اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• سقوط رامسيس الثالث وأحمد عز

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

تعريب عادل حبه

مساهمات اخرى للكاتب

   سقوط رامسيس الثالث وأحمد عز

الحركة الديمقراطية المصرية: بداية فصل جديد في الشرق الأوسط العربي

بقلم الكاتب الإيراني تهمورث كياني

 

يشير أميل لودفيك في كتابه " النيل في مصر" إلى أنه عندما تجاوز رامسيس الثاني سن الثمانين، عمد إلى تنظيم احتفالات دورية من أجل الدلالة على أنه يزداد شباباً وقوة. وكان يحيي هذه الكرنفالات كل سنة إلى أن بلغ من العمر تسعون عاماً. وعلى هذا المنوال سار حسني مبارك في السنوات الأخيرة ليتحول إلى فرعون معاصر. فهو لم يكن أقل من رامسيس الثاني، بل زاده بأضعاف حيث استقر في قصر أكثر أبهة من قصر سابقه. وأصبح مبارك ثالث أطول حاكم جلس على كرسي الحكم في كل تاريخ مصر. فالحاكم الأول رامسيس الثاني اعتلى العرش لمدة 67 سنة. وبعد ذلك جاء دور محمد علي، الجندي الألباني الأصل الذي وضع اللبنة الأولى لمصر الحديثة، وحكم مصر لمدة تزيد على خمسة عقود. ولكن حسني مبارك أكثر شبهاً برمسيس الثاني مقارنة بمحمد علي. فهو وفي سن الثمانين، راح يصبغ شعره، وسعى إلى دورة جديدة لرئاسة الجمهورية. ولكنه فوجئ بالحملة الاحتجاجية التي واجهته.

تكمن مصيبة الديكتاتوريين في أنهم لا يصغون إلى منتقديهم، ولا هم على استعداد للتسامح والاصلاح، ومغرمين حتى آخر لحظات حياتهم بكرسي الحكم، ولا يتخلون عنه ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد، حيث لا يبقى أي أمل للشباب والشيوخ في حياتهم ومستقبلهم. ويصر هؤلاء الحكام على أن تمسكهم بالسلطة هو من أجل توفير الأمن والاعمار لبلادهم. إن أفعال هؤلاء متشابهة بشكل مدهش وفي كل مكان، وخاصة عندما تدق ساعة سقوطهم. ونجد في دائرة كل الأنظمة العائلية في الشرق الأوسط، سواء من يحكم باسم الجمهورية والبعض الآخر بالملكية، على نفوذ زوجات وأبناء من أصحاب الجاه كمظهر من مظاهر التفاخر والتباهي. فالعائلة أخذت تلعب دوراً أكثر جلاء في إشاعة الفساد وشل بعض الخطوات الايجابية  في  فترة الحكم. ففي تونس وفي عهد السيد بن علي، تحولت السيدة ليلى الطرابلسي - حرم الرئيس إلى سلم صغير يتسلق عليه كل الأقرباء والأخوان من أجل فتح قمم الثروة. وفي مصر عهد مبارك، أحدثت حرم الرئيس، الطامحة للمجد والغارقة في حياة حالمة كسوزان مبارك وإلى جانبها أبنها المدلل، هوة سحيقة بين الحاكم والشعب بحيث لا يمكن ردمها على الاطلاق. وفي أوج الطغيان يتصور الديكتاتوريون انهم قد تحولوا إلى آلهة تستحق الثناء والمدح. ولذا يتوجهون دوماً نحو قمع المنتقدين، وبمن فيهم الأصدقاء الحكماء والمتربصين، وبذلك تتقلص حلقة الحكم. ومع إبعاد اصدقاء الأمس، الذين أضحوا بلا حول ولا قوة، تتحول خيمة الحكم إلى خيمة عائلية خالصة. ولا يريد هؤلاء نظاماً جمهورياً ولا دولة ولا مجلس، فما يسعون إليه هو بلاط من التابعين والعبيد. وما أن ينهار هذا الديكتاتور حتى ينهار كل شئ. وكالعادة يتهم هؤلاء "الأيادي الخارجية"، حتى ولو أن " الخارجي" في مثال مبارك، كان أقرب الأصدقاء والسند له. وبعد ذلك تبدأ عجلة القمع العلني في والرعب لترتيب الأوضاع. ويقدم الكاتب المصري البارز نجيب محفوظ في أحدى قصصه شرحاً لأحد الفراعنة الذي أخبرته معشوقته المحبوبة عن قيام ثورة واحتجاج الناس وعن احتمال دعم الكهنة لهم، وحذرته المعشوقة من قدرتهم، فأجابها الفرعون، ولكنني أكثر قدرة منهم. وعندها انبرت المعشوقة قائلة:"سيدي بماذا ستجيب على غضب الشعب؟". فأجابها الفرعون:" إنهم عندما يشاهدوني مع فرساني وأنا راكباً عربتي فسيلتزمون الهدوء".

ولكن بعد أن فشلت العربات في مهمتها، يبدأ الديكتاتوريون بالبحث عن أكباش الفداء من المقربين. لاحظوا مبارك الآن فهو يكرر نفس السيناريو القديم. فقد بدأ بقتل وإرعاب المحتجين، ثم لجأ إلى التضحية بمساعديه. وكان أحمد عز أول كبش فداء مبارك، الذي تحول إلى ماكنة الفساد الكبيرة لأجهزة رامسيس الثالث. ففي أحدى برقيات السفارة الأمريكية في عام 2006 ، والتي أميط اللثام عنها في فضائح ويكيليكس، تم الإشارة إلى أحمد عز باعتباره أحد أكبر أثرياء مصر، والذي على علاقة قريبة من أبناء مبارك، والذي كدس ثروة اسطورية ويسيطر الآن على ثلثي سوق الفولاذ في البلاد. كما أن يشرف على ميزانية مصر، ومن الاعضاء المؤثرين في الحزب الحاكم وفي البرلمان. وحسب ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز أن السيد أحمد عز هو محور عجلة الثروة-القدرة السياسية- الثروة في مصر مبارك شأنه في ذلك شأن كل الأنظمة الديكتاتورية حيث تشتري الثروة القدرة السياسية، ثم تلعب القدرة السياسية دورها في خلق الثروة. لقد لخص فيلم "محطة  القاهرة" للمخرج المعروف الفنان يوسف شاهين المجتمع المصري والنظام الذي أوجده مبارك وعائلته في مصر. فهذا الفيلم يوضح بشكل جلي كيف ان الفقر استشرى في مصر في الوقت الذي تتعالى ناطحات السحاب فيها وتتعاظم الحسابات البنكية لدى البعض. إنه يشرح الفقر والتحقير وصمت القبور والنار التي تحت الرماد والتي تحدث عنها مسعود بهنود بشكل مختصر في مذكراته عند زيارته للقاهرة.

 وفي السياسة الخارجية، لم يصيب الفشل نظام مبارك في هذا الميدان، بل تعداه إلى حالة الركود وعدم الكفاءة والفساد وعدم الفاعلية الداخلية. وعلى الرغم من أن نظام مبارك كان يتلقى فتات حفظ الأمن والسلام في المنطقة، ويتسلم مقابل ذلك سنوياً مساعدات عسكرية بمبلغ 2 مليار دولار من الولايات المتحدة، فإنه لم يوسع إطار معاهدة السلام التي وقعها أنور السادات مع إسرائيل، كما أنه سعى إلى الابقاء على معاهدة السلام في أدنى صورها. ولهذا نعت غالبية المحللين السياسيين السلام مع إسرائيل بعبارة "السلام البارد". فنظام مبارك لم يسع أبداً على أن تكون علاقته بإسرائيل كعلاقة تركيا بإسرائيل، التي وسعت علاقاتها مع إسرائيل ولكنها وقفت بحزم ضد التطرف الإسرائيلي. وانتهج نظام مبارك سياسات ضعيفة ازاء إسرائيل والتزم الصمت تجاه السياسة التوسعية للجناح اليميني الاسرائيلي، خاصة الاتفاق مع إسرائيل في حصار غزة، مما أدى إلى انهيار النفوذ التقليدي لمصر في المنطقة وخاصة بين الفلسطينيين، وفسحت هذه السياسة المجال لتدخل أطراف أخرى. فالنظام المصري لم يود من خلال توسيع علاقاته مع إسرائيل أن يرسي سلاماً واقعياً والسير بعملية السلام إلى مستويات جديدة من خلال الضغط على دولة إسرائيل وعلى المجاميع الراديكالية الفلسطينية. إن ازدياد نفوذ ودور تركيا وإيران، الدولتان غير العربيتان، نقل الصراع مع إسرائيل خارج إطاره العربي ليمثل دلالة واضحة على فشل نظام مبارك في السياسة الخارجية.

 ومن ناحية أخرى، ومع تعاظم استياء الشعب من فشل النظام في الميدان الداخلي وتزايد نفوذ المجاميع الإسلامية، بادر مبارك إلى إطلاق يد بعض المجاميع والكتاب المتطرفين لنشر مقالات حادة ضد اليهود في مصر. وتحولت مصر إلى أحد مراكز العداء ضد اليهود بهدف حرف غضب الشعب إلى الخارج . ويشير سعد الدين إبراهيم الاستاذ الجامعي والمعارض المصري المعروف أن مبارك سعى بشكل محموم إلى معاهدة السلام وامتهان صناعة جني الأموال من جهة، ومن جهة أخرى سعى إلى إقناع الدول الغربية بأنه ونظامه  هما الضمانة للاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، وإن أي تغيير في ذلك سيعرض كل الشرق الـوسط إلى حالة من عدم الاستقرار. وتبعاً لذلك تحولت المدينة الساحلية شرم الشيخ إلى مكان للقاء السياسيين الغربيين بين الحين والآخر للتمتع بالشمس والاستماع إلى الكلمات الطنانة الجميلة وبدون جدوى. من حيث المنطق فإن الديكتاتور هو من يثير عدم الاستقرار والتهديد في السياسة الخارجية لأنه يخشى من غضب الشعب ولا يعتمد عليه ولا يستطيع أن يلجأ إلى سياسة خارجية ايجابية وخلاقة. إن الديكتاتوريين أما أن يصبحون ذيليين وتابعين للدول الكبرى، أو أنهم كصدام حسين يلجأون إلى العدوان على جارة ضعيفة أو الفشل في السياسة الخارجية مما يؤدي إلى التطرف والعنف بين المستائين من الشباب.

بداية فصل جديد في الشرق الأوسط

بغض النظر عن المسار الذي سيختطه الشعب المصري، فإن عهد مبارك قد شارف على النهاية، وستشهد مصر تحولات عميقة لا تقل شأناً عن التحولات التي شهدتها في عام 1952. ولدى المصريون كل الحق في عدم الاعتماد على وعود مبارك، فهو لا يتحدث عن الاصلاح والتسوية إلا تحت ضغط الشارع، شأنه في ذلك شأن كل الديكتاتوريين حيثما ينزل الملايين من المعارضين إلى الشارع ويقدمون مئات الضحايا على طريق التغيير. لقد قدم مبارك الوعود بالتنحي عن الحكم، ولكنها ذهبت كلها أدراج الرياح. ففي أول دورة لرئاسته وعد المواطن المصري بدورة واحدة، ولكن هذا الوعد ذهب في طي النسيان. فالشهية، كما هو دارج في هذا الجزء من العالم، تزداد مع الشروع في تناول الطعامز وليس هناك جدوى من تقديم النصائح في الكف عن الأكل، فالنهم يفعل مفعوله. ولهذا أدرك شعب مصر أن سقوط النظام سوف لا يجرهم إلى ما هو أسوأ، فلم يصابوا بالرعب من "العربات الحربية" وجِمال الفرعون، وأزداد عددهم في ميدان التحرير كي يجبروا الفرعون على مغادرة قصره.  وبذلك دشن التونسيون والمصريون عهداً جديداً في الشرق الأوسط العربي، وشرعوا بحركة جديدة كلياً تميزت:

أولاً، قامت الطبقة المتوسطة المدينية وأصحاب الشهادات بدور قيادي وأصلي في هذه الحركة، والتي أنضم إليها لاحقاً عمال المصانع. ومن اللافت للنظر أن هذه الحركة لا تضم الغاضبين العميان من الفئات المسحوقة التي تعيش على حواشي المدن والقرويين، الذين يشكلون عاملاً في التطرف والشعبوية على أية حركة.

ثانياً، لحد الآن لا توجد شعارات بارزة ضد أمريكا وإسرائيل. ويمكن القول وبجرأة أن الحركة لم ترفع هذه الشعارات حتى على حاشية هذا التحرك الجماهيري، وهو تحول جديد عند العرب. وهو ما يؤشر على الطريق الطويل الذي قطعه الشباب والشعب المحتجون في هذه البلدان. ففي خلال سنوات طويلة لم نسمع في أغلب الدول الإسلامية، وخاصة في الدول العربية، إلا صيحات الموت لأمريكا وإسرائيل وكتابة المقالات المعادية لأمريكا وإسرائيل. إن توجيه غضب الشعب ضد أمريكا وإسرائيل ونشر التصريحات المعادية لليهود كان يلقى الترحيب والتشجيع أيضاً من الحكومات العربية ومن ضمنها الحكومة المصرية التي تربطها بإسرائيل علاقات "سلام". فلم يتحدث أئمة الجمعة ووأئمة مساجد مصر، الذين هم موظفون مستخدمون لدى الحكومة، والوعاظ في البلدان العربية، طوال هذه السنوات إلاّ بعبارات نارية عن إسرائيل والولايات المتحدة، وعن رسامي الكاريكاتور الدانيماركيين، وعن الصهيونية " و"المؤامرات الدولية اليهودية" وتحميلها المسؤولية عن تخلف الدول العربية وعن المصائب الكبيرة والصغيرة التي لحقت بالشعوب العربية.  لقد أدت هذه الدعوات إلى حرف غضب الشعوب العربية باتجاه عوامل أخرى خارجية مما دفع هذه الشعوب إلى جادة اليأس أو القنوط أو التوسل بالإعمال الإرهابية ضد "الأجانب". وليس من قبيل الصدفة أن غالبية الإرهابيين ينحدرون من دول متحالفة مع الولايات المتحدة. أنظروا إلى فهرست 19 فرد من منفذي 11 سبتمبر، ولاحظوا أيمن الظواهري وبن لادن، الذين لم يأتوا من إيران ولا من لبنان أو من غزة. لقد أعلن " مركز مكافحة الإرهاب في وست بوينت" التابع لوزارة الدفاع الأمريكية في تقرير له في عام 2008 أن 60% من مقاتلي القاعدة في العراق ذوي أصول سعودية ومصرية وليبية. وحسب تعليق جريدة النيويورك تايمز فأنهم من نتاج وصناعة الديكتاتوريين المتحالفين مع الولايات المتحدة. هذه الأنظمة  تعمد في الميدان الداخلي إلى قمع وقلع كل المجاميع المعارضة، وبضمنها الإسلامية التي تنتقد السياسة الداخلية. ولكنها  من ناحية أخرى تلتزم الصمت حيال تصدير فرق الإرهاب إلى العراق وأفغانستان، وحيال دوران عجلة الكراهية للغرب ولغير المسلمين. وهذه السياسة القديمة والجديدة لكل هذه الأنظمة، والتي أضافت اخيراً موضوعة "التهديد الشيعي" من أجل إثارة الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة، تدف إلى  حرف  غضب الجماهير عن مسارها الحقيقي وتوجيهه نحو الخارج. وقد لعب حسني مبارك وطوال سنوات على هذا الوتر أمام الدول الغربية، موحياً أنه الشخص الوحيد القادر على التصدي للتطرف الإسلامي الساعي إلى إشعال المنطقة بالحريق، مطالباً بالدعم وسد الأبواب بوجه كل انتقاد موجه ضده.

وفي خلال كل هذه الفترة كان هؤلاء الحكام يلطمون على صدورهم ويتباكون من أجل الفلسطينيين وعلى حقوقهم المهدورة وفقدان العدالة، في حين أنهم يحرمون شعوبهم من هذه العدالة. فلم يبادر أحد من أمراء الثروة السعوديين ولا شيوخ الخليج ولا قادة مصر وليبيا وتونس حتى الآن إلى زيارة رام الله وغزة. إن هذا التجاهل العملي لا يمنعهم من العزف على وتر العدالة المهدورة للفلسطينيين. ويجيب فرانسيس فوكوياما على سؤال حول سبب تأخر الحركة التحررية في الدول العربية مقارنة لما يحدث في أمريكا اللاتينية قائلاً:" إن أحد الأسباب هي أن قادة جبابرة من أمثال حسني مبارك اتبعوا ستراتيجية محسوبة أساسها عدم السماح لمجاميع المعارضة الليبرالية والمعتدلة بأية فرصة للنشاط، وتوجيه أشد أساليب القمع ضدها من ناحية، ومن ناحية أخرى السماح بقدر ما لبعض المجاميع الإسلامية بالنشاط وبحدود من أجل إرعاب الدول الغربية والولايات المتحدة. هذه الستراتيجية أثرت على أغلب الإدارات الأمريكية، التي تتحدث على الدوام عن نشر الديمقراطية، ولكنها لا تريد التفريط بحلفاء مهمين لها.

إذن إن فقدان ورقة " العداء للأجانب" وتلاشي شعارات الغضب أمام سفارات الدول الغربية الآن لهو تحول جديد ومدهش يدعو إلى التفاؤل. إن الحركة الديمقراطية في إيران لا تميل إلى الإتجاهات العدوانية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، على خلاف حكامها. وتكمن أهمية حركة مصر وتونس، خلافاً لإيران، في  أن الأنظمة الحاكمة في مصر وتونس كانا من أصدقاء الولايات المتحدة. إن هذا التحول في مزاج  الشعوب العربية هو دليل تغيير عميق في السيكولوجية الاجتماعية القديمة المسلطة، سيكولوجية تأثرت لعقود بالديكتاتوريات التي روّجت لموضوعة "المؤامرة الدولية". أنها سيكولوجية جديدة  قادرة على تحطيم القيود واستقرار الديمقراطية في البلدان العربية. أنه تغيير يثير الأمل ولو تعرض هذا التغيير إلى الأخفاق المؤقت. فستستمر الحركة التواقة للديمقراطية في مصر الجارية الآن، وستترك آثارها على الحركات الاجتماعية والانظمة السياسية الحاكمة في الشرق الأوسط.

ثالثاً، إن الحركة اللاعنفية في مصر وتونس وحركتها الهادئة نحو الديمقراطية شبيهة من حيث الجوهر بالحركة الأصلاحية الجارية في إيران في السنوات الأخيرة، التي ستتحول إلى المشهد الرئيس في الشرق الأوسط. وحتى في لبنان فإن مجموعة مثل حزب الله، التي هي حركة شبه عسكرية، تسعى وخاصة في السنوات الأخيرة إلى المشاركة الفعالة في العمل السياسي والسلمي، ويزداد هذا الميل. وبالرغم من سعي هذه المجموعة في الآونة الأخيرة إلى اسقاط حكومة سعد الحريري وتشكيل حكومة جديدة، إلا أن هذا المسعى تم بشكل سلمي وديمقراطي وضمن بنود دستور البلاد. وكذا الحال بالنسبة للمجاميع شبه العسكرية للتيار اليميني المسيحي ومجاميع 14 آذار، فهي ملتزمة بالدستور وبالطريق السلمي. هذا في الوقت الذي تعاني الولايات المتحدة من ضعف نسبي  في التأثير على الأحداث، مما يدعو إلى خشية البعض من اشتعال فتيل الحرب الأهلية من جديد في لبنان.

امتحان صعب للسياسة الخارجية للولايات المتحدة

كان الاحتفاظ بالتوازن بين المصالح الأمنية الوطنية وبين الدفاع عن المطالب الديمقراطية على الدوام الهاجس الأساسي لإدارات الولايات المتحدة المتعاقبة في العقدين الذين تليا انتهاء الحرب الباردة. وكان هذا الموضوع مثار تناقض جدي بين شعار هذه الإدارات وبين السلوك العملي لها. ولا بد أن يؤدي هذا التناقض إلى تعالي أصوات الغضب ضد سياسة الولايات المتحدة الخارجية وإدانتها، هذا الغضب الذي يلقى التعاطف والدعم من قبل المجتمع المدني المفتوح والمقتدر ودوره الطليعي في مجال الفن والصناعة والاختراعات العلمية الحديثة، وبين الكثير من النشطاء السياسيين في كافة أرجاء العالم. وعلى الرغم من أن الحرب الباردة والتنافس مع الاتحاد السوفييتي قد شهد أحلك فترة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إلاّ أن انتهاء الحرب الباردة وفر فرصة جديدة للكثير من دول العالم كي تخطو مع الولايات المتحدة، وخاصة مع منظمات المجتمع المدني والجامعات في الولايات المتحدة، وتستفيد من أجل استقرار الديمقراطية في هذه البلدان. لقد عانت سياسة الولايات المتحدة من تعثرها في هذا الميدان أو من عدم استمراريتها. وحدث في بعض الأحيان أن تمكن اللوبي التابع لهذه الدولة أو تلك أو أعضاء في الكونغرس من الذين لدى ولاياتهم روابط اقتصادية مع بعض الدول الديكتاتورية التأثير على عمل الدولة الفدرالية وعرقلة الضغوط على هذه الدول. فإدارة بوش في الدورة الأولى من رئاسته لم تتبن عدد من السياسات القديمة للإدارات الأمريكية السابقة. وكما صرحت كونداليسا رايس وزيرة الخارجية آنذاك:" يجب أن لا نضحي بالديمقراطية من أجل استقرار وهمي". لقد عبرت السيدة رايس وبشكل صحيح عندما أشارت إلى أن الولايات المتحدة وخلال عقود، ارتكبت أخطاءً عندما سعت إلى دعم الديكتاتوريين من أجل توفير "الاستقرار" على حساب الديمقراطية. وفي النهاية لم يتوفر هذا الاستقرار. ولكن إدارة بوش عادت وبسرعة إلى اللعبة القديمة، واستسلمت للدكتاتوريين العرب مع انتصار حماس في الانتخابات في فلسطين. وقال الديكتاتوريون العرب للولايات المتحدة في إشارتهم لأول انتخابات ديمقراطية في فلسطين:" أما أن تدعمونا وتقبلون بالوضع الجاري في بلداننا، أو الاستعداد للقبول بالانتخابات الحرة وفوز المجاميع السياسية من أمثال حماس وغيرها". ولعب الديكتاتوريون بشمهارة بهذه الورقة مما أدى إلى تغيير في سياسة بوش. إن الحركة الراهنة في تونس ومصر والتطورات الداخلية قد أسقطت هذه الورقة  وأفقدها اعتبارها. فالتوجه الداخلي للحركات في مصر وتونس، وسقوط الورقة التي كان يتلاعب بها الديكتاتوريون، وفر فرصة جديدة لواشنطن كي تبدي ضغوطها السياسية والاقتصادية على الدول الحليفة لها كي تفتح الفضاء السياسي في هذه البلدان. فخلافاً للصمت المخجل ازاء تزوير الانتخابات البرلمانية في مصر قبل أشهر، فإن سياسة أوباما الراهنة تتمتع بنقطتين إيجابيتين: الأولى أنها أكدت على الانتقال الهادئ للسلطة، وثانياً على التغييرات الأساسية والمهمة في الهرم السياسي في مصر.

انحرافات وأخطار

تشير التجربة على أن الانتقال السلمي والهادئ إلى الديمقراطية هو أفضل من الانهيار السريع  للنظام والفوضى السريعة وغير المدروسة.  فالديمقراطية تحتاج إلى تنظيم ومجتمع مدني، وهي لا تعني إن إزاحة ديكتاتور وزوال الديكتاتورية تقتصر على إجراء انتخابات حرة ونزيهة فحسب. وعلى الأقل فنحن الإيرانيون ندرك ذلك من تجربتنا. فإن ما وّحد الجماهير الغاضبة هو غضبهم المشترك. والغضب هو هيجان ... وهو ليس ستراتيجية أو برنامج سياسي. وإن كل الثورات والاحتجاجات هما مقامرة على المجهول. فوراء كل هذا الغضب يقف سعي الناس وأملهم في اسقاط  ديكتاتورهم وعبر التضحيات. سعت الغالبية تقريباً من الشعوب في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية وحتى انتهاء الحرب الباردة إلى القيام بثورات رائعة ذات أهداف نبيلة وكان لديها نفس الأمال. ويجب أن لا يغيب عن بالنا أن حسني مبارك هو الاستمرار المنطقي لثورة – انقلاب عام 1952 في مصر، مع الفارق الشخصي بين جمال عبد الناصر، قائد مصر الاسطوري والعرب وبين حسني مبارك، وهو فارق بين السماء والأرض. فعندما رحل عبد الناصر عن الدنيا لم يكن في دفتر حسابه البنكي سوى 4000 جنيه مصري. أما ثروة حسني مبارك وأولاده وحسب مصادر السيد تام فورمن من جريدة النيويورك تايمز فقد تجاوزت المليارات من الدولارات. ومع ذلك فإن نظام مبارك هو استمرار لما بناه عبد الناصر. فعبد الناصر وضع جانباً الدستور الذي سنّه، وواجه الطلبة المحتجين بالحديد والنار وأزاح القضاة المستقلين بسبب عدم انصياعهم لإرادته ودمر القضاء المستق. وهو الذي كان يتهم كل من يخالفه وينتقده بالعمالة "لإسرائيل والعدو الخارجي"، وكانت الحصيلة من كل ذلك نظام حسني مبارك. إن سلطة منفلتة وبدون حسيب ورقيب لها لا تقود البلاد إلاّ إلى الفساد والدمار مهما خلصت النوايا والآمال. هو ذا مصير ذوي النوايا الحسنة في الصين- ماو، وفي روسيا – لينين وتروتسكي، وفي غانا – نكروما، وفي إيران – آية الله الخميني‘ وكوبا – كاسترو وتشي غيفارا، وفي كوريا الشمالية – كيم أيل سونك وغيرهم.

إن السلطة التي لا تخضع للإشراف أو رقابة مهما صدقت النوايا، ومهما تزعمها قادة مفعمون بالتضحية ويحلمون بآمال كبار سواء كان ذلك في إطار ديني أو إطار اشتراكي أو إطار قومي، فإنهم إذا لم يأخذوا بنظر الاعتبار واقع الطباع والمجتمعات الإنسانية، وأن يفرضوا على المجتمع أيديولوجية معينة وآمال معينة وأحلام طوباوية، فإنهم سيشيدون جهنم لشعوبهم. وهذه هي نتيجة السلطة التي لا تخضع للرقابة والإشراف وليس هناك من يسألها. ولنا في ذلك  ما حدث في السنوات الأخيرة عندما فشلت الثورة الملونة في جيورجيا واوكراينيا وقرقيزيا. ففي جميع هذه الدول حلت النخب الأوتوقراطية والفاسدة محل الحكومات السابقة مع قدر قليل من التغييرات، وهذا دليل على أن الطريق معقد نحو الديمقراطية.  إن تجربة التغيير المفاجئ والفوقي للأنظمة وتدوين دستور ديمقراطي الذي تضمن على بعض التطلعات، كما هو الحال في العراق وأفغانستان، فإن ذلك لا يعني استقرار الديمقراطية وحكم القانون. فالديمقراطية تحتاج إلى مجتمع مدني فعال، وما يعني ذلك من تشكيل منظمات وجمعيات متنوعة لكل فئات الشعب والمهن والمجاميع الاجتماعية والمهنية والعنصرية في البلاد. إن الفيس بوك والتويتر يستطيعان بفاعلية أن يحشدا الشباب وفئات من المجتمع من أجل إسقاط الديكتاتوريين وتوسيع الموجة الاحتجاجية، ولكنهما لا يستطيعان أن يؤسسا تنظيمات ومؤسسات مدنية، أو في تشكيلها المتسرع دفع الناس إلى التنظيم في جمعيات ومنظمات مدنية. إن بعض الأنظمة تسعى في بعض ظروف الأزمات إلى تشجيع مثل هذه الشبكات من أجل إخماد هذه الاحتجاجات.

الحركة الديمقراطية المصرية والاتجاه الإسلامي

إن التيار الإسلامي بكل تلاوينه، وبالرغم من الاختلاف وسوء الظن الذي، بحق أو غير حق، يبديه بعض الليبراليين، إلاّ أنهم جزء مهم من التغيير في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ففي مصر لا تتمتع هذه المجاميع بنفوذ اجتماعي واسع فحسب، فهي تتمتع بتاريخ وتنظيم ممتاز أيضاً. ويعمد البعض إلى التهويل من دور الأخوان المسلمين كي يثيروا الخشية لدى الدول الغربية أزاء التحولات الجارية في مصر. وفي الحقيقة فإن هذا التنظيم السياسي الذي يعد أكثر التيارات تنظيماً في مصر اليوم، فإنه لا يتمتع بالدور السائد في الحركة الأخيرة. ومن ناحية أخرى فإن هذا التنظيم، وعلى الرغم مما هو سائد في الغرب من نزعة "الاسلاميفوبيا"، فإنه ليس راديكالياً من الناحية السياسية، ولا يؤمن بالعنف، ولكنه محافظاً من الناحية الاجتماعية. وتعود شعبية هذا التنظيم إلى ما يوفره من خدمات رفاهية وتعليمية واسعة خلال العقود الأخيرة. وإن الكثير ممن يتعاطف معهم لا يحملون ميول إسلامية. فإذا ما جرت التحولات الحالية في مصر بسرعة وجرت الانتخابات بدون الاستعداد الكاف، ولم يتعرف الشعب على البرامج السياسية  للأحزاب، فإنها يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية. وعلى سبيل المثال فإن الأخوان المسلمين لكونهم أكثر الأحزاب تنظيماً، وليس لكونهم يتمتعون بتأييد الأغلبية من سكان مصر، يمكن أن يفوزوا في الانتخابات المبكرة بدون شك، وهذا يشكل مصيبة في المستقبل. إن كل مجموعة تستفيد من رصيدها الخاص، ومن ضمنها التنظيم الجيد والتعاطف معها في فترة معينة، أن تصل إلى سدة الحكم. ولكن بعد ذلك ستسعى إلى أن تسد الطريق أمام انتخابات حرة. وهذا ما حصل في إيران بالنسبة للمجاميع التي تلقت الدعم من قبل "مجلس الحراسة"(شوراي نكهبان)، أو ما حصل للأحزاب الشيوعية التي استلمت السلطة ولم يكن لديها من رصيد سوى 10% من الأصوات، ولكنها كانت قد تحملت التضحيات أو بالدعم الذي تلقته من الجيش الأحمر في الحرب ضد النازيين وأن تقود لاحقاً المجتمعات في أوربا الشرقية. كما إن البلاشفة استلموا السلطة بفعل القدرات التنظيمية التي كانوا يتمتعون بها ونبوغ لينين الذي استطاع إلحاق الهزيمة بالمناشفة الذين كان لهم الغلبة في الآراء. ولكن ما أن وصل البلاشفة إلى السلطة حتى سدوا الأبواب بوجه الانتخابات الحرة. إن الانتخابات المبكرة، وفي أوج الهيجان والاضطراب، لا تؤدي على الدوام إلى استقرار الديمقراطية. فالتسرع في الانتخابات في المجتمعات التي تمر بتحولات حادة هو مقتل لسلامة الانتخابات. هذه المسألة هي التي دعت السيد محمد البرادعي الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى التأكيد على ضرورة توفير فرصة لاجراء الانتخابات لا تقل عن سنة واحدة، في حين  يطالب الناطق بإسم الأخوان المسلمين بشهر واحد فقط لإجراء الانتخابات. ومع ذلك فإن ما يؤدي إلى زيادة نفوذ ودور الإخوان المسلمين وتحويلهم إلى القوة المسلطة هو اتباع سياسة القمع ضد  الشعب والوقوف بوجه التحولات الديمقراطية.

إن السيد البرادعي يمكن أن لا يستطيع أن يلعب دور فاتسلاف الأول في مصر، ويعتقد البعض من الخبراء أنه انتهازي، ولكن مع ذلك فإنه يمكن أن يلعب دور رجل المرحلة الانتقالية. والأهم من ذلك فهو شخص يتحلى بمواقف واضحة ومعروفة جداً. وكما يقال الشيطان الذي تعرفه خير من الملائكة غير المعروفين الذين ينطون من الماء.

  

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.