كـتـاب ألموقع

• حادِثة بَكْروكـَه

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل يونس دمان

              حادِثة بَكْروكـَه

     يقول الراوي : سمعت هذه القصة وكان عمري حوالي خمس عشرة سنة من عمي سليمان الذي توفي في 1950 ، وهو في شيخوخة طويلة ، اي قرابة المئة عام ، وهكذا اذا حسبنا على هذا الاساس يكون تولده قرابة 1860 . ولكونها طريفة حفظتها طوال هذا الوقت .

     وقعت الحادثة أيام  يوسف رئيس ( 1803- 1879 ) ، وفي زمن أغا الكوجر( إسماعيل ) ، وعلي بك ( جد تحسين سعيد ) أمير الأيزيدية الحالي . كان اسماعيل أغا يملك اعدادا ً كبيرة من الأغنام تصل الى أربعة او خمسة قطعان ، من الواضح أن عملية تغذية هذا العدد من القطعان في فصل الشتاء تكون صعبة إن لم تكن مستحيلة ، حيث لا مراعي ولا مروج ، بسبب هطول الثلوج . يخزن بعض الناس العلف لتلك الايام لأن في بعض تلك الايام لا تستطيع الماشية مغادرة ملاجئها .

     كان يصعب على اسماعيل أغا تدبير العلف لاعداد أغنامه الكبير، ولذلك اعتاد في كل شتاء ان يسرح بأغنامه ، حراسه ، حريمه ، خيله ، خدمه ، من اعالي الجبال المكلله هاماتها بالثلوج جنوبا ً الى مناطقنا ، حيث يشتري مراع ٍ في جبالها ( ﭙاوانـِه ) من الأيزيدية في الجبال المحيطة بقرى باعذرا ، خورزان ، كـَرسافه . خصوصا في الجبل المقابل لقرية خورزان ، الذي تكثر فيه الكهوف الواسعة والعميقة (رأيت العديد منها عند تواجدي في المنطقة ) . مناطقنا قليلة الثلوج في الشتاء وبالتالي تبقى مراعيها حيوية فترة طويلة من أشد أيام الشتاء برودة، لذلك كانت قطعان الاغنام تبقى فيها طوال فصل البرد ،  وحتى مطلع ايار حيث يسوقها الرعاة صعودا الى الزوزان ، لتقضي الصيف بأكمله وحتى نهاية الخريف ، وتتكرر الرحلة نزولا ً وصعودا ً في الاعوام التالية .

     عندما تعود القطعان ..... يباع فائض منتوجها من اللبن والجبن والصوف والسمن الى مناطقنا ، وتشتري حاجاتها من اسواقنا العامرة بالسكر والشاي والصابون والملابس ، وكذلك المونة من برغل وجريش وحبوب وبقول وطحين.

     في تلك الرحلات التي فرضتها المواسم والطبيعة والمصالح المتبادلة ، كانت تقتضي ايضا اقامة افضل العلاقات مع ابناء منطقتنا ، فكان اسماعيل يصادق أمير الشيخان ورئيس القوش ، وعندما ياتي اليها كان يحل ضيفا عند أيسفي كوزل ، وبذلك تطورت الصداقة بينهم وبين باقي وجهاء قرى المنطقة .

    يدور الكلام بأسره عن كثرة الاغنام التي يمتلكها اسماعيل اغا ، كانت تعود من مرعاها الى الكهوف في الليل ، فاذا كان الجو حارا ً فانها تحجز في اماكن مسيجة بالاحجار او الاخشاب ، ويطلق على تلك المسيجة التي لها باب ومفتوحة على السماء ب ( كوتان ) . اربعة الى خمسة قطعان من الاغنام ،  يتركها الرعاة ، ويبقى كلب واحد يحرسها جميعها ، يكاد لا يصدق ولكنها الحقيقة ، كانوا معتمدين على ذلك الكلب ، فاذا اقترب حيوان يفترسه ، واذا جاء ذئب يقطعه ، واذا تقدم لصوص او اناس غرباء للسرقة ، يهجم عليهم ويمزقهم ، لا احد يستطيع التقرب منه ، لا من الحيوانات ولا من اللصوص ولا من الحيوانات الا اذا استخدموا الأسلحة ، عند ذلك يهب رعاة الأغا وحراسه بالسلاح ليدافعوا عن المكان ، وتحدث جلبة وطلب النجدة ( هاور) فينهض الجميع لرد اللصوص .

     في احد الايام وفي واحدة من زيارات علي بك لإسماعيل أغا كأن يكون للتهنئة بالعيد او للترحيب بهم او لزياره بهدف معين ، جاء علي بك الى تلك المنطقة الجبلية ، فرحب به ضيفه بحفاوة ، وبعد احاديث متشعبة ، سأل علي ما يراود ذهنه بالقول :

- اغا انا معجب بك كثيرا واتساءل كيف يبلغ بك الامان والثقة ان تترك آلاف الاغنام في حراسة كلب واحد , كيف تطمئن نفسك الى ذلك ؟.

 قال اسماعيل اغا :

- علي بيك ..... في الحقيقة ، ليس لهذا الكلب من مثيل ، مجرب ولسنين ، في قوته وشراسته ويقظته ، فلا احد من البشر او من الوحوش يستطيع التقرب من الاغنام ً، في الليل او في النهار ، اذا كانوا لا يستخدمون السلاح ، اما اذا استخدموا النار ، فيهب جماعتي على اثر النداء ( الهاور ) ونتقدم جميعا حال سماعنا ذلك او اي صوت لاطلاق النار، فنحن كل هذه السنين مطمئنين تماما ً الى قدرات هذا الكلب الأعجوبة ، وباستمرار يزداد فخرنا به .

   لم يصدق على بك ذلك وابدى شكوكه ، وبعد اخذ ورد ، آل الجدل الى رهان ، فقال الأغا :

 - الاغنام متروكة هكذا في العراء ، ليتقدم من يشاء ويجرب ، طبعا نحن غير مسؤولين اذا المتقدم قتل من قبل الكلب ، عندها لا يحق لاحد ان يطالب بدمه ، وبالعكس هذه الاغنام وهذا الكلب امامكم ، كل يوم ، وليتقدم من يرى في نفسه الشجاعة ليتقدم وليسرق ما يروق له من الاغنام ، شرط ان لا يستخدم السلاح الناري ، ويستطيع استعمال السكين او الخنجر او العصا او الگوپال ( عصا معطوفة الراس ) او اي شيء من هذا القبيل . اشترطوا بينهم ، واعطى اسماعيل مهلة شهر الى علي بك ليستعين بكل جماعته لياخذ ما يشاء من الاغنام ، ومن يفترسه الكلب يخسر نفسه .

     انتهت الزيارة وعاد علي بك الى باعذرا ، اهتم بالمسألة جيدا ، واخذ يرسل كل ليلة خيرة رجاله من شجعان الى قطاع طرق الى لصوص الى مهربين ( قچاغه ) ، واستعان بعصابات من منطقة زاخو معروفة ( يطلق عليهم قايذنايه ) ومن مناطق سنجار، وجميعهم اخفقوا ، ومضت ثلاثة اسابع على الشرط ( قول ) . كل هؤلاء حاولوا التقرب من الاغنام لكن بمجرد صدور اصوات بسيطة ( دمدمة او حمحمة ) من ذلك الكلب الاسطورة ، فانهم يهربون ناجين بجلودهم . ماذا بإمكان علي بك ان يعمل ، وقد بقي له اسبوع من شرطه مع الأغا ؟ .

     في احدى زيارات البك لرئيس القوش يوسف رئيس الملقب ( أيسفي كوزل ) في بيته ، والمسألة تشغل باله كثيرا ، اذ كيف يفشل امير الشيخان وقومه ( ايزدخانه ) وكل رجاله ومهربيه وشقاته ، في ايجاد حل لذلك الكلب اللغز ، واثناء جلوسهم واحاديثهم ، لاحظ يوسف علامات الحيرة في وجه جاره ، ولم يتمالك قائلاً :

-  ما شان البك ؟ انا لا ارى علامات الارتياح في وجهه ، فماذا يشغله ؟ .

 اجاب علي بك قائلا :

- خواجه أيسف ...... لا تصدق ما اقوله لك عن الرهان مع اسماعيل أغا ، وحاولت جهدي خلال ثلاثة اسابيع لجلب ولو جدي او طلي واحد من قطعان الأغا ولكني عجزت تماما ً.

 اجابه يوسف :

-  احقا ما تقوله ايها البك ؟

-  نعم ... وما العمل ... باقي لنا اسبوع ، ونخسر رهاننا مع اسماعيل اغا ، وهي مخجلة وملامة كبيرة لنا ، خواجه أيسف .

ضحك أيسف وقال :

- ليس هناك ابسط من هذه المشكلة .

وسال البك متعجبا :

-  كيف هي بسيطة ، خواجة ؟

     نادى يوسف على خادمه وقهوجي الديوان الملقب ( بكروكه ) لقصر قامته وخفته ، وهيئته الفقيرة ، وفي كل الاحوال لا تبدو على قسمات وجهه الشجاعة او القوة ، عمله كل ليلة في الديوانخانة ، حيث يقدم القهوة والسكائر للضيوف . جاء بكروكه مسرعا .ً

 فقال له يوسف :

- يا ولد ( قليت ) بكروكه اسمع ما يقوله البك .

      كان البك غير راغبٍ  بمخاطبة بكروكه للاسباب السابقة ، ولكن طلب يوسف منه ان يتلو القصة والموضوع ، جعله يتكلم عن الكلب الشرس الذي حيرّهم ، ومن بداية الحكاية وحتى الوقت الذي هم فيه .

بكروكه يخاطب يوسف :

– كم رأس يريدني ان اجلب له من قطعان الأغام؟

  البك دون ان ينتظر جواب الخواجة .

 – هات راس واحد فقط وليكن خروف او ماعز صغير ، فقط اريد ان أوفي بالشرط .

بكروكة منشرحا ً.

– لا بيك سأقطع لك مجموعة ( بالآرامية الدارجة بـِرَّه) من الاغنام .

( عند كلمة " برّه " وقف متحدثي يتكلم عنها طويلا ، بما يوطد الموضوع ويمنحه بعدا ً تراثيا ً) فيقول :

     لم اسمع باستخدام هذه المفردة الدالة على عدد محدد من الماشية في قرى اخرى ، وقد تجولت في العديد منها في شمال الوطن الحبيب. فقط تستخدم في القوش للتعبير عن عدد الماشية ( اغنام او ماعز ) وتساوي عشرة رؤوس ، فالذي يقول لدي 3 بـره من الاغنام اي 30 راس منها ، واذا قال 7 برة اي 70 منها وهكذا حتى المئة عندها تتحول المفردة الى كلمة ( قـْوطَة ) ، فاذا قال احدهم : ان فلان يملك قوطِة من الاغنام اي المئات منها ، وغالبا ما يتجاوز القوطة الواحد عن المئة الى 150 او 180 . في المحلة الواحدة من القوش كان بعض البيوت تمتلك 20 راس او 2 بره وبعضها 4 بره واخرى بره واحد ، فتجمع حصيلة عدة بيوت ليكتمل قوام قوطة ، عندها يستلمها ( شفانه)  الى المراعي المنتشرة في الوديان او السهول او الجبال ( وكلمة شفان تعني راعي بالكردية ، وفي الآرامية رَعيا ) يقول يسوع المسيح : انا هو الراعي الصالح ( آنيون رعيا طاوة ) ، والحال كذلك مع كلمة ( كافانا ) التي تطلق على راعي الابقار وهي كلمة كردية يقابلها بالارامية ( بقارا ) التي يطلقها بناء شعبنا في قرى بلاد النهرين الخالدين .

     في القوش الاربعينات من القرن المنصرم ، كانت توجد حوالي 20 قوطه غنم اي بحدود 2000- 3000 منها ، ففي محلة قاشا حوالي 4-5 قوطه ، وبيت قوجا مثلا كان يملك لوحده قوطة واحد وبيت ابشارة قوطة ، وبيت متاية قوطة وبيت مرخو قوطة واخرى تجمع من عدة بيوت كما سبق الحديث. كان لنا حوالي 4-5 بره وبيت ميخا عملي عدد من بري وبيت ياقو قيا . وفي محلات اخرى كان بيت بتوزا وبيت خوبير وبيت حنيكا ويقوندا واسطيفانا وغيرها يمتلكون بالمئات ( قوطِه ) . عندما كنت بين التاسعة والعاشرة من عمري كنت اذهب امام الخرفان لرعيها ، وابن عمي الذي كان يكبرني بعدة سنوات ، ينام طوال فصل الربيع امام الغنم ، مع ميخا أپا وغيرهم ، كانوا يدعونهم ( شـَڤ نوبه ) . ففي الربيع كان اصحاب الاغنام لا يرجعونها في المساء الى البيوت  بل تبقى اشهرا في العراء ( برية ) وفي العصاري تحمل الحلابات عشاء الرعاة ، يخرجن من القوش يقصدون المراتع الخضراء التي يقيم فوقها بشكل مؤقت الرعاة والقطعان . فيما ينهمك الرعاة بالعشاء تتحرك الحلابات نحو الغنيمات الممتلئة صررها باللبن ، ويشرعن بحلبها ، فتمتلئ بعد قليل سطولهن ( ستلوكات ) بالحليب الحار، يجلسن بعدها قليلا يسامرن الرعاة ، ثم يعودن الى البلدة حيث بيوتهن واطفالهن متلهفين ، للحليب القادم من بعيد .

 بعد هذه التعريجة نعود الى بكروكة وهو يخاطب رئيسه :

 - عزيزا ( احد ألقاب ايسفي كوزل ) متى ينبغي الذهاب لتنفيذ المهمة ؟.

 اجاب علي بك نيابة عن ايسفي كوزل :

- اذا امكن اليوم .

بكروكة مكررا السؤال :

- صحيح ، هل اذهب اليوم عزيزا .

- اذهب ( سي قليت ) معهم الان .

     جهز بكروكه نفسه جيدا ولبس سرواله وقفطانه ( مقطنيثه ) وحذاءه ( كالِكِّه ) ثم انطلق لا يلوي على شيء ، وسار مع المجموعة التي يتقدمها امير الشيخان ، وحتى بلغ قرية باعذرا ، والتي منها سينطلق الى جبل ( بي قينا ) مقابل قرية خورزان . في ذلك الجبل هناك خرائب دير بأسم ( بي قينا ) لا زالت قائمة ومعناه دير بنات العهد ( بيث قيما ) قياما قيمثي ( مزمور ) اي عهد وضعت . كذلك في كرسافا القرية الايزيدية المجاورة ، لازالت جدران الدير قائمة وإسمه دير بيث مريم والجدران من مادة الكلس الابيض ( كلشا ) ، في موسمه كل عام تتماوج الشموع التي يشعلها وقارا ً وخشية من رب الارباب ، اخوتنا الايزيدية المقيمين بقرب  ذلك الموقع التاريخي ، العميق في وجدان المؤمنين بالله سبحانه وتعالى .

      الى ذلك المكان سيتوجه بكروكه متوكلا على الله ، قبل ذلك تناول عشاء فاخرا ً جهزه له خدم الامير، وبعد استراحة قصيرة ، نهض على قدميه وطلب منهم بساطا ً قديما ً( تحتية )  وكذلك شليلة خيط متين ( گـذته ) .

  ارتفع صوت علي بك آمرا ً :

 - خذ ما تشاء يا بكروكه من البساطات المفوشة في ديواني ، وهي من النوع الفاخر .

     وطلب من خدامه تجهيزه فورا بلفة خيوط من الوبر الممتاز. استلمها بكروكه واختار احدى البساطات من الديوان . فطواها بسرعة ووضعها تحت ابطه ، ليودعهم ويخرج مسرعا ، الى فضاء القصر والظلام يطبق الآفاق . في تلك الاثناء نظر علي بك في اثر ذلك الذي لا يشبه الرجال بل تخيله من اشباههم ، لقصر قامته ، وشكله ، وهيئته ، غير مصدق ابدا انه اهلا ً للمهمة الخطرة التي هو في صدد ايجاد مخرج لها . بكروكه من اشباه الرجال ، دميم المنظر ، فقير في كل شيء ، كيف يقبل المنطق ان ينسج بطولة عجز عنها رجاله ، ابدا لم يصدق ولم يثق بالموضوع برمته ، ربما راودته شكوك بان مسخرة اخرى تنتظره ، وهذه المرة من رئيس القوش ايسفي كوزل ، ثم يرجع مسائلا ً نفسه : هل يعقل برجل وقور مثل اييسفي كوزل ان ينحى هكذا ، ماذا بامكان بكروكه ان يعمله ، هل يلعب معنا لعبة ، فياخذ البساط ويمضي الى بيته ، ولن نراه بعدها ، كان يجيب نفسه قائلا " لا ... لا ... غير  معقول ، وان حدث ذلك فالملامة تكون على ايسفي كوزل " على كل حال ، في تلك اللحظات من مغادرة بكروكه راودته كل تلك الافكار ، ان لم نقل الاوهام .

    اما بكروكه فتوجه صاعدا في الارض الوعرة المحيطة ، قاطعا ً المسافة حتى بلغ اسفل الجبل ( بي قينا ) عند قرية خورزان الراقدة بوداعة في ذلك السفح ، لتقضي ليلتها الحالكة الظلام وبانتظار فجر جديد ليصبِّح كل انسان فيها الى عمله ، في الحقول او المراعي او اعمال البيوت ، وفي لجـّة الحياة التي قرارها هكذا منذ الازل وسيبقى .

     في الليل تتجمع الاغنام في اماكن مسيجة مفتوحة من الاعلى تسمى ( كوتان ) ويذهب كلٌ من الرعاة الى بيته او مكان مبيته في كهف او تحت قطوع صخرية ( لوحده او مع عائلته ) . بعد العشاء ( تعليله ) تصبح الاغنام في حراسة ذلك الكلب الذي سبق الحديث عنه . وصل بكروكة بخفته المعروفة الى اسفل الجبل او قاع الوادي وقبل ان يصعد الى جبل بي قيما وعند باب الكلي ( الوادي ) الذي يجري فيه نهير صغير ، جلس بكروكة ووضع ما بحوزته من مقتنيات ليشرع العمل .

     وضع البساط ارضا ، ثم اخرج خنجره الصغير فقطعه الى قطع محسوبة الابعاد والاشكال ، ثم خيطها بالاستعانة بإبرة خشنة (أرتخه ) صنع من ذلك معطفا ً وبريا ً  يسمى محليا ( كپنـّك ) ، وعمل له غطاء راس ( سَر كـُلاڤ ) من طبقتين من مادة البساط . المعطف الذي اجاد في عمله ، كان يفي المرام ، متينا يغطي الرأس وحتى اخمص القدمين ، ظل يمرر خيوط اخرى لتمتين العمل وجعله يقاوم ما هو مقبل عليه . مما تبقى من الخيوط ضفر منها حبلا ً اكثر متانة ( شلالة ) واداره حول جسمه بعد ان ارتدى المعطف . ومن ضمن حاجياته ايضا كانت قصبة ( بلـّرته ) خشبية طولها اكثر من متر وقطرها يعادل قطر الخشبة التي تستعمل في قياس الحبوب في البيع والشراء ( گرمته ) ، تلك الخشبة الخاصة كانت معه مذ مغادرته بيته . جلس في اسفل الوادي حتى انتصف الليل وساد المنطقة الهدوء ، انقطعت الضوضاء وخمدت النيران التي كان يتحلق حولها الرعاة طلبا للدفء والمسامرة في ذلك الشتاء من شتاءات بلاد بيث نهرين . هنا نهض بكروكة وتاكد من لبسه الصوفي ومن متانه وعدم وجود اية ثغرة او اماكن ضعف يمكن اختراقها ، وتحرك الى النهير بقربه وارتمى ، مرغ نفسه فيه جيدا ، في ذلك البرد والليل الذي لا يؤانسه شيء سوى ما يشغل فكره وينجح مهمته الصعبة . ترك المعطف يتسرب الماء اليه يشرب جيدا ً من كل جهاته من الظهر والبطن والرقبة والراس ، حتى وصل حدا ، لو حاول رجل مفتول العضلات خرقه بخنجره ، لا ينفذ ملليمترا ً واحدا ً ( كل المواد التي استعملها كانت عالية الجودة ) ، ثم شرع يجر نفسه صعودا باتجاه مواطن النـَعَم ، وهو مثقل بالمعطف المبتل ، وسار بحذر وعيونه مفتوحة لاستطلاع الموقع ، والاستعداد لاي طارئ . قبل ان يصل الى هدفه في خطف عدد من الانعام ، ظهر الكلب الحارس الذي شم رائحة الغريب او ربما وصلت اسماعه اصوات معينة ،  وان كانت لكائن حذر في كل خطوة يخطوها . لم يطل الوقت كثيرا حتى كانت المواجهة بين الانسان والحيوان، الاول في ذهنه الوقاد والثاني في خفته وفرط قوته ، في البداية اصدر الكلب دمدمات كانها النغم قبل ان يتصاعد انفعاله ، الى نباح وجلبة ، تقدم الكلب الى الامام وتقدم بكروكه ايضا ، يتقدم بكروكة خطوة وخطوات الى الامام والكلب كذلك ، اهتز المكان، وسمع الرعاة ذلك لكنهم لم يتحركوا ساكنين ، لان ذلك وارد كل يوم تقريبا والنتيجة تكون هزيمة اي عاثر حظ يحاول سرقة الانعام ، انهم واثقون تماما بان كلبهم سيهزم اي لص مهما بلغ من الفطنة والسرعة والقوة ، ذلك ما كان من الرعاة . اما بكروكه القادم من بلدة القوش العريقة ، فلم يتراجع امام الهول القادم نحوه بل تقدم اليه ، وعندما التحم الجانبان في العراك خفتت الاصوات ، اذ انهمك الكلب في عض مناطق من جسم البكروك فكانت اسنانه لا تنغرز ابدا في الغريم ، دار حوله حتى يئس، عندها وبحركة ذكية مدروسة من بكروكه فادار له ظهره ، وحالما فعل ذلك ، قفز الكلب فوقه وشرع يأكل من راسه ولكن هيهات ، فالصوف متين ، مبتل ، ومتشرب بالماء ، لا سبيل منه الى راس بكروكه وجسمه الصغير ولكن القلب الذي يحمله كبير ، مجرب في امور شبيهة بالتي تجري اليوم ، كل ذلك من اجل إخراج علي بك من مأزقه مع اغا الكوجر المعروف اسماعيل أغا .

     عبثا ذهبت عضات الكلب القوية لراس بكروكة ، وفيما الكلب منهمك في محاولاته ، ويبدو ان لا خيار اخر امامه ، استل بكروكه عصاه في يد ومررها خلف ظهر الكلب واستلم نهايتها في يده الثانية ، وسحب العصاه التي ارتكزت في منتصف ظهره ، بقوة الى الامام ، وفي الحال قصمت ظهر الكلب وتقطعت فقرات عموده الفقري ، صاح الكلب صيحة الموت وارتخت عضلاته ، منهارا على الارض ، وقبل ان يشرع بالأنين والنواح ، الذي لو حصل سيكون خطرا على بكروكه من رجال الاغا المسلحين . هنا تناول قطعة صوف من بقايا البساط ، كانت معه وألقمها في فم الكلب ، حتى يقطع اي صوت او أنين ، وفعلا تم ذلك بنجاح ، ثم حل الحبل الملفوف حول ظهره ولف فكي الكلب لفا ًمحكما ليكتم نباحه تماما ً، واخيرا ربط بالحبل المتبقي أرجل الكلب وسحبه مسافة الى جانب شجيرة هناك ( طرّاشه ) وربطه فيها . عند ذلك تنفس بكروكه الصعداء وخلا الجو له تماما ، ومضى يكمل مهمته التي من اجلها جازف بحياته ، فاقتطع عدد من الاغنام التي اعجبته من قطعان الأغا النائم بهدوء واطمئنان ، وسرح بها يسوقها بعصاه كأي راع خبير حتى باب الگلي ( الوادي ) ومنها انطلق باتجاه قرية باعذرا .

     مع مطلع الفجر وصل امام قصر الامير ، طرق الباب وجلس ينتظر البواب ( درگڤان ) حتى يفتحه ، لم يفتح الباب لان لهم نظام خاص في ذلك ، فجلس مع اكثر من بره من الاغنام امام حائط القصر ينتظر بفارغ الصبر خروج الخدم حتى يعود الى بيته . لم يطل الوقت كثيرا حتى خرج الخدم ليروا العجب امامهم ، صاح بهم بكروكه قائلا ً " تعالوا تعالوا استلموا الانعام وقولوا لعلي بك اني جلبتها له ، ولا وقت لي في مقابلته ، لان علي العودة السريعة ، عزيزا قلق الآن ، وداعا ً وداعا " . تركهم مبهورين امام منظر الرؤوس الجميلة للاغنام المسروقة من قطعان الاغا اسماعيل . في الحال ذهب قسم منهم الى حيث ينام البيك ، فأيقظوه من نومه قائلين " أس بني أس خلام ، اي يا عالي المقام نحن خدامك ، نعتذر عن ازعاجك في هذا الوقت ، لكننا جئنا في امر هام ، تعال معنا انظر بنفسك الى الانعام التي جلبها قبل قليل ، ذلك الذي لا يشبه الرجال ، لا نعرف ان كان ذلك في اليقظة او في المنام ما نراه امامنا . ان الالقوشي الذي جاء معك في الامس وغادر القصر بعد تناول العشاء ، ها انه عاد في الصباح الباكر ومعه الاغنام تركها امام حائط القصر، واودعنا بعد ان اعتذر من مقابلة البيك . بسبب تلهفه الوصول الى القوش ، كون الرئيس ايسفي كوزل سيكون قلقا عليه ، وحتى يطمئن بانه نفذ المهمة ، واختار الجياد من رؤوس ماشية الاغا اسماعيل  ابلغ تحياته وتمنياته لك بالتوفيق " .

     كل ذلك اذهل امير الايزيدية فنهض مسرعا من فراشه صوب بوابة القصر ، ليرى عددا ً من الأنعام تنام وديعة هناك . علي بك يرى الاغنام بأعينه ويخاطب نفسه قائلا ً " هل انا في الحلم ام في اليقظة ، كيف حصل ذلك ؟ هل يُصدق ما أراه ؟ كيف بنصف آدمي لا يزيد طوله عن شبر! يزايد علينا ، وينجح في عمل بطولي ، ونحن بكل قوانا من رجال ، لصوص ، قتلة ، وقطاع طرق ، من سنجار وزاخو وسينا وشيخ خدري ، وبكل ثقلنا وامكاناتنا لم نستطع ان نعمل شيئا طوال شهر من شرطنا ( قولن ) مع اسماعيل اغا " .

هذا من جانب علي بك ، اما من جهة اسماعيل اغا ، فعندما سمع الرعاة صوت دمدمة الكلب ونباحه ، تصوروا ان علي بك يختبرهم مرة اخرى ، وعندما ساد المكان الصمت بعد الجلبة وانقطاع الكلب عن النباح ، ومن خلال تجاربهم السابقة ولسنين ، تبادلوا الهمس والابتسامات ، ميقنين بان الكلب الشرس قد هزم اللصوص وربما افترس عددا ًمنهم ، تشهد تلك الارض الصخرية ، في هياكل عظام لكائنات مزقها ذلك الكلب ، وهكذا خلدوا الى النوم الهادئ ، والى سلامة الآلاف من قطعان ماشيتهم ، كما اعتادوا . لكن المفاجأة الكبرى كانت في الصباح عندما جلسوا من نومهم حيث لا ضوضاء ولا نباح الكلب ، وفيما هم منهمكون في سوق القطعان الى المراعي الخصبة المنتشرة في وهاد ووديان ذلك الجبل الأشم ، جلب انتباههم بشكل جلي هذه المرة بان الكلب مفقود ، حيث لم يألفوا ابدا إختفائه في تلك الاوقات . فكل يوم يكون ذلك الكلب مفعم نشاطا ً ، يهز ذيله متبخترا ، يدور حول الانعام ويركض هنا وهناك ، ترى ماذا جرى له اليوم بحق السماء ؟ فتشوا عنه ولم يجدوه ، نادوه ولم يستجب ، وعندما داروا حول الكوتان ، فماذا شاهدوا ؟ صعقوا وهم يرون الكلب مكسور الظهر ، مشدود الفم ، مقيد الارجل ، ومربوط بشجيرة هناك ، ما هذا الذي يروه ، هل هم في حلم ام في خيال . ما كان منهم بعد ان افاقوا على الحقيقة المرة ، الا ان يركضوا باتجاه المكان الذي ينام فيه الأغا اسماعيل ، وشرعوا ينادون عليه :

 - أس بني أس خلام ( من الكردية بمعنى : نحن خدامك يا عالي المقام )  قم من نومك لترى ما جرى للكلب .

- ماذا جرى يا اولاد ؟

 - قم معنا وسترى بنفسك ما حدث .

( نهض من نومه مستفزا ، وسار معهم مسافة قصيرة ، وهناك راى الكلب مقصوم الظهر مشدودا الى شجرة ، لا يستطيع النباح او النواح ، صفق بيديه آسفا ً ) ثم قال بأسى :

 – هي ماليمن خراب ( بالكردية : اي لقد خرب بيتي ) .

 ثم اخذ يكلم نفسه مذهولا ً :

- الف عافية لك علي بك ( قالها بالتركية عفارم ) والله لقد غلبتنا ، عفارم للايزيدية وعفارم لرجال علي بك ، لمقدرتهم الفائقة في التغلب على كلب ، كان لا يقهر ، وتحول بمرور الزمن الى اسطورة في تلك الأصقاع .

فمن هم هؤلاء الابطال الذين نفذوا تلك المهمة ، والله انهم يمتلكون الجراة والامكانية  الهائلة ، والا كيف نجحوا في الليلة الماضية . وفي الحال طلب من حراسه مرافقته على الفور، قاصدين قرية باعذرا ، وحتى بلغوا قصر الامير .

     هناك في باعذرا وفي القصر المنيف  ، تقابل الرجلان ، وقبل التطرق الى اي موضوع ، طلب الأغا من البك واستحلفه بالسماء وبضميره ما يطلبه منه ، وهو ان يرى الرجل او الرجال الذين صلبوا الكلب ، وساقوا انعامه امامهم وسط حراس مسلحين ورعاة يقظين ، اولئك الذين عركتهم المغامرات .

-  الا تعرفـّني من فضلك على ذلك الرجل الهمام والسبع الذي لا يشق له غمام ، ومجموعته التي قامت بتلك المأثرة ، انا لا ابغي سوى تهنئتهم على ذلك ، بل لاقبلهم في جبينهم ، والله يشهد كم انا فخور بهم ، واحييك واحسدك يا علي بك ، ان يكون لك رجال من هذا الطراز وبهذه المواصفاة . اسهب الاغا كثيرا في كلامه ، فيما علي يسمعه مبتسما ، وعند ذلك الحد رفع البيك صوته قائلا ً :

- كفى كفى يا أغا من اطنابنا ، فعن اي رجال تتكلم وعن اي أيزيدية تتحدث ، ان الذي قام بذلك العمل لم يكن من رجالي ، بل من رجال رئيس القوش ايسفي كوزل .

اسماعيل اغا التزم الهدوء طويلا ً ، ووضع اصبعه على احد الاوردة البارزة في اعلى راسه ، ثم قال :

- اريد الذهاب الى القوش لمقابلة ذلك البطل الذي نجح في اصعب مهمة .

علي بك ياتي بجواب سريع لرغبة الأغا في مقابلة بطل القوش ويقول :

- لقد كان معنا في الامس وانا شاهدته يا اغا ، رجل لا يجذب منظره احدا ً، قصير القامة ، ضعيف البنية ، يعمل قهوجيا في ديوان ايسفي كوزل ، لا يصدق ابدا ً ما فعله ،  شكله لا يوحي مطلقا بالبطولة ، او بإجتراح المآثر  .

- ارجو من الامير علي بك  ان يصطحبني اليهم الان .

 - بلى .... بلى ، حاضر أغا .

     جهز علي بك رجاله على الفور ، وسار موكبهم غربا ً ، قاصدين القوش ، وهم يتحدثون طوال الطريق عن بكروكه ، الذي لم يأت إسمه إعتباطا ، بل هو كناية عن صغر حجمه وضعفه ، ولكن في نفس الوقت خفة حركته ، وسرعة بداهته . عندما وصلوا البلدة كان رئيسها المهيب الطلعة ، الباسم المحيا في استقبالهم ، وهو رجل القوش الاول ، المعروف بين العشائر والسلطات التركية ، رجل يتقد ذكاء ، يفكر ليل نهار في شؤون الناس لإسعادهم ، ورفع الغبن عن الفقير والمظلوم ، منصفا ً كان أيسفي كوزل ، وشخصية قوية ومحبوبة ، انسانا ً في كل المقاييس ، وهو رجل القرن التاسع عشر في حياتها .

     استقبل ضيوفه بالحفاوة والاحترام ، وبعد استراحة قصيرة ، قال الأغا اسماعيل :

 – والله خواجة أيسف جئت اهنئك بحرارة على رجلك الذي نفذ المهمة بنجاح ، واريد ان أرى شكله ، واي طراز من الرجال يكون ، جئت لأقبـّله في جبينه .

قال كوزل :

- ليس ذلك الرجل الذي تتوقعه يا أغا ، ولكنه قهوجي أمين ، يقوم بعمله على أحسن وجه كل يوم ، وان رغبتم في تذوق القهوة التي  يعملها ، سأطلبه الان .

 اجاب الأغا بسرعة :

- عن اية قهوة تتكلم ، نحن نريد ان نقابله ونجلس معه .

هنا نادى كوزل على القهوجي  :

– بكروكه بكروكه !

- نعم نعم ، عزيزا .

 - لقد جاء الأغا والبيك من مسافة بعيدة لمقابلتك .

 قال بكروكه وعلامات الانزعاج بادية عليه :

- ماذا تريدون ، ماذا تريدون  ، إتركوني وشأني .

الخواجه أيسف مبتسما ً وبمرح يقول :

- لا لا يا ولد ، اعمل لهم على الفور قهوة ، ليتذوقوا ما تنجزه يداك ، من القهوة الجيدة ذات النكهة الخاصة .

– سمعا ًوطاعة ، عزيزا .

بعد قليل كان بكروكه يدخل الديوان ومعه القهوة الممتازة التي جهزها للضيوف ، وهو لا يرفع عينيه اليهم احتراما ً .

 ايسف كوزل يقول :

- هذا هو الرجل بكروكه الذي تريدون رؤيته .

 طالت فترة تحديق الأغا بقوام بكروكه ، وهو مبهور فاتح ثغره ، ليقول :

 - هكذا تكون الرجال .

     طلب اسماعيل بك من بكروكه ان يروي مغامرته في الليلة السابقة ، فرواها لهم باختصار شديد ، لم يخل من ارتباك واضح ، اذ لا تهمه ابدا ً الاضواء ولا الشهرة ، فقط اخلاصه ومحبته للرئيس أيسفي كوزل وبالتالي لبلدته ، تكاد تكون كل ثروته ، وتطلعه الوحيد في الحياة .

ملاحظة رقم (1) : الموضوع فصل من كتابي المعنون( حكايات من  بلدتي العريقة) المطبوع عام 2008.

ملاحظة رقم (2) : القصة سمعتها من الشماس عابد هرمز كادو المحترم.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

March 23, 2010