اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• وصول غودو/ رواية للدكتور أفنان القاسم - صفحة 3

وهذا الصوت الذي سمعته ينادي من ورائي، جدي... جدي... عندما التفت، كان شاب يبحث عن جده المُقعد، سألني أينه؟ وكأنني المسئول عن اختفائه. قال اسمه "جان"، وهو ترك جده المُقعد هنا. أوضح أنه تركه لأن امرأة نادته، كان لها صوت أمه، فذهب إليها. قال إن أمه ميتة، لكنه ذهب باتجاه الصوت. صوت كان يأتي من قطار، لكن القطار غادر. عندما عاد لم يجد جده، ومن جديد سألني أينه؟ قلت لا أعرف، لم يكن من الواجب تركه. ظننتها أمي، همهم الشاب، أمي ميتة، لكنني ظننتها أمي، ظننت الصوت صوتها، ثم غادر القطار. راح ينادي جدي.. جدي... وتركني، وهو لم يزل ينادي جدي... جدي... جدي... وهناك من أمام شباك بيع التذاكر كان اثنان يتبادلان الكلام بعنف لأن أحدهما قطاره على وشك الإقلاع، وهو يريد أن يشتري تذكرته، وما لبثا أن تبادلا اللكمات. لم يتدخل المسافرون ليحولوا بينهما، استمروا في شراء التذاكر، وفي اللحظة التي فتح فيها شباك آخر، شكلوا صفًا ثانيًا سريعًا من أمامه، وترك الكل الرجلين يتشاجران إلى ما شاء الله، إلى الأبد لو يشاء. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، روح متحضرة أم غيره، لم يكن ذنبهم، لا أهمية للأمر. وعلى مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يضرب ماكينة تبديل النقود بقدمه، لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟ كان يردد، لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟ كان شرطيان يمضيان من هناك، فألقيا القبض عليه بتهمة السطو والتخريب، والشاب يتابع ما يدور مذهولاً خاصة وأن قطاره سيقوم بعد عدة دقائق. اقترب أحد المتسولين الغشاشين من الماكينة في اللحظة التي ذهب فيها الشرطيان بالشاب إلى مركز الشرطة، وحكى معها بطريقة جعلتها تصرف النقود في الحال، وكأنه كان على تفاهم معها. من العبث أن يكون المتسول على تفاهم مع ماكينة الصرف، من العبث أن تفهم الماكينة كلامنا، من العبث أن تسرق، الملوك يسرقون، والرؤساء يسرقون، ومناقير الطيور على الساعة الثانية عشرة في الإليزيه، لكن كل ذلك جرى أمام عيني، ووقع دون أدنى شك مِنْهَجِيّ.

"جدي..."

دفع أحدهم الجد المُقعد بهوس الممسوس، وهو يقهقه، والجد يصرخ بكثير من الذعر، ولكنك لست جان، جان، أين أنت يا جان؟ صاح المُقعد. وفي اللحظة التي قذف فيها الممسوسُ الشيخَ المُقْعَدَ من رأس الدرج المؤدي إلى المترو، رفعت رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها. كانت الفتاة على وشك الطيران، والسقوط بين أذرعنا، وكان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، على استثمار كل شيء، وأول شيء الألباب. خلبت الفتاة ألبابنا، وكنا على استعداد لنفعل كل ما تأمرنا به صورتها مقابل تملكنا لها. أحس كل واحد منا أن الفتاة ملك له، وبدأ كل منا يدفع الآخر بعيدًا عنها، جعلنا كل هذا الجمال الإلهي وحوشًا فيما بيننا، لم نعد نهتم إلا في إقصاء الآخر. كانت مواعيد القطارات تتلاحق على اللوحة ولا أحد منا يهتم بها، غدت الفتاة كل الكون، وساقاها كل الوجود. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت اللوحة، وهن عازمات على الحد من نزاعنا، وذلك بلفت النظر إليهن. إنجليزيات. إنجليزيات وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات كالآلهات. شيء عذري فاسق يطغو على نظراتهن. شيء أقرب إلى الخراب. لم يعدن ينتظرن القطار القادم. كن ينتظرن اهتمامنا بهن، فيأخذننا إلى الفردوس، جحيمهن كان الفردوس. رحن يبتسمن لبعضهن ثم رحن يقهقهن، وجعلن منا ضحايا أبديين. لم نعد أنفسنا. كنا شيئًا يشبهنا، شيئًا ليس ملموسًا، شيئًا أقرب إلى ظلالنا. عند ذلك، لم يعد أخذ القطار لهن والوصول إلى لندن أمرًا مهمًا. القطار القادم سيكون فيما بعد، سيقوم فيما بعد، سيقوم في اللحظة التي سيقوم فيها.

من العادة أن يقوم الهرم على قاعدته ليلامس برأسه الشمس، قال لي أحدهم، فانتبهت إلى ذلك البناء الشاذ في محطة الشمال. الشمس في محطة الشمال غير الشمس، علقت، وأنا أفكر في الإله رع. يظل آلهة مصر بطبيعتهم أرضيين، النيل شيء أرضي، والدلتا، والصعايدة بشواربهم المجرمة، كل ما في مصر أرضي، كل ما قيل عن حضارتهم غلط، كل ما في مصر رمل. كان باني هرم محطة الشمال ينقل الحجارة الثقيلة، وينظر من حوله بغضب. لاحظت على صدره العاري أفعى جبارة همجية تلفه، وكلما وضع حجرًا، التقط الأفعى، وعضها. هكذا أقاوم سرطان الرئة، قال لي الرجل، وهو يعطيني ظهره، الألم يواجَهُ بالعنف، لهذا ألمي لم يحن. على ألمي أن يحين بعد أن أنجز بناء قبري. أشار إلى الهرم، وهمهم بكلمات لم أفهمها، كان يتكلم اللغة المصرية القديمة. تناول حجرًا ضخمًا، وفلقه كهمجيّ. المدنية همجية، قال الرجل، المدنية سرطانية، وأنا لهذا أحطم المدنية. كتب على الحجر باللغة الهيروغليفية: ألم الإنسان هو رع الذي فينا!

كشف الرجل عن ذلك كسر، هل كان مضطرًا؟ كل شيء مكشوف في محطة الشمال دون أن نكتبه أو نقوله، كل شيء مرئيّ، كل شيء مسموع، لا أحد يخفي شيئًا. سمعت شابًا أبيض البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وهو يؤكد ذلك. لم تكن ساعة الإقلاع، لكنه كان واثقًا من الإقلاع حينما يحين ذلك، فالمراقب كان متأكدًا من الرصيف، والرصيف هو هذا. لم يكن في حياته أكثر منه ثقة كتلك اللحظة. كان واثقًا من قيام قطاره بعد قليل، ومن كل حياته. كان إحساسه بضبط حياته كمن يضبط ساعته، لا خطأ هناك، ولن يكون خطأ هناك. كنت فخورًا به، لو كنت مكانه لراودني نفس الشعور بالثقة، بعدم الخطأ، بامتلاك حياتي.

وأنا أتأمل الشاب الأبيض بإعجاب، تفاجأت بإحدى الفتيات البيضاوات، وهي تسحبه من ذراعه بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وراحت تعدو به إلى رصيف آخر. لم يكن الرصيف الصحيح، خَلَّته، وتركته هناك حائرًا، بعد أن عطلت عليه حياته. عادت الفتاة البيضاء، وهي تبتسم لي، فلم أبتسم لها، كانت قد عطلت على الشاب حياته، كل حياته. أرادت أن تقبلني من خدي، فأشحت بخدي عنها، وقلت لها إنها عطلت على الشاب حياته، لماذا فعلتِ هذا؟ سألتها. ليعرف كل شيء عن حياته عن طريق الخطأ وبشكل آخر ولئلا تكون ثقته بالأشياء ثقة عمياء، أجابت الفتاة البيضاء. تعلقت الفتاة البيضاء بذراعي، وهي تقول بدافع الخطأ، وما ألذ الخطأ عندما نتمكن من معالجته. قالت إنها في محطة الشمال بالخطأ، لم يكن قطارها، لكنها عرفت أشياء في محطة الشمال لم تكن تأمل بمعرفتها، وعرفت بالتالي حياتها، ما الحياة. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرف كل شيء عن الحياة كما عرفت، فترددت، لأني كنت هناك لا لأعرف كل شيء عن الحياة بل كل شيء عن محطة الشمال. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي على آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان من وراء كل القطارات بدا منقطعًا عن عالم المحطة، فلم يكن المكان الذي يشدني بالفعل. كان هناك مركز للشرطة فيه ضابط يبدو عليه الجوع، فرأيت فردين من أفراد الشرطة قادمين بظرف من الوجبة السريعة، كما ورأيت امرأة على باب أحد المكاتب المغلقة، وقبل أن تفتحها، وتدخل، ألقت نحوي نظرة كوبيدية، وهي تبتسم لي. كانت الفتاة البيضاء لا تنظر إلى حيث أنظر، تسحبني، وكأنني حقيبتها، وكنت أتبع من ورائها طائعًا ككلب إلى أن دخلنا منطقة تتسلقها خطوط السكة الحديدية كالشريانات من كل ناحية، جثث القطارات فيها كثيرة، قالت الفتاة البيضاء عنها مقبرة القطارات. ونحن في قلبها، تحررتُ من قبضة الفتاة البيضاء، وابتسمتُ لها، فلم تبتسم لي، وعلى العكس عبست، وتجهمت، فمقبرة القطارات تبقى مقبرة تبعث على الحزن، وتثير الأفكار السوداء. ستعرف كل شيء عن الحياة بعد قليل، قالت لي الفتاة البيضاء. وبدا على وجهها الخوف. لم يكن القلق، كان الخوف. لم أقرأ القلق بين سطور وجهها، بل الخوف.

أخذت تصلنا ضربات سوط من إحدى العربات المحطمة، وصرخات سببها العذاب والألم، اندفع إثرها شخص مربوط بحبل من عنقه قافزًا يريد الهرب، والنفاذ بجلده. ظهر رجل في ثياب القرصان على عينه عُصابة، ثم قفز، هو الآخر، من وراء الأول، وهو يجذبه بالحبل، ويواصل ضربه بالسوط، ويلعنه، ويأمره بالعودة، وحَمْلِ حقائب أربع كانت موضوعة على باب العربة المحطمة، وهذا يصرخ من شدة العذاب والألم. قال القرصان، وهو يشير إلى الرجل المربوط بحبل، إنه كذب عليه، الإنسانية تكذب دومًا، فهنا ليس شاطئ السين، هنا مقبرة للقطارات، بسبب الحقائب كذب عليه، فهو لم يعد باستطاعته حملها بعد أن حملها دون انقطاع طوال رحلة دامت تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان. أنا آت من جزيرة ضائعة في وسط المحيط عومًا، قال القرصان، منذ تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان، وأنا أعوم كسمك القرش. وهذا الجحش يحمل الحقائب الأربع على ظهره، ويعوم ككلب البحر، ثم مشينا بعد ذلك طويلاً، طويلاً جدًا، مشينا بعد ذلك طويلاً جدًا، طويلاً جدًا جدًا قبل أن تكذب عليّ الإنسانية قائلة إننا وصلنا إلى شاطئ السين، لأجد نفسي في مقبرة للقطارات، مقبرة للقطارات فقط لا غير، هكذا هي الإنسانية، الإنسانية كاذبة منذ مولدها. أخبرته الفتاة البيضاء بشيء من الوجل أن خادمه لم يكذب، حقًا هم هنا في مقبرة قطارات محطة الشمال، لكن شاطئ السين على بعد عدة محطات في المترو. تنفس الخادم الصعداء، وهو يمسح جراحه، ويرميني بنظرات مستعطفة. شاطئ السين انتهى، أضافت الفتاة البيضاء دون أن يذهب عنها الوجل، جمعت البلدية رمله في أكياس بانتظار فصل الصيف. عاد القرصان يجذب خادمه بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، ففصل الصيف لم يزل بعيدًا، يجذبه، ويضربه، ويلعنه، ويأمره بحمل الحقائب الأربع، للعودة من حيث جاءا، سيقضيان تسعة عشر عامًا آخر وتسعة شهور أخرى وتسعة أيام أخرى وتسع ساعات أخرى وتسع دقائق أخرى وتسع ثوان أخرى... مهلاً، قلت للقرصان، ابقيا في المقبرة ضيوفًا على الأموات الحديديين هؤلاء حتى الصيف القادم، الصيف القادم على الأبواب، وستأتيكما الفتاة البيضاء بكل ما تحتاجون إليه، هذا وعد، أليس كذلك؟ أضفت، وأنا أتوجه بالكلام إلى الفتاة البيضاء التي رمتني بنظرة فيها بعض الهلع، وبعد تردد لم يدم طويلاً، طلبت منهما الفتاة البيضاء ما طلبتُ. أعادت هذا وعد، وهي تبحث قربي عن الاطمئنان. قلت اترك خادمك إذن وشأنه، الإنسانية توجعت الكثير مقابل لا شيء. بدت على وجه الرجل المعذب أمارات الشكر والعرفان، لكن القرصان رفع عن عينه السليمة العُصابة، وأخذ يفحص المكان دون أن يروقه. بل سنذهب إلى فندق قريب من شاطئ السين، أي الفنادق أقرب إلى شاطئ السين؟ سأل. كلها، قالت الفتاة البيضاء مع بعض الارتياح. أعاد القرصان العُصابة على عينه، ورفع سوطه إلى أقصاه يريد ضرب خادمه قبل أن يأمره بحمل الحقائب الأربع. أخذ الفتاة البيضاء خوف عظيم، فأمسكتُ بقبضته. اضربه، ولكن لا تضربه أمام الفتاة، قلت للمتجبر، ليس قلقًا عليه أقول هذا بل خوفًا من غضبه عليك. وما أن سمع الخادم قولي حتى استقام، واستطال، غدا أطول من سيده، وراح على سيده نباحًا، وبأسنانه هجم، وعضه من ذراعه، فدخل الاثنان في معركة ضارية لم نر نهايتها. كانت الفتاة البيضاء قد سحبتني من يدي كما تسحب كلبها، وطيور غريبة تنعق ليس بعيدًا، التفتت باتجاهها الفتاة البيضاء جاحظة العينين. كانت قد سحبتني من يدي، وذهبت بي إلى قطار محطم يربض كجثة تمساح قرب شجرة جافة تكسرت كل أغصانها إلا من غصن واحد سميك في وسطها.

خرج من تحت القاطرة توأمان سياميان برأسين وذراعين وساقين وبطن واحد لم تخفف رؤيتهما مما لدى الفتاة البيضاء من وجل، فكأنهما تنين آدميّ. ما أن وقعا على الفتاة البيضاء حتى سألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالنفي، فقالا لم تبق لهما سوى فرصة واحدة للانتحار شنقًا، فأغصان الشجرة التي جرباها كلها لم يبق منها سوى غصن واحد لم ينكسر. بدا عليهما الحزن، فطلبتُ منهما ألا يحزنا، لأن طريقة الانتحار شنقًا ليست الطريقة الوحيدة، وهي ليست بالطريقة المناسبة. بدا على وجه الفتاة البيضاء الخوف أكثر من قبل، أخذت ترتعد، وترجوني ألا أدلهما على ما ليس بمقدورها احتماله. كانت من طبيعة رقيقة، تقبل بكل شيء مهول على ألا تضطر إلى مشاهدته. على الأمور المتعلقة بالموت في عالم مقبرة القطارات أن تمضي كما لو كانت في عالم محطة القطارات أينما كانت بدون غصب أو اغتصاب، قالت الفتاة البيضاء. لم يفهم التوأمان السياميان كلامها، وقبل أن يتركانا للعودة تحت القاطرة والاختفاء من جديد، طلبا من الفتاة البيضاء الانتباه إلى نفسها، وعدم الخوف، والشجاعة، بينما عاد يصلنا نعيق الطيور الغريبة من بعيد.

قطعنا، أنا والفتاة البيضاء، المقبرة من وسطها إلى عربة معلقة كالأرجوحة على أكف الريح، وبالفعل راحت تتأرجح مع هبوب بعض الرياح. خيل إليّ أنها ستسقط أرضًا، والفتاة البيضاء من تحتها صاحت من الخوف، وهي تحمي رأسها بيديها، وعلى صيحتها خرج أحدهم من النافذة برأس رماديّ الشعر ووجه تملأه الغضون، وسأل إذا كانت الصرخة صرخة أحد المشاهدين، منذ مدة طويلة لم يأت مشاهد واحد ليرى مسرحيته. عندما رآنا، غضب منا أشد الغضب، واتهم الفتاة البيضاء بتحريض المشاهدين عليه. مشاهدوك في الماضي كانوا يأتون إلى مسرحك بدافع الفضول وليس حبًا بك أو إعجابًا بما تكتب، أجابت الفتاة البيضاء. فقال الرجل الرماديّ الشعر والوجه الممتلئ بالغضون إن كل هذا ما يطمح إليه، أن يأتي المشاهدون بدافع الفضول، لأن كل شيء في الحياة يتوقف على هذا: الفضول، ولا بأس من الاحتقار بعد ذلك، ولا بأس من الاستهزاء بعد ذلك، ولا بأس من كلام المومسات بعد ذلك، لأن كل هذا جزء من سيادة العبث، العبث عندما يصبح حياة كل يوم، الطعام والشراب والهواء والفساتين القصيرة للممثلات. لا ممثلات في مسرحياتك، قالت الفتاة البيضاء. أنت كل الممثلات بالنسبة إليّ، قال الرجل الرماديّ الشعر والوجه المليء بالغضون، ساقاك من تحت فساتينك القصيرة التراجيديا في فصلين، والكوميديا في فصلين، والقمر في فصلين. أشار إليّ، وسأل إذا ما كنت من المشاهدين أم الممثلين. لا من هؤلاء ولا من أولئك، قلت. ابتسم، وهو يدمدم أني أنا أيضًا مصنوع من فصلين، ولكن من فصلين غير موجودين، وغادر النافذة.

ابتسمت بدوري، كان كل واحد منا، أنا والرجل الرماديّ الشعر والوجه المليء بالغضون، يفكر التفكير ذاته، وكأننا كنا سياميين في رأسينا. لم تكن مقبرة القطارات ذات قيمة مطلقة لولا مسرحه المتأرجح على أكف الريح. عادت الفتاة البيضاء تسحبني من يدي كحقيبتها بعيدًا عن الطيور الغريبة الناعقة، أشارت إلى بيت حقير بعد آخر قطار محطم، هناك بيتي، قالت الفتاة البيضاء، وهي تعجل السير، وهناك يعود اطمئناني لي. وبالفعل ما أن دخلنا حتى تبدلت سيماؤها، غدت طليقة المحيا، وخفت تحمل ابنًا رضيعًا كان بانتظار أن تلقمه ثديها، وهذا ما فعلته بسعادة كل أم. بعد أن أنامت طفلها، تعرت، وعرتني، وأنا لا أعترض. كانت مهنتها في محطة الشمال، لكني كنت أريد أن أعيش الحياة تمامًا كما تعيشها عن طريق الخطأ، كانت هذه فلسفتها التي تبنيتها في اللحظة التي وافقت فيها على اللحاق بها كحقيبة، ككلب، وأنا لهذا عملت كل ما بوسعي كي أكفيها لذة، وجعلتها تشعر بمعانقتها للآلهة، كنت قادرًا على اجتراح كل ما تعجز عنه مقابل ألا يعود إليها خوفها من جديد، لأن في الخوف تدميرًا ليس فقط للذات بل وللعالم. سمعتها تهمهم، وهي تغوص في خاصرتي، إنها المرة الأولى التي تشعر فيها بكونها امرأة، قبلتني من كل مكان من جسدي مكافأة منها على رجولتي، ووعدتني ألا تخيب ظني في شيء، وأكثر من هذا أن تكون لي كلها كائنًا وكيانًا حيث سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فللمحطة عالم سفلي مليء بما لا تصدقه عين ولا يخطر ببال.

عدنا أدراجنا، أنا والفتاة البيضاء، دون أن نقع على العربة المرفوعة على أكف الريح ولا الشجرة ذات الغصن الأوحد ولا القرصان، حتى أن تلك الطيور الغريبة التي تنعق لم نقع عليها. اجتزنا مقبرة القطارات مع شعور لدينا بعدم الموت، واستبداد الحياة. قطعنا آخر رصيف، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة ليستقبلنا الصخب في محطة الشمال، متعة الصخب، وضجيج الناس، متعة الضجيج، وحركة القطارات الذاهبة والآيبة، متعة الحركة. دفعتني الفتاة البيضاء إلى درج يهبط تحت الأرض، فرأيت في الطابق الأول السفلي هذا ما هو عجيب، رأيت طيورًا إفريقية ملونة لها ما لنا من قامات، تقف في طابور أمام المستودع على اليمين، وهي تحمل في أقفاصٍ أربابها من البشر، تودعها لدى مسئول مقابل وصل بعد أن تدفع. كانت النعامة تتصرف كامرأة، وكذلك الببغاء، والطاووس كرجل. كل هذا غريب بالفعل، لكن المحير وجود كل أولئك الناس في الأقفاص، وكلهم كانوا من عندنا. على اليسار، رأيت من وراء شبابيك الصرف الزبائن، ومن أمامها الصرافون، في ثياب براقة كثياب الملاحين الكونيين. كان الوضع معهم معكوسًا كما كان مع الطيور خارج الأقفاص، فقلت عالم محطة الشمال السفلي عالم منقلب على رأسه، أريد القول عالم انقلبت فيه الأدوار، وتلاشت الفروق بين إنسانه وحيوانه، بين إنسانه وما فوق إنسانه. واصلنا السير، أنا والفتاة البيضاء، فإذا بنا عند نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها جِمال أخذت أشكال الأرقام. أبديت للفتاة البيضاء دهشتي، حتى الأرقام تبادلت الأدوار مع الحيوان في العالم السفلي لمحطة الشمال! ابتسمت الفتاة البيضاء. الغريب في عالم محطة الشمال السفلي لم يزل، قالت الفتاة البيضاء، والأمر لا يقف عند حد تبديل الأدوار. كل هذه المؤشرات تعني ذلك، قلت. تأملتها عن مقربة، فلم تكن خائفة من أن تلعب دورًا آخر غير دورها. تقدمت الفتاة البيضاء من خزانة حديدية بقدم جريئة، وفتحتها بمفتاح ذهبي كان معلقًا حول عنقها على باب في داخلها اجتزناه، فإذا بنا في عالم كل شيء فيه ضديّ: الجِمال الرقمية تركب الرجال، والسيارات الرقمية تتراجع في سيرها، هذا ما ظننته في البداية، ثم تأكد لي عكس ما ظننت عندما رأيت سائقيها يقودونها من ظهرها. وكان هناك تراجيديون رقميون كالمهرجين يُضحكون، كانوا يُضحكون البالغين ممن هم هناك، ولا يؤثرون في الصغار أقل تأثير. وكانت في العالم السفلي المتعارض لمحطة الشمال كافة الألعاب الرقمية الخطرة كضرب النار مثلاً للصغار، واللاخطرة كالكُلات للكبار. أخذنا ننتقل، أنا والفتاة البيضاء، من مكان إلى مكان، ونحن ننتظر أن نرى أكثر مما رأينا، بعد أن أعلمتني الفتاة البيضاء أن هذا العالم عالم التعارض والتبادل يتبدل كل يوم كل ساعة كل دقيقة. تفاجأنا بأقزام يصرعون مقابل لا شيء وببساطة لا تصدق عمالقة من رجال المافيا، وبنساء يدخلن إلى مكان وهن بأجمل الوجوه ليخرجن منها بأبشعها. أما أكثر ما أثار دهشتنا، أنا والفتاة البيضاء، كون الراهبات يسعين إلى العودة بنا إلى التعارض الحضاري، إلى بداية البدايات في تطورنا الطبيعي، عندما رحن يطفئن النار والدين، وهن يعطين أنفسهن عند العناق من ظهورهن. كان يتم كل شيء في الظلام الدامس للمكان وللحضارة، وأنا عندما حاولت الراهبة الحبلى معي، منعتها الفتاة البيضاء، وخلصتني من نزواتها.

أشارت الفتاة البيضاء إلى غيري من كبار رجال الأعمال والوزراء، رجال الانحطاط ووزراء الظلام، قالت الفتاة البيضاء بازدراء. كنت متفقًا معها تمامًا، ولأول مرة فهمت لماذا يحكون عن النار والنور في الكتب السماوية، قبل انطفاء العالم، والسقوط في السديم. دخلنا في ميدان سباق الجِمال الرقمية، فحملتُ واحدًا، وحملتِ الفتاة البيضاء واحدًا، وذهبنا مع عشرات غيرنا نعدو، ومكبر الصوت يشجع هذا أو ذاك منا، كانت هذه حضارة أخرى، لكنها لا تنتمي إلى العدم، إلى التخلف المطلق، ليس إلى العدم، إلى نوع من لعبة اللامعقول في عالم محطة الشمال المتعارض، ليس إلى العدم. جربنا بعد ذلك حظنا مع السيارات التي تقاد من ظهورها دون أن يؤثر ذلك في التطور، وكانت تلك تجربة من أجل التوازن في التعارض وتبادل الأدوار. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب كلبها، وذهبت بي إلى مصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. عندما خرجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الهنود الحمر، قدمتهم الفتاة البيضاء لي. هؤلاء هم الفلسطينيون، قالت الفتاة البيضاء. كانوا يشربون الجعة أو يتعاطون المخدرات أو ينفخون الأعشاب، وكانوا يقيئون في المكان الذي يجيئهم القيء فيه، ويبولون على الجدران التي يكونون قربها، وأحيانًا على رؤوس المستلقين. ابتسمت لهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون الابتسام، حاولت التكلم معهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون الكلام، لم يكونوا يعرفون سوى شرب الجعة وتعاطي المخدرات ونفخ الأعشاب، لم يكونوا ليروا أبعد من خط سكتهم الحديدية، خطٌ وهميّ، يمتد منذ الأزل، كالأزل. أشارت الفتاة البيضاء إلى وجوههم المصبوغة بألوان القتال، إنهم في وضع من هو في حرب دائمة، قالت الفتاة البيضاء. وضع غير معقول، ضد المعقول، ضد الوجود، ضد "ضد الضد"، كانوا جزءًا لا يتجزأ من العالم السفلي المتعارض لمحطة الشمال. سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب حقيبتها إلى المصعد، وأنزلتني في الطابق الوسط، طابق بين بين. أذهلني وجودي غير المتوقع قرب البحر الميت من ناحية، وجزيرة العرب من ناحية. كانت تطفو على سطح البحر الميت جثث لا تعد ولا تحصى من البُواءات، وكان يخرج من جزيرة العرب الأنبياء، فينزعون عن البُواءات جلودها ليكتبوا عليها رسائلهم المقدسة. لم يكن للبواء شيء مقدس إلا في الهند، ونحن لم نكن في الهند، كنا في بحر الموت قرب كثبان الموت والموت أبدًا لم يكن شيئًا مقدسًا إلا في الهند. كانت تلك صفة للتعارض على صفة بين أشياء عالم محطة الشمال وحالاته. اختفت الفتاة البيضاء وراء أحد الكثبان، وبعد عدة لحظات عادت، وهي ترتدي الساري الهندي، ساري بلون الرمان، وبين حاجبيها بقعة بلون الرمان، وبيدها حبة رمان فتحتها، وبدأت تأكل العقيق منها، وتطعمني، فلا ألعب دور النبي، وأتمنى ألا يمضي الوقت، وأن نبقى معلقيْن بين نابيه السامّين.

لمتابعة الرواية اذهب الى الصفحة الرابعة / انقر التالي ادناه

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.