كـتـاب ألموقع

ذكرياتنا في جمهورية اليمن الديمقراطية (4-4)// نبيل يونس دمان

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل يونس دمان

 

عرض صفحة الكاتب 

ذكرياتنا في جمهورية اليمن الديمقراطية

 في أربعة حلقات

(4)

نبيل يونس دمان

 

     في شهر مايو ( ايار) من العام المذكور اخبرني اخي بان الوالدين في طريقهم الينا من العراق، فاستعدنا لاستقبالهم، وبعدها بايام اتصل بنا ليقول انهم فعلا غادروا الوطن الى صنعاء عاصمة الشطر الشمالي من اليمن، فنزلنا حالا الى العاصمة عدن في بيت الصديق( ابو سامي وام سرمد) ، لنكون عن قرب، ولننتظر مكالمة اخرى منه هناك، وطالت نسبيا مخابرته فقلقنا على الوالدين، وفيما نحن في حالة الترقب، وصلت مكالمة من علي حسين ( ابو صفاء) في ابين ليقول ان الوالدين فيها، وهم طلائع العراقيين الذين يصلون الينا، طوال سنوات من وجودنا في بلاد اليمن.

 

     خرجت على عجل برفقة زوجتي والاطفال، نركض في شوارع عدن لنستقل اول سيارة توصلنا الى منطقة ( عريش الصيادين) في شرق عدن، وفيها انتظرنا اية سيارة خاصة او للاجرة لتقلنا الى محافظة ابين ، لم يطل الوقت كثيرا حتى وصلت سيارة اسرة المعلمة حليمة محمد صالح، وهم عائدون من سفرة الى محافظة تعز. اخبرناهم بوصول اهلنا الى ابين، ففرحوا معنا ، وجعل السائق ينهب الارض نهبا، حتى وصلنا الى العمارة التي نسكنها في ابين، هناك عرفنا انهم في ضيافة الصديق هادي الخزاعي( ابو اروى) وزوجته ابتسام فؤاد، وفي شقتهم التي صعدنا اليها في الطابق الثالث كان استقبالنا للوالدين بالقبل والاحضان، وليشهد الكثير من قاطني تلك العمارة ، ذلك المشهد المؤثر.

 

     هكذا قضينا معهم اسبوعين من اسعد الايام، في الاحاديث الكثيرة المتشعبة، واخذ الصور والتجوال في زنجبار وعدن والكود وجعار، وكم امتعتني قصة وصولهم الى ابين، وليس معهم عنوان ولا رقم تلفون . لقد نزلوا في مطار صنعاء وهم في زيهم الغريب، خصوصا زي والدتي المتميز، وكان الوالد يحمل قنينتين لمشروب  كحولي محلي، فعثر عليهما وصودرا، وعندما انتحى احد موظفي المطار جانبا، ومعه القارورتين لتحطيمها، والوالد ينظر بحنو اليها، فجاة عاد يسال الوالد ، ان كان مسلما ام من دين آخر ، فاجابه انه مسيحي ، فاعتذر وارجع اليه مشروبه المفضل. ثم اجر الوالد سيارة، اقلتهم عبر اراضي وعرة الى تعز، لحج، ومن ثم عدن، وتوقفت السيارة في موقف ( فرزة) الشيخ عثمان، هناك التف اليمنيون حولهم، وهم معجبون بهيئتهم ، وسالوهم عن وجهتهم، وتفاهموا رغم صعوبة اللهجة اليمنية، ووالدتي لا تجيد اطلاقا غير اللغة السريانية ، بان ولدهم وعائلته في محافظة ابين، فانبرى احد السواق ليقول بانه يعرف المدرس نبيل ، وكم كان استغرابهم وفرحهم في آن واحد، وقد ساورهم القلق، عن كيفية الاهتداء الى مكان ابنهم، وها هم في اول مقابلة مع اليمنيين الجنوبيين يهتدون الى مكانه. فحمل السائق الجنوبي امتعتهم وقاد سيارته، حتى وقف امام العمارة السكنية في زنجبار.

 

      طاب للعراقيين في ابين ان يتحدثوا بشوق مع والدي عن الوطن وما آل اليه، واوضاع الناس وكل يسال الاسئلة التي تخطر بباله، ليجاوبهم الوالد باسلوبه البسيط والمنفعل في احيان كثيرة، وكان يضع في حسابه او هكذا عكست شدة وبطش الدكتاتورؤية بهم، ان لا يهاجم النظام الحاكم بشكل مباشر، لانه في اجازة قصيرة، وسيعود في كل الاحوال الى حيث النظام الذي لا زال يحكم بالحديد والنار، واجمل ما كان لقاءاته وحديثه مع اليمنيين في جولتنا معا في ساحة الشهداء، وسوق ( كريتر ) في عدن الصغرى، وكذلك اخذ الوالد الى مزرعة صديق فتزود بالفاكهة التي حملها معه الى بغداد ، والتي كالعادة لم يتقاضى المضيف اليمني ثمنها ، وسط الحاح الوالد بقبول الثمن ، فكان ذلك موضع استغرابه واعجابه في آن. على اية حال مضت الايام القليلة معهم والاطفال متعلقين بهم، ولم يكن في اليد من حيلة الا ان تودعهم عائلتي في احد صباحات ابين في شهر مايو من عام 1990، واصطحبتهم بسيارة اجرة الى عدن حيث ودعتهم في مطارها، ليستقلوا طائرة من الخطوط الجوية ( اليمدا) حتى صنعاء، ومنها الى بغداد ، وفي نفس يوم وصولهم اتصلت ولاول مرة بالتلفون المباشر مع بيت خالتي، فاكدت وصولهم بسلام الى ارض الوطن.

 

     بعد ايام قليلة اقترب ايضا موعد مغادرتنا الدولة المضيافة التي لن انسى ما حييت فضلها علينا، وبجواز سفرها الذي احتفظ به، غادرناها بالدموع مودعين من اهلها الطيبين ومن العراقيين اصحابنا الذين بقوا فيها. في يوم 13- 6- 1990 حلقت طائرتنا اليمنية الديمقراطية من مطار عدن الى بودابست عاصمة المجر، وكان آخر شخص يودعنا هو سائق السيارة المخضرم ( صالح البندق) من ابين، في بودابست بقينا اسبوعا ً، ونحن نستعد للسفر المزعوم الى دولة كوبــا في امريكا اللاتينية ، وفي الطريق تتوقف الطائرة ترانزيت في مطار مونتريال، عندها نستغل الفرصة لنطلب اللجوء السياسي في كندا حيث يعيش فيها اخي.

 

     في الصباح الاخير من صباحات المجر التي نغادرها الى كوبــا اودعنا في المطار الصديق الرائع الذي تعرفنا عليه ابو موريس( اشوري من البصرة) يقيم في المجر مع عائلته. لكننا ارجعنا من المطار ، فقد شككوا في رحلتنا، وقالوا يجب ان تكون لكم فيزا الى كندا، حتى لو كنتم تمرون فيها ( ترانزيت) عبثا حاولنا اقناعهم بان وجهتنا العاصمة هافانــا، واوصونا بالتوجه الى السفارة الكندية للحصول على الموافقة . خرجنا من المطار لا نعرف اين نذهب، ونجهل لغة البلد، اتذكر كانت عطلة نهاية الاسبوع، والمكان الوحيد الذي نعرف عنوانه ، كان المكتب الخاص بالسياحة والهجرة، والذي يملكه عراقي اظن اسمه ( عبد الرسول) ، فاجرنا سيارة وبالكاد اهتدينا الى مكانه، وكان حظنا سعيدا حيث التقينا باحد الاخوة العاملين في المكتب، والذي تواجد عن طريق الصدفة، فاجر لنا غرفة في احد البيوت البعيدة عن المركز، بقينا فيه عدة ايام عانينا فيها الكثير، حيث المكان غير مناسب، اكظم نفوسنا، وصاحبه جشعا حاول استغلالنا، وفيه تمرض ابني وعمره ثلاث سنوات، فاخذناه الى عيادة شعبية، تقاضت منا مبلغا مناسبا من المال، وبعد تعبيرنا عن الضجر والضيق فيه، نقلنا صاحب المكتب المذكور الى بيت في المركز ( راكوجيتير) والذي يقرب من ساحة لويزا ومن فندق استوريا، ومن هناك بدانا نتصل بشقيق زوجتي كلبرت في اميركا وبخالها في المانيا، واستطعنا بعد سلسلة من الاتصالات ان نحصل على فيزا زيارة الى اميركا، على اثر الدعوة التي ارسلها لنا كلبرت اودو، وكذلك حصلنا على فيزا الى المانيا. لا انسى فضل السفارة اليمنية في بودابست في تسهيل امورنا وبشخص سفيرها المحترم والموظف العراقي العامل فيها ( سلمان البصري) .

 

      غادرنا بودابست بالطائرة الى برلين الشرقية وهناك كان بانتظارنا الخال روكسي منصور، فاصطحبنا الى شقته في برلين الغربية، التي خطفت ابصارنا بتطورها الشامل في كل المجالات، واطلعنا على معالمها السياحية والتاريخية، فقد زرنا قصر الرايخستاج ، ومدينة بوتسدام، ومررنا حول نصب الحرية، وزرنا متاجر برلين العالية التنظيم، وزرنا متحفها وحديقة الحيوانات فيها والتقطنا العديد من الصور التذكارية، وكذلك تسنى لنا حضور الجلسة الاحتفالية، لمؤتمر رابطة الكتاب والفنانين العراقيين، هناك التقينا بالعديد من الاصدقاء الذين فارقناهم من قبل ومنهم: د. كاظم حبيب، الصحفي عدنان حسين، عبدالمنعم الاعسم، ام نهرين، ابو العز، د. فائق بطي وغيرهم.

 

     مكثنا في برلين اسبوعا ً، ثم اقلتنا طائرة عملاقة الى بلد الحريات والفرص، بلد البقاء والاستقرار، اميركا العظيمة بتقدمها وتطورها الهائل في كل المجالات، واحد اقوى المراكز الصناعية والعلمية والتجارية في العالم. كان استقبالنا فيها مجلبا للانتباه، فمن الضياع الى الوجود، من لا احد يعرفنا عن قرب، الى اقارب واصدقاء قدامى من ايام وطننا الام، والى اصدقاء ومعارف جدد كل يوم وفي مختلف المناسبات والاعياد، الوطنية والدينية والشعبية، اضافة الى جانب هام جدا، وهو التكلم بلغتنا السريانية العريقة، وفي وسط مجتمع سرياني مصغر، حيث يعيش اكثر من مئتي الف من ابناء جلدتنا من مختلف المذاهب والبلدات والقرى المختلفة في وطن بين النهرين، ومن البلدان المجاورة . يحاول هذا القوم سليل حضارات عظمى في التاريخ ، البابلية والاشورية، ان يحافظ على ما تبقى من عاداته وتقاليده وطقوسه، على امل ان يكون لشعبهم الاصيل المتواجد على ارض الاباء والاجداد يوما، وجوده المعترف به، وحريته ونيل حقوقه، المهضومة لقرون طويلة من الزمن، بفعل عدم الاستقرار والمظالم والمآسي التي تعرض لها، واستطاع الى الان ان يصمد ويستمر رغم الصعاب وهول المشاكل اليومية التي تجابهه، وعلى امل ان يعرف الجميع ويقر باصالة هذا الشعب البيث نهريني، فيكون له الحقوق المتساوية مع الجميع، وليشق المجتمع طريقه بين الامم، ويبرز في علمه وبناءه وحضارته المتجددة.

 

     هذا البلد العظيم مد اذرعه لنا، ولكن قوانينه الصارمة ، منحتنا ثلاثة ايام فقط زيارة، بسبب قرب نفاذ مفعول جواز سفرنا اليمني الديمقراطي. وبمجرد وصولنا الى مكتب كرمو للمحاماة، تبدد قلقنا واستطاع الاخوان مرشد وستيف من تمديد مكوثنا لعدة اشهر قادمة ، التقطنا فيها انفاسنا، بعدها قدمنا طلب اللجوء السياسي ، وكانت الفترة حساسة، حيث اعقبت دخول قوات الطاغية دولة الكويت في 2- 8- 1990.

 

      عشنا سنوات نعمل بكدح مُضني، وهي حالة تتطلب ان يمر بها كل قادم جديد الى هذا البلد، وتمتعنا بكل حقوقنا تقريبا، باستثناء السفر خارج الولايات المتحدة ، وصرنا نعبر عن ارائنا علنا، وذلك امر لم نعشه من قبل وله اهميته، كوننا لم نملك تلك الحرية في وطننا، وكانت ممارستها بحدودها الدنيا، تؤدي بصاحبها الى غياهب المجهول . وارسلنا الاولاد الى المدارس فتدرجوا في التعليم فيها حتى نالت بناتي وابني الشهادات الجامعية برفعة الرأس، وتطور وضعنا تدريجيا وبخطوات رتيبة، نحو الافضل ، فكانت حالتنا المتوسطة ولا تزال موضع ارتياحنا وقناعتنا، حيث لم نندفع بشراهة لكسب المال وبالتالي نفقد اشياء روحية صميمية ، تفوق قيمها كل كنوز الارض ، فتركز نظرنا وتطلعنا نحو الاهتمام بالاولاد والنظر باستمرار صوب الوطن وكأنه يعيش معنا هنا في المهجر المفروض.

     في هذا البلد الذي منحنا بعد سنوات الاقامة الدائمة، ثم الجنسية الامريكية في مطلع الالفية الثالثة للميلاد، زادنا فخرا وشعوراً أعلى بالمسؤولية، في التوازن بين البلد الذي اعطانا الحقوق ، ومنحنا الاستقرار، وبين وطننا الام ذلك الحبيب الاول الذي يذكرنا بقصيدة لأبي تمام يقول فيها:

كم منزل في الارض يألفه الفتــى/ وحنينه ابدا ً لأول منــزل

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحب إلا للحبيب الاول

 

     توفرت لي هنا الفرصة ان تتطور هوايتي المفضلة في المطالعة والكتابة المتواضعة، وكانت لي الحرية الكاملة في اختيار الموضوع الذي اريد التطرق اليه، وفي مختلف المجالات: السياسية، الادبية، الفنية، التراث، القومية، والمواضيع الاجتماعية والانسانية، ووصلت كتاباتي الى حد النشر في الصحف والمجلات المعروفة، وفي مواقع ومنتديات الانترنيت، التي تطورت بسرعة في السنوات الماضية  ولأكتب براحة بال، مستفيدا ً من وقتي الذي يلي عملي، دون ضغط او إملاء من احد، ولأصدر عام 2001 كتابي الاول بعنوان ( الرئاسة في بلدة القوش) ، وعام 2008 كتابي الثاني بعنوان ( حكايات من بلدتي العريقة) ، وعام 2014 كتابي الثالث بعنوان ( القوش حصن نينوى المنيع) ، والكتاب الحالي الذي اهديه الى شعبي العراقي الأبي، والذي سيرفع في القريب ان شاء الله عن كاهله، كل مخلفات عهود الذل والتسلط والدكتاتورية، الى رحاب الحرية والديمقراطية، التي تنادي ارضنا بها، ولينطلق في سباق مع الامم ، نحو الرفعة والمجد، فيتربع في عرشه الجديد موحدّا ً، مرفـّها، وسعيدا ً.

 

ملاحظة مهمة:

الاسطر الاربعة الاخيرة يقصد بها كتابي الصادر عام 2020 بعنوان ( الجبال معاقل الثوار) وتشكل الحلقات الأربعة السابقة جزء ملحق بالكتاب.

انتهى الموضوع ، شكراً لمتابعتكم.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

California on October 20, 2021