كـتـاب ألموقع

• بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين لنكبة 8 شباط ... ضحايا انقلاب 8 شباط 1963، عراقيون وطنيون يجب إعادة الاعتبار لهم

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 عادل حبه

بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين لنكبة 8 شباط ... ضحايا انقلاب 8 شباط 1963، عراقيون وطنيون يجب إعادة الاعتبار لهم

 

بُعيد ثورة 14 تموز عام 1958، أصدرت حكومة الثورة قراراً بإلغاء الأحكام التي صدرت عام 1949 ضد قادة الحزب الشيوعي، وأعادت الاعتبار السياسي لهم باعتبارهم وطنيين عراقيين استشهدوا من أجل رفعة البلاد واستقلالها وسيادتها، وليسوا مجرمين توّجب شنقهم في ساحات بغداد، كما نصت قرارات محكمة النعساني الملكية القراقوشية السيئة الصيت آنذاك. وقد سبق لسلطة 14 تموز الوطنية أن ألغت العديد من القرارات التي أدانت الوطنيين العراقيين وأطلقت سراحهم من السجون، كما ألغت قرارات إسقاط الجنسية أو الإبعاد خارج البلاد، إضافة إلى إلغاء أحكام الموت بالعديد من الوطنيين العراقيين إبّان العهد الملكي، واعتبرتهم رموزاً وطنية في تاريخ العراق.

 

شهداء الانقلاب المشؤوم

 

 

 

لقد توقّع الكثيرون من محبي هذا البلد العريق أن تعمد السلطات التي توالت على حكم البلاد بعد انهيار الطغيان إلى إعادة الاعتبار للآلاف من ضحايا حزب البعث منذ أول كارثة أحلّها في العراق في شباط عام 1963، والتي أطلق عليها البعث صفة "عروسة الثورات"، ولحين انهياره في نيسان عام 2003. ولكن ما شهدناه هو أن الأحزاب المتنفذة وحكوماتها انهمكت في كيفية استقبال البعثيين في صفوفها ومعالجة وضع البعثيين في الأجهزة العراقية و"إنصافهم" والتفتيش عن رواتب التقاعد لهم وتحويلها إلى حيث يمكثون في دول الجوار، أو الاقتصار على معالجة ضحايا من لون واحد فقط. أما باكورة ضحايا حزب البعث في نكبة 8 شباط عام 1963 وضحايا مؤامرة الموصل وغيرها من ضحايا البعث فقد جرى إسدال الستار عليها و "لفلفتها" بشكل يثير التساؤل. فلقد طرأ

 

شهداء لهم المجد

 

 

تغيير في المشروع الذي قدمه مجلس الوزراء أخيراً إلى البرلمان والذي حظي بموافقة مجلس شورى الدولة حيث حذفت فقرة ضحايا نكبة 8 شباط الأسود ضمن من تضرر من الأنظمة السابقة. ولكن حذفت اللجنة البرلمانية المشكّلة من "نواب الشعب" الفقرة الخاصة بضحايا 8 شباط بشكل متعمد. ويبدو أن بعض هؤلاء النواب ربما كانوا شركاء في الجريمة وما زالوا يحنّون إلى ذلك اليوم، وهو الذي شكّل أسوأ مفصل من مفاصل الارتداد في تاريخ العراق الحديث.

 

وبذلك أدى هذا الحذف إلى الإبقاء على كل الاتهامات الباطلة والأحكام التعسفية ضد من ضحوا بحياتهم وبمستقبلهم من أجل الدفاع عن المكتسبات الوطنية البارزة  لثورة 14 تموز عام 1958 من ناحية، ومن ناحية أخرى حُرم الآلاف منهم من إعادة الاعتبار وأنصافهم جراء ذلك الجور البشع الذي تعرضوا له في تلك المحنة الوطنية. فلم يعد خافياً على أحد إن الانقلابيين اعتقلوا وسجنوا ما يزيد على 140 ألف مواطن في تلك النكبة. وكان في مقدمة هذه الضحايا ممثلو قوى التنوير والحداثة  في المجتمع، متمثلة في علماء

 

نخبة الحداثة والتنوير في قبضة الانقلابيين

 


بارزين، كالعالم عبد الجبار عبد الله رئيس جامعة بغداد والدكتور في الاقتصاد إبراهيم كبه، وأساتذة جامعيين مرموقين وفنانين وشعراء وأدباء وضباط لامعين وجنود وأطباء ومهندسين ومحامين وطلبة وعمال وفلاحين وجمهرة واسعة من النساء العراقيات، حيث كان من أول قرارات الانقلابيين موجهة ضد المرأة العراقية عبر إلغاء قانون الأحوال الشخصية الذي سنته حكومة الثورة. إن كل هؤلاء الضحايا يمثلون النخبة في المجتمع العراقي ومحرك الوعي والثقافة والتنوير فيه. لقد كُدِّس هؤلاء في الملاعب الرياضية والنوادي ومعسكرات الجيش بعد أن ضاقت بهم السجون لكثرتهم، إضافة إلى الإعدام العشوائي والقتل العام وأحكام الإعدام لمحاكمهم القراقوشية والممارسات المشينة اللاأخلاقية ضد السجينات، وممارسات مهينة طالت الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي في سابقة لم يشهدها العراق قبلئذ حتى في ظل نظام القوازيق العثماني. وارتعب الانقلابيين من جثث ضحاياهم بحيث أزالوا أي شاخص على قبور ضحاياهم، فمنهم من رُمي في أنهر العراق أو دُفن سراً أو أُذيب في التيزاب، شأنهم في ذلك شأن أخلافهم من "مبتكري" القبور الجماعية والقنابل الكيمياوية وإبادة الوطنيين والمعارضين بسموم الثاليوم بعد تسلطهم على السلطة في عام 1968.

 

ولعل من أبرز مظاهر الردة في 8 شباط عام 1963 هو تصدّر الأميون مهمة إدارة الدولة في كل مفاصلها، وتحوّل الدولة العراقية إلى دولة بوليسية بل وجمهورية للرعب. فقبل هذه الردة كان تسلم المسؤولية بشكل عام يعتمد على الكفاءة وليس "العضلات"، حيث استوزر الاقتصادي محمد حديد لوزارة المالية و د. إبراهيم كبه لوزارة الاقتصاد و د. طلعت الشيباني للتخطيط و د. نزيهة الدليمي للبلديات. ولكن بعد الردة أوكلت المسؤولية للأميين ورجال العنف الذين لم يمر إلاّ أيام على انقلابهم حتى بدأوا "يتحاورون" بالمدافع والطيارات والقذائف لينهار حكمهم بعد حين، وليكشف حليفهم عبد السلام عارف جزءاً من جرائمهم في "الكتاب الأسود". ولكن ما أن رجعوا من جديد إلى السلطة في عام 1968 حتى تسلم المسؤولية أميون جدد لا يتمتعون حتى بشهادة الابتدائية. فصار طه الجزراوي وزيراً للصناعة وعزة الدوري رئيساً للمجلس الزراعي الأعلى وعلي حسن المجيد وزيراً للدفاع والحبل على الجرار، وهو ما ينطبق عليهم قول شاعرنا النابغة الجواهري في سخريته من أصحاب "العضلات":

 

شِسْعٌ لنعلك كل موهبةٍ   وفداء زندك كل موهوبِ

 

 إن هذه الأميّة في تسلم المسؤولية تحوّلت إلى ممارسة ما زالت تنخر في جسد الدولة العراقية. فبعد التغيير الأخير، تدافع الأمّيون من كل الأصناف وبلباس جديد للسطو على مقاليد الأمور، فتسلم وزارة الثقافة على هدى المحاصصة المشينة من كان يدير عصابات للقتل والغدر والذي هرب إلى الخارج بعد افتضاح أمره. وتقدم الآن حوالي 100 شخص للمشاركة في الانتخابات القادمة بين من زوّر شهادات لا يستحقها، أو من ظهر أنه في عداد المحكومين بجناية.

 

لقد كانت مأساة 8 شباط التمرين الأول لأشد مظاهر العنف والتوحش والتخلف، وهي تصنف في إطار الإبادة الجماعية التي يعاقب عليها دولياً، إنها بداية تسلط الفئات الأكثر تخلفاً والفئات الهامشية في المجتمع العراقي والتي أحدثت ردة شاملة في القيم والأخلاق ومقدمة لبلاء أنكى وأشد نزل على رؤوس العراقيين بعد أن سطا البعثيون من جديد على الحكم في عام 1968، وما شهده العراقيون من آثام وشرور حتى سقوط النظام، بل وإلى الآن. ولذا يتطلب من جميع القوى السياسية العراقية والسلطات العراقية التنفيذية والتشريعية والقضائية أن تدقق في ما أفرزته وفرضته هذه الردة من أحكام وقيم وممارسات و "ثقافة" وانفلات في العنف وانعدام القانون كبداية لمسح هذا العار الذي لحق ببلدنا، وكنسه من وعي المواطن العراقي. هذا العار الذي ما زال العراقيون يشهدون آثاره إلى الآن وحتى بعد سقوط الطغيان في نيسان عام 2003. فما زال يجول في عقول بعض السياسيين العراقيين وحتى في وسط من المجتمع العراقي هذه العقلية المدمرة، ويلجأوا إلى أساليب تلك الردة لتحقيق مآرب سياسية وغير سياسية باعتبارها الوسيلة الأمضى والأسهل لفرض الاستبداد على العراقيين من جديد. فمازال البعض يحن إلى أسلوب إفراغ مناطق في المدن وحتى مدن بكاملها على شكل "مستوطنات بعثية" وتغيير في البناء الديموغرافي وبقوة السلاح ضد كل من يخالفه في الرأي، تماماً كما حدث في الأعظمية وغير الأعظمية في بغداد أو في مدن الموصل وغير الموصل بعد ثورة 14 تموز. هذا الأسلوب الذي أعيد العمل به في أوّج تصاعد العنف والإرهاب في العراق بعد الإطاحة بحكم البعث عام 2003. كما استعاد أخلاف البعث وحلفائهم الجدد ومن تتلمذ على أيديهم من التيارات الدينية المتعصبة نفس أسلوب الاغتيالات لخيرة نخب الشعب العراقي من مثقفين وأطباء وضباط جيش والنساء، والتمثيل بجثثهم ودق أعناقهم ورميهم في الشوارع لغرض إثارة الرعب بين العراقيين. ويروي العقيد محمد عمران، العضو السوري في القيادة القومية للبعث، أثناء المؤتمر القطري السوري الاستثنائي في عام 1964 أنه:"بعد المؤامرة الشيوعية طلب من أحد ضباط الجيش العراقي إعدام أثني عشر شيوعياَ ولكنه أعلن أمام عدد كبير من الحاضرين من أنه لن يتحرك إلاّ لإعدام خمسمائة شيوعي ولن يزعج نفسه من أجل أثني عشر فقط"*.

 

لقد مهدت لردة شباط سلسلة من حملات الدعاية المريبة والأكاذيب والتزييف والترهات التي روّجت لها أجهزة الدعاية والتهريج في دول عربية معروفة ودول خارجية تارة باسم الدين أو المذهب أو الطائفة، وتارة أخرى في إدعاء حرق القرآن والمس بالقيم الدينية وإلصاقها بالشيوعيين والديمقراطيين العراقيين والتأليب عليهم وإصدار الفتاوى بهدر دمهم، وهي خير أمثلة على الأساليب والبدع المخابراتية التي مورست من أجل تنفيذ هذه الردة البشعة. وشهد ويشهد العراق نفس الأساليب وبيد أخلاف ردة شباط وحلفائهم الإرهابيين الجدد بعد الإطاحة بالديكتاتورية تارة تحت ستار الطائفية الممجوجة أو تحت واجهات كاذبة ومزيفة باسم "مقاومة" لا تذبح وتقطع إلاّ رؤوس العراقيين. هذا التراث البغيض هو الآخر وجد من يطبل له ويمده بأسباب القوة والمال والانتحاريين في دول الجوار الإقليمي وغير الإقليمي والذي يهدف في الأساس إلى منع العراقيين من تحقيق خيارهم الوطني السلمي والديمقراطي.

 

إن إصدار قرار من السلطات العراقية الثلاث بإدانة جريمة 8 شباط وإعادة الاعتبار لضحاياها لا يعني فقط إحقاق العدالة ورفع الحيف فحسب، بل هو إجراء ضروري لتطويق "ثقافة" القتل والغدر والهدم والنهب التي استشرت في المجتمع العراقي بعد تلك الكارثة ومازالت ذيولها تطحن بالعراقيين وتعيق الاستقرار والبناء السلمي الديمقراطي في العراق. فوجود من يدافع عن البعث وجرائمه إلى الآن وفي أعلى سلطة تشريعية في البلاد لدليل على ضرورة معالجة شاملة لظاهرة سفك الدماء والانقلابات الدموية التي كان "بطلها" حزب البعث خلال كل تاريخه. وتبقى العدالة العراقية مخدوشة إذا لم تقف وتعالج بشكل جاد جريمة 8 شباط 1963 ورفع الحيف عن الآلاف من ضحاياها، وقيام السلطات العراقية الثلاث بإلغاء كل ما صدر عن الانقلابيين من أحكام وقرارات مجحفة ضد العراقيين، ومبادرة البعض ممن هم الآن في قمة العملية السياسية والذي أفتى أو ناصر الانقلابيين بالاعتذار للشعب العراقي عن هذه الكارثة الوطنية. 

 

8 شباط 2010

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ*المصدر مؤلف المؤرخ حنا بطاطو "الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق"، والذي استند إلى وثيقة داخلية لحزب البعث العربي الاشتراكي تحت عنوان "ملاحظات الرفيق محمد عمران أمام المؤتمر القطري السوري الاستثنائي – 3 شباط 1964".