البرازيل من قبل اللجنة المختصة، ولكن تم التخلي عن تلك الخطة بسبب قيام البرلمان البرازيلي بوضع قيود حول قانون الهجرة الى البرازيل مما حال دون تنفيذها. اصبح الآن واضحاً بأن الآمال التي راودت الآشوريين قد تبخرت بسرعة وسوف يُجبرون على البقاء في العراق لفترة اطول مما كان متوقعاً، ولهذا السبب قامت لجنة العصبة بالكتابة الى الحكومة العراقية تناشدها بالحاح للعمل على حفظ وصيانة أمن الآشوريين وتقديم يد العون لهم ، كما استجابت عدة حكومات للاستغاثة المقدمة من قبل لجنة العصبة وخاصة حكومتي المملكة المتحدة وفرنسا والتي اقترحت إسكان الآشوريين في جزيرة (غويانا) البريطانية (6) وحوض (النيجر) في افريقيا الغربية (7) ، وبعد اجراء الدراسة الأولية تقرر مبدئياً إرسال وفد الى (غويانا) البريطانية. تألف الوفد من العميد براون والدكتور جكليولي عضو المعهد الزراعي للمستعمرات الملكية في فلورنساالإيطالية، وكان يملك خبرة جيدة حول (غويانا البريطانية) لانه كان أحد أعضاء البعثة العلمية الايطالية التي زارت غوياناعام 1931.

واخيراً قام الخبيران بزيارة تفقدية للمستعمرة المقرر اسكان الآشورين فيها خلال شهري تشرين الثاني وكانون الاولعام 1934، حيث قطع الخبيران مسافة تقدر بـ 2000 ميل مشياً على الأقدام وعلى ظهر الحيوانات كما قطعا مسافة (700) ميل بواسطة القوارب الصغيرة عبروا خلالها عدداً من الانهر وواجهوا صعوبات خلال ابحارهم بسبب جريان الانهر وتواجد عدد كبير من الاشجار المتساقطة فيها، كانت البلاد تمتلك مصادر مائية جيدة، والطقس يبدو مناسباً والوضع الصحي بشكل عام جيد، مما ترك انطباعاً مشجعاً نسبياً لاسكان الآشوريين ، كما انهم سيستطيعون تكييف انفسهم لزراعة المحاصيل التي تنمو في تلك البلاد. وبعد اجراء دراسة بشكل دقيق ظهر بشكل جدي وجود بعض الصعوبات والمشاكل المهمة، ومن بينها تلك التي كانت اكثرها وضوحاً هي مشكلة المواصلات ، وعلى أية حال سوف يبدأ العمل بالمشروع بعد اجراء المزيد من البحث عن بعض النقاط ودراستها تدريجياً على اسس اجراء التجارب عليها لتكون منطقية.

ه ـ زيارة رئيس اللجنة المنبثقة من مجلس العصبة لسوريا والعراق:

نظراً للامكانات المحدودة للاسكان في غويانا البريطانية، توصلت لجنة مجلس العصبة الى استنتاج مفادهبعدم إمكانية قبول مشروع الاسكان الذي يمتلك طبيعة مشحونة بالمخاطر، ولا يمكن اعتباره بأنه يقدم أفضل وأسرع حل لهذه المشكلة. فعادت اللجنة وبشكل قوي الى فكرة الاستيطان في سوريا ، وكانت هناك ايضاً عدة صعوبات لا يمكن لاحد ادراكها، ولكن الحكومة الفرنسية شددت على إتمام هذا العمل بسرعة لاسباب انسانية وسياسية ، واخيراً حصلت الموافقة على استيطانهم بشكل دائم في سوريا، ويشمل هذا كافة الآشوريين الذين حصلوا على اللجوء في سوريا بشكل مؤقت بالإضافة إلى الآشوريين في العراق من الذين يرغبون في الانتقال الى مكان اخر.

وتقرر ايضاً ارسال رئيس اللجنة (م. لوبيز اوليفان) يرافقه سكرتير اللجنة (م. مانوئيل آوركا) الى كل من العراق وسوريا لاتاحة الفرصة امام المفاوضات الضرورية وشرح هذه الخطة امام جميع الاطراف المعنية وتوضيح ابعادها. حصلت هذه الزيارة خلال شهري مايس وحزيران من عام 1935 وتم وضع الخطط اللازمة لها وسيتم شرحها في الفصل القادم.

تم استدعاء عدد كبير من ممثلي العشائر الآشورية من بغداد والموصل وكركوك ومن القرى الآشورية الجبلية للتشاور معهم والعمل على اجراء احصاء شامل للآشورين الراغبين في مغادرة العراق، وتقدمت الحكومة العراقية بطلب حول تزويدها بمبلغ قدره (125000) دولار لتنفيذ هذه المهمة، مع تخصيص جزء من المبلغ المذكور لترحيل قسم من الآشوريين الى منطقة الخابور ومناطق الغاب المقترحة من قبل الحكومة الفرنسية كمناطق مناسبة للاستيطان الدائم. قام وفد من اللجنة بزيارة تلك المناطق بعد استشارة اللجنة العليا في مجلس العصبة وتوصل رئيس اللجنة الى الاستنتاج بان هذه المناطق هي الافضل للاستيطان.

اجتمعت اللجنة في جنيف في شهر تموز عام 1935 وبعد دراسة التقرير المقدم من السيد اوليفان والوثائق التمهيدية المقدمة من قبل المسؤولين الفرنسيين حصلت المصادقة على قرار يدعو الى تكثيف الجهود لاسكان الآشوريين في منطقة الغاب.

هوامش الفصل الثالث:

(1) المترجم - بعد اعتراف انكلترا بالعراق في معاهدة (1930) كدولة مستقلة لها الحق ان تصبح عضواً في عصبة الأمم في سنة 1932 ، شعر الآشوريون بان كيان شعبهم المتماسك اصبح مهدداً لان كافة الوعود التي قطعها الانكليز لهم لم تكن صحيحة بل كاذبة، ولهذا اخذ الزعماء الآشوريون بعرض قضيتهم في جميع المحافل الدولية، فشعرت الحكومة البريطانية بالإحراجبعد قيام الزعماء الآشوريين بالمطالبة بحقوقهم من خلال وفود آشورية تشكلت لهذا الغرض، لا سيما وان الرأي العام البريطاني المتمثل بالاعلام والكنيسة ( كنيسة كانتربري) أظهرا تعاطفاً قوياً مع الشعب الاشوري وقضيته وتضحياته خلال الحرب العالمية الأولى. على إثر ذلك قامت بريطانيا بتدبير مكيدة للنيل منهم، وفعلاً تم لها ذلك بعد أن خططت لمذبحة سميل المأساوية والتي راح ضحيتها بضعة آلاف من الآشوريين العزل بعد تجريدهم من السلاح بعد إلقاء منشورات بواسطة احدى الطائرات البريطانية دعوا فيها الى القاء السلاح والتجمع امام دوائر الدولة في سميل لغرض حمايتهم، ولكن الذي حدث هو العكس تماما حيث قتلوا بطريقة باردة ، والذي قام بهذا العمل هو قائد الفرقة الثانية في الجيش العراقي بكر صدقي:

أ‌- الوثيقة المرقمة (94) حسب تقرير وزارة الخارجية البريطانية أن شعبة الاستخبارات في وزارة الطيران البريطانيةذكرت بأن بكر صدقي أُستُخدم عميلاً لاستخبارات القوات العسكرية البريطانية في المنطقة المتنازع عليها بين العراق وتركيا بين عامي (1919- 1920). المصدر- كتاب (تأسيس الجيش العراقي وتطور دوره السياسي (1921-1941) تأليف د. رجاء حسين.

ب‌- الوثيقة المرقمة (95) تنص بمنح بكر صدقي رتبة ملازم في الجيش العراقي في كانون الثاني 1920 بناءً على توصية خاصة من هيئة الاركان البريطانية. المصدر- كتاب (تأسيس الجيش العراقي وتطور دوره السياسي (1921-1941) تأليف د. رجاء حسين).

(2) المترجم - هذا هو شأن الطغاة والحكومات الظالمة دوماً مقابل تضحيات ومآسي الشعوب،إبداء الأسف لما حصل والوعد بعدم تكراره. ان مذبحة سميل 1933 لم تكن وليدة يومها، فلماذا لم تسعَ الحكومة العراقية لايقافها قبل وقوعها اذا كانت غير ضالعة فيها.

(3) المترجم - الغاب: سهل في سوريا يقع بين اللاذقية وحماه.

(4) المترجم - مقاطعة بارانا: ولاية فدرالية برازيلية تقع في جنـوب البرازيل ،عاصمتها كوريتيبا، تبلغ مساحتها 199.907 كيلومتر مربع‌، عدد سكانها بلغ في 2005 حوالي 10.261.856 مليون نسمة ، من أهم المدن فيها : لوندرينا ، مارينغا ، بارانجووا و بونتا جروسا.

(5) المترجم - الليفي: هذه الكلمة تعني المجندين، حيث استطاعت بريطانيا استغلال الروح القتالية العالية لدى الآشوريين،وقامت بتشكيل وحدات نظامية منهم سُمّيت بالليفي، ومن الغريب انه ارتبطت هذه التسمية بالآشوريين فقط علماً بانه كانت هناك اعداد لا يستهان بها من العرب والكورد وغيرهم قد تطوعت للعمل في هذه الوحدات، الا ان المؤرخين والمشرقيين خاصة، ربطوا هذا الاسم بالآشوريين فقط متهمين اياهم بالعديد من السلبيات، وبما أن وحدات الليفي كانت تتلقى أوامرها من القيادة العسكرية البريطانية مباشرة فلابد وأن تتعارض مع بعض الطموحات الوطنية، الا أنه نشير هنا الى نقطتين مهمتين، الاولى: ان هذه القوات كانت السبب المباشر في طرد القوات التركية من منطقة راوندوز،حيث اشتركت ثلاث كتائب آشورية من قوات الليفي وحررتها في 22 نيسان 1933 واصبحت القوة الوحيدة التي تحرس الحدود الشمالية للعراق. ولهذا السبب اوقف الاتراك هجماتهم على العراق. والثانية: استبسال الآشوريين في احباط بعض المحاولات التي كانت تستهدف جعل العراق يدور في فلك المانيا النازية، وجعل الموارد تحت تصرف الآلة العسكرية الالمانية، مما منع تقدم الألمان في آسيا الصغرى واوقف خطر اتصالهم باليابان عن طريق الخليج العربي، في الوقت الذي كانت فيه اليابان مستعدة للهجوم، هذا الانجاز الذي كان له تأثيرا في ما آلت اليه الحرب العالمية الثانية.

(6) المترجم-غويانا- تقع في أمريكا الجنوبية، كانت تسمى غويانا البريطانية قبل استقلالها، تبلغ مساحتها 215 ألف كيلومترا مربعاً، وسكانها في حدود المليون نسمة وعاصمتها جورج تاون. إحتلتها بريطانيا سنة 1874، حصلت على استقلالها سنة 1970، وظلت عضواً في الكومنولث البريطاني. تطل الجزيرة على الساحل الشمالي الشرقي لأمريكا الجنوبية المشرف على المحيط الأطلسي، وتحدها جمهورية فنزويلا من الغرب، وسورينام من الشرق، والبرازيل من الجنوب.

(7) المترجم- حوض النيجر- يقع في غرب أفريقيا ، تتقاسمه الدول التسع الأعضاء في هيئة حوض النيجر على مساحة 1.417.000 كيلومتر مربع ، تضم هيئة حوض النيجر كلا من دولة بنين و بوركينا فاسو و الكاميرون و ساحل العاج وغينيا ومالي والنيجر ونيجيريا وتشاد.

 

(الجزء الأخير / رأي المترجم في المشروع)

لقد أثبت مشروع الاستيطان فشله الذريع وبإعتراف لجنة عصبة الامم، وحتى مشروع الغاب فشل هو الآخر عندما طلبت اللجنة المشكلة بهذا الخصوص العدول عنه، وفي نفس الوقت فان كافة الوثائق التي كُتبت عن الاشوريين والمسألة الآشورية وقُدمت الى عصبة الامم قد اخفقت في إيجاد حل عادل لها، وذلك بسبب السياسية المضادة التي مارستها الحكومات البريطانية والفرنسية والسلطات العراقية وممثليها في جنيف بهذا الشأن ، وعليه من الضروري أن يكون القارىء على إطلاع بالمراحل التي مرت بها المسألة الاشورية في المحافل الدولية قبل وبعد وقوع مذبحة سميل في 7 آب 1933. فقد أوضحت الحقائق بأن المحادثات التي جرت في أروقة عصبة الامم كانت على علاقة مباشرة بالمذبحة وبإعتراف اعضاء المجلس وخاصة المفوضية الدائمة للانتداب التي أثبتت بأنهالا تمتلك أية وسيلة مباشرة لتأكيد حماية الاشوريين في العراق ما لم يكن يملك احد اطراف المسألة سلطة كاملة في موقع الاحداث. إن عصبة الامم اثبتت بشكل لا يقبل الشك بانها مجرد هيكل وهمي ولم يكن بإستطاعتها ان تتحمل أية مسؤولية وكل ما قامت به كان يجب أن يتطابق مع مصلحة بريطانيا( عصبة الامم هي منظمة دولية انشأتها في 28 / نيسان / 1919 الدول الموقعة على معاهدة فرساي، غايتها احياء روح التفاهم والتعاون بين الامم وضمان السلام والامن وكان مركزها جنيف واستمرت بالعمل حتى الأول من حزيران /1946 لتحل محلها منظمة الامم المتحدة ). بعد انتهاء فترة الانتداب البريطاني واعلان استقلال العراق وقبوله عضواً في عصبة الامم في 3 / تشرين أول /1932 ، أصبحت المسألة الآشورية تتصدر بعض اجتماعات مجلس عصبة الامم في ذلك الوقت لكون الآشوريين أحد الأطراف المشاركة في الحرب الكونية الاولى الى جانب روسيا وبريطانيا ضد تركيا والمانيا، وكانتفترة دخولهم الحرب الى جانب الحلفاء(روسيا وبريطانيا) من اقسى الفترات وأصعبها، ففقدوا على إثرها معظم أراضيهم،وكان الآشوريون يأملون بدخولهم الحرب التخلص من الاضطهاد القومي والديني الذي عانوا منه من قبل جيرانهم لا سيما من العثمانيين وبعض العشائر الكوردية ، ولكن كل تلك الاحلام ذهبت ادراج الرياح عندما لم يفي الحلفاء بوعودهم لأبناء شعبنا الذي قدم أعداداً هائلة من الشهداء في الحرب، واستشهد العدد الآخر أثناء المسيرة الرهيبة من مناطق هكاري (حالياً جنوب شرق تركيا ) الى إيران ومن ثم الى العراق حيث المجاعة والامراض وهجمات اعدائهم التقليديين. جدير بالذكر أن البريطانيين كانوا قد وعدوا الآشوريون في حينها بمنحهم حقوقهم بعد انتهاء الحرب باعتبارهم احد الحلفاء المشاركين فعلياً في دحر دول المحور ، ولكن وبعد انتهاء الحرب وكعادة البريطانيون اداروا لهم ظهورهم واخذوا يماطلون في تحقيق تلك الوعود ، ليبدأ سيناريو الخيانة البريطانية للآشوريين بكافة فصوله بدأً في إنهاء انتدابها المفاجيء على العراق، والتخطيط لمذبحة سميل التي وقعت احداثها في بداية شهر آب / 1933 ووصلت ذروتها في السابع والحادي عشر من آب في ذلك العام ، ونفذّت بريطانيا المذبحة بواسطة أدواتها في الحكومة الملكية العراقية آنذاك ومن خلال بعض الضباط الكبار في الجيش العراقي أمثال بكر صدقي الذي ارتبط اسمه باحداث الابادة الجماعية التي نفذت في قصبة سميل ضد الآشوريين العزل.أثناء هذه الفترة تحديداً بدأت دبلوماسية المانيا النازية تلعب دورها في العراق مباشرة بعد استلام أدولف هتلر مقاليد السلطة في المانيا عام 1933 ، وتجلى ذلك عملياً بتعيين الدكتور فريتز غروبا سفيراً لالمانيا في بغداد، وكان غروبا دبلوماسياً نشطاً يتقن التحدث باللغات العربية والفارسية والتركية بطلاقة، وبمرور الوقت تصاعد إعجاب وتأثر العراقيون كثيراً بشخصية السفير الالماني وزوجته التي تميزت هي الإخرى باللياقة الدبلوماسية والمجاملة في علاقاتها مع مختلف طبقات المجتمع العراقي ، وبذلك تمكن السفير من اقامة علاقات ودية متينة مع الطبقة السياسية في العراق خاصة بعد نيل العراق استقلاله ، وكانت هناك عدد من القضايا التي صب السفير الالماني اهتمامه عليها لنشر نفوذ بلاده في العراق، وفعلاً استخدمت السفارة الالمانية عدة قنوات لكسب السلطات العراقية في حينها، وكانت إحدى تلك القنوات هي التدخل لدى عصبة الامم لغرض عدم التوصل الى أي حل عادل يضمن حقوق الشعب الآشوري ، وفي هذا السياق كان واضحاً موقف الشعبة الشرقية في وزارة الخارجية الالمانية من خلال حرص المانيا على عدم توصل الاطراف المعنية إلى اتفاق حول المسألة الآشورية في أروقة عصبة الامم وعدم احراج الحكومة العراقية، وعليه قام السفير الالماني بكتابة برقية بالتضامن مع مراسل الشعبة الشرقية في وزارة الخارجية الالمانية في بغداد الدكتور بريوفز الى وزارة الخارجية الالمانية في برلين ذكرا فيها "بأن الهدوء لن يعود الى شمال العراق ما لم يستبعد جميع الاشوريين الحانقين على العراق، وتجنب دخول عصبة الامم في القضية وتجنب الاصرار على معاقبة المسؤولين العراقيين عن مذابح سميل 1933" ، وقد قدم كل من الدكتور غروبا والدكتور بريوفز نصيحة الى الحكومة الألمانية للمساهمة الى التوصل الى حلول مرضية للحكومة العراقية تحديداً، وفعلاً استجابت وزارة الخارجية الالمانية لتلك النصيحة وكان الوفد الالماني لدى عصبة الامم متفهماً للقضية بالشكل الذي عرضه المسؤولان الالمانيان ( المصدر- رجال ومراكز قوى في بلاد الشرق / تاليف فريتز غروبا ) ، ونظراً للنفوذ الالماني في ذلك الوقت فقد اقتنعت عصبة الامم بفكرة نبذ الوقائع الماضية ذات العلاقة بالتحقيق ومحاسبة المسؤوليين العراقيين عن عمليات الابادة الجماعية التي مورست ضد الاشوريين أثناء مذابح سميل، وأصبحت عصبة الامم أكثر ميلاً لحل المسألة الآشورية من خلال إيجاد بلد آخر لاسكانهم فيه ضاربة عرض الحائط أبسط مقومات حقوق الانسان والمصداقية المهنية التي تأسست بموجبها العصبة ، وكان هذا التحول مثار فرح وسعادة للحكومة العراقية وأمرت على إثرها بترفيع الضابط بكر صدقي المسؤول عن أول إبادة جماعية منظمة تقوم بتنفيذها الدولة العراقية عام 1933 إلى رتبة لواء. وبحلول عام 1935 أصدر مجلس عصبة الامم مقترحاً بتشكيل لجنة لدراسة قضية اسكان الاشوريين مقابل الصمت المطبق للمجتمع الدولى، وبالفعل صدر مشروع تبنته العصبة تحت عنوان(( توطين الآشوريين كعمل انساني وإسترضائي )) والذي هو الآخر لم يطبق بسبب تكاليفه المالية الضخمة ،وتم رفضه أيضاً من قبل القيادات الآشورية تجنباً لاستغلال شعبنا مرة اخرى، ورغبتهمفي العيش في أراضيهم التأريخية في شمال ما بين النهرين الذي كان يشمل مناطق واسعة من شمال العراق الحالي وجنوب شرق تركيا وتحديداً في ولاية هكاري. وهكذا وبسبب الخيانة البريطانية والمصالح الالمانية في العراق والموقف الالماني المعادى للآشوريين بسبب موقفهم في الحرب الكونية الاولى الى جانب الحلفاء ضد المانيا وتركيا ، كل ذلك أدى الى ضياع الحقوق.سوف لا نبالغ إذا ما قلنا وللتأريخ أنه لم يتعرض أي شعب في منطقتنا لمثل تلك المؤامرات التي حاكتها ونفذتها أقوى دبلوماسيتان في العالم خلال فترة العقد الثالث من القرن الماضي متمثلة في بريطانيا والمانيا ، وإن كان الآشوريين أولى ضحايا تقاطع المصالح الاستعمارية في العراق إلا أن الشعب العراقي عموماً كان قد دفع ثمن ذلك غالياً بقبوله تغلغل الافكار النازية الى بعض القادة العسكريين مما أدى الى حصول محاولات جدية لربط العراق بموارده النفطية تحت خدمة الآلة العسكرية الالمانية بقيادة هتلر، مما كان له بلا شك تأثيراً كبيراً في تحديد مسيرة الحرب الكونية الثانية لكون العراق قريباً من الاتحاد السوفيتي سابقاً من الناحيتين الاستراتيجية واللوجستية ، ومما يجدر ذكره بأن الالوية العسكرية الاشورية (الليفي) كانت قد لعبت دوراً مهماً في إفشال ذلك المخطط.

في نفس الإطار نؤكد على أن الحديث عن الإبادة الجماعية التي تعرض لها الآشوريون عام 1933 ليس الغرض منه منح المسألة الآشورية أي رصيد أخلاقي استثنائي أو جعلها رأسمال رمزي ومعنوي على شكل إرث المذبحة للتلويح بها أثناء الحاجة، ولا يدخل في باب سياسات الذاكرة وتسويقاتها الإعلامية، ولسنا أيضاً في صدد إعادة إنتاج المعضلة الأخلاقية ضد المجرمين الذين ساهموا في قتل الآشوريين وتحميلهم مسؤولية وتبعات تلك الجرائم باعتبار ذلك من مسؤولية المجتمع الدولي وهيئاته ذات الاختصاص والعلاقة، إضافة إلى أن ظروف المكان والزمان قد تغيرت.إن الغرض من الحديث عن الإبادة الجماعية ضد الآشوريين هو لتذكير العالم وخاصة أبناء شعبنا العراقي بكافة تلاوينه لعدمنسيان آلام أهلنا وذووينا أثناء الزمن الصعب حتى لا يعود ذلك التأريخ الدامي إلى الحدوث مجدداً، بالرغم من كونها مشاهد لا تغيب ولا يمكن تغييبها من الذاكرة العراقية والآشورية لأنها محفورة بعمق. النقطة الأخرى في هذا الصدد أنه أثناء تناول عمليات الإبادة الجماعية التي مورست ضد بعض القوميات العراقية من قبل الأنظمة السياسية في الوطن، نرى أنه من الواجب أن لا يتعامل معها المثقفين العراقيين بشكل انتقائي، وتحويل تلك الذاكرة إلى مسرحاً لاجترار الضغائن والآلام وفقاً إلى سياسة الذاكرة التي لا تخلوا أحياناً من مخاطر المبالغة في صناعة المذبحة، وتغييب الحاضر وتغليب تلك السياسة على منطق التأريخ بطريقة تؤدي إلى إبقاء الوعي العراقي المعاصر أسير وسجين تلك المذابح وعمليات القمع انسياقاً وراء حقيقة أن العراقيين كافة منذ تأسيس الدولة العراقية(1921) كانوا في مرحلة معينة ضحية القمع والإرهاب المنظم رغم اختلاف هول الكارثة والظلم الذي عانوا منه. ومع مرور الزمن والابتعاد عن الانفعال والعواطف تصبح أحداث التأريخ كما هي، وليست الذاكرة فقط هي الإطار المعقلن للتعامل مع مآسي الشعب العراقي باعتبار أن الظروف والمتغيرات عبر ذلك التأريخ هي التي تحدد الضحية والجلاد. ومن سخرية القدر ثبُت من التجارب أن الضحية يمكن أن يتحول إلى جلاد في ظروف معينة. وهذا ما بات يعاني منه شعبنا الآشوري حتى يومنا هذا بعد أن أصبح ضحية التطرف القومي والديني. كانت مذابح السابع من آب عام (1933) ضد الآشوريين بمثابة أول إرهاب منظم تمارسه الدولة العراقية ضد أحد أقدم القوميات العراقية الأصيلة، والتي على أثرها تصاعدت وتيرة العبث بمفردات الهوية الوطنية مغيبةً عمق انتمائهم التاريخي والجغرافي في أرض النهرين كمحاولة للقفز على حقيقة دورهم المتميز في بناء العراق ووحدته. فالنزعة الانتقامية التي سادت الأنظمة العراقية المتعاقبة ضد الطموحات المشروعة للآشوريين بإعتبارهم الحلقة الأضعف في العراق كانت مستنبطة من العقلية العشائرية والتعصب القومي والدينيالمتمنطق بظاهرة الاستعلاء القومي والنهج القمعي من الأكثرية المحيطة بهم،والتي عملت بمرور الزمن على تشويه النسيج المجتمعي العراقي واستهانته بالمواطنة ومحاولاته مسخ الهوية القومية للآشوريين واجتثاث انتمائهم الوطني رغم عراقية الآشوريين التي تعود إلى ما يقارب السبعة آلاف سنة في العراق. لقد ذاق الآشوريون علقم السياسات الشوفينية للأنظمة التي حكمتهم ابتداءً من الدولة العثمانية وانتهاءً بالأنظمة العراقية المتعاقبة، حيث تجسد العذاب والمعاناة المستمرة على كافة الأصعدة، وبمجرد التعمق في تصفح تأريخ هذا الشعب نراه تغلب عليه صفحات من الاضطهاد القومي والديني في مشهد شكّلت بعض تفاصيله أطلالاً وبقايا قرى آشورية في شمال العراق وجنوب شرق تركيا تحكي خرائبها والتجاوزات عليها عقوداً طويلة من القتل والتنكيل.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.