كـتـاب ألموقع

قُدسية ساحة التحرير ونصب الحرية وجسر الشهداء عند العراقيين// د. خليل الجنابي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

قُدسية ساحة التحرير ونصب الحرية وجسر الشهداء عند العراقيين

الدكتور / خليل الجنابي

 

ساحة التحرير التي أخذت تُردد إسمها هذه الأيام وكالات الأنباء الصديقة والعدوة وينطق بحروفها اللامعة الصغير والكبير، نساءً ورجالاً، شباباً وكهولاً، عمالاً وفلاحين، فقراء ومعدمين، أساتذة وأطباء ومهندسين، معلمين وطلاب، كتاب وفنانين وموسيقيين، متقاعدين وعاطلين عن العمل، مرضى ومقعدين، أرامل وأيتام ومشردين ومن كل ألوان الطيف الشمسي العراقي الأصيل، القومي والديني والمذهبي. هذه الجموع الهادرة الغاضبة خرجت ولا زالت تخرج في مظاهرات صاخبة مطالبة بالإصلاحات وتوفير الخدمات الضرورية من كهرباء وماء صالح للشرب وخبز وصحة وتعليم وتوفير فرص عمل للعاطلين ومحاربة الفساد والسرقة وحل مشكلة الشباب الذي أخذ يهاجر بعد أن يئس من إيجاد حل لمشاكله المستعصية، ومن أجل توفير الأمن ومكافحة الإرهاب بكل أنواعه وفي مقدمته داعش والمتعاونين معها، أصوات تتعالى يوماً بعد يوم وتجد لها صدى في داخل الوطن وخارجه .

إن الناظر إلى ساحات التحرير في معظم مدن العراق ينظر بفخر إلى نصب الحرية في بغداد بإعتباره رمزاً وطنياً، هذا الصرح الذي صممه ونفذه النحات العراقي جواد سليم وسط هذه الساحة التي كان لها دوراً مهماً في بعض الثورات والمسيرات والإنتفاضات التي شهدتها مدينة بغداد، وسميت بساحة التحرير نسبة إلى التحرر من الإحتلال والإستعمار الإجنبي .

ولا غرابة في أن يجد المتظاهرون الإطمئنان تحت هذا النصب والطود الشامخ والذي يذكرهم بأمجاد المناضلين القدامى من الرعيل الأول والذين صدحت أصواتهم عالياً بحب الشعب والوطن والدفاع عن إستقلاله وسيادته .

 الأصدقاء من كل حدب وصوب عندما يتحدثون مع بعضهم البعض عبر الهاتف يتفقوا أخيراً على اللقاء في ساحة التحرير وتحت ظلال نصب الحرية، وبعد أن يلتقطوا الصور التذكارية ينصرفوا إلى أماكن أخرى محببة بالنسبة إليهم، وهذا ما جرى للعديد من الأعزاء المغتربين حين زيارتهم لبغداد فأول ما يخطر في بالهم هو زيارة ساحة التحرير ونصب الحرية مطبقين القول (الما يزور التحرير عمرة خسارة) ، وكم يشعر الزائر إليها بالغبطة والسرور وهو يتطلع إليها بإحترام ووقار، منتشياً ومنتصباً بشموخ لا يوصف وكأنه يحس أن شُحنات كهربائية (ثورية) دبت إلى جسده المُتعب والمُثقل بوجع الإغتراب الذي دفعه مُرغماً خارج الحدود .

إن ما يسُر هو مساهمة المرأة في التظاهرات التي عمت أطراف الوطن ولو أنها لازالت أقل من الطموح لكنها بوادر خير لأن مشاركة النساء في الإحتجاجات المطالبة بالإصلاحات وتوفير الخدمات يعني الكثير، يعني أن الأم والأخت والزوجة والإبنة والقريبة التي تشكل النصف المهم في المجتمع قد تململت ولم تعُد تطيق ما وصل إليه حال الوطن. فقد رضع منها المناضلون الأوائل (الحليب الطاهر) الذي طالما يتفاخر به بنات وأبناء الوطن حين يقول عنهم القائل (راضعة أو راضع حليب أمه) .

المرأة العراقية قدمت التضحيات الجسام على مر التأريخ الوطني والسياسي، ومنذ ثورة العشرين وهي تزغرد لتدفع الأبناء والأخوة وتُحشمهم في معترك الدفاع عن الوطن عندما صدح أبطال ثورة العشرين في أهازيجهم (الطوب أحسن لو مكواري) ، وما تلاها من إنتفاضات ووثبات (عمال كاورباغي في كركوك، وثبة كانون الثاني عام ١٩٤٨، وإنتفاضات ٥٢ - ٥٤ - ٥٦ - والتي تتوجت بثورة ١٤ / تموز / ١٩٥٨ .

 

أسماء لامعة لا تُعد ولا تُحصى تصدرن المشهد الثقافي والأدبي والسياسي من أمثال (أسماء الزهاوي، حسيبة جعفر، بولينا حسون، أمينة الرحال، وجيهة محمد الشبيبي، الدكتورة لميعة عباس زكي، الدكتورة سانحة أمين زكي، الدكتورة سلوى عبد الله سلوم. صبيحة الشيخ داود، عفيفة رؤوف، الدكتورة نزيهة الدليمي، روز خدوري، فكتوريا نعمان، عفيفة البستاني، نظيمة وهبي، سعاد خيري) وغيرهن العشرات ممن تركن بصماتهن في مجرى النضال الوطني العام .

 

وإن ننسى فلا يمكن أن ننسى (بهيجة - فتاة الجسر)  التي سقطت مخضبة بدمائها الطاهرة فوق جسر المأمون أو الجسر العتيق الذي شُيد عام ١٩٤٠، ذلك الجسر الذي خلد إسمها وإسم الشهداء الآخرين (قيس الآلوسي، شمران علوان، جعفر مهدي الجواهري- شقيق شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري) ، وعشرات غيرهم، فأطلقت علية ثورة ١٤ / تموز / ١٩٥٨  بـ (جسر الشهداء) .

 وبعملية بطولية رفعت بهيجة راية حمراء مع عباءتها وهي تتوسط الجموع فوق الجسر للعبور إلى الجانب الآخر للإلتقاء مع متظاهري جانب الرصافة، لكن نيران القناصة من فوق العمارات والمآذن التي كانت تحيط بالجسر أسكتت صوتها، لكنها ألهبت الحماس في صفوف اللآلاف من المتظاهرين، وإلتقت الجموع في موج متلاطم أرعب حكام النظام الملكي آنذاك مما إضطرهم على إلغاء معاهدة بورتسموث التي كانوا قد عقدوها للتو وسقوط وزارة صالح جبر التي كانت قد أبرمتها مع بريطانيا إمتداداً لمعاهدة ١٩٣٠ .

فهذا هو جسر ( الشهداء ) خلدته بهيجة وخلدته الأجيال من بعدها وأصبح رمزاً للمطالبين بحقوقم المغتصبة .

إن التضحيات الجسام التي تُقدم على مذبح الحرية سوف لن تنتهي ، ومنذ بداية التظاهرات عام ٢٠١١ وإلى الآن سقط ولا زال يسقط الأبناء الغيارى لوطنهم وقضيته العادلة والمطالبين بالحقوق المدنية والإصلاحات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية، وتحسين أوضاعهم المعيشية التي تدهورت إلى أبعد الحدود، وإحتجاجاً على الفساد وتردي الخدمات وشعارات أخرى (خبز .. حرية .. دولة مدنية) .

وهنا لا يسعني إلا أن أُردد مع الناشط المدني الرائع (أحمد جويعد) :

التحرير ليست إلا قلب العراق

ينبض بالمدنية

ويتنفس رائحة رغيف الخبز

بطعم الملح

 

ولون القمح