كـتـاب ألموقع

وبلغت السبعين من عمري...// نبيل يونس دمان

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل يونس دمان

 

عرض صفحة الكاتب 

وبلغت السبعين من عمري...

نبيل يونس دمان

 

     ولدت في القوش- محلة أودو خريف عام 1951 أيام عيد مار ميخا النوهدري شفيع البلدة، وكانت القابلة المشرفة على ولادتي المرحومة منّه ججو سرّا متزوجة من بيت شاجا. كان البيت الذي ولدت فيه قبواً مظلماً، فيه شباك صغير واحد يؤدي الى غرفة داخلية مظلمة تماماً، ليس فيها كوة او شباك، وهناك غرفة أصغر كثيرا في الداخل ايضاً، كان يحفظ فيها الحنطة او الخردوات او الذهب، وكانت الغرفة الاولى أهم الغرف، وفيها السكن والنوم والحركة، وفيها تخت كبير لنفرين وسرير خشبي مشبك صغير لي صنعه والدي النجار، وأمام الغرفة يقع الحوش الذي فيه على الجهة اليمنى اداة الطبخ ( پايه) وبعد ذلك حل محلها او جاورها المسخن ( بريموس) ذو الصوت المدوي، وعلى الجانب الأيسر كان يوجد خزان حجري ( جرن) على شكل متوازي مستطيلات، وفيه فتحة دائرية نحو الاعلى وعليها غطاء حجري ( كْسايه) يخزن في هذا الحوض الماء فيحتفظ بنقائه وبرودته خصوصاً في الصيف، وعلى مسافة وعلى اليسار ايضا يوجد التنور الطيني الذي ينتج الخبز الحار، وهو ايضاً ملتقى شعبي لنساء المحلة، يتبادلون الأخبار ويرون الاحاديث المختلفة، ومن الجهة الاخرى يوجد سرداب ( بيكاري) يستخدم مأوى للحيوانات الداجنة، وفي مدخل البيت من الجهة الأخرى للتنور يوجد بيت العم أيليا ساكا دمان، وفوقه غرفة لبيت العم عبد المسيح عيسى دمان. وفاتني ان اقول ان فوق بيتنا غرفتين متداخلتين للعم هرمز يوسف دمان، وفوقها سطع عال مشترك لجميعنا، يا له من سطح بارد في الصيف، حيث تهب عليه انسام هواء منعشة، واحيانا تكون شديدة تكاد تقلع افرشتنا من مكانها، ويشرف ذلك السطح على بيوت أقل إرتفاعاً، والى شماله بيوت اكثر ارتفاعا.

 

     يروي الاهل عن محاولة ابن العم حكمت ( حكّو) ايليا رفعي الى الاعلى كنوع من المداعبة، لكنه لم يستلمني فسقطت خلفه على مفرشة العجين ( خوانه) فصار حكمت يبكي بمرارة ويقول" لقد قتلت نبيل! " ولكن حمداً لله خرجت من تلك الحادثة بسلام. وانا في طفولتي المبكرة جداً ( كݒلتا) كان الاهل يأخذونني معهم الى بيت عمتي حبوبة خلف كنيسة مار ميخا، فيغطونني بغطاء ملون زاهٍ، ولا يقبلون اي كان ان يشاهدني او يقبلني، وفي احدى المرات وهم امام بيت العم حنا رزوقي تقدمت زوجته ( مكو رئيس) بإصرار ورفعت الغطاء من رأسي لتقبلني وتقول" ما شاء الله، انتم على حق بتغطيته من أعين الحساد، ابقوه هكذا والله يحفظه"  كانت تلك تقاليد الماضي البعيد بعكس اليوم حيث يوضع في عربة تدفع بين الجمهور بشكل اعتيادي، وكنت في صغري مدللاً وعنيداً فكنت أرفض لقمة الخبز مراراً بالزعم بأن من أعدها غير متمكن فتتناوب امي وودي وحليمة حتى اقتنع، وعند خلودي للنوم في المهد ارفض طريقة وضع الغطاء على جسمي ( اللحاف) فيتناوبن النسوة ذلك وانا ارفض وابكي، حتى مجيء ابنة العم نعمي ايليا فأرتاح الى طريقتها وأخلد للنوم، كانت جدتي تصر ان اتناول طعامي مع عمي كامل، وفي احدى المرات رفض وهم أصروا فرمى صحن الاكل ( قروانة) بعصبية امام البيت وبقينا بدون غداء ذلك اليوم. بعد مضي 28 عاماً على ولادتي استطعت ان أعرف يوم ميلادي من القس هرمز صليوا صنا، بمناسبة إقبالي على الزواج وكان ذلك يوم 13- 11- 1951. أمام بيتنا كان هناك قنطرة ( قمطار) والى الشمال منها بمسافة قصيرة هناك قنطرة اخرى لبيت جدي كوريال اسطيفو أودو، وكانت تلك اماكن او ملتقيات لمجالس شعبية مهمة في ذلك الزمان.

 

     كان مثلي في الحياة التي انا مقبل عليها: عمي المعلم كامل ياقو دمان وكانت الوظيفة اهم شيء آنذاك، لذلك تعلمت الدروس الاولى على يد هذا العم الجليل، اتذكر في أعوام 1955، 1956 كنت أعترض طلبة المدرسة الابتدائية الاولى في مار ميخا لاتكلم معهم بالإنكليزية البسيطة وكان اندهاشهم كبيرا عندما اقول لهم" أي بي سي عيالا، كامل بابا يمي ..؟!!! وكان يعرض كتابه لي هرمز يوسف بوكا لأقرأ فيه قائلاً" 1، 2، 3، 4، .. والى 10 ثم يسألني ما إسمك بالانكليزية وأجاوبه بالمطلوب، فيزداد اندهاشاً وانا امضي فرحا الى البيت لأروي كل ذلك الى امّي.

 

     اصدقائي في المحلة كانوا: عابد سعيد شاجا، نونو جعفو قوجا، أبلحد كادو، سامي گولا، عادل طعان، ياقو طعان، حميد دمان، وآخرين اكبر سناً ومنهم: الياس جعفو قوجا، داود ابلحد حنوش، عزيز اودو، عزيز دمان، واخرين اصغر سنا منهم: منصور سعيد شاجا، متي ججو شاجا، كريم كادو. أتذكر حفل زواج عمي حبيب في بيتنا ( في حدود 1956) وقد اشترت لي جدتي شمي من الموصل بدلة صوفية حمراء وفيها خطوط خضراء وأعجبني فيها اكثر رائحة النفتالين!! اتذكر عندما خرجت العروس من بيت اهلها ( صادق هومو) وهي تجهش بالبكاء مرتدية الملابس الالقوشية الجميلة،  ورأسها مغطى بمنديل خفيف زاهي الالوان، لقد كانت الطفلتان الاصغر مني: اختي سعاد وابنة عمتي سليمة جهوري تؤديان رقصة جميلة وفي يد كل واحدة طماطة لا زال المنظر وكأنه امامي الآن. وأذكر في نفس الفترة زواجاً اخراً في بيتنا في شخص ابن العم بحو ايليا دمان من الانسانة الاصيلة حليمة توما قلو. كان مطرب تلك الحفلات علي حسن ( عليكو من قرية سريچكا) الأيزيدية.

 

     يحدث اجتماع النساء عند التنور في عملية تحضير الخبز الطازج، كانت أمي وزوجة عمي تصطحباني معهن الى تنور الجيران، وفي احدى المرات كانت إحدى النساء حامل وإسمها وردكي التي أنجبت لاحقاً إبنتها البكر جورجيت، فقلت لها: ماذا تخبئين أمامك؟!! فقالت بسرعة: منزق الخبز ( والمنزق يشبه نصف مخدة مدور في نهايته ومصنوع من عيدان الحصران الصلبة يبلل بالماء ويوضع فوقه خبز الرقاق الطازج وتدخل اليد الى منتصفه ثم يلصق الخبز داخل التنور الذي تستعر فيه الحرارة) فانطلت كذبة المنزق علي سنينا طويلة.       كنت ألعب مع اقراني الصغار خلف مبنى ناحوم النبي ( في قصيله) وجاء من دوكان عمي حبيب وجلب لي خبز حار مع علبة مربى كانت نادرة في ذلك الوقت، فجلست على صخرة اتناول ذلك الاكل اللذيذ، ويا لفرحتي ويا لغيرة اصدقائي عندما جلب لي أيضاً علبة اسطوانية فيها ثقوب، ما ان تقلبها حتى تسمع مواء قطة! ، كل اللعب التي تصلني في طفولتي كنت بعد الاستمتاع الكافي بها، افتحها لارى ما في داخلها فتعطب الى الابد، وتصيح علي جدتي قائلة ( خرابه مال) بالكردية ومعناها مخرب بيته!. كانت الجدة ترافق عمي الطالب في الاعدادية الغربية بالموصل، وكلما تأتي الى القوش في العطل او المناسبات تجلب لنا خبز الموصل وكبابها الشهير وكذلك الحلويات، منها بقرة وصخلها مصنوعان من الحلوى، فأتلذذ بأكلها وكذلك تجلب لي الشوكولاته على شكل حلوى مغلفة باوراق زاهية.

 

     في عام 1957 أيضاً جاء والدي من مشروع سد دوكان الذي كان يعمل فيه نجاراً، وقد جلب لي علبة خشبية اسطوانية ( مخمرتا) معبئة بحلاوة موصلية وكذلك مبلغ لا بأس به من الفليسات المعدنية الصفراء اللامعة، دار حولي خالي عزيز وخدعني كونه اكبر سناً مني حيث فرض علي سباق رمي الاحجار لأبعد ما يكون، وفي كل مرة يقول غلبتك، ويأخذ مني بعض تلك الفليسات حتى أفلست!! وذهبت ابكي الى جدتي فلحقت به وأعادتها وهي تردد في مرح وطيبة ذلك الزمان" عاواله زقّانة" .

 

     اتذكر مرة عندما زارنا ابن خالتنا بهنام جهوري في يوم قارص البرد، سأل عمي حبيب: لماذا لا تعمل، فقال له لم أعثر على عمل، فأوصى بفطنة صبيانية، بأن يأخذ معه محراث خشبي( عدّي) يجرّها اثنان من الفئران ويذهب لحرث الحقل ( بذانه) فضحك الجميع، ثم اخرج القشرة الجامدة من ماء الحِب، وهي على شكل صينية جليدية، ولحقته الى خربة مجاورة ووضعها بتأني على حجر مستوي، وكلفني بجمع احجار صغيرة، وصار يرصها بإنتظام على تلك الصينية البلورية وعلى شكل دوائر منتظمة، وهو يردد بانه سيصنع لي غربالاً( سراده) وصارت الاحجار تلك تنغمس في الجليد، وتترك خرماً وما اجمل منظر ( السرادة) الذي صار يلوح، نادتني امي لشيء ما، فذهبت وعند عودتي لم ارى بهنام، ورأيت ذلك المِسرَد الجميل محطماً، فتأسفت.عندما يولد الاطفال في تلك الفترة كنت اسأل وكذا أترابي سؤالا ساذجاً بريئاً " من أين ياتي الوليد" فيقال ان القابلة او الجدة تأتي به من بين الأشواك في الغابة!! .

 

     في محلة اودو مجلس شيوخ شهير يتألف من كبار السن يتخذون من ارضيته في القمطار مجلسهم وعلى طريق كنيسة مار كوركيس، ويبدأوا وينهوا يومهم في إطلاق النعوت والاسماء المثيرة على المارة وبشكل متقن وبارع مما حدى للبعض بتغيير مساره خوفاً من تعليقاتهم، اتذكر جلاس ذلك المكان: اورو حميكا، نونو شاجا، كوريال اودو، ياقو شابيو، عيسى حميكا، كوما بهاري، رشو شاجا، چاكا حنونا، توما قاتي ( الأعمى) ، داقو ككحنو، ... وهناك مجلس آخر في مكان أعلى يفترش صخوراً وهم: چعو شاجا، ياقو قيا، منصور حنونا، موسى طعان، عيسى دمان، سعدو قيا، ... ومجلس آخر امام بيتنا ويجلس فيه: دنو ككميخا، أيليا دمان، رحيم وهرمز دمان، الياس دمان، اورو دمان، والمجلس الاخير في القمطار كان غالبا ما يلعب رواده لعبة ( الدامة) او الورق ( سكمبيل او كبوشي). كان نونو شاجا مشهورا بمعرفة الوقت وفي ذلك الزمان لا تتوفر الساعة اليدوية او غيرها، ومن خلال تحديقه في الشمس رغم ضعف بصره في الشيخوخة، كان يعطي تقديرا صائبا بالقول: سيحل وقت الرمش ( صلاة العصر) او سيطرق الناقوس الان وهكذا.

 

     في طريق الكنيسة كانت تسكن بيتا صغيرا امراة عجوز اسمها ( وردكي مدالو) كانت تشد منديلاً ملوناً على رأسها ومن صفاتها جمع الاوراق من الزقاق، كان الصغار يساعدنها في تلك المهمة فتجمعهم في حوض فخاري متروك، ولم نعرف سر جمعها تلك القصاصات حتى يومنا هذا!!. في اوقات الظهر خصوصا ايام الاحاد كانت ترجع كوزي مدالو وزوجها كوما بهاري وبيدهم اناء سفري خفيف ويمروا وسط مجلس محلة اودو في طريقهم الى البيت هنا ترفع كوزي صوتها وكأنها تخاطب نفسها" ديخ كاو كلّيكي....." اي كيف يحصل ذلك، وانا ارفض الكبة ووارينة ( زوجة الياس أفندي) تصر على أخذها فاضطررت، الناس في المجلس تتذمر في داخلها وهي تشم رائحة الكبة التي ربما لم تذقها لفترة طويلة بسبب فقر حال الناس آنذاك من خمسينات القرن الماضي، ولسان حالهم القول" نحن لم نسألها ماذا تحمل في إنائها السفري، فلماذا تزعجنا؟ " .

 

ملاحظة: ما سبق كانت الاوراق الاولى من كتابي المخطوط ( ومرت السنوات على عجالة) المنتهي منه عام 2019 وهو جاهز للطبع ينتظر الفرصة المناسبة.

 

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

November 15, 2021