كـتـاب ألموقع

١٤ نيسان عيد الطلبة المجيد// د. خليل الجنابي

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

١٤ نيسان عيد الطلبة المجيد

الدكتور / خليل الجنابي

 

الطلبة كانوا ولا زالوا ورود المجتمع، وعلى إختلاف ألوان هذه الورود فهم رائحتها العبقة الزكية الطيبة التي تعطي للحياة معنى لحب الوطن والأمل المشرق في الحياة الحرة الكريمة .

الطلبة شرائح مهمة دخلت التاريخ جنباً الى جنب مع شرائح المجتمع الاخرى وطبقاته دفاعاً عن مصالحها وحقوقها واهدافها, وبإعتبارهم الحلقة الأكثر إنفتاحاً ووعياً كانت لهم حظوظاً وافرة في برامج الأحزاب والمنظمات الجماهيرية المختلفة، وتوجهت اليهم الجماهير في أزماتها المعيشية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية ، وكانت في الصفوف الأمامية من المواجهات مع السلطات الملكية وأجهزتها الأمنية والقمعية. وحين إشتد عودها تداعت النخبة المتقدمة منها في ١٤نيسان عام ١٩٤٨وفي ساحة السباع - بغداد - في عقد مؤتمرهم الأول الذي عُرف " بمؤتمر السباع " وأعلنوا عن تأسيس" إتحاد الطلبة العام في العراق" الذي إنظم لاحقاً إلى إتحاد الطلبة العالمي ، وثبتوا البرنامج النقابي والوطني , والنضال من أجل مستقبل أفضل ومن أجل حياة حرة كريمة والتفوق العلمي  ومن أجل السلم وضد التمييز العرقي والعنصري .

 

لقد تواكب الآلاف على المؤتمر وحمتهم الجماهير الغفيرة من العمال والفلاحين والكسبة من عرب وأكراد وتركمان، مسلمين ومسيحيين وصابئة وإيزيديين, وكان شاعرنا الكبير (محمد مهدي الجواهري) يُلهب حماس الجماهير المحتشدة وهو ينشد قصيدته الرائعة (يوم الشهيد) في تأبين أخيه (جعفر الجواهري) الطالب الذي سقط شهيداً برصاص شرطة النظام الملكي في إنتفاضة وثبة كانون الثاني عام ١٩٤٨. ومنذ ذلك الحين تأسست الفروع الطلابية في الكليات والمعاهد والمدارس المهنية والثانوية وفي مختلف أنحاء العراق, ولم تخلُ النشاطات الطلابية من رفع شعارات إتحاد الطلبة العام في الحفلات الخاصة والعامة وكذلك السفرات المدرسية, وكانت حاضرة في كل المناسبات الوطنية والإنتفاضات الشعبية. كما أن المد الثوري الذي إجتاح العراق بعد وثبة كانون الثاني عام ١٩٤٨ وإنتفاضات تشرين ١٩٥٢ و١٩٥٤ و١٩٥٦ أثناء العدوان الثلاثي الغاشم (الإنكليزي الفرنسي الإسرائيلي) على الشقيقة مصر حين تأميمها لقناة السويس، فكان للطلبة دوراً فاعلاً في المظاهرات الصاخبة والإحتجاجات التي عمت العراق من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه هاتفة ضد الأحلاف العسكرية ومنددة بالعدوان البربري .

فما كان من الأجهزة الأمنية والبوليسية للنظام الملكي إلا الرد بقسوة على جماهير الإنتفاضة من القوى الوطنية المختلفة من عمال وفلاحين ومثقفين وكسبة وكان للطلبة نصيبهم الكبير من مئات وآلاف المعتقلين الذين زُجوا في المواقف والسجون، إلا أن شوكتهم لم تلن   

وبالهم لم يهدأ وإصرارهم على المضي قُدماً مع نشاطات باقي المنظمات الجماهيرية الأخرى في التصدي للقوى الإستعمارية الغاشمة وللإنظمة العميلة التي كانت ساعية في ضرب حركة التحرر الوطني في المنطقة وحرفها عن مسارها، وتمزيق عرى التلاحم بينها وبين المعسكر الاشتراكي وفي المقدمة منه الإتحاد السوفيتي آنذاك .

مدينة الموصل الحدباء كما في باقي المدن العراقية الأخرى كانت حاضرة في النشاطات الطلابية، ففي ليلة ١٣-٤/١٤/ ١٩٥٧إنتشرت العديد من الفرق الطلابية  تخط وتكتب الشعارات واللافتات على بنايات المدارس والمؤسسات الحكومية والشوارع العامة والازقة .. حيّت فيها الذكرى السنوية لتاسيس إتحاد الطلبة العام, وشعارات ضد الأحلاف العسكرية وحلف بغداد المقبور وضد الإستعمار والرجعية

ومن المفارقات أن يقع الإختيار على المجموعة التي كنت معها على المدرسة التي كنت أدرس فيها (المتوسطة الغربية) فتسلقت الجدار الخارجي للمدرسة ليلاً مع الزميل العزيز "محمد صالح محمد" وكانت عدتنا الفرشة والصبغ الأبيض والأحمر، وملأنا جدران المدرسة الداخلية والخارجية بشعارات إتحاد الطلبة والشعارات الوطنية الأخرى وشعارات ضد الإستعمار والملكية العميلة، وفي صباح يوم ١٤ نيسان عمت الفرحة مئات الطلبة الذين شاهدوا هذه الشعارات وهي تملأ فضاء المدرسة الواسع ،

 كان يوماً بهيجاً ومشحوناً بالتوتر, وفي نفس اليوم جاءت مجموعة من رجال الأمن الى المدرسة، بعد أن صعقها الخبر في كل أطراف المدينة وبدأت بالتحقيق فيما إذا كانت عناصر من داخل المدرسة قد ساهمت في هذا النشاط "الهدام" , إلا أن إدارة المدرسة لم تكن متعاونة معهم , رغم وجود دليل من قِبل أحد المدرسين لاحظه على "البنطلون" الذي كنت أرتديه وهو بقعة صغيرة من الصبغ الذي كُتبت به الشعارات على جدران المدرسة, إلا انه لم يخبر إدارة المدرسة ولم يخبر أحداً بذلك , ونبهني إلى الإسراع بالتخلص من "الدليل" , مما دفعني إلى قص مكان البقعة "بالموس" لحين وصولي إلى البيت ( لترقيعه ) .

وبعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨  أُفتتح في بغداد مقراً لأتحاد الطلبة العام - المركز- وكذلك في باقي المدن العراقية الأخرى ومنها مدينة الموصل, حيث أفتتح مقراً لأتحاد الطلبة العام - فرع الموصل - في شارع نينوى وفي الزاوية التي يلتقي فيها مع شارع النجفي - شارع المكتبات وفي الطابق الثاني, حيث كان لكل مدرسة و ثانوية ومتوسطة ومعهد ممثلين في الفرع. وتنفس الطلبة الصُعداء بعد أن وجدوا لهم مكاناً يلتقون فيه ويتابعون نشاطاتهم العلمية والثقافية والمهنية وكان المقر يحتوي على مكتبة متواضعة من عشرات الكتب والصحف والمجلات الثقافية والادبية والعلمية المختلفة، تبرع بها الطلبة أنفسهم وكذلك من أصدقائهم وذويهم . ونشطت الحركة الطلابية وأصبحت لها في كل مدرسة ومؤسسة علمية نشرة حائطية يكتب فيها الطلبة مساهماتهم الثقافية والأدبية والعلمية. إن الإلتفاف الواسع من قبل الجماهير على هذه المنظمات الطلابية والشبابية والمهنية والتي إنتشرت كذلك بين أوساط العمال والفلاحين وباقي المهن الأخرى من مهندسين وأطباء ومعلمين ومحامين وفنانين إلى جانب المنظمات النسائية , إن هذا الإلتفاف كان داعماً قوياً لثورة 14 تموز وقائدها الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم وصحبه الابرار .

إن هذا النشاط لم يرق بطبيعة الحال القوى الرجعية وأذناب الإستعمار, فعملوا ما بوسعهم لعرقلة هذه النشاطات بغية إضعاف الثورة والإنقضاض عليها, فما كان من هذه الزمر إلا العمل وبشتى الوسائل لغلق هذه المنظمات, وماحدث في الموصل حدث في باقي المدن العراقية الأخرى فأخذت تتوالى على مقر "اتحاد الطلبة - فرع الموصل "عناصر غريبة كانت غايتها رصد الحركات الطلابية ونشاطها ورموزها , وفي أحد الأيام زارنا شخص قدم الينا نفسه وهو "عبدالوهاب الغريري".. وقال أنه يمثل مجموعة من الطلبة في بغداد, ودخل معنا في نقاشات حادة وطرح آراء مملؤة بالحقد والشوفينية والتعصب القومي, وكان يرفض أن يسمع منا جملة "الشعب العراقي".. يُصحح ويقول "الشعب العربي في العراق" , وحين إنبرى له الزملاء الأكراد والتركمان من المتواجدين معنا عن الموقف من باقي القوميات الاخرى التي يزخر بها العراق كان يقول إن هذه أقوام سكنت العراق العربي وإنصهرت في بوتقة الشعب العربي, كما تحدث عن عدم شرعية إتحاد الطلبة العام على حد زعمه، لأن هناك منظمات طلابية أخرى ، وكثير من الكلام الذي ينم عن الحقد والكراهية لمنظمتنا الطلابية. وبعد يومين من زيارته داهم المقر رجال الشرطة والامن, وهم نفس رجال الامن القدامى من العهد الملكي الذين إستمروا في الخدمة في العهد الجمهوري, واعتقلوا كل المتواجدين في المقر وكان عددنا يربو على الثلاثين طالباً، وصادروا كل الكتب المتواجدة في المكتبة وإعتبروها جميعاً كتب "هدامه!" تدخل ضمن قائمة الكتب والنشريات الممنوعة وغير المرخصة في سجلات الأمن للعهد الملكي المباد والتي إستمرت تتعامل بها الأجهزة الأمنية بعد ثورة 14 تموز, وفي السيارات التي كانت معهم نُقلنا الى التوقيف، وأُغلق المقر بالشمع الأحمر، ورُفعت من على الواجهة الأمامية يافطة " اتحاد الطلبة العام - فرع الموصل .

لقد هزت هذه العملية أبناء المدينة وسخطهم, وتوافد العشرات من أهالي وذوي الطلبة أمام المتصرفية منددين باعتقال أبنائهم, وفي نفس اليوم وبعد ساعات عديدة أحضرونا أمام آمر حامية الموصل العقيد الركن "عبدالوهاب الشواف" , وقال مبتسماً بخبث " لم يكن هذا الاجراء إلا حفاظاً على الثورة !! , لأنه وردت إلينا أخبار وتقارير كثيرة تؤكد بان المقر بؤرة لنشاطات معادية للثورة !! " , كما اننا لم نستلم من بغداد أي تصريح يسمح بافتتاح مثل هذه المقرات وعليه يطلق سراحكم بكفالة ويغلق المقر إلى إشعار آخر .

وهكذا كان أعداء ثورة تموز يسعون بكل السبل والوسائل لإبعاد الطلبة والشباب وغيرهم من الإلتفاف حولها , لأنهم يعلمون أنهم الدرع الحصين لها, وضرب هذه المنظمات يسهل ضرب الثورة وإسقاطها وهو ماتم لاحقاً .

ولا بد في هذه المناسبة العزيزة أن نتذكر فروع إتحاد الطلبة العام في خارج الوطن تلك الجمعيات والروابط الطلابية المناضلة التي وقفت الى جانب قضايا الشعب العراقي في محنته بعد أن تحول العراق الى سجن كبير بعد الإنقلاب الفاشي في 8 / شباط الأسود / 1963 , وقتل قادته الأبرار عبد الكريم قاسم ورفاقه الميامين والبطش البربري بقادة الحركة السياسية والوطنية والمهنية ومنظماتها الديمقراطية وفي المقدمة منهم الرفيق الشهيد (سلام عادل) , وعشرات ومئات وآلآف من كوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الوطنية الأخرى , الى جانب نشطاء نقابات العمال والفلاحين والطلاب ومنظمات الشباب والنساء والمهندسين والأطباء والمعلمين والكتاب والفنانين وباقي المهن الأخرى .

لقد لعبت جمعيات الطلبة العراقيين خارج الوطن دوراً مُشرفاً في فضح الأساليب الوحشية التي كانت تقترفها قوى الردة بحق أبناء الشعب من قتل وتعذيب وسجون وسلب الحريات العامة والخاصة, كما أقامت المئات من الندوات والمهرجانات واللقاءات مع سائر فروع الحركات الطلابية والنقابية العالمية المتواجدة في الخارج , حيث ذهب الآف الطلبة العراقيين للدراسة بعد ثورة 14 / تموز / 1958 الىالإتحاد السوفيتي وبلدان المعسكر الإشتراكي السابق والى إنكلترا وبلدان اوربا الغربية , كما عملت هذه الجمعيات والروابط على تشجيع الطلبة على التفوق العلمي وربطهم بالوطن من أجل العودة حينما تستدعي الظروف .

لقد تواجدت هذه الجمعيات والروابط الطلابية في كل من الإتحاد السوفيتي, جيكوسلوفاكيا, المانيا الشرقية, هنكاريا, بولونيا, يوغسلافيا, رومانيا, بلغاريا, تركيا, اليونان, فرنسا, إنكلترا وبلدان اخرى, وكثيراً ما كانت تلتقي هذه المنظمات في مؤتمرات سنوية تُعقد في إحدى الدول المذكورة يحضر فيها ممثلون من الطلبة العراقيين يتدارسون فيها أوضاعهم الطلابية خارج الوطن الى جانب وقوفهم ومساندتهم للقضايا الطلابية والوطنية في داخل الوطن , رافعين شعارهم المعروف (التفوق العلمي والعودة إلى الوطن) ، وهناك أسماء لامعة من الطلبة العراقيين قادوا منظمات إتحاد الطلبة العالمي وإتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي لسنوات طويلة وذلك للسمعة العالمية الطيبة التي يتمتع بها (إتحاد الطلبة العراقي العام) في الأوساط الطلابية والشبابية في انحاء العالم .

واليوم بعد مرور ثلاثة عشر عام على سقوط النظام الدكتاتوري على أيدي القوات الأجنبية , تقف أمام الطلبة والشباب ومنظمات المجتمع المدني الأخرى وخاصة منهم منظمات النساء مهمات جسيمة للنهوض بوجه الردة الرجعية التي تعيق تقدمه وتطوره وتحاول أن تدخل مفاهيم التخلف في البرامج الدراسية وفرض أفكار لا تواكب العصر والفصل بين الذكور والإناث وتحط من قيمة المرأة وتشيع روح الفرقة والعداء والإستعلاء بين مكونات الشعب العراقي, هذه الهجمة التي إشتدت ضراوة مع إحتلال داعش لمساحات واسعة من الوطن وفرض أفكارهم المتخلفة على المجتمع ومحاربتهم للأديان المختلفة الموجودة في أرض وادي الرافدين، وهدمهم للكنائس والمعابد والحسينيات والجوامع ونهب ممتلكات المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين ،الشبك وفتح أسواق النخاسة ، كما أدت إلى تهجير الملايين في داخل الوطن وخارجه .

في ساحات التحرير في عموم الوطن يساهم الآن  الطلبة النجباء أبناء شعبهم وقواه المدنية في نضالهم السلمي العادل ضد حيتان الفساد والسراق الذين أكلوا (الأخضر واليابس) ، مطالبين بالإصلاح وإنقاذ الوطن من المحاصصة الطائفية والأثنية المقيته والوضع المزري الذي يعيشه من فقر ومرض وتخلف وإنعدام الأمن والحياة الإنسانية اللائقة .

 

سيبقى ١٤ نيسان يوماً خالداً في التأريخ الوطني والطلابي ، يُنير الدرب للأجيال القادمة من أجل حياة حرة كريمة ومستقبل أفضل . وأن يسير العراق نحو بناء دولته المدنية الديمقراطية المنشودة الخالية من الطائفية والأثنية … عراق فدرالي تعددي موحد .