اخر الاخبار:
القبض على "داعشية وداعشي" في ديالى وبغداد - الأحد, 06 تشرين1/أكتوير 2024 20:59
صحيفة إسرائيلية: تل أبيب تخطط شيئا للعراق - السبت, 05 تشرين1/أكتوير 2024 19:06
مقتل جندي لبناني وإصابة آخر بقصف إسرائيلي - الخميس, 03 تشرين1/أكتوير 2024 21:13
استئناف حركة الطيران في مطار أربيل الدولي - الخميس, 03 تشرين1/أكتوير 2024 19:29
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• الصلاة السادسة

د. أفنان القاسم

الأعمال الكاملة

الأعمال الروائية (33)

د. أفنان القاسم

الصلاة السادسة

LA SIXIEME PRIERE

رواية

إلى ذكرى محمد البوعزيزي

القسم الأول

في قلب باريس، كان شارع سان دُني يتعرح تعرج النهر إلى ما لا نهاية، وكان الليل في شارع الهوى شيئًا آخر، كان الليل معطف باريس الطويل الثقيل في الشتاء، وشلحتها القصيرة الشفافة في الصيف. نظر فرانك لانج إلى بنات الليل من نافذة سيارته الفيراري الحمراء، وهن يقفن على الرصيف كالحور العين تحت أضواء المصابيح الخافتة، والموسيقى تصدح من كاسيته، "الوردة الصغيرة" لسيدني بيشيت كانت الموسيقى، والعالم كله راح يتمايل. لم يكن رجل التحري الخاص يرى جيدًا الوجوه الشاحبة الملوثة بالظلام، فأغصان الأشجار تجعل من الأضواء المتسللة بينها لطخات سوداء. ولم يكن يبحث عمن يقضي ليلته معها، لأنه لم يكن يرى في ذلك الحل الدائم لرغباته الجنسية، وهو من طبيعته دومًا ما كان ضد العاجل، الاضطراري، الإجباري، الاغتصابي، ضد التاريخ القسري كان يقول عندما يريد أن يبرر ذلك حضاريًا. كان فرانك لانج في شارع الهوى للمهمة التي كلفته إياها لبنى بن عثمان، رئيسة جمعية بنات الليل في تونس، فالنظام الجديد اتخذ في أمرهن قرارًا ثوريًا، كما يقول، وذلك بإرسالهن إلى باريس من أجل ضخ العملة الصعبة في خزائن الدولة بعد الكساد الذي تعانيه السياحة.

فجأة، سمع رجل التحري الخاص صراخًا لبنتين من بنات الهوى التحمتا في عراك يبدو أنه لن ينتهي إلا بظفر إحداهن، وإحداهن تقول للأخرى:

- فرنسا للفرنسيات!

- فرنسا لكل الداعرات، قالت الثانية.

- هل ضاقت بكن شوارع تونس إلى هذه الدرجة لتجئن إلى شوارعنا؟

- الزبائن هنا كثيرون، فما ذنبنا إذا كانوا يختارون الأجمل؟

- أجمل من قفاي هل يوجد؟

- قفاي، أجابت بنت الهوى التونسية قبل أن تنفجر ضاحكة.

ناداها فرانك لانج، وقال لها اصعدي، وبنت الهوى الفرنسية تمطرها بوابل من الشتائم. رفعت بنت الهوى التونسية لها إصبعها الأوسط، وطرقت باب الفيراري بعد أن صعدت.

- جميلة باريس في الليل، ألقى رجل التحري الخاص، وهو يوطئ الموسيقى، ويعجل في السير.

- هل تريد الصدق؟ نبرت بنت الليل، في باريس أو في تونس أو في الجحيم الليل واحد لنا، خراء!

- لا شك في ذلك، همهم فرانك لانج.

انفجرت بنت الهوى باكية، فأوقف رجل التحري الخاص سيارته، وطلب إليها:

- لا تبكي رجاء.

توقفت الفتاة التونسية عن البكاء دفعة واحدة، وأوضحت:

- لنا نحن البنات السيئات مشاعر طيبة كغيرنا يلعن دين، أليس هذا ما تقوله لنفسك؟

- هل لك ولد في تونس؟

- لي أب شيخ، وأنا من أجله أفعل كل هذا الخراء.

- الغربة وكل هذا الخراء، كل هذا أمر لا يحتمل.

- لو كان بيدي لما كنت هنا.

- أعرف.

- النظام الثوري هو قوادنا، هل تعرف هذا؟

- النظامان، الثوري واللاثوري.

- الفرنسيون أيضًا؟

- تجارة بنات الهوى شيء معروف، زميلاتك الصربيات يمكنهن أن يقلن لك عنها ألف مرة أحسن مني، ولكن فيما يخص التونسيات الأمور معقدة جدًا، وهي تتم على أعلى المستويات. لهذا السبب...

- لهذا السبب ماذا؟

- لهذا السبب طلبت منك الصعود.

فتحت بنت الليل التونسية باب الفيراري، وأرادت الذهاب، لكن فرانك لانج أمسكها من ذراعها:

- انتظري، إلى أين أنت ذاهبة؟

- إذا لم أجد زبونًا أنت تعرف المصير الذي ينتظرني.

وفي الحال، أخرج رجل التحري الخاص من جيبه حزمة من الأوراق النقدية، وأعطاها إياها.

- أين تأخذين زبائنك عادة؟ سأل فرانك لانج.

- ليس بعيدًا من هنا، أجابت بنت الهوى، وهي تدس النقود في حقيبتها البلاستيكية الصغيرة، وتعيد غلق باب الفيراري. شارع ريفولي.

- سنذهب إلى شارع ريفولي، هتف رجل التحري الخاص، وهو ينطلق بجوهرته الحمراء.

* * *

في الطابق الأخير من عمارة تبدو عمارة شركات ودوائر خالية من الجن والإنس، كبست بنت الهوى على جرس أحد الأبواب، ففتح لها ملتح ما أن عرفها حتى تركها تدخل وفرانك لانج معها. في الداخل، كان معظم الحراس من الملتحين، وكان بعض رجال السي آي إيه بقبعاتهم يختلطون بهم. في الممر الطويل، كانت الحركة لا تنقطع، وبنات الهوى في ثيابهن الداخلية الخفيفة يدخلن إلى الغرف مع زبائنهن، ويخرجن منها. كانت قهقهات بعضهن ترن فجأة دون أن يبالي بها أحد، وكان بعض الزبائن من الإثارة بحيث لم يستطع الانتظار، فأخذ يضم، ويلثم، وبنات الليل يتركنه يفعل، وهن يضحكن، ويغنجن، قبل أن يسحبنه إلى غرفة، ويغلقن من ورائهن الباب. في القاعة الكبرى التي في صدر الممر، لم يكن المشهد عاديًا، كان مشهدًا من ألف ليلة وليلة، فالمساند والأفرشة والوسائد والسجاجيد كانت الديكور لطقوس العربدة، وكلها تغرق في بحار الأضواء الملونة. لم يعرف فرانك لانج الكثير ممن كان هناك، لكن أهم من عرف وزير الداخلية، وهو في جلسة "عائلية" بين تسع أو عشر تونسيات بجمال عشتارت، ففكر فرانك لانج في الحب، وفي البحر، وفي الموت. اقترب أكثر ما يكون من الرجل القوي، وحياه، فلم يرد هذا عليه التحية. أشار إلى حراسه الخاصين ليراقبوه، بينما أخذ فرانك لانج مكانًا هناك ليس ببعيد، وراح يعانق بنت هوى شارع سان دُني بعين مفتوحة وأخرى مغلقة. بعد قليل، إذا بفيض من الأنوار في وسط القاعة، وعلى إيقاع الأغنية الشهيرة "جاري يا حمودة"، بدأت خمس راقصات يهززن أردافهن، فوصل التهتك أقصاه.

انسحب رجل التحري الخاص، وصعد الدرج الداخلي المجاور لباب القاعة الكبرى، فمرت به عشر نساء محجبات يقودهن ملتح، لم يعرف أبولين دوفيل بينهن للخمار الذي تضعه على وجهها، بينما عرفته ضابطة الدي جي إس إي، ودارت برأسها متابعة إياه، فرأت كيف ألقى حراس وزير الداخلية الخاصون القبض عليه، ودفعوه خلف أحد الأبواب.

- الحمولة الجديدة وصلت سيدي، قال الملتحي لمدير الماخور الذي، ويا للمفاجأة، لم يكن ملتحيًا، بعد أن دخل عليه تاركًا النساء المحجبات في الخارج.

- أدخلهن، أمر المدير التونسي لبيت الهوى، وهو مشغول بِعَدّ عشرات آلاف اليوروهات.

أشار الملتحي إليهن بالدخول، وهو يكشر قرفًا، فيضاعف ذلك من دمامته. تركهن المدير ينتظرن، وهو يواصل عَدّ العشرات الآلاف من اليوروهات إلى أن انتهى. وضعها في صندوق جداري، وأقفله، ثم جاء ليعاين الحمولة. وبيد عصبية، رفع النقاب عن وجه هذه وصدر تلك أو بطن هذه وفخذ تلك، ومزق الحجاب عن كتف هذه وخصر تلك أو ردف هذه وساق تلك. جاء دور أبولين دوفيل، فعراها على التقريب بهمجية، وغرز مخالبه في لحمها أكثر من مرة. عندما انتهى منهن، أمرهن بالذهاب مع الملتحي، لكنه احتجز الشقراء الساحرة.

- أنتِ، ابقي هنا، أمر مدير الماخور.

وبعد أن وجد نفسه وحده معها:

- لماذا أنت هنا؟

- لماذا أنا هنا؟ لأنني كغيري، أجابت أبولين دوفيل.

- أنت لست تونسية، قال مدير الماخور، وهو يدور حولها.

- لا.

- إذن كيف؟

- هذه هي المهنة التي لي.

- هل أنت قحبة في تونس؟ سأل مدير الماخور، وهو يلتصق بها من ورائها ومن جنبها ومن وأمامها.

- إنها مهنتي، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية، ولدي كافة الأوراق التي تثبت ذلك.

انقض عليها، وهو يرمي إلى تقبيلها، لكنها دفعته بكل قواها، وكادت تسقطه أرضًا، والآخر يتلفظ بفاحش السباب. حاول من جديد، فأسقطته هذه المرة على الأرض، وطقت عنقه. سحبته لتخفيه من وراء أريكة، وبسرعة، فتحت جوارير مكتبه بحثًا عن وثائق تريدها إلى أن وجدتها، كانت قائمة بأسماء الشخصيات الرسمية التي تشارك في سوق الدعارة التونسية مع قيمة ما تتقاضاه من عمولات، وكان هناك مسدس حملته، ومن الباب الذي فتحته ألقت نظرة حذرة، ووقعت على أحدهم، وهو يتقدم باتجاهها.

* * *

دخل اثنان من رجال السي آي إيه على فرانك لانج، وحراس وزير الداخلية الخاصون يسومونه خسفًا، وبإشارة من رأسيهما تركوه، وغادروا المكان.

- فرانك لانج، لماذا لا ترتاح أبدًا؟ بدأ رجل السي آي إيه الأول بإطلاق "النار"، نار المشاحنة.

- لأن لدي الحق في المضاجعة أنا أيضًا، همهم رجل التحري الخاص، وهو يحاول استعادة أنفاسه.

- لأن لديك الحق في مضاجعة أمك بالأحرى، قال رجل السي آي إيه الثاني.

- اسمعا، يا صاحبيّ، تلعثم فرانك لانج، اتركاني أذهب، ولن أزعج أحدًا بعد اليوم.

- نتركك تذهب؟ قال رجل السي آي إيه الأول، وهو يضرب جبهة رجل التحري الخاص بحافة المكتب، ويفتحها على صراخ هذا الأخير.

- أنت محترق، فرانك لانج، قال رجل السي آي إيه الثاني، وهو يضربه بكل قواه في بطنه على صراخ هذا الأخير دومًا.

- بماذا أقسم لكما؟ جمجم فرانك لانج بصوت يسمع بالكاد، وهو ينحني على نفسه مستسلمًا.

- بقفا أمك المزعجة، قال أحد القاضيين المعذبين.

انفجر المحكوم عليه بالبكاء، ورجل السي آي إيه الأول يقول له:

- الدين للثورة والثورة للجميع! ألا تريد أن تفهم هذا، يا كلب الخراء؟ القحبات كأمك هن من الذهب الخالص، فاترك النظام الجديد يصوغهن على هواه، هكذا ينظف تونس من قذارة البشرية، ويدغدغ الإسلاميون خُصى ناخبيهم. أموال الدعارة لن تحل كل المشاكل، حتى الشيطان الملهم لكل هذه اللحى كلحية أمك لن يأتي بحل، أما صبر التونسيين، وأملهم بحل هناك في سماء من خراء كامل، فهذا شيء آخر، سيكون من وراء معجزة الثورة الاقتصادية في هذا البلد الثقب التي لن تكون أبدًا.

- اطلبا مني كل ما تريدان، عاد فرانك لانج إلى الجمجمة بصوت يسمع بالكاد.

- أنت محترق، فرانك لانج، كما قلت لك، قال رجل السي آي إيه الثاني، وهو يهم بضربه بكل قواه في ظهره، إلا أنه توقف على صوت أبولين دوفيل التي دخلت، وهي تشهر المسدس.

- جميل كل هذا، أيتها القبعتان! صفرت ضابطة المخابرات الخارجية.

- كابتن دوفيل، همهم فرانك لانج، وهو يجر نفسه ليقف قربها.

- أتمنى ألا أكون قد تأخرت كثيرًا، همهمت أبولين دوفيل، وهي تلمس بإصبع متوترة الدم السائل على جبهة رجل التحري الخاص.

- كان عليّ أن أساوم دون أمل كبير، قال فرانك لانج.

- حقًا، دون أمل كبير لانج، همهمت الشقراء الفرنسية بحزن.

- دون أمل كبير خير ألف مرة من دون أمل، همهم رجل التحري الخاص.

- أفضّل هذا، قالت أبولين دوفيل باسمة، وهل تتألم كثيرًا، يا حبيبي؟

- ماذا؟ أعيدي! طلب فرانك لانج متفاجئًا.

- سألتك فرانك إذا كنت تتألم كثيرًا، أجابت أبولين دوفيل بلهجة ناعمة.

- و...

- يا حبيبي.

- أبولين، يا حبيبتي، يا معبودتي، قولي لي متى سنتزوج؟

- يلعن دين، رشقت الشقراء الساحرة بلهجة قاسية، هل هذا وقته؟ لا بد أني أعمل مع معقد! سنتزوج الآن، يا قفاي، أنت سعيد؟ الآن! تعال، وامتطني لنخلص! ثم: وهذا الخراء، هل نسيت هذا الخراء؟ ماذا سنفعل بهذا الخراء؟ سألت، وهي تشير إلى رجلي السي آي إيه.

- اسمعي، مدموزيل... تدخل رجل السي آي إيه الأول.

- اسمع أنت، يا كلب الخراء، قاطعته ضابطة المخابرات الخارجية. تونس لن تكون لكم أبدًا، كالمغرب، كليبيا، كمصر، كسوريا، ككل العالم العربي، لأن حلفاءكم الإخوان المسلمين سيمرون مرور الكرام، وهذه المنطقة من العالم ستتطور، من حقها أن تتطور، ستتطور، وتتحرر بالفعل، وتفلت من التخلف، تفلت من مخالبكم. ثم إلى فرانك لانج: اربطهما لانج، وكممهما.

- ولكن كيف؟ احتار رجل التحري الخاص.

- يلعن دين، سبت ضابطة الدي جي إس إي، تدبر أمرك، وبسرعة، مزق ما أرتديه من حجاب، إنه ممزق على كل حال، يلعن دين، قلت بسرعة.

بعد أن كممهما فرانك لانج، وربطهما، أمرتهما أبولين دوفيل بالدخول في خزانة، وأغلقتها عليهما بالمفتاح.

- ما هذا سوى أحد الأحداث التي تحققت، همهم فرانك لانج.

- أنت تسمي هذا حدثًا؟ تهكمت أبولين دوفيل.

- الأحداث التي لا شأن لها كالتي لها شأن لا تصنع التاريخ كما يقال عن خطأ لأنها هي التاريخ، في زمن انحطاط أم غيره، ينوجد بها، وتنوجد به، أوضح رجل التحري الخاص.

- هذا لأن التاريخ هو تاريخ أرداف المومسات؟ تهكمت ضابطة المخابرات الخارجية من جديد.

- تقصدين من أرداف المومسات.

- لأن أرداف المومسات الآن فضاء للمعارك التي خاضتها البشرية.

- عندما تتحول المعارك التي خاضتها البشرية إلى مواخير تباع فيها أرداف التونسيات أقول لك نعم.

- وأردافنا نحن أين تضعها؟

- في متحف الشمع.

- متحف الشمع؟ لماذا؟

- لئلا تسيل بين الأصابع المحرقة للبيت الأبيض.

- ألهذه الدرجة يحب البيت الأبيض أردافنا؟

- البيت الأبيض يحب كل الأرداف حتى أرداف السعادين، ما يهم لديه حريته، حريته كمصدّر للكابوس الإسلامي مقابل الحلم الأمريكي، وعلى ظهر الاثنين يجني الثروات الطائلة التي تساعده على البقاء بعد أن أسرف كل ما عنده من أموال، فأفلست بنوكه، وانتهى عهد البذخ الإمبراطوري.

- هل هي بداية النظام البديل إذن تحت ثوب ماريلين مونرو المتطاير؟

- لو كان ابن خلدون مكاني لقال لك نعم. لكن هذه البداية ربما تطول تبعًا للوقت الذي سيأخذه احتضار النظام الحالي، لو كان ابن خلدون لم يزل حيًا لقال لك حتى النظام القادم يبقى دومًا ابن زمنه، منه يأتي، من داخله، وليس من خارجه، لو كان ابن خلدون هنا لقال لك كل شيء.

- فليقل لي ابن خلدون كيف أخرج من هذه الغرفة أفضل بكثير من أي شيء آخر.

- بكل بساطة، من الباب.

- وإذا كان أحد هناك؟

- افتحي الباب أولاً.

فتحت أبولين دوفيل الباب دون أن يكون أحد في هذا الطابق الداخلي، فخف كلاهما إلى المصعد الداخلي، ومنه إلى شارع ريفولي.

القسم الثاني

لم يكن فرانك لانج وأبولين دوفيل متفقين، تونس لن تقف على قدميها، قال رجل التحري الخاص، ستقف تونس على قدميها، قالت ضابطة الدي جي إس إي. أن نستثمر هناك، أضافت الشقراء الفرنسية، وأن نبني المصانع. ضحك فرانك لانج، وراح يردد: يوتوبيا! يوتوبيا! لما تعاني فرنسا من ركود الأعمال ما تعاني، ولا تجد كيف تخرج من أزماتها، كيف سنستثمر هناك، ونبني المصانع؟ لم يكن دافع ذلك التشاؤم، كان دافع ذلك الحس التاريخي. التاريخ عجوز، ونحن نعيش في آخر مراحله: الشيخوخة. إذا مات متنا كلنا، فالتاريخ أوحد، ولن يولد تاريخ جديد، فمن أين يولد؟ التاريخ بركان، ونحن في جوفه، وهو في أقصى فورانه، وهو في أقصى نَوَمَانه، ومن يقول بتغيير النظام العالمي ليتغير كل شيء لهو مخطئ، لأن التاريخ نفخ كل الأنظمة على شتى أنواعها من ضلعه، والنظام العالمي هذا هو آخر نظام، النظام الأخير. أما ما يقال عن الثوريين الجدد كالقدامى، فكله كلام منمق، لأن الإناء بما فيه ينضح. كل هؤلاء عينات زمنهم، لربما كانت عينات تختلف شكلاً، ولكنها تتشابه فعلاً، وهذه هي تونس بالثلاثي الذي يحكمها اليوم كأحسن مثال.

وعلى العكس، كان فرانك لانج وأبولين دوفيل متفقين عندما يتعلق الأمر بالقيم العليا للإنسان، هذه القيم التي لا تشيخ، والتي بها يمكن تجاوز أقسى الشروط، والذهاب مع التاريخ إلى نهايته بشكل أقل تراجيدية. بنات هوى تونس اللواتي يبعن مفاتنهن في باريس ليملأن خزائن الدولة بالعملة الصعبة بعد كساد السياحة فكرة ثورية من ناحية، ومن ناحية فكرة مهينة ومشوِّهة ومستلِبة. إذن صفقة القِوادة هذه يجب إيقافها، ولإيقافها يجب الذهاب إلى تونس. لن تتوقف العملية بفضح بعض الأسماء، لأن عملية كهذه في البؤس التونسي هي بالفعل ثورية، وهي بالفعل تاريخية، ستتكلم وسائل الإعلام، وستكون ضجة، لكن لن يلبث أن يهدأ كل شيء. يجب الذهاب إلى تونس، والبحث مع الحكم الجديد عن وسائل أخرى تتحايل على التاريخ بقدر ما يستطيع الخيال إنتاجه، فالتاريخ لا يمكن خداعه بسهولة. عندما يكون العجز كاملاً، وتنعدم الوسائل، يبقى الخيال من أجل البحث عن مخرج غير مهين وغير مشوِّه وغير مستلِب.

*

كان من المنتظر أن تكون لبنى بن عثمان، رئيسة جمعية بنات الهوى، باستقبال أبولين دوفيل وفرانك لانج في مطار قرطاج، فتقدم من أبولين دوفيل وفرانك لانج شاب ذو لحية شقراء ناعمة، وقال لهما إنه قادم من طرفها.

- هل وقع لها شيء؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية.

- لم يقع لها شيء، أجاب الشاب، إنها متوعكة.

- كانت على الهاتف مساء أمس لا تشكو من شيء، قال رجل التحري الخاص، وهو يلمس اللصقة الصغيرة التي على جبهته.

- في تونس اليوم لا تسأل كيف كنت مساء أمس، قال الشاب.

- إلى هذه الدرجة؟ تهكمت أبولين دوفيل.

- إلى هذه الدرجة، ابتسم الشاب، قبل أن يشير إليهما باللحاق به.

سار الشاب ذو اللحية الشقراء الناعمة بسرعة، وهما يسحبان حقيبتيهما، ويغذان السير من ورائه دون أية صعوبة، فالمطار فارغ تقريبًا، وليس هناك الكثير من المغادرين كالقادمين. خارج المطار، فتح الشاب صندوق سيارة مرسيدس سوداء، وضعا فيها حقيبتيهما، وهو يقول لهما:

- ستنزلان في فندق ابن خلدون.

- لو كان ابن خلدون هنا! قالت أبولين دوفيل لفرانك لانج، والشاب يبتسم دون أن يفهم شيئًا.

- إنه قريب من كل شيء، أوضح الشاب.

- وهل سنذهب لنرى لبنى بن عثمان؟ سأل رجل التحري الخاص.

- هي من ستأتي لتراكما، قال الشاب، وهو يشير إليهما بالركوب.

- متى؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية.

- لا أعرف، أجاب الشاب، وهو يركب، ثم بعد أن ركبا، وهو يسوق: لا تقلقا من أجلها، ارتاحا من عناء السفر، وكل شيء سيكون كما تريدان.

وسيارة المرسيدس السوداء تشق بهما شوارع تونس، كانا ينظران من حولهما، ويريان أن كل شيء كما يعرفانه في زمن العهد القديم. كانت الشمس القوية نفسها، والبنايات البيضاء، والعابرون الذين يبدو عليهم التفكير في شيء لا يعرفه أحد غيرهم. كان يطبع وجوههم كل غموض الغربة على الرغم من وجودهم في بلدهم، وكان يثقل هاماتهم كل عناء الوقت على الرغم من بطء عقارب الساعة. وسيارة المرسيدس السوداء تصعد بهم شارع الحبيب بورقيبة، لفت انتباههما أن أرصفة المقاهي خالية من الرواد، لكنهما لم يلاحظا أي فرق في المعاملة بين محجبة وسافرة. كانت كل امرأة تمضي في سبيلها، وكل رجل يمضي في سبيله.

- أرصفة المقاهي لماذا خالية؟ سأل فرانك لانج الشاب.

- لأن الناس اليوم يفضلون الذهاب إلى المساجد، أجاب الشاب، وهو يبتسم.

- والكحول؟ عاد فرانك لانج يسأل.

- ماذا الكحول؟ طلب الشاب.

- هل هو ممنوع؟

- لا.

قال رجل التحري الخاص وضابطة المخابرات الخارجية لنفسيهما، أرصفة المقاهي خالية من الرواد ليس لأنهم اليوم يفضلون الذهاب إلى المساجد. كانت رائحة من الكبت تفوح في الأجواء كرائحة الياسمين الذي تباع باقاته إلى جانب كل أنواع الزهور في الرصيف الأوسط للشارع الشهير.

أول ما ترك الشاب أبولين دوفيل وفرانك لانج في فندق ابن خلدون، أخذا تاكسي إلى جمعية بنات الليل. لم يريا مسئول الاستقبال، وهو يتلفن ليخبر عن خروجهما، لكنهما وجدا باب فيلا الجمعية مغلقًا، وكذلك نوافذها. أعطيا للسائق أجرته، وتركاه يذهب. سيدخلان على طريقتهما، وسيحاولان فك كل هذه الألغاز، أليست هذه هي مهنتهما؟ دارا حول الفيلا، وبحجر كسرا زجاج نافذة، وأمكنهما بعد ذلك الدخول. في الصالون كانت عدة لوحات معلقة لأشهر المساجد في العالم، وعلى جدار الدرج الصاعد إلى الطابق الأول علقت صورة كبيرة لزعيم الإسلاميين، ماجد الغنوجي. في غرفة بالوجه المقابل دخلا، كان مكتب لبنى بن عثمان. عرفا أنه مكتبها من صورتها، وهي محجبة. بحثا عما يساعدهما على فك اللغز الذي صارته دون أية فائدة، لم تكن هناك وثائق ولا صور ولا فواتير، لم تكن هناك ظلال ولا آثار ولا لطخات.

وهما ينزلان الدرج، إذا بهما وجهًا لوجه مع امرأة تبتسم لهما، وهذه تقول لهما:

- اطمئنا، أنا لست منهم، كنت هناك عندما جاء التاكسي بكما، فتبعتكما عن كثب.

سلمت عليهما بحرارة:

- أنا رئيسة جمعية المعلمات، واسمي نزيهة، نزيهة الشابي، الشابي كالشاعر.

ابتسمت أبولين دوفيل كما لو كانت تبتسم لإحدى آلهات الفينيقيين، كانت نزيهة الشابي تتألق، خداها الحمراوان لخجل سري، وعيناها الواسعتان المضيئتان بكل أسرار العبادة، ولون بشرتها الأبيض الأحمق، الأحمق لأنه لم يكن بياضًا لكل فتيات الكون.

- ما الذي تريدين قوله لنا، مدموزيل شابي؟ طلب فرانك لانج بلهجة جافة.

قطعت نزيهة الشابي ابتسامتها، وتوجهت بالكلام إلى أبولين دوفيل:

- لبنى بن عثمان في أيدي الوحدة الخاصة.

- لم تزل هناك وحدة خاصة بعد بن علي؟ سألت الفرنسية الشقراء، وهي تداوم على الابتسام للإلهة الفينيقية.

- تجدونها الآن في أقبية وزارة الداخلية، كشفت رئيسة جمعية المعلمات.

- لماذا؟ عاد فرانك لانج يطلب بلهجته الجافة، قولي لنا لماذا، مدموزيل شابي.

- باختصار لأنها رفضت تعهير المعلمات، قالت نزيهة شابي لاهثة، وقبل ذلك تعهير الموظفات، وتعهير العاطلات عن العمل، وتعهير نساء المنازل، النساء عامة، تعهيرهن، وبدلاً من ذلك استنفرت الجمعيات والنقابات على الحكم، فكان القرار بمعاقبتها أقسى عقاب.

انهارت رئيسة جمعية المعلمات، وانفجرت تبكي، فأخذتها أبولين دوفيل بين ذراعيها، وهدأتها.

- لا تبكي، يا حبيبتي، همست لها.

فجأة، توقفت نزيهة الشابي عن البكاء، وقالت:

- يجب إنقاذ الابنة الحق للثورة.

- سنذهب إلى وزارة الداخلية، لانج، قالت أبولين دوفيل لرجل التحري الخاص.

- وماذا سنقول لهم؟ تهكم فرانك لانج. لبنى بن عثمان زائرة تنزل في مضيفكم، ونحن نريد أن نراها؟

- بالضبط، هذا ما سنقوله لهم. هم يعرفون من أنت، من أنا، ولسوف يستجيبون، وإلا جعلنا من الحادث حدثًا عالميًا، أليسها الأحداث التي تصنع التاريخ، ويصنعها؟ أم أنك نسيت؟ ولا تنس أنك تنزل في فندق ابن خلدون على حسابهم، يعني أنهم يعترفون بك، ويقدرونك حق قدرك، ويحسبون ألف حساب كيلا يثيروا غضبك.

- سأوصلكما بسيارتي، قالت نزيهة الشابي، وهي تتألق من جديد متجهة نحو الباب.

- لكنه موصد، يا حبيبتي، أوقفتها الفرنسية الشقراء.

- لقد نسيت تمامًا.

- بعدك، يا حبيبتي.

جعلتها تخرج من النافذة أولاً، ثم خرجت هي، ففرانك لانج.

*

ما أن غادر فرانك لانج وأبولين دوفيل ونزيهة الشابي المكان في السيارة الفورد الزرقاء حتى وصلت سيارتان مرسيدس سوداوان فيهما عدد من أفراد البوليس السري، كانوا كلهم من أصحاب اللحى. حطموا باب فيلا جمعية بنات الهوى، ودخلوا كالمجانين. رأى رئيسهم زجاج النافذة المحطم، وفهم كل شيء. أخذ يصرخ في مأموريه، ويضرب، وهم يتدافعون إلى حيث كانت سيارتا المرسيدس السوداوان. امتطوهما، وذهبوا بسرعة البرق.

قالت رئيسة جمعية المعلمات، وهي من وراء مقودها:

- لم يتغير شيء في وزارة الداخلية، وحدتها الخاصة، هي والبوليس السري ظلتا رب تونس. ما تغير في العهد الجديد خوف الناس الذي غدا أقل من السابق، أو لم يعد له وجود. لهذا هم لا يكمشون أحدًا بمخالبهم إلا بعد أن يحسبوا للأمر ألف حساب، وحالة لبنى بن عثمان خير مثال.

- ولماذا أرصفة المقاهي فارغة؟ سأل فرانك لانج.

- لأن الناس اليوم يفضلون الذهاب إلى المساجد، رمت نزيهة، وهي تبتسم. ثم نفت: لا، ليس صحيحًا.

- ربما لأنهم يثرثرون كثيرًا، وهذا ما لا يحبه البوليس السري، علقت أبولين دوفيل.

- المقاهي دومًا ما كانت أفضل مكان للثرثرة، أوضحت نزيهة الشابي، ولكن ليس هذا هو السبب. السبب هو البحر.

- ماذا؟! صاح الفرنسيان بصوت واحد.

- يشاع أن شواطئ تونس ستعرض للبيع من أجل إحياء السياحة، أجابت رئيسة جمعية المعلمات، وكل التوانسة يقومون ويقعدون على الرمال بعد أن توزعوها فيما بينهم... نحن لسنا بعيدين الآن عن وزارة الداخلية.

- فكرة جهنمية لانج، تهكمت ضابطة المخابرات الخارجية، لو كان ابن خلدون هنا لقال لك كل شيء.

- أكثر ما يشغلني الآن مصير رئيسة جمعية بنات الهوى، همهم ضابط التحري الخاص.

- هنا، قالت نزيهة الشابي، سأقف هنا، من الأفضل ألا يعرفوا أنني أحضرتكما. اقطعا الرصيف، وعلى بعد مائة متر وزارة الداخلية، ستعرفانها بسهولة من بنايتها الرمادية على عكس كل بنايات تونس البيضاء.

نزلا من السيارة، وهي تضيف:

- بالطبع سأنتظركما.

وتألقت ابتسامًا، وللمرة الأولى لاحظت أبولين دوفيل أن غمازتين وسط خديها التفاحيين نقرهما عصفور مغرم، وأن لون شعرها مزيج من الخروب والحناء.

*

بعد أن قدما نفسيهما إلى رئيس الوحدة الخاصة، ولماذا كانا هناك، قال لهما الكولونيل الذي بقي جالسًا من وراء مكتبه، تحت صورة لبن علي، إن لبنى بن عثمان، غادرت وزارة الداخلية إلى الجولاج.

- ماذا؟! صاح الفرنسيان بصوت واحد.

- إنه معتقل حمام الشط، أوضح الضابط، قبل الثورة هكذا سماه الناس، الجولاج، وبعد الثورة بقي اسمه على حاله.

- هل أنت واثق مما تقول كولونيل؟ سأل فرانك لانج بلهجة خشنة.

- كيف لا أكون واثقًا، وأنا من أرسلها هناك، نبر الضابط.

- ولكني لا أثق بما تقول كولونيل، قذفت أبولين دوفيل في وجهه.

- انتهى عهد الكذب كابتن دوفيل، قذف الضابط بدوره في وجهها، تعالا معي إذا كنتما لا تصدقانني.

نهض من وراء مكتبه ببطنه الضخمة، وتعمد المرور من وراء الشقراء الساحرة، والاحتكاك بها. قهقه تحت نظرات ضابطة المخابرات الخارجية السوداء من الغضب، وأشار إلى زوج التحري بأن يتبعه.

في الطابق التحت-الأرضي، فتح الحراس الباب الحديدي الضخم أول ما رأوا رئيسهم.

- ليس لدينا الكثير من الموقوفين كالماضي، همهم الكولونيل، وعليكما أن تتأكدا بنفسيكما من ذلك. بعد الثورة، لم يعد لدينا ما نخفيه على أحد.

وهم يمرون بقفص، قفز فجأة كلب شرس، وأخذ ينبح مبديًا أنيابه. أعطاه الكولونيل حبة سكر، وداعبه من عنقه، "لطيف أنت! لطيف أنت!"، ردد الكولونيل إلى أن هدأ تمامًا. في الزنزانة المجاورة، رأى فرانك لانج وأبولين دوفيل شابًا معضوضًا، وهو يغرق في دمه.

- سنرسله إلى الإسعاف، أوضح الكولونيل، فلا تقلقا من أجله.

في الوجه المقابل كانت امرأة على الأرض تلهث، وهي تفتح، وتقفل فخذيها الدمويين، وتردد:

- لقد اغتصبوني كلهم، أبناء القحبة، كلهم، لقد اغتصبوني كلهم!

- لا تستمعا إليها، قال رئيس الوحدة الخاصة.

- وهذه أيضًا يجب إرسالها إلى طبيب، قالت أبولين دوفيل.

في إحدى الزنازين، كانت ثلاث حمائم ذبيحة، وفي زنازين أخرى، كان شبان مضمدون، ولكن كانت نظراتهم ميتة.

- نحن نُعنى بنزلائنا كما تريان، همهم الكولونيل.

- أليس كذلك كولونيل الخراء؟ قذفت أبولين دوفيل.

- شكرًا على الإطراء كابتن دوفيل! رد رئيس الوحدة الخاصة.

- ولماذا أرسلتها إلى الجولاج، لبنى بن عثمان، كولونيل الخراء؟ ثَنَّى فرانك لانج.

- لأن كولونيل الخراء هذا رحيم القلب، أجاب الضابط، أنا مع العنيدين لا أستطيع شيئًا أما هم...

- لنخرج من هنا لانج، طلبت ضابطة الدي جي إس إي، وهي تسارع إلى مغادرة زنازين التعذيب.

لحق بها رجل التحري الخاص دون أن يفوه بكلمة، فالكولونيل الذي داعب الكلب الهائج إلى أن هدأه. في الممر، صاح من ورائهما:

- مع السلامة.

فاستدارت أبولين دوفيل، وانقضت عليه كاللبؤة، مسددة قبضتها إلى كرشه الضخمة. وهو ينحني على نفسه من الألم، ضربه فرانك لانج بحذائه، وأسقطه أرضًا. زحف الكولونيل بصعوبة حتى مكتبه، وفي الهاتف، قال لاهثَا:

- إنهما في الطريق إلى حمام الشط.

*

وهم في الطريق إلى حمام الشط، شرحت رئيسة جمعية المعلمات لأبولين دوفيل وفرانك لانج أن جولاج حمام الشط هو المقر السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية حيث كانت مكاتب عرفات وسجونه التي يرمي فيها معارضيه، وبعدما ضربه الإسرائيليون، جعل بن علي منه معتقله الرهيب. لم تكن سيبيريا الفضاء لقتل الوقت والإنسان، فكان على المعتقلين أن يملأوا الأكياس بالرمل في الصباح، ويفرغوها في المساء. كانوا على موعد كل يوم مع العدم، إلى أن ينفقوا الروح.

- ولماذا لم تحطمه الثورة كما حطمت ثورتنا معتقل الباستيل؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية، وهي ترتعش من الغضب.

- الثورة لم تحطم سوى عربة محمد البوعزيزي، أجابت نزيهة الشابي بلهجة مُرة.

- أنا أسمع ضحكات المعتقلين، ولا أسمع ضحكة لبنى بن عثمان، همهم فرانك لانج.

- هل تعتقد أنهم قتلوها لانج؟ همهمت أبولين دوفيل مكربة.

- يعذبونهم، فيضحكون، عاد رجل التحري الخاص إلى الهمهمة.

- لقد قتلوها، لقد قتلوها، رددت نزيهة الشابي مضيعة.

- قل لانج، هل تعتقد أنهم قتلوها؟ عادت ضابطة الدي جي إس إي إلى الهمهمة.

- أنا أسمع أنغام البالالايكا، همس فرنك لانج.

- لقد قتلوها، لقد قتلوها، لقد قتلوها، صرخت التونسية، ووجهها القمري يدخل في طور المحاق.

- أنغام البالالايكا، عاد فرانك لانج إلى الهمس.

- آه، يا إلهي! ابتهلت أبولين دوفيل.

صمت ثلاثتهم طوال الطريق إلى حمام الشط، كانت الطريق طويلة، لكنهم صمتوا، وهم يحدقون في اللاشيء، ويصغون إلى صوت البحر القادم من كل الجهات. لم يكن بحر تونس يبين للعين، لكنه كان هناك، على مقربة من جهة ما، وكانوا يسمعون صوته. كان الصوت يشبه غناء حور قرطاج، كان عذباً، لم يكن حزينًا، كان ينقل كل مرح الأمواج منذ عرائس الفينيقيين إلى شهداء سيدي بوزيد.

أول ما رأوا، وهم على مقربة من المعتقل الرهيب، الأسلاك الشائكة التي تحيط به، أسلاك غريبة الشكل، عندما تراها تحس بانغرازها في جسدك، لا شيء سوى أن تراها، مجرد أن تراها، وهي بارزة كأصابع القدر، قادرة، هيابة، قوية، مهلكة، مدمرة. أشارت نزيهة الشابي إلى ناحية لم يزل الردم فيها منذ الغارة الإسرائيلية، وقالت:

- لقد حولوا هذه الناحية إلى مقبرة للجماجم.

- هنا يضاجع الشيطان المعتقلات، همهم فرانك لانج.

- هنا تقع المعتقلات في حب الشيطان، همهمت أبولين دوفيل.

- كم من مرة حلمت في مضاجعة الشيطان، همهمت رئيسة جمعية المعلمات، وأوقفت سيارتها.

في الداخل، كان المعتقلون يملأون الأكياس بالرمل، ويرمون الفرنسيين بنظرة مرتابة. تعثرا بجثة امرأة ملقاة دون أن يبالي بها أحد، كانت عارية الفخذين، ومن مهبلها يسيل مائعًا أحمر لم يكن دمًا. ابتسم الحارس المرافق لهما، وأوضح:

- جعلناها تأكل الهريسة من فرجها لشد ما كانت تحبها.

فجأة، تسلق قضبان زنزانة جماعية عشرات النزلاء المعدمين الذين هم أشبه بنزلاء أوشفتز. مدوا أيديهم ليمسكوا بالشقراء الفرنسية، وهم يبتسمون ابتسامة الموت. تأوهت أبولين دوفيل من شدة الألم، وكذلك فعل فرانك لانج، ثم وجدا نفسيهما وجهًا لوجه مع ضابط الجولاج.

- باسم ستالين أرحب بكما، هتف الضابط، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- يبدو أن كل شيء على أحسن ما يرام في جولاجك، قذف فرانك لانج في وجه الجلاد.

- كل شيء، كل شيء، ردد الضابط الدموي، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- كل شيء، همهمت أبولين دوفيل غائبة بعض الشيء.

- أنتما هنا في زيارة رسمية؟ سأل مدير المعتقل، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- نحن هنا في زيارة خاصة، خاصة جدًا، أجاب رجل التحري الخاص، لنتعلم آخر مستجدات القمع في القرون الوسطى.

- أهلاً ومرحبًا بكما، هتف ضابط المعتقل، وهو لا يتوقف عن ضرب الأرض بكعبه.

- خذنا في الحال لنرى لبنى بن عثمان، رئيسة جمعية بنات الهوى، نبرت ضابطة الدي جي إس إي.

- أنا لا أستطيع تلبية طلبك كابتن دوفيل مع الأسف، نبر الرجل الدموي دون أن يضرب هذه المرة بكعبه الأرض.

- هل ابتلعها الشيطان؟

- حتى الشيطان لم يقدر على ابتلاعها.

- لماذا؟

- لأنها هي الشيطان.

- إلى هذه الدرجة؟

- إلى هذه الدرجة، أكد مدير الجولاج، وعندما فطن إلى أنه لم يضرب بكعبه الأرض، فعل ذلك عدة مرات.

- كف عن هذا، خراء! نبر فرانك لانج.

- سأكف عن هذا، هتف الرجل الدموي، وهو يضرب بكعبه الأرض.

- ما الذي فعلته في لبنى بن عثمان؟ نبرت أبولين دوفيل.

- كل شيء، أجاب ضابط المعتقل، وهو يمسك نفسه عن ضرب الأرض بكعبه.

- كل شيء كيف؟ عادت ضابطة المخابرات الخارجية تنبر.

- كل شيء، الاغتصاب، الحرق، الكهرباء، الماء، اقتلاع الأظافر، اقتلاع الرموش، اقتلاع المسام، نعم حتى المسام، عدّدَ الرجل الدموي، وهو يمسك نفسه عن ضرب الأرض بكعبه مضيفَا: كهذه الثورية أنا في حياتي لم أر! ثم وهو لا يمسك نفسه.

- الهيكل العظمي في الخارج هو هيكلها إذن، جمجم رجل التحري الخاص.

- يؤسفني أن أقول لك لا، ليس هيكلها، وضرب الضابط الجلاد بكعبه الأرض.

- أينها، صاحت أبولين دوفيل، وهي تقبض عليه من خناقه، وتهزه هزًا عنيفًا.

- في مستشفى الأمراض العقلية، أجاب، والجبان يرتعد من الخوف.

أراد أن يضرب بكعبه الأرض، لكن أبولين دوفيل منعته بقدمها، وأوقعته على الأرض. سدد فرانك لانج كعبه إلى دماغ الجلاد، وخرج بسرعة مع ضابطة الدي جي إس إي. وهما يخرجان من البوابة، رأيا ثلاثة من أصحاب اللحى، وهم يجذبون نزيهة الشابي من سيارتها الفورد الزرقاء ليضعوها في سيارتهم المرسيدس السوداء، وينطلقون بها دون أن يتوقفوا على صيحات التحريين. امتطيا سيارة المختطفة، وذهبا في مطاردة لم تنته إلا بعد أن حطم فرانك لانج دعامة المرسيدس الخلفية، وفي طريق طويلة رملية كادت تلقي بهم في البحر. ها هو بحر تونس في الأخير، فكر الفرنسيان. أوقف رجال البوليس السري سيارتهم بشكل مباغت، وذهبوا على أقدامهم هاربين. خرجت نزيهة من السيارة المرسيدس السوداء، وهي تبكي، وألقت بنفسها بين ذراعي الشقراء الساحرة.

للمتابعة اذهب الى الصفحة الثانية / انقر التالي ادناه

القسم الثالث

لن يترك فرانك لانج وأبولين دوفيل نزيهة الشابي وحدها بعد محاولة اختطافها، سيذهبان إلى مستشفى الأمراض العقلية غدًا، وهذه الليلة لن يقضياها في الفندق. وجميلة تونس تقترب بهما من عمارة ذات أربعة طوابق في المنزه حيث تسكن، كان بعض السلفيين يترصدون لعاشقين، ويتبعونهما من وراء جذوع الشجر، وعلى أغصان الشجر، كانت العصافير تقبل بعضها آلاف القبلات، وتزقزق. أوقفت نزيهة الشابي سيارتها الفورد الزرقاء، وفي اللحظة ذاتها انقض السلفيون على العاشقين، وهما يتبادلان قبلة، وأغرقوهما بالبنزين، وهذان يصرخان احتجاجًا، ويقولان إنهما خطيبان. نادى العاشقان على الناس كي يأتوا لنجدتهما، فأشعل السلفيون النار فيهما، وولوا الأدبار. سارع فرانك لانج إلى إطفاء نار المحترق، وتعاونت أبولين دوفيل ونزيهة الشابي على إطفاء نار المحترقة. تجمع الناس، ودوت في الأرجاء صفارات سيارات الإسعاف والشرطة.

في شقة من الطابق الأخير، استلقت رئيسة جمعية المعلمات على أريكة في صالون تتصدره صورة كبيرة للشيطان، وهو يضاجع امرأة شقراء تشبه أبولين دوفيل إلى حد بعيد. رمت ضابطة الدي جي إس إي رأسها على مسند المقعد الذي تجلس عليه غير بعيد من رجل التحري الخاص، وهذا ينحني، وهو يضع وجهه بين يديه.

- ليست هذه هي المرة الأولى، همهمت نزيهة الشابي، اعتداءات السلفيين لا تعد ولا تحصى، وليس لأن واحدًا يقبّل واحدة تحت شجرة. اعتداء على معرض لصور المرأة تخلع المرأة في الصور الحجاب، اعتداء على محطة تلفزة ترى النبي من عين الإنسان، اعتداء على صحافيين يقولون ما يفكرون فيه بحرية، اعتداء على الياسمين في الحدائق العامة لأن لونه أبيض، اعتداء على البحر لأن فيه المراكب لا تغرق، اعتداء على حلم المراهق في الليل، على ظل العارية في الحمام، على حرية الطيور في حديقة الباساج...

- لا يوجد سلفي وغير سلفي، همهمت أبولين دوفيل، الذين حاولوا اختطافك كالذين أحرقوا العاشقيْن، كلهم واحد. لا يوجد إسلامي معتدل، وإسلامي غير معتدل، يوجد إسلامي، وفقط.

- يقول مفكرو الأكشاك الذين يفلت التاريخ من بين أيديهم، فيعجزون عن استقرائه، همهم فرانك لانج، فليأخذوا الحكم ليفشلوا! والآخرون الذين يقولون فلنجربهم، أهلاً وسهلاً إن نجحوا، وإن فشلوا مع السلامة! بينما من البديهي فشلهم، شيء في ذاتهم، في بنيتهم، في جوهرهم، وفي أخذهم الحكم تعطيل للحياة إلى أجل غير مسمى، وربما إلى الأبد، فهم لن يتركوا الحكم بسهولة.

- الحكم نحن، قالت رئيسة جمعية المعلمات، وهي تعتدل في جلستها، الجمعيات، النقابات، الاتحادات، المجتمع المدني.

- المجتمع المدني، قالت أبولين دوفيل، وهي تنهض من مكانها لتجلس قرب فاتنة تونس، دون مجتمع، يا حبيبتي، فكل المجتمع ذهب إلى البحر، أم أنك نسيت بسرعة؟ سيبيع المجتمع الرمل للسياح. لهذا هم يطاردونك، ويعذبون لبنى بن عثمان، وبوليسهم السري منتشر في كل مكان.

- وليس هذا فقط، قال فرانك لانج، وهو يعتدل في جلسته، من لهم الحكم كمن لا حكم لهم كلهم يقولون لك الله محمد الخلفاء الراشدين، كلهم، عن بكرة أبيهم، المتدين كالمتزمت كالعلماني كالمغني كالهاوي كالعاوي كالمؤذن كالمنشد للبيان الشيوعي، كل واحد منهم حثالة دينية، شيء غير طبيعي، ولهذا من الطبيعي أن يكونوا هنا، نعم، الإسلاميون، من الطبيعي ان يأخذوا الحكم في كل مكان من هذا العالم العربي الشرجي.

بدا على المرأتين أنهما لا تسمعانه، كانت الواحدة تنظر إلى الأخرى، وتفكر في شيء آخر غير كابوس الإسلاميين، شيء آخر لا تعرفه سوى النساء، شيء لا اسم له، شيء آخر، لا علاقة له بالسياسة، شيء آخر غير أي شيء آخر.

- نزيهة، همهمت أبولين دوفيل، لماذا لم تتزوجي؟

- كي أصنع الثورة، رمت ساحرة تونس، ثم ضحكت، وقد ذهب عنها كل شجنها. لا، أنا أمزح. لماذا لم أتزوج؟ بكل بساطة لأني لا أحب الرجال. أنا لا أحب الرجال، لهذا لم أتزوج. وأنا في باريس، كان أبي الشيخ يراقب كل حركة من حركاتي، ينتظرني عند فوهة المترو، يبعث بمن يتبعني، وأنا في الحي اللاتيني، كنت في عينيه القاصر دومًا، وكان يخشى عليّ من جرح الأنسام، فرأيتني كما كان يراني، لم أرتد الجينز الضيق، ولم أكشف لأحد عن طرف ثديي. عندما مات، غدا لي قضيب ككل الرجال، ووقعت في غرام أكثر من امرأة.

وبأصابع مترددة، لمست خد أبولين دوفيل، فأخذت هذه يدها بلهفة، وقبلتها من كفها بقوة، ثم من ثغرها. خلعت الواحدة فستان الأخرى، ثم معلق الثديين، فالسرواال القصير، وبان وشم يمثل قلبًا من الجماجم الدائرة بسرة نزيهة الشابي. غاص الجسد في الجسد، وغطى البحر رمل تونس. كانت حرية الجسد من حرية البحر، وكان الليل، وكان القمر، وكانت النجوم. كانت الحرية كما يجدر بها أن تمارس على أريكة، وفي كل مكان من تونس. الحرية كما كان يجدر بها أن تمارس على الرمل، تحت سماء مليئة بالنجوم، والقمر معلق كقنديل. كانت الحرية بكل تلك البساطة، دون سيف مسلط، دون تقوى، دون ديانة. وكان العناق بين امرأة وامرأة أو بين امرأة ورجل أو بين رجل ورجل الصلاة الأولى، والأخيرة. العناق. الحرية. بكل تلك البساطة. لم يكن للعبث مكان. بكل تلك البساطة. الحرية. العناق. لم يكن للدم مكان. لم يكن للموت مكان. كان العناق. كانت الحرية. وكان للوجود معناه. بكل تلك البساطة. أما الأشياء الأخرى، ذات الأهمية، فلم تكن ذات أهمية، بعد أن غدا للوجود معنى. تحت سماء الحرية للعناق، كل المشاكل ستجد حلها، كل المشاكل. لأن كل شيء يبدأ بالحرية. الحرية. العناق. الحب. العمل. تنتهي الأنانية. يزول فائض القيمة. يصمت المؤذن. يحل التنافس الحر. الدينار الحر. الإبداع الحر. التجاوز الحر. بكل تلك البساطة. التجاوز لا التناحر. احتقار السلطة. كره المال. تنوجد شروط احتقار السلطة وكره المال. تُوجِدها الدينامية. المادية دينامية. الجدلية دينامية. التاريخ دينامية. عند شروقه دينامية. وعند غروبه دينامية. يلفظ عيناته كما يبتلع عيناته. ينوجد بها، وتنوجد به. لم يكن صراعًا أبدًا. كان دينامية. يوجِد وينوجد. وسيكون دينامية. ليست الطبقية، وإنما الدينامية. ليست الوحدة المجتمعية، وإنما الدينامية. ليست الأشكال الإيديولوجية، وإنما الدينامية. ليست المقولات العليا، وإنما الدينامية. ليست المحددات الاقتصادية، وإنما الدينامية. ليست التشكيلات الاجتماعية، وإنما الدينامية. الدينامية، الدينامية، الدينامية.

ما لبث العناق الثلاثي بين نزيهة الشابي وأبولين دوفيل وفرانك لانج أن بدأ، كان ذلك لإثبات أن المرأة تساوي الرجل في كل شيء، وأن المرأة الشريك الكلي للرجل، لا الناقص ولا المكمل. ترددت رئيسة جمعية المعلمات في تقبيل رجل التحري الخاص بعد أن سحبت اللصقة عن جبهته، فاغتصب منها القبلة التي أراد أن تحررها من عقدتها. تنفس البحر، ورمى العالم بأمواجه حتى غطى كل شواطئ تونس. سحب المرأتين، وعلى سجادة الصالون، صلى ثلاثتهم صلاة الحب.

*

في صباح اليوم التالي، أوصى فرانك لانج وأبولين دوفيل نزيهة الشابي أن تغلق عليها الباب جيدًا وألا تفتح لأحد ريثما يذهبان إلى مستشفى الأمراض العقلية لرؤية لبنى بن عثمان. لكنهما ما أن غادرا العمارة حتى حضر أصحاب اللحى من أفراد البوليس السري، حطموا باب رئيسة جمعية المعلمات، واقتادوها.

في البلفيدير، أوقفهما التاكسي أمام بوابة مستشفى "المهابل حاشاك"، كما قال السائق، وغادر المكان مسرعًا خوفًا من أن يصيبه مكروه.

- لبنى بن عثمان من أخطر نزلائنا، همهم مدير مستشفى الأمراض العقلية، وأنا لا أنصحكما برؤيتها.

- أخيرًا، قال فرانك لانج.

- أخيرًا ماذا؟ سأل مدير مستشفى الأمراض العقلية.

- أخيرًا نقع على لبنى بن عثمان، أجاب رجل التحري الخاص.

- نعم، ولكني كما سبق لي وقلت أنا لا أنصحكما برؤيتها، همهم مدير مستشفى الأمراض العقلية بشيء من التأفف.

- ونحن ننصحك بألا تتدخل إلا فيما يعنيك، قالت أبولين دوفيل بجفاف.

- كما شئتما، نفخ مدير مستشفى الأمراض العقلية، وهو يضغط على جرس، فحضرت ممرضة. اذهبي بهما إلى قاعة الزيارات، واجعليهم يحضرون لبنى بن عثمان.

ما أن سمعت الممرضة الاسم حتى رفعت رأسها، وهي تفتح عينيها واسعًا، للمفاجأة. هز مدير مستشفى الأمراض العقلية رأسه مؤكدًا، وهو يهمهم بيأس:

- لا يريدان أن يفهما.

في الممر الطويل، كان بعض المرضى هنا وهناك، فأوضحت الممرضة:

- حالاتهم ليست خطرة، فاطمئنا.

كان أحدهم يضع السجائر وراء أذنيه، وفي أذنيه، وفي منخريه، وفي فمه، كان يضع ثلاث سجائر أو أربع في فمه، وكان ثان ينظر إلى وجهه في مرآة يد، وهو لا يتوقف عن تأمل وجهه من كل النواحي، وكان ثالث يقفز فجأة على يديه، ليسير على يديه قليلاً، ثم يقفز على قدميه، ليسير على قدميه قليلاً، وكان رابع يرتدي الحجاب، ويخبئ وجهه كالمرأة، ولا يتوقف عن التمايل مثلها، وكان خامس يرتدي بزة عسكرية، ويضع على رأسه قبعة، وتحت إبطه عصا، وهو يذهب، ويعود، مرددًا: بن علي! بن علي! بن علي! وكانت امرأة تمشط شعر امرأة أخرى بوحشية، وعندما هذه تصرخ، تضربها، فتسكت قليلاً، ثم تعود إلى الصراخ، وتعود الأولى إلى ضربها. وكانت ثالثة، تكشف فجأة عن ثديها، وتقهقه، وتغطى فجأة ثديها، وتكشف عن ثديها فجأة، وتقهقه. وكانت رابعة...

- انتظرا ريثما يأتون بأكبر مجنونة، طلبت إليهما الممرضة، وهي تفتح لهما باب قاعة الزيارات، ها أنا أدق ناقوس الخطر، فحذار!

بعد عدة دقائق، عادت الممرضة تفتح عليهما باب قاعة الزيارات، ومن أمامها جعلت ممرضين يُدخلان لبنى بن عثمان، وهي ترتدي حجابًا أسود، بينما أمسكها الممرضان من ذراعيها. تقدما بها إلى أن أوقفاها مقابل أبولين دوفيل، ومن وراء ضابطة الدي جي إس إي راح فرانك لانج يراقب كل شيء بانتباه شديد. أشارت الفرنسية الشقراء إلى الممرضين ليتركا لبنى بن عثمان، وعندما رفضا، جمجمت بين أسنانها:

- اتركاها يلعن دين!

أذعن الممرضان للأمر، فابتسمت لبنى بن عثمان لأبولين دوفيل، وابتسمت أبولين دوفيل للبنى بن عثمان، إلا أن المريضة صاحت فجأة، وأرادت الانقضاض على ضابطة المخابرات الخارجية لتفتك بها لولا سرعة الممرضين اللذين حالا دون ذلك. لف فرانك لانج زميلته بذراعه ليحميها، ولبنى بن عثمان تصرخ، وتضرب، وتقاوم قبضات الممرضين المتينة حتى هدأت تمامًا. تساقطت على الأرض، فجاءت أبولين دوفيل، ورفعتها، لم ترفعها دفعة واحدة، لكنها تمكنت من رفعها بعد أن اطمأنت الضحية إليها. ذهبت بها إلى مقعد، وأجلستها قربها، فترامت لبنى بن عثمان بين ذراعيها، وراحت تجهش باكية.

- طلبوا مني الذهاب إلى المسجد، همهمت رئيسة جمعية بنات الهوى، قالوا من أجل الصلاة السادسة. لم يكن أحد في المسجد غير الإمام، تركوني معه، وأغلقوا علينا باب المسجد. قال لي اخلعي ثيابك. قلت في المسجد! في بيت الله؟ قال لي في المسجد أو في غير المسجد، أنت قحبة، اخلعي ثيابك. لم أخلع ثيابي، قلت لن أخلع ثيابي في المسجد. قال لي باب المسجد مغلق، ولا أحد يرانا، وأنت قحبة، فماذا تنتظرين؟ قلت الله يرانا. طار عقله، جذبني كالشيطان تحت المحراب، وراح يمزق ثيابي. عراني، وتعرى، ودفع ذكره في فمي، وهو يتلو الآيات تلو الآيات، ثم دفع ذكره في شرجي، وهو يواصل تلاوة الآيات تلو الآيات، ثم دفع ذكره في مهبلي، وعند ذلك أخذ يكبر: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!

بكت لبنى بن عثمان، وهمهمت غير مصدقة:

- في المسجد! في بيت الله!... أخذ يكبر بأعلى صوته، الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! أخذ يكبر كالشيطان، وذكره فيّ يدق كالفأس، يدق، يدق، يدق، وأنا أشعر بدقاته في لحمي... في المسجد! في بيت الله! يدق، يدق، يدق، وينقب، فسال الدم، وهو ينقبني، وأنا أصرخ من الوجع ومن الغضب ومن القرف. استدرت، والتقمته بفمي، وبأسناني عضضته، فتغير صراخ المجرم، من صراخ المتعة إلى صراخ الوجع، وقطعته، فسقط على المحراب مغشيًا عليه.

انفجرت لبنى بن عثمان باكية، وهي تشد أبولين دوفيل إلى صدرها كأمها، وأبولين دوفيل تشدها إلى صدرها كابنتها، إلى أن هدأت، فداعبتها الإلهة الشقراء من رأسها وشعرها وعنقها:

- في المسجد! في بيت الله! عادت لبنى بن عثمان تهمهم غير مصدقة.

- يجب أن نأخذها، نبرت الممرضة.

- لا، صرخت لبنى بن عثمان بعينين منفجرتين، وهي تشد نفسها إلى صدر أبولين دوفيل.

- اتركاها، أمرت ضابطة الدي جي إس إي الممرضين، لكنهما لم يستجيبا.

ولبنى بن عثمان تقاوم القبضات القوية مقاومة عشرة من الرجال الصحاح، كانت تصرخ بكل رعب العالم، كانت كل تلك القوة الجبارة دافعها الخوف. قبل الثورة، أدى الخوف إلى الجنون، وبعد الثورة، يريدون أن يؤدي الجنون إلى الخوف. ضربتها الممرضة بمحقن في أي مكان كان، وما هي سوى عدة لحظات حتى غابت عن الوعي، فحملها الممرضان كالكلبة الميتة، وعادا بها من حيث جاءا بها.

*

في خارج مستشفى الأمراض العقلية، وجد فرانك لانج وأبولين دوفيل السائق ذا اللحية الشقراء بانتظارهما. قال إن رئيس الجمهورية يريد أن يراهما في قصر قرطاج، وهو بنفسه من أرسله إليهما. وهو يقود بهما السيارة المرسيدس السوداء، كان يقوم بدور الدليل: هذا البنك لبن علي، وهذا الفندق لبن علي، وهذا المسرح لبن علي، وهذا النادي لبن علي، وهذا الملعب لبن علي، وهذا البار لبن علي، وهذا المطعم لبن علي، وهذا المسجد لبن علي، وهذا الماخور لبن علي، وهذا الفرن، آه ما أطيب خبزه، لبن علي، وهذا السوق لبن علي، ليس سوق الخضار، سوق الذهب لبن علي، وهذا الرصيف لبن علي، وهذا الشارع لبن علي، وهذا الحوش لبن علي، وهذا المدى، الأفق، الدنيا لبن علي، لبن علي، لبن علي، لبن علي...

أول ما أدخلهما حارس متواضع على رئيس الجمهورية، صاح هذا من أقصى قاعة ضخمة على جدرانها مائة صورة أو يزيد له في كافة الأوضاع، وهو يرتدي العباءة:

- كابتن دوفيل، موسيو لانج، من هنا.

وبصعوبة حدد التحريان من أين يصل الصوت، وسارا باتجاه طاولة مدرسية ومقعد خشبي ضيق.

- تعالا، تعالا، وبينما هو يرفع يده إلى فمهما ليقبلاها، أنا المجحف المزروقي، مفكر وطبيب ورئيس جمهورية. المزروقي من مزرق يمزرق فهو مزروق، ومَزْرَقَ الشيء جعله أزرق، لهذا وجهي أزرق، أو مُزْرَقّ، وهذا أقرب إلى الصواب. اجلسا، اجلسا. أرادا الجلوس على تابوريه، فطلب إليهما الجلوس على مقعد من البلاستيك: هذا أريح.

- شكرًا سيادة الرئيس، همهم فرانك لانج وأبولين دوفيل بصوت واحد.

- سيادة الرئيس! لا داعي إلى كل هذه البروتوكولات، تصرفا كما لو كنتما في بيتكما، ولنتخاطب دون كلفة.

- كما تشاء سيادة الرئيس، عاد التحريان إلى الهمهمة.

- كما تشاء وفقط، أمر رئيس الجمهورية.

- كما تشاء وفقط، أعاد رجل التحري الخاص وضابطة الدي جي إس إي.

- الحقيقة أنني كمفكر أنا من أحضر الإسلاميين، بدأ المجحف المزروقي الحديث دون مقدمات، أصحاب اللحى، سارع إلى القول، وهو يشير إلى ذقنه، وينفخ خديه، ويفقع لسانه. ظهور الانفلاشية لدي بشكل قومجي أدى إلى ظهورها بشكل إسلاموي، لهذا هم يدينون لي الشيء الكثير.

- هذا ما ينطبق على كل الطبقة المثقفة عندكم، قال فرانك لانج بلهجة جسيمة.

- لو كان ابن خلدون هنا، ألقت أبولين دوفيل ساخرة.

- ابن خلدون؟ آه، ابن خلدون، قال المجحف المزروقي، وانفجر ضاحكًا.

- انفلاشية الطبقة المثقفة من تجلياتها الإسلاموية، قال رجل التحري الخاص، هذا أمر مفروغ منه. لا أريد أن أتكلم هنا عن تباين لبنية التاريخ، فلا تباين هناك، هناك تماثل، والحسابات الشخصية تأتي فيما بعد، فيما بعد.

- وأنني كطبيب، أضاف رئيس الجمهورية، أنا من وراء المشروع المعجز، تصدير الأعضاء البشرية، وفتح مصانع الكلوناج، لتجاوز الأزمة الاقتصادية التي نعيشها اليوم بعد مقاطعة السياح لنا، ولأحافظ على شعبيتي. الحق أولاً لأحافظ على شعبيتي.

- ولكن، دكتور، قالت أبولين دوفيل، الكلوناج ممنوع دوليًا.

- الكلوناج ممنوع دوليًا؟ سارع رئيس الجمهورية إلى القول، أنا لا أعلم، وأنا ما دعوتكما إلا لتعملا بوصفكما أعظم تحريين في الكون على تأسيس مصانع الكلوناج في تونس، أما والأمر كذلك، على الترخيص بها، ولو مؤقتًا، حتى تمضي أزمتها.

- التجارة بالأعضاء البشرية كالتجارة ببنات الهوى أنا ضدها، ألقى رجل التحري الخاص.

- التجارة ببنات الهوى، استغرب المجحف المزروقي.

- الكل يعلم بتجارة بنات الهوى لإنقاذ الاقتصاد التونسي بعد كساد السياحة، الهند الصين اليابان هونولولو وأولى الدول أمريكا، قال فرانك لانج دفعة واحدة.

- أنا لا أعلم، همهم رئيس الجمهورية. الواقع أن لا مصلحة لي في كل هذا، لهذا لم أعط بالي للأمر. أهم بكثير عندي أن أحافظ على شعبيتي.

- وهل تعلم دكتور أن البوليس السري، أصحاب اللحى، قالت أبولين دوفيل، وهي تقوم بحركات رئيس الجمهورية ذاتها منذ قليل، يطارد التوانسة كما كان يطاردهم بوليس بن علي السري؟

- أنا لا أعلم، همهم رئيس الجمهورية.

- ماجد الغنوجي، نعم، وليس بن علي، فجرت ضابطة الدي جي إس إي.

- والله أنا لا أعلم، هتف رئيس الجمهورية، وهو يضرب بيده على مكتبه المدرسي، ويوقع بعض الملفات التي شاركه في لمها التحريان الفرنسيان، ويقول كمن يهذي: الفرق بيني وبين بن علي، هو جاءت به الدكتاتورية، وأنا جاءت بي الديمقراطية. بينما لا فرق بيني وبين سي الغنوجي إلا باللحية، هو بها، وأنا بدونها، ولكننا في ديمقراطية. عشرون بالمائة لنا من تونس، هذا ما يكفينا ريثما تتبدل الظروف، وتنعكس الآية، فيكون لنا ثمانون بالمائة من تونس. ديمقراطيتنا نسقنا.

- ديمقراطية البوليس السري، تهكمت أبولين دوفيل، حقن النساء من فروجهن بالهريسة، أو ضربهن بإبر الجنون في نخاعهن الشوكي.

- قلت لك والله أنا لا أعلم، قال رئيس الجمهورية غاضبًا.

- وماذا عنك كرئيس جمهورية؟ همهم فرانك لانج يائسًا.

- ماذا يمكنك أن تفعل لي عند رئيسكم موسيو لانج؟ وأنت مدموزيل دوفيل؟ الآن مع رئيسكم الجديد يمكنكما أن تفعلا لي شيئًا، فاضربا الحديد وهو ساخن، وأنا مستعد لكل ما يطلب، كما كنت مستعدًا لكل ما يطلب الإسلاميون، لهذا تجدانني هنا، ولكننا في ديمقراطية. أنا لا حكم لي، وكل القرارات يتخذها سي الغنوجي، نعم، رئيس الإسلاميين، ولكننا في ديمقراطية، أنا لا علم لي بتجارة بنات الهوى، ولا بأي شيء آخر، ولكننا في ديمقراطية. ديمقراطية، ديمقراطية، ديمقراطية، ولا شيء يعلو على الديمقراطية. لا شيء هناك، هذا صحيح، ولكننا في ديمقراطية.

وأخذ رئيس الجمهورية يغني:

- صافيني مرة وجافيني مرة...

- يبدو أنك دكتور مغرم بالأغنية المصرية، قالت أبولين دوفيل، وهي تبتسم.

- الأغنية التونسية، قال المجحف المزروقي قبل أن يعود إلى الغناء.

- عبد الحليم حافظ ليس تونسيًا، قال فرانك لانج، وهو يبتسم.

- والله لم أكن أعلم، أقسم رئيس الجمهورية، وعبد الوهاب؟

- مصري.

- وأم كلثوم؟

- مصرية، ألف مرة مصرية.

- والله لم أكن أعلم.

بدا المجحف المزروقي حزينًا:

- لو كان لدينا مطرب كهذا أو مطربة كتلك لملأنا خزائن تونس بالأموال، ولم نكن بحاجة لا إلى بيع أعضاء أبنائها ولا إلى بيع شرفهم.

*

سأل فرانك لانج وأبولين دوفيل سائقهما ذا اللحية الشقراء إذا كان المجلس التأسيسي بعيدًا، فقال لا شيء بعيد في تونس. وهما على باب قصر قرطاج، رأيا العابرين يعملون دورة كبيرة لقطع الطريق، بينما يمكنهم قطعها مباشرة من أمام الباب، فقال لهما السائق لأنهم كانوا يفعلون هكذا أيام بن علي، فقطع الطريق مباشرة كان ممنوعًا. وفي الحديقة القريبة، رأيا المتنزهين فرادى، فقال لهما السائق لأن أيام بن علي كان ممنوعًا عليهم التنزه اثنان اثنان أو ثلاثة. وبينما كان صف طويل من السيارات ينتظر أمام الضوء الأخضر، شرح لهما السائق أن شرطي المرور يعطيهم ظهره، وهم ما كانوا ليمضوا أيام بن علي أحمر أخضر أبيض أسود دون أن يأذن لهم الشرطي بالمضي. كان شاب يسير مع امرأة محجبة، أخته أو خطيبته، وكان يلتفت بين الحين والآخر إلى الوراء، ويرى إذا كان أحدهم ينظر إلى مؤخرتها، فينهال عليه ضربًا، وينهال على المرأة ضربًا. وأخرى كانت سافرة يطاردها ثلاثة شبان، فاستدارت، ومحقتهم بصوتها محقًا كالشيطان. وهناك كان ثلاثة شبان آخرون يتهامسون، ويتلفتون، خوفًا من أن يكون أحد يطاردهم. وعلى رصيف إحدى المقاهي، كان اثنان يتناقشان بأعلى صوتهما، وكان الموضوع عن ارتفاع أسعار البطاطا، ثم ما لبثا أن تضاربا لاختلافهما. جاء أحدهم يجري، وهو يحمل حاسوبه المفتوح على إنترنت متوهمًا أن الشرطة تجري في أعقابه. من ناحية، جاءت جمهرة من أصحاب اللحى، وهي تهتف: اقتلوهم! احرقوهم! ومن ناحية، جاءت جمهرة من أصحاب عدم اللحى، وهي تهتف: اقتلوهم! احرقوهم! قدم خطيب لخطيبته باقة ورد صفراء بدلاً من باقة الورد الحمراء التي كان من عادته أن يقدمها لها، فشكّت في إخلاصه. قال أحدهم لصاحبه إنه قرأ مقالاً عن الحرية مذهلاً، فحسبه من رجال المخابرات. سأل شخص شخصًا آخر إذا كان ينام في الليل، فضحك هذا منه ساخرًا، وقال: ومن منا ينام في الليل... جاء صوت بعيد بعيد جدًا من أعماق البحر، وهو ينادي: بن علي! بن علي!

أول ما رآهما مصطفى بن عنتر، رئيس المجلس التأسيسي، يدخلان عليه في مكتبه الضيق ضيق زنزانة من الزنازين، صاح بعنترية:

- سنترك الإتلاف إذا لم يستجب لمطالبنا، ولم ينسجم الحكم (لا يقول "الإسلاميون") مع مواقفنا.

- ولماذا لم تتركوه إلى الآن؟ رمى فرانك لانج، وهو يرسم على شفتيه ابتسامة ماكرة.

- سنترك الإتلاف عند أول خطأ يرتكبه الحكم، ولا نستطيع تقويمه، عاد مصطفى بن عنتر يصيح بعنترية.

- السؤال مكرر، عاد فرانك لانج يرمي، وابتسامته الماكرة لا تنقطع عن شفتيه.

- سنترك الإتلاف إذا كانت ممارسات الحكم غير شعبية، قال مصطفى بن عنتر بغضب، وهو يرفع يده في وجه رجل التحري الخاص لئلا يعيد سؤاله اللازمة.

- هناك من يريد أن يبيع خمسمائة يوم من حياته بخمسة يورو، يا سيادة رئيس المجلس التأسيسي، همهمت أبولين دوفيل، ولا يجد مشتريًا.

- كلام كهذا لا يجعلني أشك دقيقة واحدة فيما نفعل، قال مصطفى بن عنتر، وهو يشمخ بأنفه عاليًا. وطلب من ضيفيه: اجلسا، اجلسا رجاء.

احتار الفرنسيان كيف يجلسان في ذلك المكان الضيق، وبصعوبة كبيرة تمكنا من وضع مؤخرتيهما في كرسيين، وكل منهما يضغط ركبتيه على ظهر المكتب. نظر فرانك لانج إلى المصحف المعلق على طرف الحائط من وراء رئيس المجلس التأسيسي، ونظرت أبولين دوفيل إلى رأس المال المعلق على الطرف الآخر، وتبادلا نظرة سريعة، وهما يبتسمان.

أطلق مصطفى بن عنتر آهة مديدة:

- في زمن بن علي كانوا يأكلون، ويشربون، ولكن دون حرية، اليوم هم أحرار، ولكنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولسان حال الشاعر يقول:

أنا لا ثيابٌ عندي

ولا طعامٌ أو شراب

بطني كل أعدائي

فكيف أهزم الأعداء؟

- جميل كل هذا، يا سيادة رئيس المجلس التأسيسي، علقت أبولين دوفيل، وهي تبتسم كزميلها منذ قليل ابتسامة ماكرة.

- لا جميل ولا من يحزنون، نبر مصطفى بن عنتر بعنترية، كل هذا شعر، كلام فارغ، ولا فائدة منه تعود عليّ.

- نحن هنا من أجل إنعاش السياحة، قال فرانك لانج، وهو يدخل في الموضوع مباشرة.

- ونِعم القول، ونِعم القول، ردد رئيس المجلس التأسيسي، وقد نعمت لهجته، والفائدة التي تعود عليّ؟

- بيع الشواطئ للسياح لا يخترق حاجزهم النفسي، قالت أبولين دوفيل، العوم بالحجاب، الصلاة على الرمل، غسل طناجر الطبيخ في البحر...

- وهل هناك طبيخ لتُغسل الطناجر، قذف مصطفى بن عنتر، وهو يقهقه.

- هذه هي الصورة التي لنا عنكم في فرنسا، أوضحت ضابطة الدي جي إس إي.

- ولكن، همهم رئيس المجلس التأسيسي، وقد بدا حائرًا قلقًا، ولكن، الآن وقد توزع التوانسة رمل تونس...

- قل له لانج، طلبت الشقراء الفرنسية من رجل التحري الخاص.

- باستطاعتك أن تفعل لنا شيئًا لانج؟ سأل مصطفى بن عنتر، لنا، لحزبي، لي؟ وقد ذهبت عنه كل عنترية.

- لست جيمس بوند إسلامي، يا سيادة رئيس المجلس التأسيسي.

- أعدك بأن أدرج كل ما تقوله في الدستور، وجد مصطفى بن عنتر نفسه يقول بحماس زائد عن اللازم، وأن أقول إن فرنسا تقف من ورائي أمر هام بالنسبة لنا لحزبي لي في الصراع القائم ومد النفوذ من تبسة إلى سفاقس.

- وإذا لم يستجب الحكم لك؟

- سنترك الإتلاف.

وأطلق ثلاثتهم ضحكة واحدة.

- الواقع أنني لا أملك ما يملكه زميلي من إمكانيات في خدمة صاحبة الجلالة الملكة، همهم فرانك لانج، لو كان هو لأحضر لكم الطعام من السعودية، الشراب (أقصد البيرة والنبيذ) من فرنسا، الثياب من الصين. قولي له أنت كابتن دوفيل.

- مختبرات النانوتكنولوجيا، يا سيادة رئيس المجلس التأسيسي، قالت أبولين دوفيل بلهجة جسيمة، وكأنها تعلن الحرب على التخلف ليس في تونس وإنما في كل بقاع الأرض.

- ماذا؟ همهم مصطفى بن عنتر، وقد صعب عليه الفهم، هذه نظرية جديدة للتاريخ؟

- بل فعل التاريخ من أجل نظرية جديدة، صحح فرانك لانج.

- مختبرات النانوتكنولوجيا في تونس، أوضحت الفرنسية القوية، ستُجري تجاربها على الإنسان بدلاً من المخلل، وتصنع كل شيء من خلاياه العضوية، من الإبرة حتى الفيل، وقصدي بالطبع من الحاسوب حتى القنبلة النووية، وبأبخس الأثمان، وأقلها طاقة. ستكون التضحية بمائتي ألف تونسي سنويًا، هم على أي حال جوعى، في سبيل رخاء البشرية.

- كم سيعود علينا، على حزبي، عليّ من نفع؟ سأل مصطفى بن عنتر بلهجة جسيمة تماثل لهجة ضابطة المخابرات الخارجية منذ قليل.

- تقصد كم سيبقى من التونسيين بعد خمسين عامًا؟ لا أحد.

- إذن ما فائدة مثل هذا رخاء؟

- الموت مجانًا ليس أفضل.

- لكنه باهظ الثمن، موتنا، موت الحزب، موتي.

- لا بد للتطور من ثمن يدفعه أحدهم.

- هذا التطور أنا أرفضه.

- ربما كان لديك الحق، لكننا لا نستطيع رفض التطور.

- سيتطور بلدي، وسيفقد روحه.

- بعد خمسين عامًا.

- نعم، بعد خمسين عامًا، جمجم رئيس المجلس التأسيسي حائرًا، وهو يحسب على أصابع يديه، ويهمهم: خمسون عامًا ستمضي بسرعة قبل أن أتمكن من سحب البساط من تحت قدمي "أبي العباءة".

- خمسون عامًا شيء كثير في زمننا، زمن تنعدم فيه التنمية، وتدق بنوكه الصواعق المالية، الخمسون عامًا تعادل خمسون ألف عام.

داخ مصطفى بن عنتر، وضع وجهه بين كفيه، ومال على نفسه، سمعاه كمن ينشج، فرأفت به الشقراء الساحرة:

- سنتركك لتفكر في الأمر، قالت أبولين دوفيل، وهي تنهض من مكانها بصعوبة.

- لتفكر في الأمر جيدًا، وليس في الإتلاف، قال فرانك لانج، وهو ينهض من مكانه هو الآخر بصعوبة.

وهما على الباب سمعاه يهمهم:

- ندعو الله أن يحقق لنا ما نطلب، ما يطلب الحزب، ما أطلب، وأن يعيننا، أن يعين الحزب، أن يعينني على تجاوز أزماتنا، أزمات الحزب، أزماتي.

القسم الرابع

صرخ الشيخ، وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي، رئيس الإسلاميين، المنحني على مكتبه، في بنطاله الأسود وقميصه نصف الكم الأبيض:

- أخرجي، يا عدوة الله!

فلم تخرج.

أعاد الشيخ بصوت أكثر جسامة، وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي بأكثر قوة:

- أخرجي، يا عدوة الله!

فلم تخرج.

وللمرة الثالثة، صرخ الشيخ بأقصى ما يستطيع عليه، وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي بأقصى قوة:

- أخرجي، يا عدوة الله!

فكان رد فعل رئيس الإسلاميين أن صاح: آي! واعتدل واقفًا، وهو يأمر:

- يزي!

تسلق الشيخ كتفيه، وراح يتلو:

- بسم الله الرحمن الرحيم، الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

- يزي! يزي! نبر ماجد الغنوجي بغضب، وهو يدفع الشيخ بعيدًا عنه.

- ولكن سيدي... تأتأ الشيخ.

- يزي! يزي! يزي!

- يزي سيدي.

- أيها الفاقد للرشد! كيف يخرجونهم من النور إلى الظلمات وهم في الظلمات؟ لهذا ليلى طرابلسي لا تريد أن تخرج من كرشي. أخرج!

- داكوردو سيدي.

ولم يخرج.

- قلت لك اخرج، اذهب إلى الجحيم!

- ماذا لو عضضتك سيدي؟

- ماذا لو فتحت رأسك؟

- وعلى كل حال، اللطافة لا تساوي شيئًا سيدي، وهي لا تأتي إلا بما هو ليس طيبًا.

- اخرج بسرعة، أيها الشيخ الضال، أيها الشيخ الدجال، صاح رئيس الإسلاميين بأقصى غضب، وهو يرفع يده يريد ضربه، فسارع الشيخ بالتوجه نحو الباب، وماجد الغنوجي يقول من ورائه: دع الفرنسيين يدخلان، وقل لهما ألا يطيلا البقاء، فلدي برشة من المواعيد والأشغال التي لا تعد ولا تحصى.

أخذ ماجد الغنوجي مكانًا على مقعده الوثير، وفوق مكتبه الضخم ملفات لا تعد ولا تحصى. على الجدار من ورائه، كان هرم من الصور المؤطرة لأسماء مكتوبة بالأحرف الكوفية المذهبة. في قمة الهرم كان اسم الله في قلب الأنوار، وتحت على اليمين اسم محمد، وعلى اليسار اسم أبي بكر، وتحت التحت على اليمين اسم عمر، وعلى اليسار اسم عثمان، وتحت تحت التحت على اليمين اسم علي، وعلى اليسار اسم ماجد، الذي هو ماجد الغنوجي، زعيم الإسلاميين. لكن ما كان يلفت انتباه الناظر إلى ماجد، أن الاسم كان كالله في قلب الأنوار. مسح ماجد الغنوجي لحيته القصيرة عدة مرات، وتنحنح عدة مرات، التفت إلى العلم التونسي على يمينه، وإلى علم جبهته بسوبرمانه الإسلامي على يساره. عاد يتنحنح عدة مرات، ويمسح لحيته عدة مرات. تطلع إلى الباب، وهو يستقيم بنصفه الأعلى متعاليًا، وفطن فجأة إلى صورته في كادر أمامه. رفعها فوق أعلى رزمة من الملفات، وأدارها بحيث يقع الزائر عليها أول ما يقع. كان يبالغ في الابتسام لدرجة تبرز معها ناباه بروز مصاصي الدماء، بينما تحيط به سلسلة من الجماجم.

- أفهم من وجودكما ما بيننا، بدأ رئيس الإسلاميين الكلام، بعد أن سلم عليهما بحرارة، وأجلسهما في مقعدين مريحين، مريحين جدًا، وجود كابتن دوفيل على الخصوص، أن فرنسا التي كانت في البداية تريد تقديم يد العون اللوجستي والخبراتي والمخابراتي لبن علي كي يقمع الثورة قد بدلت موقفها. أمس كانت تقف إلى جانب النظام، اليوم تقف إلى جانب الشعب.

- إلى جانب الشعب، همهمت أبولين دوفيل، ليست هذه هي الحقيقة، أو، على الأقل، ليست هذه كل الحقيقة.

- حقًا دومًا ما كانت للتاريخ حقيقتان، رد ماجد الغنوجي، وهو يبتسم ابتسامة واسعة، ولكننا نحن، أصحاب اللحى كما يسموننا، نحاول أن نتجاهل ذلك.

- التاريخ يخدع أحيانًا كالمرأة الشبقة التي تسعى إلى قضاء غرضها بشتى الوسائل، قال فرانك لانج، وأول الوسائل الخداع.

- تريد القول الرجس؟ في هذا الرجستر، لا تخف علينا، نحن والتاريخ أبناء عم، نثق به، ويثق بنا.

- لو كان ابن خلدون هنا... رمى فرانك لانج، وهو يلتفت نحو أبولين دوفيل، ويبتسم، وأبولين دوفيل ترد على الابتسامة بالمثل، بينما ماجد الغنوجي يعبس دون أن يفهم شيئًا. لو كان ابن خلدون هنا لقال هذا لأنكم لا تفرقون بين العصبية (إخونجية فيما بينكم) والمُلك (الحكم).

- لهذا نعجز عن تسيير البلاد تريد القول؟ نبر زعيم الإسلاميين بضيق. اسمح لي أن أقول لك إننا قادرون على تسيير البلاد، أولاً لأن لا أحد ينافسنا في الحكم، ثانيًا لأن الحكم حكمي، ثالثًا لأن الحكم مصالح، ونحن كل المصالح، حتى التي لغيرنا هي لنا، رابعًا لأن لا حسابات شخصية لنا، ونحن كل الحسابات الشخصية، خامسًا لأن التسلق على الحبال الفرنسية كالأمريكية كالروسية كالصينية كالشيطانية نتقنه تمامًا.

- أستاذ ماجد الغنوجي، لماذا لم تأخذ كرسي رئيس الجمهورية؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية دون لف أو دوران.

- بكل بساطة لأن الحكم من الخارج خير ألف مرة من الحكم من الداخل، تكون لك الحرية المطلقة، اليد الطولى في الخفاء.

- لو كان ابن خلدون هنا، همهمت بدورها أبولين دوفيل، وهي تبتسم، ويبتسم معها فرانك لانج.

- لو كان ابن خلدون هنا، صرخ زعيم الإسلاميين كمن فيه مس، لقال لك إن الناس مقتنعون بأنني هنيبعل الذي حررهم من براثن الرومان، المهدي الذي عاد ليقيم العدل، سوبرمان الذي سينقذ البلاد.

وصمت مفكرًا، وهو يكبس شفتيه بسبابته تحت أنفه، فتبين كشارب هتلر. ولما طال تفكيره أكثر من اللازم، ألقى فرانك لانج:

- ستنقذ البلاد بتجارة بنات الهوى؟

- تجارة بنات الهوى حاشاك، فعل كهذا في ظرف تونس المزري الحالي فعل ثوري، رد ماجد الغنوجي متباهيًا.

- ثوري، ولكن لا أخلاقي، همهمت أبولين دوفيل.

- نظفنا شوارع تونس منهن، وتقولين "لا أخلاقي"! نبر زعيم الإسلاميين بشيء من الحقد.

- وكرامتهن؟

- لا كرامة لنبي في قومه.

- تجارة بنات الهوى ليست الحل، همهم رجل التحري الخاص.

- الحل هو الإسلام، طن زعيم الإسلاميين.

وبعد ذلك، وهو يكبس شفتيه بقلم أسود معترفًا:

- فعل كهذا في ظرف تونس المزري الحالي فعل جهنمي.

رفع رأسه إلى قمة هرم الصور من ورائه، وبعد إشارة كسولة من يده، همهم:

- كل شيء بيد الله.

- لا يد لله في كساد السياحة، أستاذ ماجد الغنوجي، قالت ضابطة الدي جي إس إي.

- الأشغال لا تمشي، ولكن لا أحد يموت من الجوع، تمتم ماجد الغنوجي. التوانسة يضحكون، وهم يبدون سعداء.

- يلعن دين، أستاذ ماجد الغنوجي، هل أنت في كامل قواك العقلية؟

- لا، أجاب ليفاجئ التحريين الفرنسيين. وبشيء من الشيزوفرينية: أنا الدولة والدولة في الدولة!

- ماذا؟ صاح فرانك لانج وأبولين دوفيل معًا.

- إنها ليلى طرابلسي، همهم ماجد الغنوجي يائسًا.

- ليلى طرابلسي الدولة في الدولة؟ عاد التحريان الفرنسيان يصيحان.

- لهذا أنا هويتان، اعترف زعيم الإسلاميين. مشروع التجارة "بالحريم" هي.

نهض من وراء مكتبه، وبدأ يصرخ:

- أهلاً وسهلاً بالمحجبة وبغير المحجبة!

ثم:

- غير المحجبة إلى الجحيم وبئس المصير!

سمعا صوتًا أنثويًا يخرج من فمه قائلاً:

- أيها الغبيّ، يا ابن عليّ!

ثم بصوته:

- كنت في شبابي أحب البيتلز وأكره أزنافور لهذا غدوت ما غدوت، ولكن لو كنتُ ممتلَكًا من طرف ملكة الإنجليز لأبقيتها في بطني يومين، وطردتها شر طردة. لماذا؟ لأنها ديمقراطية فوق اللازم.

- ولو كنتَ ممتلَكًا من طرف كاتي؟ سألت أبولين دوفيل بمكر.

- لو كنتُ ممتلَكًا من طرف كاتي لأبقيتها هي الأخرى في بطني يومين، وطردتها شر طردة. لماذا؟ لأنها لطيفة فوق اللازم.

- ودايانا؟

- طوال العمر. لماذا؟ لأن لها روحًا شيطانية كروحي.

تناول أحد الملفات، وأخذ يمزق ما تحتوي عليه من مشاريع بيد عصبية، وهو يرتعش كله، ويجمجم كلمات غير مفهومة تحت النظرات الدهشة للفرنسيين.

- كل هذه المشاريع لا تحول دون كساد السياحة مصدر رزق تونس الوحيد، صاح ماجد الغنوجي، وهو يلهث.

- ومشروع الكابتن دوفيل؟ سأل فرانك لانج.

- مختبرات النانوتكنولوجيا؟

- من أجل تطور تونس والعالم، سارعت أبولين دوفيل إلى القول.

- نحن نرفض مشروعك، كابتن دوفيل، قال الرئيس اللارسمي لتونس بلهجة قاطعة، ونفضل الإبقاء على تخلفنا، وإذا بالصوت الأنثوي يخرج من فمه محييًا: أيها الذكيّ، يا ابن عليّ!

ثم بصوته:

- نحن نفضل البقاء على تخلفنا أحياء جوعى على تطورنا أغنياء موتى. ونحن على كل حال لا نفكر في ترك السلطة لمجانين العلم، التوانسة يعجبهم مجانين الدين. لماذا؟ ليصبروا على ما هم فيه. يحلمون كثيرًا، التوانسة، ويحبون من يجعلهم يحلمون. الجنة التي لنا لهي نار السياحة، لهذا يحتمل التوانسة كل شيء، ويأملون، لهذا جاءوا بنا، وسيبقون علينا إلى يوم القيامة. لو كان ابن خلدون هنا لقال لك إننا فهمنا جيدًا بسيكولوجية شعبنا.

- قولي له كابتن دوفيل، طلب رجل التحري الخاص من ضابطة الدي جي إس إي.

- فرانك لانج يحلم كثيرًا كالتوانسة، همهمت أبولين دوفيل، ولكنه يحلم أحلامًا أخرى مختلفة.

- أستاذ ماجد الغنوجي، خاطب رجل التحري الخاص الدولة والدولة التي في الدولة، لتعود السياحة إلى ما كانت عليه من ازدهار يجب اختراق الحاجز النفسي للسياح، وهذا لن يتم عن طريق بيع الشواطئ لهم، فلا ضمان هناك، والعوم بالأحجبة كابوس الكوابيس الذي سيظل يطاردهم.

- أنا الضمان، ألا يكفي هذا، هتف زعيم الإسلاميين.

- مع الأسف لا يكفي.

- إذن ما هو الضمان الذي يريدونه؟

- لو كان ابن خلدون هنا لقال لك "الكازينوهات".

- الكازينوهات؟

- الكازينوهات هي ضمانكم لدى السياح، تدخلت أبولين دوفيل.

- إلحاق الكازينوهات بالفنادق هذا يعني أن تونس تغض الطرف عن "القمار" كما تغض الطرف عن العوم بالمايوهات البيكيني، شرح رجل التحري الخاص، عند ذلك يتم اختراق الحاجز النفسي لدى السياح، وتعود حركة السياحة إلى ما كانت عليه.

هجم ماجد الغنوجي على فرانك لانج، وأخذه في أحضانه، وكذلك فعل مع أبولين دوفيل.

- لاس فيغاس! همهم الصوت الأنثوي مسحورًا.

ثم بصوته:

- أين الثريا من يد الراغب؟ موافق. مصالح الوطن فوق كل شيء! ولكن الزيرو كرواسانس الذي تعانونه؟

- الزيرو كرواسانس الذي نعانيه عندما يتعلق الأمر بالكازينوهات لن يعود ذا أهمية، أوضح رجل التحري الخاص، فالمال يأتي بالمال.

- ومتى نبدأ؟ أجيبا! عَجِّلا!

- في الحال، قالت أبولين دوفيل، وهي تفتح هاتفها المحمول، وتخاطب الدي جي إس إي، وبعد عدة دقائق، أغلقت، ونقلت: كل شيء على ما يرام، سيتم الاتصال بالبنوك والشركات ورجال الأعمال، وخلال عدة أسابيع، تكون آلات اللعب في طريقها إلى تونس، مع حملة دعائية لا سابق لها في كل أنحاء العالم.

*

عاد السائق ذو اللحية الشقراء بفرانك لانج وأبولين دوفيل في سيارته المرسيدس السوداء إلى شقة نزيهة الشابي، وهما على رصيف العمارة المنتزهية، طلبا منه الانصراف، لكنه قال إنه سينتظرهما، ولم يعرفا لماذا. فوق، وجدا باب الشقة محطمًا، ولم يجدا رئيسة جمعية المعلمات. نزلا الطوابق الأربعة ركضًا، وأمام عدة ابتسامات متتالية للسائق، ركبا السيارة المرسيدس السوداء من جديد، وذهبا بحثًا عنها أول ما ذهبا إلى وزارة الداخلية، ليجدا كولونيل الوحدة الخاصة في مكتبه، وهو يلعب مع كلبه منبطحًا على الأرض. قال لهم إن المتظاهرين جاءوا، وحرروا كل الموقوفين. ومن عنده، ذهبا إلى الجولاج، ليجدا بوابته محطمة، وأسلاكه الشائكة مهدمة، ولا معتقل هناك، بينما مدير الجولاج يقضم الجماجم في مكتبه، ويضرب بكعبه الأرض. قال لهما إن المتظاهرين مروا من هنا، وأطلقوا سراح كل المعتقلين. في مستشفى الأمراض العقلية، وجدا كل شيء مفتوحًا، والمدير لم يكن هناك. لكن الممرضة أخبرتهما أن لا أحد من مجانين المستشفى أراد مغادرته من الخوف، وأن كل الحالات تفاقمت. جعلتهما ينظران من باب مزجج إلى قاعة مليئة بهم، وهم في عزلة تامة، فرأيا صاحب السجائر، وكل السجائر مشتعلة، وهو ينفخها، وصاحب المرآة يريد الدخول فيها، وصاحب البذلة العسكرية، وهو لا يتوقف عن قطع القاعة طولاً وعرضًا مرددًا: الغنوجي! الغنوجي! الغنوجي! ومن يمشي على يديه يريد المشي على رأسه، ومن يرتدي الحجاب يريد اقتلاع ثدي المرأة كلما كشفت عنه، وإلصاقه على صدره، وهذه تبكي بدلاً من أن تقهقه، ومن تمشط شعر الأخرى بوحشية تشدها منه بوحشية، ولبنى بن عثمان تركع، وهي في ثياب راقصة من راقصات الكباريه، وتصلي... عندما خرجا يائسين، ذهب بهما السائق ذو اللحية الشقراء إلى إسطبل خارج تونس. أشار إليه، وقال لهما:

- هناك نزيهة الشابي.

وبالفعل وجداها في الإسطبل، وهي تضاجع حصانًا عارية تمامًا، فبعد أن اغتصبها رجال البوليس السري، تركاها لتغتصبها الخيول. استقبلتهما ببرود، وصاحت بهما:

- لماذا أتيتما؟

- لا تغضبي، يا حبيبتي، همهمت أبولين دوفيل.

- بل سأغضب أكبر غضب، عادت نزيهة الشابي تصيح، ماذا تظنانني؟ قاصرًا كما كان يظن أبي؟

- كنا قلقين عليك، همهم فرانك لانج.

- أنت اسكت أحسن لك، رمت في وجهه، لا تقلق عليّ، أرجوك، لست أختك القحبة.

- نزيهة، يا حبيبتي، ماذا دهاك؟ ابتهلت الساحرة الفرنسية، وهي تحاول شدها إلى صدرها.

- ابقي حيث أنت، أمرتها الساحرة التونسية، من الأفضل أن تأخذي لك حصانًا تضاجعينه. الخيول هي هكذا، تحبنا أكثر منا، وهي لهذا تعمل على إشباعنا لأعوام.

- مدموزيل شابي، رجاها رجل التحري الخاص، لنذهب من هنا.

- أنا من سيذهب، قالت نزيهة الشابي بغضب، وحدي مع عاري.

امتطت الحصان الذي كان يمتطيها، وانطلقت، والفرنسيان يلحقان بها في السيارة المرسيدس السوداء حتى أطراف الصحراء، هناك حيث اخترق الحصان بفارسته السراب، وغاب عن الأنظار.

*

في عالم السراب، وجدت نزيهة الشابي نفسها، وهي ترتدي ثياب هنيبعل الحربية: السترة المزردة والتنورة المزردة، بينما تضع على رأسها القبعة الحديدية، وبيدها السيف الفضيّ. كانت تمتطي فيلاً، وتجر إلى جانبها حصانًا، وتسير من أمام جيش عرمرم لقتال الأشرار.

- الأشرار يحيطون بتونس من كل مكان، من البحر، ومن البر، صاحت هنيبعلة بجنودها بعد يوم وليلة من السير، إذا غلبناهم في البحر غلبناهم في البر، ولكن كيف نغلبهم، وعددهم يفوق حبات الرمل؟

- بالإرادة، صاح جندي.

- بالإيمان، صاح جندي ثان.

- بالشجاعة، صاح جندي ثالث.

- بالحيلة، أكدت هنيبعلة.

جعلتهم يضعون المشاعل في الليل على قرون الأغنام، ويطلقونها كي يظن الأشرار أن جيش هنيبعلة يولي الأدبار، فيلحقون به، وبدورها تلحق هنيبعلة بهم، وتقضي عليهم، لكن الحيلة لم تنفع. بقي الأشرار في أماكنهم، ولم يتحركوا. أحرقت هنيبعلة الصخور، وفتتتها بصب النبيذ عليها، فلم توهم الأشرار بقوتها. بقوا في أماكنهم، ولم يتحركوا. جعلت جنودها يرتدون أجساد سمك القرش، فكانت النتيجة أكبر كارثة، ذبحهم الأشرار كلهم عن بكرة أبيهم، وأرسوا سلطتهم.

بعد قرون من عالم السراب، وجدت نزيهة الشابي نفسها، وهي ترتدي ثياب المهدي، ثياب القاضي العادل: العمامة البيضاء والقفطان الأبيض والخف الأسود، بينما تحمل تحت إبطها كتاب العدل، وبيدها ميزانه. كانت تجلس على مصطبة مرتفعة في السوق، ومن أمامها جمع لا يعد ولا يحصى من المظلومين.

- المظلومون في كل مكان من تونس، في البحر، وفي البر، صاحت المهدية بالناس بعد انتظار للحكم طال، إذا أنصفناهم في البحر أنصفناهم في البر، ولكن كيف ننصفهم، وعددهم يفوق حبات الرمل؟

- بالنزاهة، قال مظلوم.

- بقوة البصيرة، قال مظلوم ثان.

- بالعدل، قال مظلوم ثالث.

- بإدانة الظالم، أكدت المهدية.

جعلتهم يذهبون إلى بيوتهم ليدينوا الظالم فيها، فلم يفلحوا، وإلى أحواشهم، فلم يفلحوا، وإلى مدنهم، فلم يفلحوا، وكانت النتيجة أكبر كارثة، تفاقم الظلم، وازداد عدد المظلومين.

بعد قرون أخرى من عالم السراب، وجدت نزيهة الشابي نفسها، وهي ترتدي ثياب سوبرمان الفنتازية: الكاب الأحمر والطقم الأزرق، بينما تربط جبينها بجوهرة خضراء من كريبتون، وتضع في إصبعها خاتم الرئيس المخلوع. كانت تطير فوق رؤوس الناس، والناس يرفعون رؤوسهم إليها.

- الوضع مزر في كل مكان من تونس، في البحر، وفي البر، صاحت السوبرمانة بالتوانسة، وهم كلهم أمل ورجاء، إذا وضعنا حدًا له في البحر وضعنا حدًا له في البر، ولكن كيف نضع حدًا له، وهو متغلغل في أعماق الرمل؟

- بالقوة الخارقة، قال تونسي.

- بالقوة الخارقة، قال تونسي ثان.

- بالقوة الخارقة، قال تونسي ثالث.

- بالقوة الخارقة، أكدت السوبرمانة.

كان على البطلة الجبارة أن تنجز عملها خلال قرنين أو ثلاثة من عالم السراب، لم يعد هناك أشرار، ولم يعد هناك مظلومون، غدت الحياة مونوتونية لا طعم لها ولا روح، فغادر التوانسة عالم السراب واحدًا واحدًا. ومرايا السراب تبتعد مع تقدم السيارة المرسيدس السوداء، وقع فرانك لانج وأبولين دوفيل على نزيهة الشابي، وهي تنام تحت صخرة عارية، دومًا عارية، كالجنين. حملها رجل التحري الخاص بين ذراعيه، وجاءها السائق ذو اللحية الشقراء بسترته التي ألبستها إياها ضابطة الدي جي إس إي، ولفتها، وهم في السيارة، بذراعها، قبل أن يعودوا إلى حاضر تونس.

للمتابعة اذهب الى الصفحة الثالثة / انقر التالي ادناه

القسم الخامس

لم تشأ نزيهة الشابي العودة إلى شقتها، ورفضت الذهاب مع أبولين دوفيل وفرانك لانج إلى فندق ابن خلدون. قالت إن صديقها القديم، وحيد العسفي، مدير للمسرح، وهي تريد الذهاب عنده. لم يتردد سائق المرسيدس السوداء ذو اللحية الشقراء بعد سماعه لها لحظة واحدة، دار بسيارته، واستجاب لمطلبها. فتح الراديو على تلاوة قرآنية، فابتسم، وأخذ يهز رأسه طربًا على إيقاعها. قطع المذيع التجويد، وبدأ يعدد مناقب الحكام الجدد واحدًا واحدًا، فغضب السائق أشد غضب. أقفل الراديو بإصبع عصبية، وظل يسب حتى باب المسرح التونسي.

استقبلهم وحيد العسفي بلحية الدرامي وابتسامة الكوميدي، نظر إلى الحال التي كانت عليه نزيهة الشابي بأسى، فأمسك يدها، وابتسم لها. أخذها إلى غرفة ثياب الممثلين، وتركها تختار ما يعجبها منها، فاختارت فستانًا لغجرية.

- لو كان سرفانتس هنا، لوقع في غرامك، همهم مدير المسرح.

أخذها بين ذراعيه، وقبلها من خدها.

أمسكت يده، هي هذه المرة، وأخذته إلى القاعة حيث كان فرانك لانج وأبولين دوفيل والسائق ذو اللحية الشقراء بانتظارها. قدمتهم لصديقها القديم، فرحب بهم بحرارة، ورجاهم الجلوس على أرائك المسرح الحمراء تحت أضواء خافتة.

- وحيد العسفي، همهم فرانك لانج، اسمك الصغير، وحيد، ذو دلالة كبيرة، وحيد يعني أنك تاريخ نفسك، واسمك الكبير، العسفي، أيضًا ذو دلالة كبيرة، العسفي يعني أنك بالعسف تكون وسيلتك إلى تواريخ المشاهدين، وما أن تبدأ ردود أفعالهم في القاعة حتى يلقون عن أكتافهم وِزر تواريخهم، ويصبحون لا تاريخيين.

- الواقع... همهم وحيد العسفي، وهو ينظر إليهم، ثم إلى ظله، كل شيء يجري في القاعة، وليس على الخشبة، التأثر، التأوه، التفكه، إحلال الشخصية المسرحية، نداء شخصيات أخرى غير مسرحية، هذا هو عالم أرسطو الذي هو عالمنا بكل بساطة. أما بريشت، فكل شيء معه يتم عن بعد، تكون في كامل وعيك، وتنطوي على نفسك كالغريب. لهذا كل مسرحيات الألماني ثقيلة، مضجرة، الطويلة منها والقصيرة، لا تثير أية متعة.

- كانت تقول لي بعد موت أبيكِ أصبحنا أحرارًا، همهمت أبولين دوفيل، أمي، هي التي كانت تقول لي. كيف يغدو الموت حرية الآخرين؟ موت الأب حرية الابنة؟ كنت أحب أبي كثيرًا، ولم أكن أود أن يموت أبدًا. وأنا كنت صغيرة، كان يقول لي لك قدم تشبه قدم ساندريلا. لكن أمي لم تكن تحبه كثيرًا، كان يختار لها ملابسها: تنورتها، فستانها، جوربها، معلقها، شلحتها، قميص نومها، سروالها القصير، وهي لم تكن تحب ذلك. أصبحت حرة بعد موت أبي، تختار ما تشاء من الثياب، ومن الرجال، فاغتصبني أحد عشاقها، وأنا في الحادية عشرة، واختطفني آخر، وأنا في الخامسة عشرة.

- أما أنا، همهم فرانك لانج، فقد كانت أمي تقول لي بعد موت أبي لن أتزوج من أجلك. في البداية، كنت أعتقد أن لموقفها علاقة بالتفاني، شيء إنجيلي، كما يقولون، لكنني اكتشفت شيئًا غريبًا. كنت زوجًا لأمي دون أن أعرف، بالمعنى الصوري طبعًا. كانت تغير من كل فتاة أعرفها، تريدني لها وحدها. ابني لي، فحذار! لم أكن بعد بالغًا. ابني لي وحدي! ربما لم أكن أعرف ما هو الحب. ابني لي، ابني لي! فقدت زوجي، ولن أفقد ابني. ابني لي، ابني لي، ابني لي! في أحد الأيام، غادرت المنزل، ولم أعد ثانية.

- لم أعرف أمي، همهمت نزيهة الشابي، ماتت، وأنا كنت صغيرة. كان أبي أمي وأبي. لم أكن أدرك أن من الممكن ذلك. كان أبي أمي وأبي، وبقدر ما كان أبي أمي وأبي، اعتبرت نفسي بنتًا وصبيًا. للصبي الذي فيّ كانت الغلبة دومًا على البنت التي فيّ. كان أبي فخورًا بذلك. كان يقدمني على اعتبار أنني ابنه. كنت أرتدي الفستان، وأترك شعري الطويل يتساقط على ظهري، ويقدمني أبي على اعتبار أنني ابنه. ونحن في باريس، كان أبناء عمي يأتون ضيوفًا عندنا في الشتاء لنذهب ضيوفًا عندهم في الصيف، وكان لي من العمر عشر سنين، وهم يكبرونني بخمس سنين، بسبع، أو أكثر. كنت أتعارك معهم، وأغلبهم كلهم. لم أكن أسمع لأحد إلا لأبي، وكان أبي مني مسرورًا. كان يكتفي بمعاتبتي، فقط بمعاتبتي لوجود أخيه، وعيناه تبسمان لي بكل فخر الدنيا.

- أنا... همهم السائق ذو اللحية الشقراء، كان لي أبي، وكانت لي أمي، عندما كنت صغيرًا لما كان يضربني أبي لخطأ، كنت ألجأ إلى أمي، فتغضب أمي من أبي، وتعطف عليّ. ولما كانت تضربني أمي لخطأ، كنت ألجأ إلى أبي، فيغضب أبي من أمي، ويعطف عليّ. في أحد الأيام، مات أبي وأمي في حادث سيارة، وغدوت يتيمًا.

- عندما كبرت، عادت أبولين دوفيل إلى الهمهمة، كانت أطروحتي عن الاختطاف. بسبب اختطافي، وأنا صغيرة، ستقولون. أثّر اختطافي في حياتي أكبر أثر، فعملت في دائرة التحقيقات الجنائية، قبل أن أكره حياتي أكثر من أي شيء آخر، الله، الوجود، وأترك كل شيء إلى الدي جي إس إي. كان عليّ أن أنقذ حياتي.

- أما أنا، عاد فرانك لانج إلى الهمهمة، فقد وجدت في مهنة التحري، بعد تركي البيت، لي طريقًا. لم يكن الأمر سهلاً. عملت في البارات نادلاً، هناك حيث لا تسمع سوى أعطني كأس كونياك، أعطني كأس بوردو، أو أعطني قنينة بيرة شقراء بلجيكية، أقول بلجيكية، فالبيرة الفرنسية خراء مصفى. وعملت في الفنادق ساهرًا ليليًا، هناك حيث الرجال الذين هم في خمسينات العمر يصطحبون العاهرات الصغيرات لساعة أو ساعتين، ويتركون كبير البخشيش، وهم يقولون: في المرة القادمة سيكون لك بخشيش أكبر. لم أكن أعرف لماذا كانت العاهرات يضحكن لما يسمعن ذلك، كن يضحكن، وكان ذلك جميلاً أن يضحكن، أن أسمعهن يضحكن، فأنظر إلى شفاههن. وعملت لكبار رجال الأعمال سائقًا، كان أفضل ما عملت قبل أن أصبح تحريًا خاصًا، وربما بسبب ذلك أصبحت تحريًا خاصًا. كان عليّ أن أرى، وأن أفتح عينيّ جيدًا، أن أسمع، وأن أغلق أذنيّ جيدًا. أن أكون جاهزًا في أي وقت من الليل، في أي وقت من النهار. أن أكون قوادًا لما يتطلب مني ذلك، وأن أكون كاهنًا لما يتطلب مني ذلك. ألا أقول لا أبدًا. أن أقول نعم دومًا. عند حضور رجل الأعمال مع زوجته ألا أنظر إليها على الرغم من أنه يعرف أنني نمت معها أثناء غيابه، كان عليّ ألا أنظر إليها أبدًا. كنت أسمعها تقهقه على شكلي، فينتفض فرجي على قهقهتها. في البداية، كنت أذهب إلى المرحاض، في المطعم، في المقهى، أو في قصر من قصور أحد الأثرياء، وأستمني، ولكن مع مر الأيام، تعودت على ذلك. كنت أفكر في أمي، فأحزن، وأؤنب نفسي لأني تركتها، وذهبتُ.

- عندما كبرت، عادة نزيهة الشابي إلى الهمهمة، كان عليّ أن أقرر أيها أنا، البنت أم الصبي؟ احترت، لأن أبي كان يمنعني دون أن يدري من اتخاذ قراري الوجودي. يكفي أن أقع بعينيّ على عينيه، وأن أنظر إلى نفسي فيهما. البنت أم الصبي؟ في حديقة التويلري على مقعد تحت شجرة قبلني، لكني كنت الصبي، وهو فهم ذلك على طريقته، فراح يسب: يا دين الرب، وكأني أقبّل صبيًا! قبلني ثانية، بعنف هذه المرة، وهذه المرة: يا دين الرب! يا دين الرب! نهض، وذهب. كان من اللازم أن يفهم، لكنه لم يفهم، لا هو، ولا غيره، كيف يثير البنت التي فيّ. كنت بحاجة إلى رجل ذي شخصية قوية، شخصية قوية كأبي، رجل في ثوبه الأم والأب، رجل هو رجل بالفعل. ولم أزل بحاجة، لكني وجدت التعويض عن ذلك في مهنتي. مهنة التعليم مهنة استبدادية، كمهنة السياسة مهنة التعليم. استبدادية.

- بعد موت أبي وأمي، عاد السائق ذو اللحية الشقراء إلى الهمهمة، قرأت القرآن، ولم أفهم من القرآن شيئًا. ليس هذا لأن القرآن كان صعبًا عليّ، ولكن لأن في القرآن شيئًا آخر غير القرآن. كان في القرآن الكلام، الكلام المموسق، الكلام المكتوب بالموسيقى. هل سمعتم في الوجود أن هناك كتابًا مكتوبًا بالموسيقى؟ غدت الموسيقى كل حياتي. الموسيقى، الكلام، العبادة. كل حياتي. الموسيقى هي القرآن. القرآن، الجنة، النار، الملائكة، الآخرة. الشيطان أيضًا. في القرآن الشيطان موسيقى. الحب، الكره، الغضب، السعادة. موسيقى. كنت أقوم وأقعد مع الموسيقى. آكل وأشرب مع الموسيقى. وعندما أسوق السيارة المرسيدس السوداء، وعندما يأمرني مسئولي بالذهاب إلى البحر، وعندما أفكر أحيانًا فيما هو محرم، كنهد جارتي، أو كساندويتش من السجق المبهر؟

أغمض أربعتهم عيونهم، وأغفوا. عندما فتحوا عيونهم، لم يجدوا وحيد العسفي، مدير المسرح، ووجدوا القاعة مليئة بالمشاهدين. بعد عدة لحظات، دوت الطرقات الجسيمة المعلنة عن بدء العرض. ارتفعت الستارة على ممثل يقف فوق أريكة تحت الأضواء الوهاجة، وهو يقول بصوت وخيم العاقبة:

- أكون أو لا، أكون إنه السؤال!

توارد باقي الممثلين، وكل منهم يحمل كرسيًا، وأخذوا أماكنهم من حول الممثل الذي تمدد بنصفه السفلي على الأريكة، واستند بنصفه العلوي على كوعه ناظرًا إلى القاعة. انطفأت الأضواء عن الخشبة بالتدريج، واشتعلت على ناحية من نواحي القاعة، وخمس راقصات من الكريزي هورس يغنين بالإنجليزية، ويحركن على الموسيقى أجسادهن:

أنا قطتك

أنا فأرتك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك!

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا أختك

أنا أمك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا أميرتك

أنا مليكتك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا ملحك

أنا سكرك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا عسلك

أنا لبنك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

انطفأت الأضواء عن راقصات الكريزي هورس، واشتعلت على مجنون السجائر التي يضعها حول إذنيه، وفيهما، وفي منخريه، وفي فمه. امتدت أيادي الجالسين قربه، وأخذتها واحدة واحدة تحت النظرات المجنونة للمجنون، لكنه راح يبتسم كما كان يفعل في الماضي، لما أشعل أحدهم سيجارة، ووضعها له في فمه.

انطفأت الأضواء عن مجنون السجائر، واشتعلت في الممر على العسكري المجنون المردد: الغنوجي! الغنوجي! الغنوجي! وهو لا يتوقف عن الذهاب والإياب. وبكل بساطة، قام أحد الجالسين، وترك له مكانه، فتردد هذا، وهو يجلس، ويلتفت من حوله، ومع تشجيع الحضور، غرق في مقعده سعيدًا، وتوقف عن الترداد.

انطفأت الأضواء عن العسكري المجنون المردد: الغنوجي! الغنوجي! الغنوجي!، واشتعلت على المجنون ذي الحجاب. كان يتحرك برأسه ووجهه المخفي نصفه كالطائر الفزع، وكان من جارة له أن سحبت الحجاب عن وجهه، وبعد ذلك عن جسده، ورمته في الممر. قام هذا بلهفة من أجل استعادته، لكن المرأة أمسكته من يده، وأعادته إلى مكانه، ثم طبعت على خده قبلة "جننته".

انطفأت الأضواء عن المجنون ذي الحجاب، واشتعلت على مجنون المرآة. أراد الدخول فيها لشد ما كان يتأمل الآخر، فسحب شاب جميل المرآة من يده، ووقف بوجهه أمام وجهه. كانت مفاجأة مجنون المرآة كبيرة، وهو يلمس وجه الشاب. أمسك الشاب يده بكل لطافة، واقترب بشفتيه من شفتيه، وطبع قبلة خفيفة على ثغره، دفعته لسحر القبلة إلى طلب أخرى، فغاب الاثنان في عناق طويل.

انطفأت الأضواء عن مجنون المرآة، واشتعلت على المجنون الماشي على يديه. وقف على رأسه، فسقط، ومرة أخرى وقف على رأسه، فسقط. أحاط به بعض الشبان، وأخذوا يقفون على رؤوسهم، ويدورون على موسيقى الراب، ففعل مثلهم، وراح يقلد كل باقي حركاتهم، وعن طريق التحكم بالجسد، دخل معهم عالم الروح.

انطفأت الأضواء عن المجنون الماشي على يديه، واشتعلت على مجنونة الثدي، وهي تكشف عن ثديها، وتقهقه، ولا تلبث أن تغطيه، ثم تعود إلى الكشف عن ثديها، وتقهقه، ولا تلبث أن تغطيه. استدارت خمس نساء يجلسن في الصف المقابل، وكشفن عن أثدائهن الجميلة، فذهلت المرأة لمرآها، وكان منها أن كشفت عن ثدييها الاثنين، وقهقهت قهقهات لا تنقطع.

انطفأت الأضواء عن مجنونة الثدي، واشتعلت على المرأتين الشادتين لشعرهما بوحشية. نهض حلاقان من الصف الخلفي، وبمقص قصا لهما الشعر، وبمحلقة حلقاه، وتركاهما ذاهلتين في البداية، الواحدة تلمس رأس الأخرى بوحشية، ثم برقة.

انطفأت الأضواء عن المرأتين الشادتين شعرهما بوحشية، واشتعلت على لبنى بن عثمان. كان نصفها يخرج من خيمة في الممر عاريًا، وهي بين ذراعي أحد الزبائن، وصف طويل من هؤلاء، وهم ينتظرن دورهم.

انطفأت الأضواء عن لبنى بن عثمان، وعادت تشتعل على بنات الكريزي هورس الخمس، وهن يرقصن، ويغنين بالإنجليزية:

أنا قطتك

أنا فأرتك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك!

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا أختك

أنا أمك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا أميرتك

أنا مليكتك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا ملحك

أنا سكرك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

أنا عسلك

أنا لبنك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن يغطين بأياديهن أعلى الفخذين، ويغنجن.

انطفأت الأضواء عن راقصات الكريزي هورس، واشتعلت على ماجد الغنوجي، وهو يطلع بركبتيه على المقعد، وينحني على المسند، والشيخ يضربه على ظهره، ويصرخ:

- أخرجي، يا عدوة الله!

فلم تخرج.

أعاد الشيخ بصوت أكثر جسامة، وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي بأكثر قوة:

- أخرجي، يا عدوة الله!

فلم تخرج.

وللمرة الثالثة، صرخ الشيخ بأقصى ما يستطيع عليه، وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي بأقصى قوة:

- أخرجي، يا عدوة الله!

فكان رد فعل رئيس الإسلاميين أن صاح: آي! واعتدل واقفًا، وهو يأمر:

- يزي!

- ليلى طرابلسي هذه مصرة على السكن فيك إلى الأبد سيدي، همهم الشيخ.

- خلصني منها أجعل منك رئيسًا للحكومة، هتف زعيم الإسلاميين.

- وإذا كنت تكذب سيدي؟

- أحضر القرآن لأقسم عليه.

- القرآن في جيبي سيدي، وأخرج مصحفًا ذا حجم صغير.

- كنت تعرف، أيها الشيخ الدجال! ولكن يزيني عذاب، سأجعل منك رئيسًا للحكومة، حتى ولو كنت دجالاً.

- ليلى طرابلسي "ترمتها" كبيرة سيدي، ولا بد من وسيط لأخلصك منها.

- وسيط؟

- نعم، وسيط سيدي، هل تفهمني سيدي؟

- وسيط... آه، وسيط، يا دين الرب!

- هل فهمت سيدي؟

- ولكني عاجز، يا دين الرب!

- أنت الغنوجي بطولك وعرضك عاجز سيدي، يا دين الرب!

- هذه شئون لا علاقة لها بالدين.

- الآن لا بد من وسيطين سيدي.

- وسيطان، يا دين الرب!

- هل من وسيط؟ صاح الشيخ بمن حوله.

- هنا، أجاب فرانك لانج، والأضواء تسلط عليه.

- وهنا، قالت أبولين دوفيل، والأضواء تسلط عليها.

- تعالا، طلب الشيخ منهما، فجاءا. اصعدي بنصفك السفلي على هذا المقعد، قال لضابطة الدي جي إس إي، فصعدت، وكشف الشيخ عنها. التصق بها، قال الشيخ لرجل التحري الخاص، وهو يفتح له بنطاله. ثم خاطب ماجد الغنوجي: افتح سروالك سيدى، والتصق به.

- أبدًا، أبدًا، أبدًا، راح رئيس الإسلاميين يردد، وهو يضرب الشيخ.

- إذن لا فائدة سيدي، ليلى طرابلسي ستبقى فيك إلى الأبد سيدي.

- طيب، ومن بعد؟ قال، وهو يفتح بنطاله، ويلتصق بفرانك لانج.

- أخرجي، يا عدوة الله! عاد الشيخ إلى الصراخ، وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي بقوة، وفرانك لانج يمارس، وأبولين دوفيل تتأوه. أخرجي، يا عدوة الله! وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي بقوة مرة ثانية، وفرانك لانج يواصل، وأبولين دوفيل تزداد تأوهًا. أخرجي، يا عدوة الله! وهو يضرب على ظهر ماجد الغنوجي بقوة مرة ثالثة، وفرانك لانج يقذف، وأبولين دوفيل تكاد تموت، وفجأة أخذت تتلفظ بكلام غير مفهوم، فتركها رجل التحري الخاص تتساقط على المقعد، وانسحب منها بعد أن ابتعد زعيم الإسلاميين عنه.

- لماذا كل هذا الثغاء؟ سأل ماجد الغنوجي.

- إنها ليلى طرابلسي سيدي، مبارك عليك سيدي، تحررت منها سيدي، هنأ الشيخ.

- كأس ويسكي، استجدت أبولين دوفيل.

- هل تشرب الخمر الحرام الآن، القحبة؟ سأل زعيم الإسلاميين.

- ليست هي، ليست ليلى طرابلسي سيدي، أجاب الشيخ. إنها "الوسيط".

- كأس ويسكي، عادت ضابطة المخابرات الخارجية إلى القول.

- كأس ويسكي، خراء! صاح فرانك لانج، تكاد تموت من الظمأ.

- هل أعطيها سيدي؟ طلب الشيخ من سيده.

- أعطها، فقد خلصتني من أشد أعدائي، لهذا سيغفر الله لنا أنا وأنت، همهم ماجد الغنوجي بينما راح الشيخ يبحث في جيبه عن بطحة الكحول. هذا أيضًا كنت تعرفه، أيها الشيخ الدجال!

اختطف فرانك لانج بطحة الويسكي من يد الشيخ، وهذا يقدم كأس الويسكي لأبولين دوفيل، وأخرج من جيب الشيخ كأسًا أخرى صب فيها ما جرعه دفعة واحدة لما فجأة أخد زعيم الإسلاميين، ينحني، وهو يشد بطنه، ويرفع رأسه صارخًا: اعتقلوهم! اعتقلوهم! اعتقلوهم! هبّ الشيخ ليقف على الأمر، فأوضح ماجد الغنوجي:

- وربي، ليس أنا!

- إذن من سيدي؟ سأل الشيخ محتارًا. ليلى طرابلسي، وطردناها، فمن يكون؟

- وربي ورب ربي ليس أنا!

انحنى الشيخ على بطنه، وراح يسمع، وبعد عدة لحظات من المعاينة صاح:

- الله أكبر! الله أكبر!

- وربي ورب رب ربي...

- لم أكن أعلم أن في كرشك كان معها سيدي!

- من؟

- بن علي سيدي.

- الحمد لله أنه بن علي وليس شخصًا آخر، همهم ماجد الغنوجي مرتاحًا، إذا كان بن علي، فاتركه في حاله.

- أتركه في حاله، وهو الذي لم يتركك طوال حياته في حالك سيدي!

- أعنى اتركه كي أنتقم لنفسي منه.

- وهل هناك انتقام، وهو فيك سيدي؟

- هناك.

- ما هو سيدي؟

- ألا أنتقم منه.

انطفأت الأضواء عن ماجد الغنوجي وكل من كان معه، واشتعلت على مصطفى بن عنتر. كان يمد يدًا مرتعشة، ويهمهم:

- أبي!

قال عنتر:

- أنا شبح أبيك.

- شبح أبي! متى مت، يا أبي؟

- أنت لا تعلم، مسئولية الدولة شغلك الشاغل.

- مسئولية الدولة كبيرة لا يقدر على حملها أحد غير الذين يُقتل آباؤهم وهم لا يعلمون.

- اعلم إذن أن أخي قتلني ليأخذ مني عبلة.

- قتلك أخوك؟

- كل الشجاعة التي لي لم تحمني.

- مُرني، ماذا تريدني أن أفعل من أجلك؟

- ليس من أجلي، فالموتى لم يعد هناك شيء من أجلهم، العدم من أجلهم، والفناء.

- من أجل من إذن.

- من أجل عبلة، أمك.

- عبلة، أمي؟

- إذا تزوجت عن حب، فاتركها بسلام، وإذا تزوجت عن كره، فلا تتركه بسلام.

- وكيف أعلم، يا أبي؟

- اذهب إليها، وادّعي أنك تحب غيرها، وانظر ما تفعل.

- ولكني لا أحب غيرها.

- تظاهر بالحب.

- وكيف أتظاهر بالحب؟

- تظاهر بالجنون.

واختفى شبح عنتر، فترامى مصطفى بن عنتر على قدم أمه التي سلطت عليها الأضواء، وسأل:

- هل هذا وجهك، يا أمي، لأقبّله؟

- هذه قدمي، أيها الأبله.

- لماذا إذن قدمك بكل هذا الجمال؟

- لتحسبه وجه أمك، وتحسبك أمك ممن أصابهم الجنون.

- لن تصدقيني لو قلت لك إن زوجك قاتل أبي؟

- لن أصدقك، أو يعقل أن يصدق المرء مجنونًا؟

- وإذا قلت لك إنني مغرم بنزيهة الشابي؟

- من هي هذه البنت، أيها المجنون؟

- لماذا صدقتني إذن؟

- لأنك حتى ولو كنتَ ثمرة الدمامة والجبن، فستبقى ولدي، حبي.

- وزوجك؟

- أنت حبي.

- أنا حبك؟

- أنت حبي الوحيد.

- والآخر؟

- الآخر من؟

- زوجك.

- قلت لك أنت حبي الوحيد.

- آه، يا إلهي!

- ماذا؟

- هذا الحب مسئولية كبيرة كمسئولية الدولة.

- وإذا قلت لك إنني مغرم بأبولين دوفيل؟

- أفضّل الفرنسية.

- لن تغاري منها؟

- سأغار منها، ولكنه تبقى فرنسية.

- وأنا سأغار منها.

- كيف، وأنت مغرم بها؟

- لأنك ستغارين منها.

- أنت مجنون بالفعل.

- أراد شبح أبي أن أتظاهر بالجنون بينما أنا كما تقولين مجنون بالفعل.

انفجرت عبلة باكية، فسألها رئيس المجلس التأسيسي عن السبب، فقالت:

- أبكي على تونس.

- على تونس؟

- بحرها كله حكمة، لهذا هجره السياح.

- لهذا تبكين على تونس؟

- ولأن جنونك ليس بالجنون من أجلها.

انطفأت الأضواء عنها، ومصطفى بن عنتر يناديها:

- ماموني! ماموني!

وانفجر يبكي.

انطفأت الأضواء عن مصطفى بن عنتر، واشتعلت على المجحف المزروقي، وهو يمسك ببقرة من رسنها، وجيري لويس يضحك عليه، ويكاد يموت من شدة الضحك.

- لماذا تضحك، يا جيري؟ سأل رئيس الجمهورية معاتبًا.

- أنا لا أضحك عليك، يا سيادة الرئيس، أجاب الممثل الكوميدي.

- إذن أنت تضحك على من؟

- أنا أضحك على البقرة.

- إنها أول بقرة تونسية كلوناج لو تعلم.

- لأنها أول بقرة تونسية كلوناج.

- وما الذي يضحكك فيها؟

- لا شيء على الخصوص، أنا أضحك كلما نظرت إليها، أجاب جيري لويس، وهو ينفجر ضاحكًا.

- لأنها بقرة تضحك عليها؟

- لأنها حصان.

- لأنها حصان؟

- أنا أنظر إليها، فأراها حصانًا، فأضحك.

- لأنها بقرة كلوناج تراها حصانًا؟

- لا، وعاد الممثل الشهير يضحك، ويكاد يموت من شدة الضحك.

- إذن لماذا؟

- قلت لك لا شيء على الخصوص.

- لماذا لا شيء على الخصوص بالأحرى من شيء على الخصوص؟

- كل الكوميديا جواب لسؤالك.

- ولماذا لا أضحك أنا كلما نظرت إليها؟

- لأنك... وانفجر جيري لويس ضاحكًا، لأنك، يا سيادة الرئيس، لا تُضحك الناس مثلي.

إذا بنفر ممن هم في القاعة يهجمون على الكوميدي العالمي، ويأخذون بمصافحته، وتقبيل يده. لما مد رئيس الجمهورية يده ليصافحوه، ويقبلوا يده، أعطوه ظهورهم، وذهبوا. ناداهم، رجاهم، أغراهم: هذه أول بقرة تونسية كلوناج من أجلكم كي تأكلوا اللحم على العشاء! لكنهم لم يستجيبوا له.

- لم يعد الشعب يحبني، تباكى المجحف المزروقي.

- لأنه لم يحبك يومًا، يا سيادة الرئيس، أوضح جيري لويس.

- وكيف أجعله يحبني كما يحبك؟

- أن تكون كوميديًا ناجحًا مثلي.

- إنه لمن سابع المستحيلات.

- إذن لا تكن رئيسًا للجمهورية.

- وهل حقًا أنا رئيس للجمهورية؟

- إنه السؤال! الحق أنه السؤال الأول الذي يطرحه على نفسه كل كوميدي ناجح، وانفجر الممثل الأمريكي يضحك من جديد.

- هل هي بقرة الكلوناج التي تضحكك؟

- لا.

- من إذن؟

- أنت.

انطفأت الأضواء عن جيري لويس ورئيس الجمهورية، وعادت تشتعل على بنات الكريزي هورس الخمس، وهن يرقصن، ويغنين بالإنجليزية:

أنا قطتك

أنا فأرتك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك!

وهن ينحنين إجلالاً لتمثال ابن خلدون.

أنا أختك

أنا أمك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن ينحنين إجلالاً لتمثال ابن خلدون.

أنا أميرتك

أنا مليكتك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن ينحنين إجلالاً لتمثال ابن خلدون.

أنا ملحك

أنا سكرك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن ينحنين إجلالاً لتمثال ابن خلدون.

أنا عسلك

أنا لبنك

أنا حبيبتك

لكني لست عورتك

وهن ينحنين إجلالاً لتمثال ابن خلدون.

انطفأت الأضواء عن ساحرات الكريزي هورس، واشتعلت على أبولين دوفيل ونزيهة الشابي، وهما ذاهبتان في قبلة ماراثونية طويلة بدت أنها لن تنتهي، مما اضطر فرانك لانج إلى سحب الشقراء الفرنسية من يدها بقوة، وإرغامها على الخروج من اللا تاريخ إلى التاريخ، إلى الواقع، إلى مغامرة جديدة.

باريس الخميس في 2012.08.30

أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012
39) الصلاة السادسة 2012

الأعمال المسرحية النثرية

40) مأساة الثريا 1976
41) سقوط جوبتر 1977
42) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

43) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
44) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
45) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
46) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
47) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
48) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
49) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
50) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

51) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
52) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
53) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
54) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
55) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
56) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
57) خطتي للسلام 2004
58) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
59) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
60) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
61) الله وليس القرآن 2008 - 2012
62) نافذة على الحدث 2008 - 2012



عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصلاة السادسة رواية الثورة التونسية، والصلاة السادسة صلاة المصالح والحسابات الشخصية والانتهازية والهيمنة، صلاة الذين صادروا الثورة، وأخذوا السلطة باسمها، وأبدلوا النظام ذا الوجه الواحد السابق بنظام ذي وجوه ثلاثة هي في نهاية المطاف وجه واحد، صلاة لا دين لها ولا إله، ولمثل هذه صلاة في الحالة التونسية نسق كلياني الأبعاد، كالنسق الستاليني، كما يشير النص إليه، والنسق العصابي في العصور الوسطى.

كل شيء في هذه الرواية عصابي الشكل، عصابي المضمون، لهذا الدلالات الفوكوية كثيرة، والاضطرابات الفرويدية عديدة، وهناك دومًا ما يجذبك من خناقك، فتلهث مع الأبطال لما يلهثون، ولا تبحث عن التحرر من سلطتهم، لكنك ترفع القناع عن وجوه الشيزوفرينيين منهم، يكفي أن ترفع القناع لتعرف أية وجوه مشوهة وجوههم.

من الجدير هنا التنويه بالحوارات الشكسبيرية التي تمتلئ الرواية بها، وبالأجواء الهيرودوتية التي تعيد عجلة التاريخ التونسي إلى الوراء، فنعيش فصلاً مع هنيبعل، وآخر مع المهدي، وثالثًا مع ليلى طرابلسي، ويظل ابن خلدون يظلل بظلاله منذ الصفحات الأولى لهذه الرواية حتى الصفحات الأخيرة. وبخصوص شكسبير، يجدر الإشارة إلى أن أفنان القاسم يسجل القول الشهير "أكون أو لا أكون، إنه السؤال" كما قيل لأول مرة دون أن يجري تحريفه "أكون أو لا، أكون إنه السؤال"، وذلك بوضع الفاصلة في مكانها الصحيح، وتحت كل المعاني والدلالات الجديدة يبني الفصل الأخير من الصلاة السادسة.

هذه الرواية هي الخامسة من السلسلة التي يكتبها أفنان القاسم مع بطليه التيميين فرانك لانج رجل التحري الخاص وأبولين دوفيل ضابطة الدي جي إس إي.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.