ألمكتبة

من منطلقات فكرية لمسيرة حياة الانسان التاريخية// يوسف زرا

 

من منطلقات فكرية لمسيرة حياة الانسان التاريخية

يوسف زرا

المقدمة

       اذا كان علماء الاجتماع واللغة قد اعتبروا ان تاريخ الانسان الحالي قد بدأ بعد ظهور الكتابة ، أي بحوالي_+ 3200/2900 ق.م . بمعنى ذلك اعتراف منهم بان للكتابة دور مهم في تفتح العقل البشري وابداعه الفكري في خلق وسيلة او واسطة متداولة يعبر فيها عن مراحل حياته على هذه الأرض . وما طرأ عليها ضمن المجرى التاريخي الطويل من التأثيرات والتغيرات لعوامل الطبيعة والمواقع الجغرافية التي نشأ فيها . وكيف بدأ يجول في خاطره عن ما حوله من الشخوص المادية واهميتها في حياته اليومية .

       الى جانب ما حوله من الأحياء المختلفة من الحيوانية والنباتية ، وكيف تمكن عبر قرون وقرون من الانتقال من طور الانسان الشجري الى طور والمرحلة للمشاعية البدائية . وعبر قرون وقرون لابل الاف السنين وظهور (النظام الاقتطاعي) والمشخص عبر التاريخ . والذي اعتبر اعظم طفرة نوعية في حياة البشر وبدء الاستقرار النسبي الاجتماعي واستثمار الأرض بشكل بدائي ، وتبدل حياة الفرد وسلوكه وتصرفاته جزئيا بسبب العمل المناط به ضمن النظام الجديد . وثم بدء مراقبة ما نجم من ذلك عبر عصور بولادة نظام ذي روابط اجتماعية واقتصادية وإدارية ووفق أفكار وتأملات قد تسبق حاجته لحياته البدائية وادراكه النوعي قرونا أيضا .

       وظهور حالة الصراع الداخلي بين ما يتأمله عقله النوعي وما لا يمكن تحويله الى المنطق بسهولة . أي ظهور لديه الوعي والفكر النوعي والادراك النسبي لما في بيئته الجغرافية وتقلبات مناخها وتأثيراتها عليه .

       لم يكن سهلا تمكنه من الانتقال من مرحلة الصيد الى مرحلة القرية الزراعية البدائية ونشوء المجتمع الزراعي البسيط قرب منابع المياه ومجاري الأنهر .

       حتى بدأ يفكر عن أسباب وجوده وعلتها والغاية منها . وثم ماذا بعد الممات؟

       وفق هذا المنطلق الفكري الفلسفي النوعي ، بدأ ينسج خياله قصصا وروايات ذات مغزى لصيرورة الحياة والرموز الأسطورية وذات القدرات الخارقة التي تتحكم به وبما حوله من الموجودات .

       وهكذا ولا زال الانسان (الكائن اللغز) يصارع ذاته والطبيعة معا جيلا بعد جيل ، ويبني ويخترع سبل ووسائط قد تمكنه من الوصول الى فهم او ادراك لكيفية ظهور الحياة رغم اصبح ذلك علميا ومنطقيا معروفا ولا حاجة للقلق .

       الا ان التسابق الحضاري المدني وما نجم منهما من المآسي للإنسان من الحروب والنزاعات التي لا يمكن التخلص منها ما زال هذا الصراع قائم بمفهوم – النشوء والتحول والارتقاء – والبقاء للأفضل في كل شيء . وتنوع رموز العبادة .

       فان الطفرات او المعجزات التي باتت معلومة للكل من سرعة التقدم التكنلوجي في جميع مرافق الحياة المادية خاصة .

       وهل ستؤدي الى جعله كائن اخر في هذا الكوكب كما تصوره العالم النووي – البرت انشتاين – (الكائن الخارق) ام قد تؤدي به الى انهاء حياته وما حوله من الاحياء ؟

       نتيجة التسابق الخيالي في وسائل التدمير الجماعي واستمرار حالة لا حرب ولا سلم بين الشعوب ، وظاهريا بسبب اختلاف الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية ولا غير .

                                                                  المؤلف

                                                               1/4/2014

بحث فكري

أولا - العلاقة الجدلية التاريخية بين لغة العقل ولغة المنطق

صنف علماء الاجتماع الانسان وفق المراحل الزمنية التي مر بها ، فكان ذلك حسب تطور مصدر ( فكرة الدماغ ) بايولوجيا، وكل مرحلة وفق مقاييس صوتية كانت تستعمل كإشارات عن ما يتحسس من الملموسات المادية والتأثيرات البيئية والمناخية ، واولى هذه المراحل هي التي سمي بها (الحيوان الناطق)، وهنا لابد ان نقف ونقول، بان كل النبرات الصوتية المستعملة كانت كمقاطع ذات تعبير لحاجته من المفردات اليومية الضرورية ، سواء كانت اجتماعية بسيطة كعلاقته مع افراد اسرته البدائية المتكونة عبر مرحلة الصيد، او مقاطع اخرى تدل على ما يحدث في مجرى حياته العامة كالأحزان والمخاطر التي يتعرض عليها ضمن الرقعة الجغرافية التي يعيش فيها. وامتدت به هذه المرحلة الى ان وصل يستعمل الى جانب المقاطع الصوتية ، الكثير من الاشارات الدالة بواسطة استعماله الاطراف الامامية والراس والتي تعتبر ايضا مشاركة منها لما يحتاجه او ما يتحسسه من المؤثرات الطبيعية ، وتمكن بعد هذه الفترة من الانتقال الى استعمال بعض الرموز وصور لتلك الاشارات الدالة ويبصمها إما على قطع طينية أو يحفرها على جدران الكهوف والمغاور التي كان يأوى اليها. وبواسطة قطع من حجر الصيوان الصلب والحاد او بواسطة عظام كبيرة وصلدة.

وبسبب التطور البايولوجي الذي حدث على العمليات الجارية في الدماغ، حدث تطور ايضاً في عملية التفكير وكيفية الانتقال من التعبير عن الصور والعلامات الرمزية الدالة، الى مرحلة الانتقال الى النطق وبلغة معينة ولكل شيء تسمية خاصة به _أي دالة_. ومنها انتقل الى مرحلة اختراع الكتابة ، وهي الفترة المهمة والتي ادت بالإنسان الى تدوين وتوثيق ما توصل اليه في الحياة اليومية ومفرداتها المتعددة، ولربما استغرق ذلك قرونا ً عديدة من السنين. وتعتبر فترة ظهور الكتابة ما بين عام 3200 – 2900 ق.م وفي جنوب وادي الرافدين حصراً. اي ظهور اللغة ببدء فترة ظهور الثقافات ، فأعتبر ذلك بداية لتاريخ الانسانية بشكل جلي لمفردات حياته اليومية ولجميع خصائصه الاثنية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها.

ولم يتم اكتشاف أي نوع من الكتابة في موقع جغرافي اخر قبل التاريخ المذكور حتى الان.

وبعد انتقاله الى هذه المرحلة سُمي بـ(الحيوان السياسي). أي اصبح ينسق أعماله وحياته ومسكنه، واصبح تعامله مع بني جنسه ضمن الموقع المتعايش به ومع البعيد منه بأسلوب مرضي ومقبول نسبياً ونتج عن ذلك علاقة الألفة والانسجام مع البعض بواسطة تطور لغته وسهولة التفاهم مع الغير . مما أدى الى تقليص النزاعات الفردية والجماعية الى حدٍ ما. ولابد ان يكون هذا الانتقال بعد ظهور القرية الزراعية، وبدء التبادل الاقتصادي بالمواد المنتجة وحسب الحاجة (المقايضة).

علماً بان موضوع ظهور الكتابة في الحياة البشرية لازال يعتبر طفرة حياتية كبيرة وبدء بناء مستوطنات اجتماعية هنا وهناك كنواة لنشوء حضارات متعددة وبخصائص فكرية واجتماعية واقتصادية معينة ضمن البيئات الجغرافية والمناخية المتواجدة في تلك المستوطنات.

وبعد هذه المرحلة، بدء الانسان يفكر ويحاول ايجاد ما يمكن من الوسائل التي بموجبها يحمي نفسه ويأتمن على حياته ومعه اسرته ومجتمعه. وكانت مرحلة الاستقرار النسبي والبحث لما حوله من الظواهر الطبيعية واهميتها وتأثيراتها على حياته السلبية والايجابية والآنية والمستقبلية، كالشمس ولماذا ظهورها نهاراً واختفائها كليا ليلاً، او القمر وظهوره ليلاً واختفائه كلياً نهاراً. وكذلك انتقل الى مرحلة عبادة الاسلاف، او الظواهر الطبيعية الاخرى، كالزلازل او الزوابع والاعاصير والفيضانات والبراكين، وما تلحقه بحياته من الكوارث والمحن، وكيف يتعامل معها. وبدأ يحاول ان يطمأن ذاته بالخضوع لها أي (الرجاء والتوسل) كحالة لضعفه أو بتقديم بعض القرابين وإداء بعض الحركات الايقاعية ترضية لها، وكأنها في تفكيره آلهة كي تجعل حياته بلا كوارث أو صعوبات، ويعيش اكثر اطمئناناً. وبعد ظهور العبادة، بدأ بنشوء نوع من العلاقات ومراسيم دينية مشتركة، وتشييد صروح واماكن خاصة لتقديم تلك القرابين واقامة الطقوس في مواعيد معينة. اي بمعنى ظهور الثقافة الدينية لعبادة الطبيعية.

وبعد مرور قرون عديدة من حياة الانسان نضجت فترة ظهرت فيها لغة العقل واهميتها الفكرية التاريخية لتنظيم الحياة بصورة افضل، وبداية للتاريخ كما جاء اعلاه. ويمكن اعتبار ما توصل اليه الانسان بعد ظهور الكتابة وتعدد اللغات، ثم ظهور عبادة الطبيعة كأول تطور في لغة العقل البشري التي توصل اليها بسبب قناعته باعتماده على التأمل والانفراد في التفكير الذاتي أي (ظهور التصوف العقائدي البدائي)، بغية تفهمه لهذه الظواهر واسبابها وكيف يتعامل معها. لابل بدأ يناجيها ويحاول محاورتها (مع نفسه) لتقيه وتحميه من شرها. وكانت طفرة كبيرة في تفكيره الفلسفي المثالي وكمهمة مرحلية تاريخية كانت كأحد الاسباب الرئيسية المؤدية الى نشوء حضارات عظيمة واستماتت حتى هذا اليوم في الدفاع عن قيمها الفكرية وما نتج منها ضمن العلاقات الاجتماعية، ونظم الانسان حياته العائلية والادارية بموجبها، بعد ان صاغ بعض الاعراف والقيم والعادات بشكل انظمة، لابل قوانين لابُد من الالتزام بها واحترامها واعتبارها المنسق الضروري لحياته العامة والخاصة. وذات قدسية كبيرة وانتقل اثرها من جيل الى آخر وبشكل متوارث جماعي ضمن قبائل وشعوب الى يومنا هذا، حتى ظهرت الدولة الحديثة بعد سقوط عدة حضارات حكمتها سلالات متعددة الاجناس، ومنها الحضارة الرومانية في اواسط القرن السادس عشر (1550م) وظهور الدول الاوروبية الحالية وبتسميات جغرافية أو بأنساب بشرية وبأنظمة ملكية أو امارات، ثم سقوط الحضارة الاسلامية العثمانية في العقد الثاني من القرن الماضي (القرن العشرين) ، وظهور الدول العديدة في الشرق الاوسط وشمال افريقيا وبتسميات قبلية (مشايخ وامارات أو ممالك) وكلها امتداد لحكم الطبقة الاقطاعية ولحد هذا اليوم لازال هذا النفوذ قائما في بعضها ومرتدياً ثوب الدين ومنها مذهب معين وغيرها. وغالبيتها الشرق اوسطية العربية والاسيوية تحكمها لغة العقل. أما الدول الاوروبية فأن ظهور عصر النهضة في القسم الغربي منها اواسط القرن الثامن عشر والطفرة العلمية والتقدم التكنلوجي في جميع المرافق الخدمية قلبت الامور وظهرت لغة المنطق وفلسفتها المادية التي توازي الفلسفة المثالية (لغة العقل) وتتقاطع معها في كثير من التحليلات الفكرية ولها اسبابها ومبرراتها لدى الفلسفتين ولها ضرورة بقاء هاتين الفلسفتين كمحفزتان للعقل البشري للتغيير والتجدد الى أنماط من الحياة في المستقبل ولا توقف لذلك مازال الفكر الانساني دائم ومتواصل في أنتاج الافضل فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وغيرها.

واذا اردنا أن نجزئ التاريخ والمراحل التي يمكن اعتبارها مع تداخلها مع بعضها نسبياً بأنها كانت بداية لحضور الوعي والادراك النسبي في كل مرحلة وحسب مقتضى الحالة الحياتية، عدا العمليات الفسلجية للظاهرة الفطرية والمنفصلة كليا عن الطفرات البسيطة في التفكير الانساني، والذي كان ناتج عن قدرة المخ على التكييف في محيطه والمستجدات التي تفرض على الانسان التعامل معها، لان تواصل الفكرة تؤدي الى تغييرات فسلجية في معظم اجهزه الجسم وعلى سبيل المثال: -

إن تفرغ الاطراف الامامية للإنسان للقيام بعدة عمليات، ومنها الحصول على طعامه من تسلق أعلى الجبال، أو قتاله مع الحيوانات بواسطتها وحتى تمكنه من استخدام القطع الحجرية كسلاح ضد العدو وغيرها. مما أدى الى تحررها كلياً من وظيفة المشي وانتصاب القامة تدريجياً. وهكذا تطورت أساليب الإيمآت والاشارات من حركية الى صوتية، وثم الى مقاطع خاصة لمدلولات مادية ومعنوية كما جاء في البحث سابقاً.

وإذا تناولنا مراحل ظهور الحضارات في كثير من بقاع الكرة الارضية واسبابها البيئية والمناخية فلا بد من ان نتكلم بشكل مقتضب عن مفهوم الحضارة واسباب قيامها.

فان المقصود بالحضارة كما نعتقد، بانها تعتبر ناتج تجمع بشري في عمق التاريخ ضمن بقعة جغرافية معينة ووفق نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي وعقائدي مع لغة التداول فيها وبسبب تحول مقومات حياة الانسان – اعراف – قيم – عادات - الى مستوى من التقديس والعبادة واعتبارها إرثاً ينظم حياته بموجبها، مع روابط حيَّة دائمة التجدد وحسب الحاجة الآنية لكل مجتمع. ومن هذا المنطلق وعبر التاريخ تنوعت العقائد الدينية الناتجة من لغة العقل تميز بعضها عن البعض عقلياً واجتماعيا ًوفكرياً، كما توصل اليها المؤرخ والعالم الاجتماعي الاغريقي– اليوناني (هيرودوتس) 485-425 ق.م. والذي يعتبر من أشهر علماء وفلاسفة العهد الاغريقي والذي تزامن عصره مع فلاسفة – أثينا - ومنهم سقراط وارسطو وزينون وغيرهم، والذين اهتموا في ذلك العصر بفلسفة المنطق. واهم هذه الحضارات وحسب مواقعها الجغرافية وقدمها التاريخي هي: -

1- الحضارة الايرانية -3900- ق.م. وتعتبر امتدادا لحضارات الشرق الاوسط وتحديدا شرق وادي الرافدين، والتي ظهرت فيها عدة مستعمرات زراعية مزدهرة في الالف الرابع قبل الميلاد، اصابها الخمول وتعرضت الى تمزق، واقتصر الامر لتطور حضاري في بعض اجزائها الشمالية والوسطى، أما بخصوص الملاحم الادبية ذات طابع فلسفي للغة المنطق والتي ولدت الصراع بين الشك واليقين، أي بين فلسفة العقل (التأمل) وبين فلسفة لغة المنطق، فأن قصيدة زرادشت (660 ق.م.) النبي الايراني، والتي جاءت بعنوان (عقائد الإله الواحد) ولم يقل عقيدة الإله الواحد، ومحتوى القصيدة عبارة عن طرح عدة اسئلة مستفسراً عن الشمس والنجوم والقمر والارض والسماء والمياه وغيرها. ولان - لغة العقل - غير قادرة أن تجيب عن هذه الاسئلة، فضلت تشك بحقيقتها، ولابد أن يعترف الانسان بأنه غير قادر على اكتشاف اسرار المعرفة عبر فلسفة العقل. الى جانب أن ولادة زرادشت في عام 660 ق.م. والتي تقول: -

عندما كان الراعي –يوروزهاريو- يرعى ماشيته في حقل ما، فظهر له شبحان نوريان واقتربا منه وقدما له غصناً من نبات –الهوما- المقدس وأمراه ان يحمله الى زوجته، وستحمل طفلاً بكيان روحاني. فمزج الرجل الغصن باللبن وحسب التوصية وشربه هو وزوجته وحملت وليداً وهو (زرافوشترا) أي زرادشت. وهناك عنصر مشترك بين ولادة زرادشت وولادة بوذا في الهند عام 568 ق.م. بان الملكة امه حلمت بأن فيلاً يحمل في خرطومه غصناً من نبات (البشنين) ودار الفيل ثلاث مرات حول فراشها، وثم مسَ جانبها الايمن ودخل رحمها وحملت ببوذا.

وهنا نرى بأنه لم تكتف لغة العقل لدى الايرنيين بقبول هذه الاسطورة وظلت تعبد الطبيعة ايضاً كما في الديانة السومرية والبابلية والهندية وغيرها كعبادة ثانية احتياطية لعدم توفر اليقين بذلك.

2- حضارة وادي الرافدين (3200) ق.م. والتي شملت الامتداد الجغرافي لكل من العراق وسوريا الحاليتين وجزء من تركيا حتى ارمينيا.

فلابد ان نتكلم عن ميزة هذه الحضارة بصورة خاصة، بانها الموطن الاول للملاحم الادبية والقصص الاسطورية التي خلفتها للبشرية، والتي كان لها الفضل الكبير في مفاهيم فكرية وفلسفية سابقة لزمانها، وإن سرعة تطور حياة الانسان فيها وعامل استقراره بالوسط الجغرافي ساعد على أهمية التأمل في كيفية تنظيم الحياة لعشرات القرون. ثم سعى لتعميم ذلك داخل البيئة المتعايش بها وخارجها. واهم هذه المنجزات الفكرية والفلسفية التي ظهرت، هي كمنجزات للغة العقل ، وهي قصة الخلق السومرية والتي تقول بأن الآلهة – ماما - قامت بذبح الإله – وي إلا - أحد آلهة (تيامات) التي استخدمته كسلاح فتاك ضد الآلهة السبع بقيادة – مردوخ - وهو من غنائم الحرب، وبعد ذبحه خلطت دمه بالطين الاحمر النقي وقذفته في البرية فولد الانسان.

وهنا لابد ان تقف البشرية بكل خشوع واجلال امام هذا التعبير الفلسفي لعقل الانسان قبل أكثر من خمسة آلاف عام. والذي عبر فيه أبن الرافدين عن مفهوم ولادة الانسان من عدة عناصر مادية، وجعل الطبيعة، الرحم الذي حضنته ونما فيها وتحول وارتقى الى كائن حي، وهي صيغة فلسفية وواقعية لنفس الاطوار التي يولد فيها الانسان بعملية إخصاب البويضة، وهنا يمثلها الطين الاحمر النقي بواسطة دم وي – ألا - الذكر، والارض كرحم طبيعي أي الام الكبرى الحاضنة للمولود، الى جانب الانتقال الى تطور العقل الانساني وفرضية تنظيم الحياة كضرورة لظهور قوى ذات خصائص فريدة تمثل جميع أطرف ذات العلاقة بهذا المفهوم، وهي ظهور التوحيد التاريخي للأله الواحد – من سبع آلهة - وكل إله له وظيفة بإحدى ظواهر الطبيعة، وتنازل عنها بدون قيد وشرط الى اله واحد وهو (إله مردوخ) كرمز تاريخي يقوم مقام الكل ويفرض النظام والطاعة الطوعية الضرورية، مصحوبة بمركزية دينية مهمة لذلك الانسان.

3- حضارة الفراعنة في وادي النيل (3100) ق.م. وشملت كل من مصر-سودان – ليبيا، وإن ما يخص هذه الحضارة في موضوع الموت وفناء الجسد، فكان الفراعنة قد اعتقدوا ووفق فلسفة العقل، بأن للإنسان روح تسكن جسده، أي هي بمثابة – قرين - له، ففي حالة خروج القرين من الجسد إما بسبب النوم أو الموت. وبعد جولة غير محدودة مدتها وعاد القرين أي الروح الى مسكنها (الجسد) وحسب تصورهم بأن جسد الانسان في هذه الحالة بعد الممات يفنى. فأن الروح – القرين - ستتيه وتدخل جسماً غريباً قد يكون شريراً وتصبح شريرة ايضاً. ولهذا اضطرت الحضارة الفرعونية الى اكتشاف طريقة للاحتفاظ بالجسد بعد الممات سالماً، فكانت عملية التحنيط الطريقة الوحيدة التي جعلت أجساد ملوكهم وكهنتهم سالمة حتى هذا اليوم.

4- حضارة الصين (3000) ق.م. وشملت وديان الانهار الثلاثة – النهر الاصفر- هوانج – والنهر الازرق يانغ تشي كانغ - والنهر الجنوبي- سي كيانغ – فان الحضارة الصينية كأي حضارة قديمة، فكانت تعتقد بوجود الحاكم الاعلى، والمسمى (شانج تي) والذي يمثل حسب اعتقادهم القوى الرئيسية المسيطرة على العالم، ولم يكتف الصينيون بالحاكم الاعلى، فقد اعتقدوا بوجود (الاله الاعظم) (تيان) وهو سيد كل الالهة، اي  (هو السماء بذاتها) وهذا الاعتقاد جاء باعتبار:-

1- ان المطر الذي يروي حقولهم للرز يأتي من السماء.

2- وان السحابة التي تحمل المطر تأتي من السماء.

3- وان الريح التي تدفع السحابة تهب من السماء.

4- وان البرق والرعد اللذان يفتحان السحابة موجودان في السماء.

5- وان القوس والقزح الذي يظهر بعد سقوط المطر يبدو في السماء.

واخيرا بما ان كل شيء من السماء فان (تيان) هو السماء. ولكن لغة العقل لم تكتف بهذا المعتقد الذي اقره المنطق، بل قالوا يجب ان يكون لتيان - روح – وبما ان الروح ممثلة بالعناصر النازله من السماء وهي:- روح المطر، روح السحاب، روح البرق والرعد، روح القوس والقزح – والجبل – والنهر وغيرها.

بمعنى ان ظهور عند الصينيين لغتين في ان واحد، وهي لغة العقل في الحاكم الاعلى، ولغة المنطق في الاله الاعظم - تيان – ثم تعدد الالهة بالأرواح فعادوا الى استخدام لغة العقل لحسم الامر. بمعنى ان لغة المنطق كانت غير معتمده كليا وان لغة العقل اقوى.

5 - حضارة وادي السند – (2500) ق.م وشملت كل من الهند وباكستان وبنكلادش. وسبق ان تكلمنا عن المفهوم الفلسفي للغة العقل وتعدد الالهة في هذا الوادي مع عبادة الاله بوذا (المستنير) وكيف ولد مطابقا لولادة زرادشت وان هو الاقدم (اي بوذا) وقد تم التحدث عنه في الفقرة الاولى من الحضارة الايرانية.

    الا ان العبادة الاقدم في وادي السند (الهند) كانت البرهمية وهو الخالق للرجل والمرأة كزوجين وثم جاء من نسل كلاهما عن طريق تناسخ الارواح لجميع الكائنات الحية وفي مقدمتها حين أنقلبت الزوجة الى البقرة المقدسة، فأنقلب الزوج الى ثور وثم كلاهما الى زوجين جديدين من الاحياء – فرس وحصان - حتى وصولاً الى النمل.

وحسب هذه العقيدة والتي هي من منشأ لغة العقل، تعتبر هذه الرموز من الاحياء، مصادر للقوة وكلها من الاله الاعظم برهما. ورغم انتشار هذه الديانة في الهند بشكل كبير الا أن هناك الكثير من الآلهة تمثل بالأفاعي والقردة وغيرها مما يدل أن لغة العقل لدى الانسان ما قبل التاريخ كانت لغة التصوف اي الانطواء والعزلة على الذات. ولازالت هذه العقائد وبطقوس دينية متعددة قائمة في الهند وغيرها حتى هذه اللحظة، ولها قدسيتها وكتبها الدينية وإن أقدم مصدر عن الديانة الهندية كوثيقة تاريخية هي (الفيدالوجيا) –واخيراً نأتي على نهاية بحثنا هذا، مؤكدين إن الانسان اعتمد على لغة العقل كمصدر للتأمل لغرض وصوله في تلك المرحلة الى نوع من الاستقرار الذهني والنفسي، واضطر لعبادة الطبيعة والاسلاف فترة طويلة حتى ظهور أستخدام لغة المنطق وبدء عبادة الإله الواحد. ورغم ذلك فلازالت عبادة الطبيعة أو عبادة الاسلاف باقية في كثير من المناطق الجغرافية ومنها مجاهل حوض نهر الأمازون في امريكا الجنوبية وفي بعض جزر الاوقياندس وجنوب شرق الصين والهند وغيرها .

المصادر:-

1- موسوعة حضارات – عباس عباس

2- قصة الاديان – سليمان مظهر

3- فلاسفة اليونان – د. جعفر آل ياسين

4- حضارة وادي الرافدين – د. احمد سوسا

المعتقدات الدينية في بلاد الرافدين – رينيه لايات

 

                                                               يوسف زرا     

                                                               25/1/2014

 

بحث فكري

  - ثانيا -

دراسة نقدية لكتاب – ادلة وجود الله بين ديكارت ولايبنتز

دراسة مقارنة: أطروحة لدرجة الماجستير كرستينا بلو

 

الأستاذة الفاضلة كرستينا بلو المحترمة

تحية فكرية

       ارجو من الأستاذة الموقرة ان تسمح لي ببعض الملاحظات التي دونتها في هوامش كتابك الموسوم (ادلة وجود الله بين ديكارت ولايبنتز – دراسة مقارنة) .

كأطروحة لدرجة الماجستير ، بدءا من مقدمة الكتاب وصولا الى الفقرة الختامية وبشكل مختصر ومقتضب .

       مهنئا لك ومقدرا الجهد المتواصل والمضني في سبر غور الكثير من المصادر الفكرية والفلسفية والدينية ، بغية الوصول الى الصيغة النهائية لرسالتك حول الموضوع أعلاه . والذي اعتبره من اصعب المواضيع التي يخوض الانسان فيها ، ولأنه لا يعتمد على أي مصدر علمي او فلسفي للغة المنطق . بل اقتصر الولوج فيه الى لغة العقل فقط . أي(التأمل الباطني) .

       ويبقى الانسان مهما حاول من إيجاد الدلائل والقرائن ، فأنها مجرد اراء وفرضيات لخلق نوع من الاستقرار الذهني والنفسي وإزالة القلق . فان عنصرا الشك واليقين يبقيان ضمن دائرة التنازع والصراع بين الظاهرتين ، لأنه مادة الدلائل والبراهين ناتج من فرضيات مصدرها لغة العقل ، ولا تقبله لغة المنطق .

       لان الأولى غير حدسية وغيبية تفتقر الى علاقة الفرضية بالزمان والمكان . والثانية فهي حدسية مادية متنوعة ، سهلة اثبات وجودها او حدوثها وموضوعية ، أي لها الزمان والمكان .

       ولابد ان ابدا من مادة المقدمة ، ثم الدخول الى باقي مواضيع البحوث بشكل استنقاء فقرات مهمة منها فقط . فان المقدمة قد تركزت على مفهوم الاعتقاد بوجود الله ومفهوم الحياة والموت وتناولت موضوع – الالحاد – كمادة فكرية علمية عاصرت وعايشت مرحلة النهضة العلمية في اوربا الغربية . وحاولت الكنيسة محاربتها ومقاومتها وحتى هذه اللحظة . لما طرأ على ظاهرة الايمان بصورة عامة من الضعف والوهن ومعها جميع رجال الدين للاديان الثلاث – اليهودية – المسيحية – الإسلام – باعتبارها ديانات سماوية تؤمن بوجود اله واحد ، وغيرها ديانات أرضية متعددة الالهة . علما ان منشأ (الاعتقاد) جاء من لغة العقل (التأمل الباطني) فقط . والتي سبقت لغة المنطق . وسبب ذلك ، يعزى الى ضعف الناتج الفكري للدماغ (حالة بايولوجيا) ، ولم تتمكن من توضيف – الحدس – أي ما تشعر به الحواس الخمسة لغير حاجة الانسان الانية والموضوعية ، اما لغة المنطق فهي وليدة تقدم ، نمو وتطور مصدر الفكر – الدماغ – وكثرة تفاعله مع ما يستجد من الإنجازات العلمية – الابتكارات – الاختراعات – الاكتشافات – الى جانب التقدم العلمي النظري والتطبيقي تحليليا ومختبريا . وابسط مثال لذلك.

       وها هي الكنيسة ، وبعد قرون – تعترف بما جاء به غاليلو كحقيقة علمية فلكية ، وكما حاربت أيضا نظرية جارلس دارون – النشوء والتطور للحياة – وعاملته بنفس معاملة غاليلو مع فارق الزمن .

       وقبل اكثر من سنة أعلنت نفس الكنيسة الاعتراف بنظرية دارون ، اما مفهوم العقيدة الدينية ، فهي لازمت الانسان منذ القدم ، وكان ذلك بدافع خلق حالة الاستقرار الذهني والنفسي سائلا – من خلقه – ولماذا خلقه ؟ .

       وماذا بعد الممات الى ما حوله من المؤثرات الطبيعية المناخية والجغرافية . وثم تعدد مقوماته الاجتماعية والفكرية والاقتصادية وغيرها .

       اما اهمالي كل ما جاء في البحثين الأول والثاني ، فقد جاء بسبب قراءتي لأكثر من مرة جميع بحوث الكتاب ، ورأيت ان ما جاء في البحثين المذكورين قد ورد بتركيز اكثر في البحوث اللاحقة ، ولهذا ابدأ ملاحظاتي من البحث الثالث بدءا بالصفحة (54) وما جاء في الاسطر (5 – 7) .

       فان العالم الإيطالي (غاليلو – القرن السابع عشر) قلب مفهوم او – نظرية – مركز الكون، والذي كانت الكنيسة قد فرضته قسرا دون دلائل وبراهين مقنعة بان الأرض هي مركز الكون . ودون ان تعرف ما هو شكلها – مربع – مستطيل – مسطح – كروي مدور – فعندما قال غاليلو بان الشمس هي مركز الكون والأرض تابع صغير يدور حولها فلم تتأخر الكنيسة بالرد المباشر على – غاليلو – وقبله فرنسيس بيكون، باضطهاده واعتبرته جاحدا وملحدا باعتقادها بان (الله) اختار الأرض كأفضل العوالم لنزول السيد المسيح فيها .

       فديكارت يرى (الله الذي خلقنا يستطيع ان يفعل ما يشاء ، وما ندري بعد فربما كانت مشيئته ان يخلقنا بحيث نكون دائما على ضلال) (وحتى في الأشياء والتي نظن اننا على بينة منها) .

       بمعنى ان الله قادر على التوجيه الصحيح !

       والسؤال : فلماذا يعمل على ضلالنا ؟ وهل يعتبر الانسان عدو له ، ويحاول ضلالته ليتسلى به ويجعله تائها في حياته ؟ .. وهذه صفة الانسان الاناني .

       ثم جاء في نهاية السطر (15) كلمة (لعل) الله لم يشأ على اضلاله فالكلمة تدل على غير اليقين .       

       وبمعنى اخر ضعيف الامكانية لإنجاز أي شيء كامل...ولكن الله يتصف بالكمال .

       اما ما جاء في السطر (5) في الصفحة (55) . 

       يقول ديكارت ما نصه (انا افكر اذن انا موجود) . ويواصل ويقول (لأن هذه الحقيقة ، انا افكر اذن انا موجود) كانت من اثبات والوثاقة واليقين بحيث لا يستطيع اللا ادريون زعزعتها لكل ما ) ... هنا ان الفكر الوجودي يتقاطع مع الفكر الفلسفي اللاهوتي ، فالأول مادي والثاني مثالي . اما ما جاء في السطر (9) (توصل اليه ديكارت من خلال الحدس) هنا الحدس مصدر الحواس يتقاطع مع لغة العقل ، حين يقول ديكارت في الصفحة (53) السطر (7) ... (ومن المظاهر التي تبين للإنسان بان الحواس تخدعه) .

       اما ما جاء في صفحة (56) الاسطر (1 – 2 – 4)  والذي يقول فيها . ان الوجود المثبت من قبل ديكارت هو (وجود الفكر وليس وجود الجسد) ... ثم يواصل ويقول ... ولكن لا يستطيع ان يتصور بانه ليس موجودا وجودا فكريا . فان ديكارت يثبت وجود الفكر وليس وجود الجسد (فان الانسان يستطيع ان يتصور بانه لا جسد له ولا مكان له) . ولكن يناقض ديكارت نفسه حينما قال في اعلى الصفحة (انا افكر اذن انا موجود) ولم يلغ وجود الجسد ، لان الفكر يؤكد على وجوده ككائن .

       اما ما جاء في صفحة (58) الاسطر 3 – 5 – 15 – 16 والذي جاء فيها (فالموناد(*) لا يمكن ان يبدأ او يتوقف عن الوجود بصورة تدريجية ... ويواصل ... فليس أي تخوف من تحطم الموناد او انتهائه وجوديا .فالموناد يبقى في العالم الذي يتغير ولكنه يتحطم) ..

       فلماذا هذا التباين في موقع الموناد... (ليس أي تخوف من تحطم الموناد)...(فالموناد يبقى في العالم الذي يتغير ولكنه يتحطم) . أي غير عقلي ولا منطقي .

      

ولغرض وضع النقاط على الحروف فنقول كما يقول لايبنتز :-

1- الموناد لا يمكن ان يبدا ولا يتوقف . وهنا لا يمكن البدء والتوقف ... بمعنى ازلي .

2- الموناد يأتي الى الوجود (أي يبدأ) ... عكس المنطق السابق .

3- لا تخوف من تحطم الموناد ... (هنا لا خوف)... الشك ببقاء الموناد قائم .

4- الموناد يبقى في العالم ولا يتحطم ... هنا يزول الشك .

       اما ما جاء في صفحة (61) الفقرة (بـ) أنواع الموناد ...

1- هو موناد اعظم والذي هو الله تعالى .

2- تشمل المونادات المخلوقة من قبل الموناد الأعظم ، هنا لابد ان نربط مفهوم هاتين الفقرتين بما جاء في قصة الخلق السومرية والتي تقول ...

1- كان هناك مجموعة آلهة لا تلد ولا تموت – خالدة – وتسنى (انوناكي) .

2- كما كان هناك مجموعة ثانية تلد وتموت – غير خالدة – وتسمى (ايكيكي) . بمعنى ان هناك من عمق التاريخ سبق زمني لفكر الانسان . بتصوره عالم الخلود ممثلا بمجموعة آلهة لا تموت وخالدة ، ومجموعة تلد وتموت (أي الانسان)... فما جاء في الفقرتين ، بان لايبنتز قد ورث المنطوق الفلسفي الميثالوجي (الأسطوري) السومري وصاغة بنفس المعنى وبلغة ثانية . يؤكد لايبنتز لما ذهبنا اليه أعلاه حين يقول في صفحة (63) بعنوان الفقرة (3) المونادات الشاعرة بذاتها . بمعنى ان الانسان الرافديني قد سبق البشرية بأكثر من أربعة الاف من السنين بان المونادات الشاعرة بذاتها هي الانسان الحالي .

       اما ما جاء في صفحة (74) السطر ما قبل الأخير ونصه....(فان الله تعالى موجود لا كفرة بل في الواقع أيضا ...ومن يتصور انه غير موجود فان تصوره هنا يدل على غباء وحمق) ... وان الحوار والجدل واي نقاش بين اثنين يتم على وجود فاصل معرفة بينهما . فان عدم قدرة أي طرف اقناع غيره برايه ، لا يجوز ان ينعته بالأحمق والغباء . لأنه غير متمكن منه عقليا او منطقيا .

       فهل يعني ذلك انه احمق وغبي ؟ واذا كان منطق الفلاسفة هذا ، وفي هذا العصر بالذات . فلماذا نصف كل من يفرض عقيدته وايمانه على غيره بالقوة بانه – إرهابي تكفيري – وما الفرق بين هذا وذاك ؟

       اما ما جاء في صفحة (77) السطر الأخير وصفحة (78) 1وثم 6 – 7 حول ماهية الله – فهذا الامر يجعلنا على اليقين من وجود موضوعها (أي الماهية) خارج الذهن الإنساني ، وذلك لان الوجود المتحقق الخارجي هو جزء من أجزاء مضمونها ، وتعليقنا هو :- اذا تأكد لدى ديكارت ان وجود ماهية الله هي خارج ذهن الانسان ؟ اذن كيف عرف ذهن ديكارت ماهية الله – وهو الانسان وحجته ان كلمة (الوجود) لا تنفصل عن الماهية ؟ .

       فليس هذا الا التشبث بالغيب والجهل للمفهوم العقلي والمنطقي . وكذلك يقول ديكارت .. (فماهية الله تعالى بغير وجوده الفعلي ، يعني انها كمال مجرد من كمال....) .

       اليس هذا نوع من التعقيد اللغوي ومرفوض للغة العقل والمنطق .. حينما يقول (كمال مجرد من كمال) ؟ ... اما ما جاء في صفحة (79) الاسطر 4 – 10 – 11- حينما يقول :- وهو يتحقق من ذلك ان فكرة موجود كامل ليست وهما من نسيج الخيال ، بل اودعتها فيه طبيعة ثانية حقيقية موجودة بالضرورة .

       وهنا اعتراف ديكارت بان الطبيعة من الصفات المادية وهي فعلا ليست من الخيال والوهم .

       اما ما جاء في صفحة (83) السطرين ما قبل الأخير وقبله وهذا نصه :-

       فالأنسان ليس علة هذه الفكرة ، ولكون الانسان  ليس علة هذه الفكرة ، لذا لابد له ان يخرج من ذاته وان يبحث عن علة فكرة الكائن اللامتناهي ... هل خروج الانسان من ذاته – وكأن الذات مهيئة قبله – أي منفصلة عنه – فهل المقصود هو الوعي والادراك ... ام المقصود الفكرة المزروعة بذاته ؟ ام هو البحث عن المجهول حسب تصور ديكارت . لا يمكن لذات الانسان الوصول الى الكمال لانها ناقصة ، ولا يمكنها ادراك الكمال اللامتناهي حسب لغة العقل .

       وتأتي أيضا على صفحة (85) الاسطر الأربعة الأخيرة – عدم استقلالية ما تسمى (الحقيقة الميتافيزيقية – الأبدية) عن الله . ويعود ويقول :- ان الله بذاته خاضع لاستكس (أي القدر) ، بمعنى ان قدرة الله محدودة . وهذا يتقاطع مع ما يذهب اليه ديكارت في صفحة (86) سطر – 4 – ويقول :- (اذن لكون قدرة الله تعالى غير محدودة فلابد ان يكون هو الخالق للماهيات) .

       نعود الى ما يقوله ديكارت في السطرين الأخيرين من صفحة (86) :- (ان الحقائق جميعا يمكن ان تدرك بوضوح ولكن ليس ميسورا لجميع الناس بسبب ما يغشى على عقولهم من أوهام شائعة واحكام متيسرة) :- وهنا لابد ان نقول : لكون ديكارت كاي انسان (كفرد) يسعى لتحقيق ذاته ويتعالى على غيره عندما يقول (ليس ميسورا لجميع الناس بسبب...) .

       فهل تمكن ديكارت من التخلص من التأثير التربوي الاجتماعي الطبقي والديني للمذهب الكاثوليك لأيام الطفولة ... كما لم يتمكن لايبنتز وهو من نفس البيئة الاجتماعية والدينية بالتخلص من التأثير المذهبي البروتستانتي ؟ علما أي مناقشة فلسفية يجب ان تكون مجردة من التأثيرات المرحلية للإنسان . 

       ثم ننتقل الى الصفحة (87) الاسطر 3 – 4 – 5 – 7 – 8 – 9- ونقول :- نعم وقع ديكارت في الدور بقوله ... (وجود الحقائق الأبدية ولكن الحقائق الأبدية تعتمد او تستند على وجود الله تعالى) :- لماذا يقول جازما وجود الحقائق الأبدية... وثم – ولكن – انها زائدة وليس لها معناً مهماً . وحينما يقول في الاسطر الأخيرة ، فهناك فرق بين ان يريد الله تعالى هذه الحقائق ان تكون ضرورية وبين ان يكون الله تعالى مضطرا لذلك...فما معنى مضطرا لذلك ؟ كأنه تحت ضغط إرادة خارج اراداته...رغم يكمل الجملة...بان هذه الحقائق ضرورية فقط للإنسان لأنه خالقها .

       ثم ننتقل الى صفحة (93) الاسطر الأربعة الأخيرة وتقول :-

1- في مفهوم لغة العقل عن ماهية الله تعالى :- انه الوحيد يحمل صفة واحدة وهي الكمال الناجز...وهنا نرى تعدد الكماليات...فهل هناك عدة آلهة...لابل...ولماذا التكرار... اذن فهو موجود ... – و- اذا كان ممكنا – و – فهو موجود... واذا كان ممكنا. هل هذا التكرار خطأ مطبعي ؟ ام يعني الاستسلام للشك ؟

       ثم ننتقل الى صفحة (96) السطرين ما قبل الأخيرين والذي يقول :- (كما ان الله تعالى فاض بنعمته على هذا العالم ، فالله تعالى لا يمكن ان يفيض بنعمة الوجود الا على عالم واحد ، وهذا العالم هو عالمنا.. وتعليقنا:- كانت كنيسة روما قد اضطهدت العالم الإيطالي غاليلو وغيره بسبب قوله بان الشمس مركز الكون وان الأرض تاربع كروي يدور حولها والحجة هي ان ... اختيار الله تعالى لكوكب الأرض من بين جميع الكواكب او العوالم كموطن لولادة السيد المسيح ، ولازال هذا الرأي سائداً لدى بعض المتصوفين والمتاجرين بالدين ومنهم لايبنتز والذي يقول :- بان الله فاض بنعمته على عالمنا وبانه افضل العوالم...ثم ننتقل الى صفحة (98) السطر 3 – 4 – وتقول :- كم هو ذكي لايبنتز حين يعيد كتابة التاريخ بشكل معاصر قياسا لما جاء قبل اكثر من الفين و400 سنة ، وعلى لسان الفيلسوف الاغريقي – افلاطون – في مؤلفه – المدينة الفاضلة – او جمهورية افلاطون – والتي هي من طموحات الانسان منذ القدم ولا زالت حلما فقط ... وكأنه يكتب للذين لا يعرفون القراءة ولا يبصرون او يسمعون .

       فمدينة الله هي اكمل مدينة في ظل اكمل الحكام ، وهذه المدينة هي مدينة أخلاقية داخل نظام العالم الطبيعي .

       ثم نعود لما قاله ديكارت في الصفحة (54) سطر – 7 – ونصه :- فربما كانت مشيئته (أي الله) ان يخلقنا بحيث نكون دائما على ضلال حتى في الأشياء التي نظن اننا على بينة منها (وهنا فعل الشر قائم مسبقا سواء يعلم الانسان بذلك ام لا يعلم .

       ولان الانسان الضال يميل الى فعل الشر اكثر من الخير).. وفي الصفحة (99) السطر – 51 - 16 – يقول لايبنتز ما نصه :- (ان الله لم يخلق شرا وانما خلق عالما يوجد فيه اقل قدر من الشر) .. والمقصود بذلك :- ان قدرة الله لعمل الخير محدودة... وهنا يتقاطع مع مقولة (ان الله كريم رحيم).. ثم نأتي الى الصفحة (100) الاسطر – 1 – 6 – وهذا نصها :-

(فاذا كان عالمنا هو افضل العوالم الممكنة فيه شر ، فهذا يعني ان العوالم الأخرى تحتوي على شرور اكثر مما نجدها في عالمنا...ثم يقول... :-وهذا الاختبار لعالمنا هو اقوى دليل على وجود الله تعالى الذي اختار بإرادته الإلهية هذا العالم من بين العوالم الأخرى) .

       الا يعني هذا ان الله لا صلة له بالعوالم الأكثر شرا ، وهل هناك الهة أخرى تخلق عوالم وهي مستقلة عن الهنا ؟ :- اما ما جاء في الصفحة (101) السطر ما قبل الأخير ويقول لايبنتز ما نصه :-

       العلة التي تحدد المبدأ المنظم للموجودات نفسها ، وبالاجمال هي (قوانين الكون)...وهنا إشارة واضحة الى وجود غير (الله) كمنظم للكون ، يعتبر الغاء لوجوده ، فمفهوم الكون يقصد به مجموعة عوالم . والقوانين المنظمة لها هي (ناتج حركة المادة لا غير) . وفي الصفحة (102) السطر – 9 – 10 فان استعمال كلمة (اعتقاد او اعتقد) من قبل لايبنتز سواء ضمن موضوع فلسفي او علمي ، بانه امر مشكوك بحقيقته ومجرد فرضية وهمية لا غير . ثم ننتقل الى الصفحة (115) الاسطر – 15 – 16 – والتي يقول بها الفيلسوف الألماني (ايمانوئيل كانت) ناقدا مفهوم (كلمة العقل) ويقول :- ان الضرورة المنطقية المحصنة اشاعت وهما جبارا الى حد جعل الناس بعد ان شكلوا معنى عاما بيئيا لاحد الأشياء ، وشكلوه على صورة جعلته يبدو كأنه الوجود في ميدانه... وأخيرا يقول :- ان الوجود ليس صفة منطقية ...

       وتعليقنا بمعنى ان الوجود صفة للغة العقل لا للغة المنطق ، لان جملة شكلوا معنى عاما بيئيا لاحد الأشياء....هنا البيئة بمعناها الجغرافي والمناخي والعقائدي ، ومنها انطلقت عبادة الطبيعة وعبادة الاسلاف . ثم الديانة السماوية (وهي ديانة عمودية) لان جميع ما سبق من الديانات أرضية افقية أصبحت معروفة و(السماوية – العمودية) غير معروفة أسبابها .

       ثم ننتقل الى الفصل الثالث – فقرة التمهيد صحيفة (123) الاسطر من (8 – 10) . وتقول :- ان ما ذهب اليه كل من ديكارت ولايبنتز حول (دليل الحدوث) :- يعني ان هناك تصور ساذج لكلاهما عندما تعجز لغتهم العقلية من تحديد زمن الصفر ومفهوم (العلة الأولى) (علة العلل) . ولا يقران بهذه السذاجة . وكأن الله هو الذي خلق مسرحية – علة العلل – للاستقرار الذهني الشخصي فقط . دون ان يعرف ان الانسان هو الذي أيضا يقول ذلك عقليا ، ولا يقبل ان لغة المنطق قد حسمت ذلك منذ زمن بعيد.

       وان كلمة (الله تعالى) تعني الوعي والادراك لذاته لما حوله من القضايا المادية الملموسة وغير الملموسة فقط . وهذا هو الوجود القاطع . ثم نأتي الى فقرة دليل الحدوث عند ديكارت ومعها علة الذات الإنسانية المفكرة... وتعليقنا على ما ورد في الاسطر – 6 – 16 – 17 – وتقول :- ان مفهوم الزمان مرتبط بوعي وادراك الانسان ، فلا وجود لهذه الكلمة دون وجود الانسان . اذن . الزمان مرادف لذات الانسان .        

       فاذا انقرض هذا الكائن ، فلن يبقى هناك من يتحسس أي شيء موجود . والانسان أيضا هو يمثل المكان النسبي (الحيز له) والمتواصل معا . اما تعليقنا على ما جاء في السطرين الأخيرين ونقول:- لماذا يستعمل ديكارت جزء من الحقيقة العلمية البيولوجية (الحياتية) والتي تنص على (النمو والتحول والارتقاء) وهذه صفة كل الاحياء ويمكن ربطها بمفهوم (الخلق المستمر) أي التكوين الذاتي ، والارتقاء هو ليس الكمال بل اخر التسلق او الصعود في سلم الحياة لتبدأ دورة الهبوط ، وثم التجدد كدورة ثانية لجوهر المادة (المانادولوجية) (الجوهر) . والانسان بالذات اعلى اشكال الارتقاء في هذا الكون .

       وهناك مقولة للفيلسوف الاغريقي (ارسطو طاليس) حينما يقول :- (كل شيء في الكون هو صور للمادة وبشكل متغير) . فهل تمكن فلاسفة المثالية من دحض هذه المقولة كنظرية وتطبيق حي لها ؟

       وفي الصفحة (128) السطر – 5 – 6- اذ يقول ديكارت :- (اذن الانسان ليس خالق نفسه ، كما ان الانسان خلق من العدم او من لا شيء) ؟؟

       والسؤال هنا :- هل العلم يخضع لمقاييس فيزيائية او رياضية ؟ ولكن الوجود شيء ضمن تلك المقاييس ، فلا وجود لشيء خارج هذا المنطق العلمي ، وفي الصفحة (129) فقرة – ب – فكرة الزمان – الاسطر 3 – 4 – فهنا يضطر ديكارت وبعد جهد جهيد ، وكما يقول المثل (فسر الماء بالماء) ويعترف ضمنا بان الزمان ناتج من ادراك الانسان لذاته ولما حوله من الماديات اذ يقول :- (فالمونادات لا تحتاج الى تجديد توافقها بين لحظة وأخرى ... ويعود ويقول فالمونادات خلقت منذ الازل بحيث تسير كل واحدة موازية مع الأخرى) ..

       وتعليقنا على ذلك هو :- وهنا يريد لايبنتز ان يقلب المفهوم العلمي لوحدة المادة وحركتها الموازية ، وبين (ان المادة لا تفنى ولا تستحدث) فلماذا هذا التشويه في المفاهيم ؟

       ان ما جاء في متن الصفحات من (150 – 153) حول علاقة الروح بالجسد :- فنرى ان الموضوع قد شغل فكر كل من ديكارت ولايبنتز واختلفا في علاقتهما معا . اذ يقول ديكارت :- وان علاقة النفس بالجسد علاقة جزئية ، ولم يحسم الامر فيما اذا كان المخ او أي جزء منه ذات تأثير على النفس (الروح) .

       اما لايبنتز فيقول :- بان هناك تناسق بين الاثنين ، وكل واحد منهما متميز عن الاخر ، فالنفس تتميز بفاعلية روحية ، أي غير مادية بسيطة .

       اما الجسد فانه مادي مركب (أي بمعنى ليس من عنصر فيزيائي واحد) . لان كلمة (مركب) تعني التعدد في المكونات المادية ، وبأي حالة تكون – صلبة – سائلة – غازية – مُتئنة – ولكن لو جئنا بأي ذرة من ذرات المادة ودرسنا مكوناتها وخصائصها الفيزيائية . فسنرى ان هناك الغلاف ثم النوات ثم الالكترونات والبروتونات التي تدور حولها .     

       وفي النوات مكونات فيزيائية أخرى وكذلك في الالكترونات وبخصائص أيضا ، والكل يتحرك داخل الغلاف دون ان ينفصل بحركته عن الجزء الثاني (الطرد المركزي) أولا . وبدون ان يخرج من الغلاف ثانية . الا في حالة واحدة طارئة ، عندما تتعرض الذرة ككل الى عوامل خارج تماسكها أي (فلقها) ففي هذه الحالة لا تبقى لأي ميزة لأي مكون من مكوناتها بشكل منفصل ، مع العلم ان لكل من النفس (الروح) والجسد قوانينهما الخاصة بهما وتعمل بشكل مستقل .

       والكرة الأرضية أو أي جرم سماوي ، وما في داخلها . وخارجها خير دليل على التماسك المادي وضمن قوانين فيزيائية معلومة . ويؤكد الباحثان بان وحدتهما ناتجة عن عوامل مختلفة ، فالأول يقول – بتأثير المخ او أجزاء منه ، والثاني يقول بتوافق مسبق...وكأن ان هناك شراكة بين اثنين لغاية خاصة بهما فقط . وفي حين ان كلاهما يؤكدان بوجود حركة لكل جزء من المادة وفق قوانين طبيعية ، بمعنى ان مفهوم (الروح) هنا تمثل الحركة لأجزاء المادة ....

       والجسد هو المادة بمكوناتها الفيزيائية بذاتها ، وكلاهما يؤكدان ان الجسد مادة لا غير ، ولابد ان نقول :- ان كل من ديكارت ولايبنتز لم يتمكنا من التخلص من تأثير لغة العقل (المنهج المثالي) وكذلك من لغة المنطق (المنهج المادي) وسبب ذلك ناتج من تأثير البيئة الدينية والمذهبية النامي في شخصيتهما منذ الطفولة . ولم يتمكنا من التخلص منها . لأنها عامل مؤسس لشخصية كل منهما ومكون رئيسي لها . الى جانب العامل الاجتماعي والجغرافي المتفاعل في شخصيتهما .

       والعوامل الثلاث لها التأثير المباشر في بناء شخصية أي انسان ومن الصعب التخلص منهما مهما بلغ الفرد من كسب المعرفة العلمية وان تقاطعت معها . ثم نأتي الى الصفحة (158) سطر 3 – 4 والذي جاء بهما :- ومن الصفات التي ذكرها ديكارت عن الله تعالى ، صفة (الصدق الإلهي) . وان الله صادق ولا يكذب ولا يخدع...انه يبرر لاحقا أسباب الصدق وأسباب الكذب . الا انه كفيلسوف لا يجوز له ان يذكر هاتين الكلمتين عن الله تعالى (المعصوم عن كل خطأ) . وانما يدل وكأنه يدافع عن الضعف الثابت في شخصيته كانسان والذي يكون صادقا مع نفسه نسبيا وكاذبا مع غيره نسبيا ، أي وفق ما تحقق مصلحته الذاتية فقط .

       وننتقل الى الصفحة (159) الاسطر 9 الى 12 والذي يقول فيها :-فالله تعالى هو الموجود الذي لا يفتقر الى غير ذاته كلي يوجد...ثم يواصل الكلام وحتى نهاية الاسطر بـ(قد يكون في تفسير قولنا) (غير مفتقر الا الى ذاته) . وهنا الغموض واضح...فقد جاءت هذه العبارات وكأنها اقوال لتزكية شخص غير معروف وجوده الحقيقي وانه بحاجة الى هذه التزكية . وان تعبير لا يرتقي الى ابسط مفاهيم للغة العقل لتقييم كائن ذو كمال (الغير مفتقر لذاته) وكأنها مقارنة مع الانسان الناقص الكمال ويجب تزكيته . وفي ختام الصفحة (117)...وفي السطر الثالث حتى نهاية الخامس :- هناك الغاء غير متعمد لكل ما قدماه الفيلسوفان من ادلة وجود (الله تعالى) منذ الصفحة الأولى للكتاب حتى اخره حينما تقول الخاتمة في وسط السطر الثالث ما نصه :- والانسان لم يتوصل الى ادراك وجوده عند بدء الخليقة وذلك لمحدودية وعيه ولكن بالرغم من عدم ادراكه للوجود الإلهي . الا انه التفت الى الله تعالى...

       والاطروحة معبأة بعبارات مكررة ومملة . وكأن الغاية منها ان تقنع صاحبها يتخلص من الصراع الذي في داخله ، وهو بين الشك واليقين (أي بين فكي رحا حجرية) تدور بدون ارادتها كلما دارت الحجرتين ولا تقدر ان تخرج من المأزق .

       وهذا كان ولا زال ديدن جميع فلاسفة اوربا والذين ظهروا بعد النهضة العلمية والتقدم الذي حصل في الطفرة البيولوجية في دماغ الانسان ، وبدأ ينتزع الفكر المعتمد على التأمل (العقل الباطني) والذي كان منذ نشأته غير قادر (أي الانسان) ان يتحرر من التأثيرات المباشرة للبيئة .

       واضطر للخضوع لها وعبد اصنافا من الظواهر الطبيعية وفي مقدمتها الطوطمية . ولازال هذا المنهج الفكري البدائي قائما في بعض مجاهل افريقيا وحوض نهر الأمازون في أمريكا الجنوبية . وفي بعض من جزر الاوقيانوس – جنوب شرق اسيا وشرق استراليا – وثم عبد الاسلاف ، أي النماذج البشرية المتميزة في القوى والذكاء الفكري وذو مركزية اجتماعية صارمة من بعد مرحلة المشاغبة البدائية...وتناقلتها الأجيال بصيغتها القديمة مع إضافة او حذف بعض من اجزائها لتتماشى مع واقع الفكر الإنساني ، واصبح كل ما حوله من الأشياء المادية والمعنوية معروفة مكوناتها ومدى تأثيرها على الانسان . ورغم ذلك فان تأثيرها لا زال قائما كما ذكرنا أعلاه . وان عبادة (الله) جاءت لعدم قدرة انسان ما بعد تلك المرحلة معرفة ما فوق (أي السماوات) .

       فخضع لعبادة الغيبيات لوجود الهين لا اله واحدة ولا زلنا نحن نقول وتؤمن بذلك .

1- بان الله يسكن في السماوات (وبتسمية اله السماوات والأرض) (اله الخير) .

2- وهناك اله العالم السفلي والذي نعبر عنه باله الشر (الابليس او الشيطان) . كما تسميه الديانات الثلاث – اليهودية والمسيحية والإسلام .

       وان هذا التفسير وكاثر فكري ، ليس الا الامتداد الطبيعي للأساطير الرافدينية منذ عصر سومر واكد وبابل . والذي جاء فيها بان (اله مردوخ كبير الالهة السبع) في قصة الخلق . نازل الالهة (تيامات) الهة المياه المالحة والابسو (العذبة) وقضى عليها بشقها الى نصفين ، ورفع النصف الأول الى الأعلى وتكون منها السماوات والثاني جعله الأرض التي نعيش فيها .

       وأخيرا لابد ان نقول :-

وان اختلفت مع ما جاء في متن الاطروحة الا انني اعتبرها طفرة فكرية ونوعية لدى الأستاذة كرستينا . فاذا زال الخلاف في الحياة العامة والخاصة . توقف الاجتهاد والسعي (أي التطور) . وسلم الحياة خير برهان على ذلك (النمو – التحول – الارتقاء) .

       أتمنى لكِ التواصل المطرد في منهجكِ العلمي والتقدم نحو أطروحة الدكتورا والاستاذية . وانتِ احد رموز المرأة الساعية للارتواء من نهر المعرفة بدون توقف . والف مبروك

المصدر :

1- كتاب ادلة وجود الله بين ديكارت ولايبنتز – كرستينا قيس هادي حيدو / 2014. 

(*) الموناد : او المنادولوجية = جوهر الشيء او كنهه

اتنتقل الى الصفحة الثانية

 

 


 

  بحث تاريخي

ثالثا - الرابطة الجدلية والتاريخية بين الحضارات القديمة وما بعدها

       يقول الأستاذ عباس عباس في مقدمة كتابه (موسوعة حضارات) . بان كلمة الحضارة مشتقة من الحضر .

       بينما علماء التاريخ الغربيون لم يميزوا بين الحضارة والمدنية وكما جاء ذلك في كتاب (قصة الحضارة ، للعالم الاجتماعي.. وول ديورانت) .

       والمقصود بالحضارة كما نعتقد ، هي تجمع بشري في عمق التاريخ ضمن بقعة جغرافية معينة ومن سلالة وجنس محدد ، تمكن من بناء نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي وعقيدة او مجموعة عقائد دينية مختلفة مع لغة التداول .

       وغالبا ما يتحول سلوكهم الاجتماعي الى – عادات وتقاليد واعراف – وثم الى مستوى التقديس والعبادة واعتبروها ارثا لهم لا يشاركهم فيها أي مكون بشري اخر وتعتبر روابط حية دائمة التجدد وحسب حاجة المجتمع وميزة العصر .

       ومن هذا المنطلق وعبر التاريخ تنوعت العقائد الدينية ومنها ذات صفة رمزية كالطوطمية او عبادة الطبيعة  - وعبادة الاسلاف ولا زالت قائمة لدى الكثير من المجتمعات البشرية بهذا الشكل وبأخر .

       ولكون غالبية الحضارات القديمة تمتعت بالاستقلالية الفكرية والجغرافية ، مما أدى بها الى النظر الى بني قومها بخصوصية الانتماء الى سلالة وجنس بشري قائم بحد ذاته . تتميز عن بعضها عقليا واجتماعيا وعقائديا ، وان هذه الأفضلية في بعض السلالات القديمة جاءت نتيجة اول دراسة معمقة للتقاليد والأعراف واللغات ، والتي قام بها المؤرخ والعالم الاجتماعي الاغريقي – اليوناني – (هيردوتس = 485 – 425 ق.م) والذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ويعتبر اول باحث في علم السلالات البشرية تاريخيا أي (الانثروبولوجيا) علاوة على تمكنه من دراسة تقاليد والملامح الجسمية لحوالي خمسين شعبا غير الاوربية . ويعتبر هذا العالم من العهد الاغريقي ومن كبار علمائها وفلاسفتها .

       وهناك تزامن وتداخل عصره مع اشهر فلاسفة أثِنا الكبار ومنهم سقراط وزينون وغيرهم ، والذين اهتموا بفلسفة المنطق ، علاوة على ظهور مجموعة أخرى من الفلاسفة في اثِنا خاصة .

       وسموا بالرواقين الذين كانوا يقضون ساعات وايام في الجدال حول تفسير ظواهر الطبيعة وكيف ومتى ولماذا الانسان وغيره خلق ؟ وقد انفرد اليونانيون بالفلسفة وتعدد مذاهبها . وهنا تكمن الرابطة الجدلية والتاريخية في ظهور الحضارة وضمن نفس الفترة ظهرت مجموعة أخرى سموا بالسفسطائيين أي كثيرو الجدل للبحث عن الحقيقة ، ولم يكن لدى المصريين والبابليين أي تفكير فلسفي كما يقول العالم الكبير (برنيت) في مقدمة كتابه (فجر الفلسفة اليونانية) . واقتصرت الفلسفة في الشرق لدى الهنود فقط وخاصة في الديانة البرهمية ، وتعتبر تعاليمهم الدينية الاقدم موثقة على وجه الأرض (الفيدالوجيا) منسوبة الى (فيديا) . وان اهم المناطق التاريخية لظهور الحضارات هي الواقعة جغرافيا ضمن إقليم الشرق الأوسط ولأسباب عديدة ومنها .

1- وجود احواض لانهار عظيمة وذات تربة خصبة .

2- ظهور واحات كمراعي زراعية .

3- اعتدال مناخها ضمن الأربعة فصول . وكانت درجة الحرارة شتاءً تصل في اقصى مناطقها الى (10)ْ تحت الصفر، وفي فصل الصيف الى (50)ْ مئوية .

       واهم هذه المناطق الجغرافية التي تدخل ضمن الجدول أعلاه لحضارات وليس دولا .

1- حضارة وادي الرافدين وتشمل – العراق – سوريا – وجزء من تركيا الحالية وحددوا أرمينيا – جبال ارارات منبع دجلة والفرات 3200 – 2900 ق.م.

2- حضارة وادي النيل وتشمل ، مصر – سودان – ليبيا وظهور عدة فراعنة من اصل ليبي – 3100 ق.م .

3- حضارة وادي السند – الهند – باكستان – بنكلاديش 2500 ق.م.

4- حضارة الصين – ضمن وديان انهارها الثلاثة – النهر الأصفر – هوانج – النهر الأزرق – يانغ تشي كانغ – والنهر الجنوبي – سي كيانغ – 3000 ق.م .

5- الحضارة الإيرانية 3900 ق.م .

وجميعها تقع ضمن قارتي اسيا وافريقيا وضمن المنطقة الجغرافية ذات المناخ المعتدل.

6- الحضارة الرومانية :- وهي المنطقة ضمن الاعتدال المناخي وامتداد الشرق الأوسط ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط من القارة الاوربية .

7- وهناك حضارتين ظهرتا في العالم الجديد (الامريكيتين) وهما (حضارة مايا وحضارة انكا) وموقعهما التاريخي – بيرو في أمريكا الجنوبية ومكسيك أمريكا الشمالية . وتعتبر هاتان الحضارتان رديفتان للحضارة المصرية الفرعونية ، ولها اهرامات على شكل زقورات .

       وهي كل ما بقي من معالمها الحضارية – الاجتماعية والدينية – فقد ازالها المبشرون الاوربيون في أواسط القرن السادس عشر .

       وهل التاريخ أعاد نفسه حينما حاول الطالبانيون القضاء على جميع المعالم الحضارية للديانة البوذية التي كانت منتشرة في أفغانستان قبل المسيحية . وفجروا تمثال صخري لنبيها بوذا في جبال (طورا بورا) .

       وكان ارتفاعه (56) م . وفي الحالتين تعتبر ظاهرة عدوانية شريرة لدى الانسان المتحضر كما يقول العالم الاجتماعي – فروم - .

تاريخ ظهور الحضارات

       من المعلوم ان العصر الحجري الوسيط كان بداية لظهور الحضارات البشرية في كوكبنا قبل ان يكتشف الانسان المعادن ويستخدمها . وان بداية العصر المذكور ونهايته تختلف من موقع الى اخر . ففي اسيا وافريقيا واوربا التي تمثل قارات موحدة جغرافيا . كان العصر الحجري قد بدأ قبل حوالي (2000000) مليوني سنة (اكتشف مؤخرا في عام (2012) بقايا لأنسان تعود الى حوالي مليوني عام وذلك في صحراء الجزائر ، وتعتبر اقدم مكتشفات حضارية في شمال افريقيا (المصدر – احدى فضائيات جزائرية في تموز عام 2012) . ولكن في حوالي الالف السادس (6000ق.م) كان العصر المذكور قد انسحب من منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق اسيا .

       اما في اوربا فقد بقيت اثار العصر الحجري الى حوالي (4000ق.م) قائمة وفي بعض أجزاء من اسيا وافريقيا ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط .

       اما في أمريكا الوسطى (جنوب الولايات المتحدة وشمال أمريكا الجنوبية) . فقد بدأ العصر الحجري حال وصول الانسان الى العالم الجديد قبل حوالي (30000ق.م) وانتهى هو الاخر بحدود (6000ق.م) . ويعتبر ظهور الحضارتين أعلاه بعد التاريخ المذكور بفترة قصيرة اما في قارة استراليا . فقد وصل الانسان اليها قبل حوالي (55000) خمسة وخمسون الف سنة . ولم يتمكن الانسان فيها بناء حضارة خاصة به لبطء انسحاب العصر الجليدي نحو القطب الجنوبي .

       واذا عدنا الى الجدول المذكور لحركة العصر الحجري القديم والأخير . سنرى ان الحضارات التي ظهرت ونمت في فترة (2500) عام ق.م . والتي شملت منطقة الشرق الأوسط . هي كل من حضارة وادي الرافدين ثم وادي النيل وحضارة وادي السند كوحدة جغرافية موحدة . وفعلا فقد وجدت اول الفخاريات في منطقة الشرق الأوسط وفي أمريكا اللاتينية ، واستخدام النحاس أيضا لأول مرة في بعض مناطقها . وكان ذلك في حدود (6000ق.م) وهو العصر النهائي لانسحاب العصر الحجري القديم من هذه المنطقة .

       واذا حددنا ظهور الحضارة في وادي الرافدين الاقدم . فكان ذلك قبل (4000 عام ق.م) للحضارة السومرية ويعتبر التاريخ (2600عام ق.م) تاريخ ظهور السلالات الحاكمة ، وقد سمي هذا التاريخ بـ(فجر السلالات) و (دولة المدن) في اور – اريدو – الوركاء – ونفر – وغيرها ، ولازالت اطلالها شاخصة الى هذا اليوم وما تركته بصماتها على معابدها وقصورها من الأنظمة والقوانين وقيم اجتماعية واقتصادية ودينية وعلى مسلات حجرية ومتاحف العالم تشهد بذلك – ومنها – فرنسا – بريطانيا – المانيا – أمريكا – وغيرها .

خصائص الحضارات القديمة

       بسبب قلة وضعف وسائل الاتصالات بين التجمعات البشرية في بداية تكوينها مما أدى الى رسوخ واستقطاب التقاليد والعقائد الدينية في مجتمعاتها واصبح لكل تجمع حضاري سمة مميزة وفق المفاهيم المذكورة عن غيرها . وتوارثها الأجيال بالتعاقب وكما استقرت . فاذا تناولنا ما كان سائدا من التقاليد الاجتماعية لدى كهنة الحضارة الفرعونية ، سنرى بانهم كانوا يطلقون شعورهم عكس كهنة معابد الحضارة الرافدينية الأقرب اليها . بحلق شعورهم (الراس واللحية) . الا في حالات الوفاة ، فكانوا يطلقونها ولفترة محدودة . واعتقد ان ما هو سائد في مجتمعنا العراقي بكل مكوناته الدينية والقومية والاجتماعية هو الحداد على المتوفي من قبل ذويه وعدم حلق رؤوسهم ولحاهم لمدة سبعة أيام كحد ادنى وقسم منهم حتى الأربعين يوما بعد الوفاة . وكانت النساء لا تستحم لمدة أربعين يوما تعبيرا عن الحزن للمتوفي القريب منهم . وقد تعددت آلهة الفراعنة كرموز طوطمية بجسم انسان وراس حيوان .

       وقد اعتقد المصريون بأفضلية سلالتهم وجنسهم عن غيرهم بعد ان عبدوا الشمس كآله واحد لا شريك له . فغالبية الحضارات الأخرى بقت تتعدد الالهة في معابدها . اما الحضارة الرومانية فبسبب ما أحرزته خلال الستة قرون ما قبل الميلاد من التقدم الاجتماعي والإداري والفكري . فيقول العالم الاجتماعي (كارلوس لوكرتيوس) . ان الرومان فضلوا جنسهم كسلالة بشرية مستقلة افضل من غيرهم . واعتبروا ذلك استحقاق زمني لهم بحكم القانون . وقد ظهر هذا التميز عن غيرهم بسبب عظمة روما كعاصمة لأعظم واكبر امبراطورية على وجه الأرض ، وكانوا يعبرون عن ذلك بان روما تقع في قلب العالم وجميع الطرق تؤدي اليها .

       وقد امتدت الحضارة الرومانية ما بين 753 ق.م الى 1550م . وهي أطول فترة حضارية شهدتها البشرية .

       اما الحضارة الصينية . فهي أيضا اعتبرت الانسان الصيني من سلالة بشرية متفوقة على غيره ، لسعة أراضيه ولوجود عدة انهار عظيمة فيها ، ومنها النهر الأصفر . وانطلاقا من هذه الفكرة ، فقد قام ملوكهم ببناء سور الصين العظيم والذي يمتد الى مسافة 1500كم بدءا من الجنوب الغربي الى شمال الشرقي . وبسبب تفضيل جنسهم وارضهم على غيرهم اقاموا هذا الجدار الجبار كي لا تدنس ارضهم بأقدام الغرباء الغزاة .

       بمعنى ان الوطن مقدس لديهم ، وكانت الدول المجاورة لهم غالبا ما تتعدى عليهم وتغزو برهم .

       اما ما يخص حضارة وادي الرافدين ، فان ما تركته الاساطير والملاحم الأدبية والفكرية والدينية وقبل ظهور الكتابة ما بين 3200 – 2900 ق.م ومنها ملحمة كلكامش وقصتي الخلق والطوفان ، وظهور مجموعة آلهة تحكم الكون (مجموعة ايكيكي) . وتتحكم بالحياة على وجه الأرض وتطور الفكر الميثولوجي بتشكيل مجلس الالهة وظهور مركزية قوية بتخويل إله مردوخ صلاحيات جميع الالهة في مواجهة الاحداث الطارئة .

 بمعنى ظهور نوع من الإدارة كقيادة جماعية مركزية الاهية لتصريف شؤون البشر كمهمة أساسية بغية ان لا تتكرر حادثة الطوفان وهلاك جميع الكائنات الحية بما فيها الانسان ، ونجاة ما امر به إله – آيا – الى اتانبشتم بصنع الفلك واختيار زوجين من كل جنس كنماذج ما بعد الطوفان . وثم ندمهم على ذلك حينما احتجت الالهة – ماما – خالقة البشر من خلط دم الالهة – وي – الا – (وكان قائد قوات تيامات) بالطين الأحمر . وثم نزول الالهة السبع من كواكبهم لمأدبة انانبشتم حينما قدم القربان لهم بعد رسي الفلك على اليابسة وانتهاء الفيضان .

اما ما يخص الحضارة الإيرانية . فلكون ارضها تعتبر امتداد لإقليم الشرق الأوسط وتحديداً الشرق وادي الرافدين وشمال وادي السند وغرب البر الصيني .

وبسبب ظهور عدة مستعمرات زراعية مزدهرة فيها بحدود ما قبل الاخمينيين بـ(8000 عام ق.م) مما أدى الى اعتبار هضبة ايران احدى المواقع الجغرافية تاريخيا وذات قدم حضاري . الا انها وفي أواخر الالف الثالث وحتى الالف الثاني ق.م كانت في عزلة كبيرة وخمول في النشاط الحضاري وتعرضت الى تمزق كبير . واقتصر الامر لتطورات حضارية في بعض اجزائها الشمالية والوسطى وغربها .

ومن ابرز معالمها الحضارية القديمة هو بناء مدينة – سيالك – عام 3900 ق.م في وسط الهضبة وقرب كاشان الحالية واهم عقائدها الدينية الزرادشتية .

وما بين 1500 – 800 ق.م ظهرت عدة طوائف آرية كالميديين والفرس كبدو رحل قدموا من اسيا الوسطى واستقروا بالنسبة للميديين في غرب ايران وفي شبه الهضبة سكن الفرس ، وانتهت الحضارة الإيرانية بعد ان غزاها إسكندر المقدوني عام 334 ق.م وقد تنافست الحضارة المذكورة مع عدة حضارات والتي زامنتها وخاصة منذ الالف الثاني ق.م وخاضت حروب عديدة مع حضارة وادي الرافدين وبجميع اطوارها ، ومع الرومان وكان اخرها سقوط بابل عام 539 ق.م على يدها .

لم ترتق الحضارة الإيرانية الى المستوى الفكري والعلمي والادبي والفلسفي الى مستوى ارتقاء الحضارات المذكورة أعلاه . ويعزى ذلك الى كثرة انشغال قادتها في حروب خارجية ونزاعات داخلية وحتى يوما هذا .

اما اذا انتقلنا الى ما هو سائد في عقائد وتقاليد وقيم مقدسة للحضارات التي تلتها والتي قامت على أسس ديانات سماوية ومنها – الديانة اليهودية – فانه معلوم لدى جميع باقي الأديان الأخرى ، بان الله حب شعب إسرائيل ليخرجه من مصر ومن ظلم الفراعنة فاختاره وسمي بـ (شعب الله المختار) فان في هذه التسمية والمحابات للإنسان اليهودي كجنس له خصوصية لدى الخالق عن غيرهم . انما جاء هذا التقييم من ربهم والالهم – يهوه – تفضيلا لهم عن باقي الاقوام بعبادة الاله الواحد وحسب الاسبقية . ولا يمكن فصل الديانة اليهودية عن شعب إسرائيل من سلالة يعقوب . وان الله حباهم بإعطائه القوانين العشرة الى نبيهم (موسى) حينما كلمه في طورسناء . كما لابد ان نشير بان للأديان أيضا ومنذ نشأتها لها دور تاريخي ببناء الحضارات الإنسانية القديمة وما بعدها كرابطة جدلية مستديمة بينها من عمق التاريخ . فان السيد المسيح تقيما لتعاليمه ورفع شأن اتباعه حينما أوصى المؤمنين بان لا يتركوا عقيدتهم تحت اقدام الخنازير . فهذا نوع من التفضيل لبني قومه عن باقي الاقوام . والمقصود بالخنازير فهم الاقوام الغلاة الذين لا يؤمنون برسالته السماوية السمحاء وبغيرها .

وان جميع الأديان السماوية – اليهودية – المسيحية – الإسلام – صاحبة الحضارة ، لأنها امنت بالله واحد خالق الكون كقاسم مشترك بينها .

اما ما جاء في الديانة الإسلامية مقارنة بما سبق للتمييز بالعقيدة الجديدة حينما اعتبر الإسلام (كأمة واحدة) أي سلالة بشرية بغير المواصفات السابقة للحضارات القديمة وانها....(خبر امه أخرجت للناس) ويقصد بها الجنس العربي فقط والآية تقول (فانزلناه قرانا عربيا لعلكم) ...

فان مفهوم الأفضلية والتمايز بين سلالة او جنس ذات حضارة عبر التاريخ هو ضخ قيمة معنوية وبأسلوب يشد من عزيمة هذه السلالات والاقوام بالاستمرار بالدفاع عن معتقداتها وقيمها وعاداتها القائمة تاريخيا ومن دونها لا يمكن بناء أجزاء من اية حضارة كانت ولكن لم ينتهي الامر بظهور حضارات ذات منشأ سلالة ، او جنس بشري له مقدسات وقيم تاريخية وحضارية كما جاء سابقا .

فان الفكر السياسي الحديث انطلاقا من العلوم الاجتماعية السائدة بان الانسان فردا وجماعة يسعى الى تفضيل جنسه ، لابل زمانه ومكانه (عصره) عن غيره .

وهذا ما افرزته الحضارة الحديثة في اوربا وتأثيرها على مفهوم السلم والحرب في العالم .

وخير دليل على ذلك ما شهدته الكثير من الحروب بين الأمم سابقا عبر التاريخ ولاحقا ، وأخيرا الحرب العالمية الثانية واسبابها المعلنة على لسان بعض قادتها ، ومنهم الزعيم الألماني (ادولف هتلر) حينما اعلن عام 1939 بانتهاء عصر جميع (الأمم) وجاء عصر (العنصر الجرماني كجنس بشري) ليحكم البشرية ، وصنفها الى درجات متفاوتة وان هذا التفضيل لم يكن بسبب ما جاء في الحضارة القديمة بأفضلية جنس او سلالة على غيرها كما جاء في الحضارة الرومانية والصينية وفي رسالة – موسى – باعتبار الله امر بان شعب إسرائيل جنس بشري مؤهل عقائديا ، بل بسبب بعض التطرف لدى بعض الاقوام المتعصبة عبر حركات وأحزاب سياسية قادت البشرية الى حروب مدمرة مما أدى الى هلاك الملايين من الأبرياء والعزل ، ولا زالت الحروب والنزاعات قائمة هنا وهناك بسبب التطرف العنصري ولأسباب دينية او مذهبية والحرب العراقية الإيرانية في القرن الماضي 1980 – 1988 – خير دليل على ذلك والتي دامت ثمان سنوات كأطول حرب في العصر الحديث وغيرها .

المصادر :

1- موسوعة حضارات – عباس عباس .

2- قضية الأديان – سليمان مظهر .

3- المعتقدات الدينية في بلابل – رينية لابات .

4- فلاسفة يونانيون من طاليس الى سقراط – د.جعفر ال ياسين .

 

بحث تاريخي

رابعا - العراق موطن الشرائع والمدارس القديمة تاريخيا

1- المقدمة :

       اذا كان هجر الانسان للقمم والكهوف والمغاور الجبلية قبل اكثر من واحد ونصف مليون سنة لغالبية المناطق الجغرافية التي ظهر فيها . وبدء نشوء القرية الزراعية بعد مرحلة الصيد ، ثم ظهور المقاطع الصوتية ولغة الإشارة الرمزية . فكان ذلك بدء التطور البيولوجي لدماغ الانسان ، وتدرج حياته عبر الاف السنين وصولا الى ظهور مجتمع بشري ضمن بقعة جغرافية معينة وفق عادات واعراف وقيم اجتماعية واقتصادية وإدارية . فكانت بمثابة أولى المصادر المعتمدة في تنظيم الحياة اليومية كعلاقة الفرد بالأسرة وعلاقة الامم مع بعضها وفق ضوابط وقوانين لمجموعة أجيال ، وما يطرأ عليها من الزيادة المستحدثة وحسب توسع المجتمع ونموه وتطوره من الناحية الإدارية والاقتصادية والاجتماعية .

       ومن هذا المنطلق لابد ان يبدأ الانسان بتوثيق هذه الضوابط والقوانين كمبادئ أساسية واهمية الاحتفاظ بها موثقة بغية تعميمها ليسهل الالتزام بها في مجالات الحياة كافة .

2- ظهور الكتابة...والحضارة :

       واذا كانت العوامل المناخية وطبيعة الأقاليم الجغرافية (طوبغرافيتها) قد ساعدت على ظهور بعض الحضارات وبخصائص اجتماعية وعقائدية معينة ، فكان ذلك ما بين 8000 – 6000ق.م بعد انسحاب العصر الجليدي نحو القطب الشمالي بالنسبة لنصف الكرة الشمالي .

       فان وادي الرافدين هو تلك البقعة الجغرافية والمناخية التاريخية التي ظهرت فيه عدة حضارات بدءا بالحضارة السومرية ، ولابد ان نشير الى ما ورد في مقدمة كتاب (المعتقدات الدينية في وادي الرافدين – لرينيه لابات) ترجمة الاب البير ابونا و د. وليد الجادر ص10 . والذي يقول ... (ففي ما بين النهرين القديمة هذه ، كانت الحضارة قد بدأت منذ عهد مبكر . وعلينا ان نرقى الى اكثر من 4000سنة قبل تاريخنا بما نستطيع من الان ان نسميه ثقافة) . ففي نهاية الالف الرابع ق.م لأول مرة في التاريخ البشرية اجتيزت المرحلة الرئيسية لاستنباط الكتابة...وقد استنبطها في جنوب البلاد شعب يدعو نفسه بالسومرية . مما أدى لظهور مجموعة قوانين وأنظمة منسقة وذات مواد تحدد علاقة الفرد بالمجتمع وبنظام الحكم القائم .

       واذا كانت الفترة 2600 ق.م (فجر السلالات) ، وتعتبر فترة ظهور دولة المدن في جنوب العراق الحالي ومنها ، اور واريدو ونفر بابل وغيرها . فان فتر ظهور سرجون الاكدي مؤسس السلالة السرجونية والتي حكمت في جنوب العراق ما بين 2350 – 2159 ق.م وحكمه كان من عام 2334 – 2279 ق.م بداية ظهور اول امبراطورية موحدة المدن وشملت وادي الرافدين وامتدت جنوبا حتى دلمون (*) وشمالا البحر الأبيض المتوسط . وكانت مدة حكمه (56) عاما وهي فترة بناء أوسع امبراطورية الانسان عبر التاريخ .

3- ظهور الشرائع والمدارس :

       وبعد حكم سرجون الاكدي بعدة عقود ظهرت في جنوب ووسط العراق أولى الشرائع والقوانين فيها :-

1- شريعة اورنمو 2111 – 2013 ق.م : وهو الملك اورنمو مؤسس سلالة اور الثالثة وتعتبر اقدم شريعة عرفها الانسان ويعتقد علماء التاريخ بوجود شرائع أخرى اقدم منها في العراق . الا انه لم يعثر على أي نص لها الى هذا اليوم . لان بوادر ظهور الحضارة في العراق القديم اقدم من التاريخ أعلاه بكثير . وتتكون هذه الشريعة من (31) مادة .

2- قانون لبت عشتار : وهو الملك الخامس من سلالة (ايسن) والذي حكم من عام 1934 – 1924 ق.م ويشمل هذا القانون على 37 مادة .

3- في عام 1949 – 1950 م عثر الآثاري M. Civil  (م. سيفيل) من البعثة الامريكية على رقيم طيني في مدينة (نفر) يحتوي على (ستة مواد) تختلف نصوصها عن ما في شريعة لبت عشتار ، ولم يحدد مشرعها وتاريخها .

4- قانون اشنونا : صدر هذا القانون في مدينة اشنونا الواقعة اطلالها قرب بغداد الجديدة وتسمى (تل اسمر) ويعتقد ان هذا القانون صدر ضمن فترة القرن السادس عشر او السابع عشر ق.م وينسب صدوره الى سلالة صغيرة دام حكمها ما بين 1792 – 1750 ق.م .

5- شريعة حمورابي : تعتبر شريعة جامعة لاحتوائها الى اكثر من 283 مادة قانونية وقام بسنها الملك البابلي حمورابي والذي دام  حكمه ما بين 1792 – 1750 ق.م .

6- القوانين البابلية الحديثة : وقد ظهرت هذه القوانين ضمن الفترة الممتدة بين 620 – 500 ق.م بعضمها كشرائع مدونة وأخرى كعقود ومستندات قانونية ، وقد تنسب الى عهد الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني 605 – 562 ق.م .

7- شريعة نيصابة وهاني : وهي الشريعة التي كانت تتحكم بمسالة الزواج في عهد سومر قبل التوحيد البابلي .

       ان ظهور هذه المجموعات السبعة من الشرائع القديمة على شكل رقم طينية او مسلات حجرية وفي مواقع جغرافية مختلفة وضمن تواريخ متفاوتة وفي بقعة جغرافية محددة ، تمتد من مدينة (اور) جنوب غرب العراق حتى مدينة بابل في وسطه انتهاء بمنطقة حوض ديالى شرق مدينة بغداد .

       انها حقا شرائع وقوانين سنت في ارض العراق ومن قبل الانسان الذي عاش ضمن التواريخ الواردة فيها ، دون ان تكون هناك جهة بشرية خارج المنطقة قريبة او بعيدة عنها ولها دور بذلك .

       ولهذا كان لابد ان تنهض حضارة العراق القديم بمهمات جديدة وتنتقل من مرحلة تنظيم الحياة وفق شرائع وقوانين الى مرحلة فتح مدارس ارتقاء الى استحقاق زمني جديد لإيصال المعرفة الاجتماعية والاقتصادية والدينية الى أوسع قطاعات وشرائح المجتمع العراقي وعدم حصرها بيد الملوك والكهنة فلابد من ظهور أولى نواة المدرسة ومنها :-

1- مدرسة مدينة سبار (Sippar) وتقع اطلالها غرب مدينة المحمودية وجنوب بغداد بـ (30كم) .

       وتم تشييدها في عهد الملك حمورابي 1792 – 1950 ق.م وتعتبر اقدم مدرسة ظهرت في المجتمع البشري . وكان يدرس فيها الاحداث . وكانت الرقم الطينية الطرية الواسطة التي يدرس بها مختلف العلوم الدينية والاجتماعية وقد عثر في اطلالها عام 1881 – 1882 من قبل بعثة إنكليزية برئاسة الاثاري العراقي هرمزد رسام الموصلي على حوالي 130000 الف لوح وموجودة في متحف لندن.

2- وقد عثر الأثريون ضمن نفس  الفترة في اطلال مدينة بابل على بقايا مدرسة ومن عهد نفس الملك حمورابي . وكانت تستخدم الواح الاجر التي كان الطلبة من الجنسين يكتبون عليها الدروس الدينية وغيرها .

       وغالبية هذه الرقم الطينية محفوظة في متاحف العالم الغربي وخاصة في باريس ولندن ونيويورك .

3- مدرسة مدينة نفر(Nippur) وتقع جنوب بغداد بـ (100 ميل) وكانت مركز ثقافي وروحي لسومر واكد .

       وقد تم التنقيب عليها في عام 1883 من قبل بعثة أمريكية برئاسة الآثاري (J. PETERS) .  

4- مدرسة برسببا (برس نمرود) (BORSIPPA) وتقع جنوب غرب الحلة . وعلى بعد ما بين 12 – 16كم عن بابل ، وقد اختلف العلماء بتحديد موقعها وسميت تاريخيا بـ (برج نمرود) . الا ان العرب بعد الفتح الإسلامي سماها (برس نمرود) . وجاء ذكرها في كتاب كلدو اشور لأدي شير كمركز لجميع العلوم الدينية .

5- مدرسة اورك (الوركاء) : وهي من المدن المقدسة عند البابليين . وجاء اسمها في كتاب التورات (أرك) .

       وتقع اطلالها على بعد ما بين (40 – 54 ميلا) شمال غرب مدينة الناصرية . وورد في ملحمة كلكامش كبطلها الأسطوري واحد ملوكها القدماء . ويعتقد العلماء ان فترة حكمه كانت بحدود (سنة 2550ق.م) وتؤكد التنقيبات بان هذه المدينة كان قد سكنها قوم (اهل الصرائف) بحدود (4000ق.م) وفي عام 1854م عثر المنقب لوفتس (LOFTUS) على بقايا وخرائب هيكل فيها يعود للآلهة انيني أي (عشتار) آلهة الحب . ويعود تاريخ هذا الهيكل الى عام(2400ق.م) . وكان يوجد الى جانب الهيكل مدرسة للكهنة ومركز للعلوم الدينية .

(*) البحرين الحالية في الخليج

 

4- الفترة المظلمة من تاريخ العراق الحضاري القديم :

       منذ سقوط الدولة الكلدانية عام 539 ق.م على يد الدولة الفارسية ، ودخول ملكها كورش مدينة بابل عام 538 ق.م وبسبب خيانة قائدها غوبارا ، لم تظهر اية مدرسة ذات تخصص ديني او علمي حتى دخول إسكندر المقدوني الى المنطقة عام 331 ق.م . واتخذ بابل عاصمة له . الا ان عجالة موته وتقسيم مملكته عام 311 ق.م بين قواده الثلاث ومنهم (سلوقس نقطور) المتوفي سنة 282ق.م .

       ففي زمن اليونانيين الذين اهتموا بنشر لغتهم في اطراف العراق ، فازدهرت أيام السلوقيين ، فأقاموا في غالبية المدن الكبرى مدارس ومعاهد ومسارح يونانية .

       وظهر في مدارسهم علماء عراقيين واشهرهم (ديوجين البابلي) والكاهن البابلي (برحوشا)(*) الذي ترجم مؤلفات البابليين عن الفلك والتنجيم الى اللغة اليونانية . ووثق تاريخ بابل بثلاثة أجزاء وترجمت الى اللغة المذكورة ، وكان ذلك عام (200ق.م) .

5- العراق بعد القرن الأول الميلادي :

       بعد دخول الديانة  المسيحية الى العراق بعد القرن الأول منه ، ظهر العديد من المدارس وامتد ذلك حتى بعد الفتح الإسلامي عام 636م . حيث كانت اللغة الآرامية والتي ظهرت في ربوع وادي الرافدين – العراق – بلاد الشام – وبلاد فارس – وبين الأمم المجاورة لها .

       وأصبحت لغة الام في جميع الكنائس والاديرة ، واخذت على عاتقها تعليم القراءة والكتابة . وبعد القرن الرابع الميلادي اتسعت مواد التدريس وتعددت مراحلها. بدءا بالدراسة الأولية للأطفال ثم الابتدائية وامتدادا الى الثانوية فالمدارس العالية . واحتكرت الكنائس مراحل التدريس بدءا بالابتدائية وبعض المدارس الثانوية ، وتولت الاديرة بناء المدارس الثانوية ، وبقيت المدارس العالية ضمن المدن الكبرى ومنها مدينة الرها (الاورفا) ونصيبين والمدائن والاهواز . والتي اختصت أيضا بدراسة اللاهوت ، وشيدت فيها اربع كليات للمادة المذكورة .

       ومن اشهر الكنائس والاديرة التي شيدت فيها مدارس خلال القرون الثلاث الأولى لانتشار المسيحية لوادي الرافدين ، وتمكن الأثريون من اكتشاف بعضها واشهرها كنائس الحيرة والمدائن وتكريت وكنيسة ماردانيال في بابل ، وفي الآونة الأخيرة من العقد  الحالي (2010 – 2011) اكتشفت اطلال لأديرة وكنائس قرب مطار النجف تعود الى نفس الفترة أعلاه .

       ولابد ان نأتي الى ذكر اهم مدارس الاديرة المسيحية منذ القرن الأول الميلادي وما تبقى منها الى هذا اليوم واشهرها :-

1- مدرسة مار ماري الرسول المتوفي سنة (82م) في دير قني ، والذي كان يقع على بعد (90كم) جنوب بغداد قرب العزيزية شمالا ، ويسمى موقعه (تلول الدير) .

2- مدرسة دير مار عبده . وقد بنى هذا الدير الراهب العراقي (مار عبده) المعروف بعبد ايشوع القناني من اعمال مدرسة مار ماري وتلميذه واصبح اسقفا عام 384 – 393م.

3- مدرسة دير مار ميخائيل . وبني هذا الدير في منتصف القرن الرابع الميلادي . ويقع غرب مدينة الموصل على مسافة ساعة . ويذكره الحموي في معجمه بـ(دير ميخائيل) وعن الموصل بمسافة ميل واحد ومشرف على نهر دجلة .

4- مدرسة دير مار متي . والذي يقع الى شمال شرق مدينة الموصل بمسافة (80ميلا) ولازال قائما باسم دير شيخ متي . وشيد على صعدة جبل مقلوب في الربع الأخير من القرن الرابع .

5- مدرسة دير بيث عالي . شيد هذا الدير عام 595م من قبل الراهب يعقوب اللاشومي في ارض المرج قرب قرية مازي واثاره باقية خلف جبل عقرة على بعد ساعة من قرية خربة .

6- مدرسة مارفثيون . شيد هذا الدير أواسط القرن الخامس الميلادي بأطراف قرية (سونايا) والتي ادمجت بمدينة بغداد وأصبحت تسمى محلة (العتيقة) .

7- مدرسة دير كليليشوع . شيد هذا الدير في عهد الساسانيين ويقع في الجانب الغربي من بغداد ويعرف موقعه حاليا بالقرب من مقبرة الشيخ معروف الكرخي . وكان قد جدده الجاثليق طيمثياوس الأول المتوفي عام 823م .

اما اهم مدارس النصارى والتي ازدهرت وازدادت في القرن الرابع الميلادي فهي :

1- مدارس المدائن : وتقع مدينة المدائن (سلمان باك) جنوب بغداد بمسافة 30كم تقريبا وشرق دجلة .

2- مدارس كشكر : وكانت تقع قرب مدينة واسط جنوب المدائن على نهر دجلة بين بغداد والبصرة . وكان ذلك في عهد الرسول مار ماري المتوفي عام 82م .

3- مدارس الحيرة : وتقع مدينة الحيرة على مسافة ثلاثة اميال جنوب مدينة كوفة وعلى بعد (10ميل) من بابل وتسمى حاليا (ناحية الحيرة) .

4- مدارس اربل : وهي من اقدم المدن الاشورية قائمة الى اليوم وعرفت في الرقم المسمارية باسم (أربا – ايلو) أي مدينة أربعة آلهة ، ودعاها مؤرخو النصارى (اربل او حزة) وكانت عاصمة لإقليم حدياب في عهد ما ادي ضمن القرن الأول الميلادي .

5- مدارس بلد (أسكي موصل) : كانت مدينة بلد تقع على مسافة (40كم) شمال غرب مدينة الموصل على الضفة اليمنى من نهر دجلة ، دخلت المسيحية اليها في القرون الأولى الميلادية .

6- مدرسة الرستان : وتقع هذه المدرسة في مرج الموصل ضمن بساتين خضراء وزامنت هذه المدرسة دير بيث عابي المبني عام 595 م .

7- مدرسة ايث آلاها : وتقع هذه المدرسة غرب مدينة دهوك ضمن بناية دير بنفس الاسم وتم بناؤها في القرن الرابع الميلادي .

8- مدرسة حر بغلال : أسست هذه المدرسة شرق مدينة كركوك بالقرب من الزانب الصغير وعاصرت هذه المدرسة دير بيت عابي أيضا .

9- مدرسة بهبقاذ : كانت من نواحي ارمابي وشيدت ضمن القرن الخامس الميلادي .

10- مدرسة بفرابي : شيدت هذه المدرسة في قرية معلثا غرب دهوك .

11- مدرسة أوانا : أقيمت هذه المدرسة في قرية اوانا من اعمال طيرهان .

12- مدرسة نحشيروان : وتقع في قرية بنفس الاسم .

13- مدرسة رادان : قرأ في هذه المدرسة مارسبر يشوع مطران باجرمي المتوفي سنة 604م .

14- مدرسة بيث شاهاق : شيدت أواسط القرن السابع الميلادي .

15- مدارس كركوك : اشتهرت كركوك (كرخ سلوخا) بعدة مدارس في القرن السادس الميلادي ، واكبرها واعلاها شأنا المدرسة التي علم فيها الملفان دنخا في نفس القرن أعلاه .

6- مدارس اليهود في العراق :

       يقول روفائيل بابو اسحق في مستهل الفصل التاسع ص129 (مدارس اليهود) من كتابه مدارس العراق قبل الإسلام ما يلي :-

(بعد سبي بابل في حدود(577 ق.م) استقر اليهود في العراق وكان ذلك في زمن الملك الكلداني بختنصر 604 – 562ق.م) . ثم بدئوا بتشييد دور العبادة (كنيس) ومكتبة في كل منها لتعليم أبنائهم مبادئ الدين والقراءة والكتابة ، ثم اهتموا بطلب العلم واقاموا المدارس العالية والكليات الدينية .

       واشتهرت عدة مدن عراقية بالآداب العبرية والتلموذ البابلي ومنها :-

1- مدينة نهر دعة (NAHAR DAA) ومعناها بالعبرية نهر الحكمة اوغور الحكمة . وتقع قرب (عانا) وانتهت هذه المدرسة عام 259م بسبب خراب المدينة .

2- مدينة فومبدثية : معناها فم البدأة قرب الانبار وكانت قائمة الى عام 970م .

3- مدرسة او كلية سورا : SORA وكانت مدينة سورا قائمة بجوار مدينة الحلة وعلى شط النيل الذي كان يعرف بنهر سورا . وشيدت فيها جامعة عام 219م . وكان اخر مديرها الغاؤون صموئيل بن حفني المتوفي عام 1034م .  

       وقد ورد في كتاب رحلة بنيامين التطلي ص91 . بانها مدرسة في بابل عام 219م . وقد دون فيها التلموذ اليهودي ، وهي اقدم مدرسة في العراق جمعت الدراسة فيها بين الدينية والمدنية ولم تسبقها مدرسة أخرى بذلك . وكانت تسمى مدرسة - سوارا - .

المصادر :

1- الشرائع العراقية القديمة – د. فوزي رشيد .

2- المعتقدات الدينية في بلاد الرافدين – رينيه لابات .

3- تاريخ حدياب – نوري بطرس عطو .

4- مدارس العراق قبل الإسلام روفائيل بابو اسحق .

5- كلكامش د. سامي سعيد الأحمد .

6- معجم المصطلحات والاعلام في العراق القديم – حسن النجفي .

7- المعالم العمرانية والحضارية في القوش اصدار دار النشر العراقية 2001 يوسف زرا .

8- الأديان والمذاهب في العراق رشيد خيون ص142 .

(*) برحوش =  (بيروس) عاصر الملك المقدوني انطوخس 280 – 261 م

بحث تاريخي

خامسا - العلاقة الفكرية بين ميثولوجيا افريقيا وميثولوجيا وادي الرافدين

إذا كان العصر الحجري الوسيط قد ظهر على كوكبنا قبل (25000) سنة ، وبدأ بالانسحاب من منطقة الشرق الاوسط خاصة بحدود (6000) عام ق.م وله علاقة بموضوعنا هذا . فأن القارة الأفريقية والتي تقدر مساحتها بحدود (28,800,000) كم2 وتعتبر القارّة الوحيدة ذات عدّة مناطق طبيعية شاسعة ، وذات ثقافات متعددة وقديمة ، وخير دليل على ذلك أن تعدد لغات أقوامها تتعدى الألف لغة .

ولكن رغم ذلك تفتقر هذه القارّة ذات المساحة الكبيرة ، إلى أية أسطورة دينية من عمق التاريخ توحد شعوبها رغم إنتمائهم الى عدّة أصول إجتماعية وأجناس بشرية متنوعة وماهو معلوم تاريخياً ، أنَّ في القسم الشمالي الصحراوي منها ظهرت فيه حضارة ضمن وسط جغرافي يشمل عدّة دول متكونة ومنها مصر ، السودان ، وليبيا . وذلك بحدود عام (3100) ق.م . وهي الحضارة الفرعونية ، وأن هذه الحضارة نشأت في القسم الشمالي لصحراء القارّة ، وآثارها لازالت قائمة الى هذا اليوم وتعتبر من الحضارات العريقة والمميزة التي قامت في منطقة الشرق الأوسط الآسيوي والافريقي ، وتركت إرثاً حضارياً ثرياً ثقافياً وإجتماعياً وفلسفياً ، والتي أنفردت أيضاً بمفهوم نشأة الكون وثم بظاهرة الحياة وما بعد الموت (العالم الآخر).

أما القسم الجنوبي من هذه الصحراء ، فبسبب كثرة هجرة الموجات البشرية إليه ومن عدّة مناطق من داخل القارّة وأشهرها - قبائل - الهوتينتوت والبوشمين - الى القسم الجنوبي والجنوب الغربي منها.

وثم بعد فترة طويلة أستقرت في القسم الصحراوي من القارّة ، مما أدى الى ظهور وبشكل متأخر مجموعة أساطير ، ولم يتم توثيقها في حينه ، بل تناقلتها شعوبها شفاهاً وبشكل متأخر وبواسطة مجموعة من رجالها تباعاً كمحافظي التراث وسمو (Critos Presirved) وكان ذلك في بدايات القرن الثامن عشر الميلادي ، مما أدى أيضاً الى تعدد الروايات والقصص التي تتكلم عن تاريخها وأصولها الإجتماعية وإنتمائها القبلي والأحداث التي مرّت عليها . وبشكل متفاوت ومتداخل فيما بينها .

وإذا كان العصر الحجري الوسيط قد أنسحب من منطقة الشرق الأوسط وبضمنها القسم الشمالي من القارّة الأفريقية وبحدود (6000) عام ق.م كما جاء إعلاه ، فأن منطقة الصحراء الجنوبية والغربية للقارّة تبعد آلاف الكيلومترات من القسم الشمالي لها.

فلابد أن العصر الحجري المذكور قد سبق إنسحابه من هذه المنطقة بمئات من السنين ، ولكن بعد إستقرار الانسان فيها كما بينا سابقاً ومنذ القدم ، أي ضمن فترة ظهور الحضارات في القسم الشمالي فقط ، وفي آسيا ، حصراًفي وادي الرافدين ووادي السند والصين وغيرها .

فكان هذا السبب ، عدم تزامن قيام حضارة معينة وبميثولوجيا خاصّة بها والواقعة ضمن المنطقة الجنوبية أسوة بباقي الحضارات المذكورة ، وإذا تمكنا من تقديم بعض المعلومات التاريخية الأولية عن حركة الانسان الأفريقي في القسم الجنوبي من القارة وبشكل مختصر ، فلابد أن نأتي الى صلب الموضوع والذي يخص العلاقة التاريخية بين

ميثولوجيا الأفريقية وميثولوجيا وادي الرافدين وبشكل مختصر . ونقول فأن أي تجمع بشري في أية رقعة جغرافية كانت من هذا الكوكب ، وبعد إستقراره فيها ، لابد أن يبدأ ينظم حياته اليومية المباشرة أي الآنية ، والنظرة البعيدة لمستقبله .

وأن المؤثرات الطبيعية وما يتم من التداخل لترتيب بيت العائلة كما لغيرها في عدّة مواقع أخرى ، قد توصلت الى بناء نمط من الحضارة الخاصّة بها ، ولها معتقداتها وعباداتها الدينية ، وتقيم لها أيضاً طقوس ومراسيم ضمن أبنية تشغل كمعابد لها ، وأنَّ إستقرار تلك القبائل إعلاه في الصحراء الغربية الوسطى من أفريقيا . ثم توصلها الى مجموعة آراء وأفكار عن هذا الكون والانسان معاً ، ولابد لأحدهم أن يسأل نفسه لماذا جاء والى أين هو ذاهب ، وهكذا حتى ظهرت عدّة أساطير في هذه المنطقة بعبادة مجموعة آلهة تمثل المظاهر الطبيعية التي لم يتمكن الانسان فهمها وإدراكها في حياته البدائية ، كما في الحضارات السابقة ومن أهم آلهة هذه القارة والتي تجاوزت العشرات هي:-

1- إله - بومبا - Bomba - وهو الإله الذي كان في عصره الظلام يخيم على الكون. حتى ظهر - بومبا- يشكو العزلة وسوء الحالة الخاصّة به لملايين من السنين . وبسبب شعوره بألم وغثيان شديد في بطنه كما جاء في الاسطورة . أجبر على التقيؤ ، فملأ الكون بالضياء وأنتشر في كل السماء (أي بمعنى خلق الشمس) .

ثم سعل بقوّة فكان القمر وثم النجوم وأخيراً الأرض ، بمعنى أنه الإله الأكبر وخالق هذا الكون ونجومه ، (ألا يمكن المقارنة بين هذه الظاهرة - التقيؤ - ومانتج منها من  الأجرام السماوية: وبين نظرية الانفجار الكبير) Big Bank - وبين ماقام به إله بومبا والذي حصل قبل ملايين السنين كما يعتقد علماء الفلك وتكونت المجموعات الشمسية الحالية ، وبعد ذلك وفي يوم ما وهو بحالة مضطربة أي - بومبا - تقيأ أيضاً ، فكان من تقيؤه نتج تسعة أنواع من المخلوقات من البشر ، وثم بعد فترة خاصّة ، بينما كان - بومبا - جالساً على صخرة يراقب المخلوقات التسع وهي تتغير الى أشكال جميلة ، بمعنى إنها تتحول أو ترتقي أو تتطور ، وهنا أيضاً لابد من سؤال ، ألا يمكن أن نقول أن نظرية العالم الانكليزي - جارلس دارون - قبل قرون ، قد أختمر فعلاً على أرض الواقع وبنجاح تام قبل آلاف السنين على يد الإله -بومبا- وأن الخيال مايسمى بالعلمي ، ليس خيالاً بمفهوم غير علمي ، بل سبق زمني لما سيحصل ضمن برنامج الحياة بعد قرون وقرون . أي النمو والتحول والإرتقاء كما جاء في نظرية دارون ، وأن هذا الإله كان يعيش في منطقة أدغال بوشنتمو ، في كونغو الحالية في أفريقيا وتشبه الى حدٍ ما المستنقعات التي جرت فيها بحوث العالم الانكليزي المذكور في امريكا الجنوبية.

وكذلك فأن ولادة البشر حسب ماجاء في ميثولوجيا افريقيا تتطابق الى حدٍ ما قصة الخلق لوادي الرافدين التي قامت الآلهة (مامي) بذبح إله - وي-الا- وخلطت دمه بالطين الأحمر النقي ورمته في البرية وجاء الانسان منها .

الى جانب وكما تقول الميثولوجيا السومرية لوادي الرافدين ، بأن كبير الآلهة الذي خلق السماوات وثم الارض والمسمى (مردوخ) وهو أحد الآلهة السبع من المجموعة المسماة -ايكيكي- وكما أنفرد إله -بومبا- بخلق الكون والنجوم والشمس والارض .ومثل ما تعددت الآلهة في ميثولوجيا الرافدين ، وحسب توظيفها بظواهر الطبيعة ، كذلك تعددت الآلهة في ميثولوجيا افريقيا ، إذا وبعد إن أستقر -بومبا- في السماء وأجتمع بأبنائه الثلاثة اللذين وضعوا اللمسات الاخيرة في عملية صنع الكون ، فأصبح الإله الأعظم .

فكان هناك إله آخر المسمى (أولورون - Olarum) وهو المكلف بتحقيق السلام والعدالة ، ويقابله في الميثولوجيا لوادي الرافدين إله أنليل.

ولكن وكما تقول أسطورة (يوروبا - Yoruba) كان يتهرب - إله أولورون - من المسؤولية . فتسلم الإله - أوباتالا - Obatala - المهمة وسلمه - دجاجة الخلق - و المقصود (صلاحيات الخلق) وأبدع في واجبه . والى جانب هذا الإله ، فهناك آلهة الشر المسماة (أنانسي - Anansi) وأعتبرت ذات صفات حادة وموحشة قاتلة ويمكن مقارنتها بإله (أدد) إله الزوابع والرعود ) في قصة الطوفان الرافدينية .

أما الإله - أوباتالا- Obatala) والذي هو ضمن مجموعة الآلهة (أوريشاس - Orishas) ولعدم قيامه بواجبه في خلق الارض تقدم شقيقه الأصغر (اودودوا Oduduwa) والذي قام بخلق الارض بواسطة شده سلسلة حديدية حول حافة السماء من الأسفل ، ورمى بكتلة الوحل الى البحر ومن ثم قامت الدجاجة بصقلها بأصابعها الخمسة ، وتكون منها شكل الأرض الحالية ولابد أن نشير الى تكرر خلق الأرض بسبب كثرة الأساطير وثم ظهر الإله الخامس (أوريشاس ، Orishas) وهو ضمن مجموعة من الأرواح الحارسة والعاملة بؤمرة الإله (أولورون Olorun) . وأخيراً ، وكما تتحدث الاسطورة ، ولكي يظهر الإله الأقوى ، فقد أستشارت جميع الآلهة الكاهن المسمى (أورنيملا) ولم تحصل على الجواب المرضي منه ، فما كان من الإله (أولورون Olorun) إلا قبول إعتذارهم له ، وجعلهم في أمرته مطيعين الى الأبد .

وأصبح هذا الإله الأعظم في السماء ، وهذا فعلاً ينطبق لما حصل في ميثولوجيا الرافدين عندما خولت جميع الآلهة الستة الإله السابع (مردوخ) صلاحيات خاصّة بغية منازلة الآلهة تيامات ، وهنا تتكرر المهمة ، بمعنى أن مفهوم المركزية مهمة صعبة حتى في مجمع الآلهة وفي كلا الميثولوجيتين الرافدينية والافريقية ، ولابد من قيام رمز واحد وذو قدرة وكفاءة وصلاحيات أستثنائية تمييزه عن غيره ، ويتولى واجب إدارة الكون بكل ما فيه من الأجرام المادية وأنواع الأحياء وفي مقدمتهم الانسان .

كما هو قائم حالياً وعلى أرض الواقع ، وضمن المفهوم الفلسفي والفقهي للأديان السماوية الثلاثة - وحسب القدم ، اليهودية - المسيحية - والاسلام ، وبقيادة إله واحد إله السماوات والارض لا غيره . ولابد أن نقول ، لا يمكن أن يخلو أي مجتمع إنساني وحتى حيواني في هذا الكوكب دون أن تكون هناك مركزية قوية وكفوءة تدير شؤونه الخاصة والعامة والحكمة تقول (في كل زمان ومكان - دولة ورجال - ولكل أمة آحاد).

المصادر:

1- الموسوعة الافريقية - ترجمة حسين علي الوائلي.

2- وادي الرافدين - المعتقدات الدينية - رينه لايات - ترجمة الاب ألبير ابونا) .

3- تاريخ الاديان وفلسفتها – العقيد الركن طه الهاشمي.

 

بحث اجتماعي

سادسا - مسيرة المرأة عبر الحضارات الشرق أوسطية عامة والرافدينية خاصة

المقدمة :

       مرت البشرية منذ العصور التاريخية القديمة تعيش كجماعات صغيرة في كهوف ومغاور جبلية ضمن العلاقات المشاعية البدائية والاسترقاق ، وعبر مراحل زمنية طويلة من عدم الاستقرار النسبي . تبوأت المرأة مكانة خاصة بسبب انجابها الأطفال في الوقت الذي كان الرجال يجوبون الغابات والوديان والجبال بحثا عن المواد الغذائية من الفواكه واثمار الأشجار الطرية والجافة ، عبورا الى مرحلة الصيد والرعي . ثم جاءت مرحلة الزراعة البدائية والتي كانت نتيجة مباشرة المرأة وابتكارها لها بشكل منفرد وبعد الانتقال من موقع الى اخر وحسب خصوبة الأرض ووفرة مصادر المياه وظهور القرية الزراعية البدائية(1) مما أدى الى زيادة مكانة المرأة ضمن التجمعات السكنية الجديدة لأسباب عدة ومنها انجاب الأطفال والعناية بهم والتي تحترف وظيفتين أساسيتين – وظيفة  انتاج (البشر)(2) . ووظيفة الزراعة . أي بدء استثمار الأرض كنتاج اقتصادي مما أدى الى ارتقاء مكانتها في هذه المرحلة الى مستوى اكتساب النفوذ (السلطة المركزية لأول مرة) في إدارة شؤون الاسرة بصورة منفردة ومباشرة دون مشاركة الرجل لها . وتحكمت فعلا بمرحلة تعدد الأزواج(3) والتي منها جاء (طور الامومة) في انتساب الأولاد اليها قبل انتسابهم الى الرجل بفترة طويلة .

       وبسبب تطور وظيفتها الزراعية . اهلتها هذه الفترة كامتياز لاستحقاق زمني ليمتد نفوذها الإداري الى خارج المسكن الى جانب تمتعها بسلطة ربة البيت مما اكتسبتها الخبرة الواسعة في كافة مجالات الحياة اليومية نسبيا حيث كان الرجل ولا زال متفرغا لجني القوت اليومي كما جاء سابقا.

2- المرأة الرافدينية والاسطورة :

       ان أقدم فترة تاريخية موثقة ، تؤكد لنا أهمية موقع ومكانة المرأة الرافدينية كنموذج – امرأة عاملة وامرة ملكة – وعلاقتها بأسماء الالهة ، هو كما جاء مدونا بالخط المسماري في الاساطير السومرية والبابلية ، كطفرة زمنية نوعية في حياتها ضمن مسيرة المجتمع البشري . وارتفاعها الى منزلة الالهة جاء عبر عدة ملاحم واساطير ومنها قصة الخلق ثم قصة الطوفان(*). وبعدة أسماء ومنها الالهة (نمو) السومرية خالقة الانسان يقابلها (مامي) البابلية والتي تعني الام الكبرى والأرض والتربة الخصبة . ثم جاءت متخصصة بوظائف شتى ومنها الالهة – عشتار – الهة الحب وباسم (ارش كيجال) الهة الأرض والعالم السفلي . وباسم (شالا) الهة ربة سنبلة القمح (الهة الزرع) وثم – ننخر – ساج (ننماخ) وهي من الالهة السومرية الخالقة أيضا .

       وبسبب انتقال المرأة الى مستوى قيادة الحكم (مرحلة ظهور العقد الاجتماعي الأول) فأصبحت (شوب – اد)(4) الملكة السومرية الحكيمة الأولى في إدارة مدينتها (مرحلة دولة المدن) + 3000ق.م) . وتعتبر مرحلة المرأة بالمكانة المميزة – ربة الاسرة – ثم الالهة – ثم الملكة – مرحلة ظهور الثقافة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإدارية . وذات اعراف وقيم خاصة بها وبعيدة عن ظاهرة الانانية والاثر ، ظاهرة انقسام العمل وتولي الرجل السلطة.

       ولا ننسى ظهور المرأة الأسطورية (سمير اميس او سمورات) ومشتق اسمها من كلمة (سمات) الاشورية وتعني الحمامة . حكمت هذه المرأة ف مدينة نينوى لمدة (42) سنة في القرن الثامن ق.م والتي جاء ذكرها في الكثير من الكتب اليونانية والرومانية القديمة ، وهي ليست اشورية لأنها جعلت عبادة اله مردوخ اله بابل بدلا من اشور . كذلك انفردت (زاقوتي اوزاكوني)(5) الاميرة الاشورية سابقا والتي تزوجت لاحقا الأمير سنحاريب من زمن والده الملك سرجون الثاني ، وبعد ان تسلم سنحاريب السلطة بعد وفاة والده سرجون الثاني بقيت زاقوني بالمملكة ويذكر انها مارست السلطة كملكة على جزء كبير من الدولة الاشورية وعثر على رقيم يذكر فيه انه في عام 683 ق.م قبل مقتل زوجها سنحاريب بعامين خصص لها موظفون اكفاء يديرون شؤون بعض املاكها من مدينة – لاخيرو – (كفري) المدينة التي ولدت فيها ويعتقد ان سلطانها امتد الى منطقة اربخا (كركوك) حتى جنوب بلاد الرافدين ومن ضمنها مدينة ابان (عمان) التي تحت النفوذ الاشوري .

(*) نتشين زوجة اتانبشتم وارتقت مع زوجها الى منزلة الالهة

3- المرأة بعد تقسيم العمل : 

       بعد انتقال المجتمع البشري من مرحلة المشاعية البدائية الى مرحلة ظهور النظام الاقطاعي الباطريكي ، وظهور الرجل على مسرح الحياة ذات السلطة المركزية المطلقة الأقوى والأكثر قدرة على إدارة المجتمع وتنظيم الحياة الاجتماعية وفق ضوابط وقيم خاصة ، كذلك تطوير العملية الزراعية واستغلال الأرض بصورة افضل وترسيخ القرية الزراعية ونموها ، اصبح بحكم الواقع الجديد انكفاء دور المرأة الى رعاية شؤون الأطفال والقيام بخدمة البيت وزوال طور الامومة بالنسبة لانتساب الأطفال وتعدد الأزواج . وبظهور الرجل الأقوى في الاسرة الواحدة او في عدة اسر(6) ، أي ظهور التركيب الاجتماعي الطبقي القبلي ذات المركزية الفردية الصارمة . يحق للرجل بتعدد الزوجات وتسمية الأطفال باسمه (طور الابوة) . بمعنى ظهور علاقة جديدة بين الرجل والمجتمع الإنساني القبلي ، والمرأة أصبحت جزءا من البنى التحتية تعمل بإرادة الرجل وتلتزم بعادات وتقاليد جديدة ، وفي هذه المرحلة ظهرت طبقة العبيد والاقنان ، المجموعة الأولى تعمل كخدم ملوك داخل البيت ، والمجموعة الثانية مرتبطة بالأرض وتعمل فيها مدى الحياة . تُشرى وتباع معها . ورغم انتقال قيادة الاسرة والمجتمع الى الرجل وهو صاحب الامر والنهي ، الا ان دور المرأة أيضا لم يكن سهلا تهميشه . لان خاصية الانجاب جعلتها موضع التقدير والاحترام لدى العائلة والقبيلة الى جانب بقائها تشارك الرجل(7) في الكثير من الاعمال ومنها بالدرجة الأولى الزراعة وتربية الأغنام

 وغيرها ، ولازال تأثير هذا النظام (الاجتماعي والاقتصادي) قائما الى هذا اليوم لدى الكثير من شعوب العالم الثالث وخاصة في افريقيا واسيا وغيرها .

4- المرأة ضمن الحضارة الفرعونية :

       أولا لابد ان نعرج الى الحضارة الفرعونية والتي اعتبرها (التؤم الحضاري لحضارة وادي الرافدين) في القدم المشترك والجارتين جغرافيا . فسوف نرى ان المرأة في الحضارة المصرية القديمة التي تمتد الى الالف الثالث قبل الميلاد ، كانت هي الأخرى ذات مكانة مرموقة ومحترمة . تمارس الاعمال الصناعية والتجارية بكل حرية دون تمييز بينها وبين الرجل . أي اقرب الى المرأة في حضارة وادي الرافدين ، ولابد ان نشير بصورة خاصة الى عهد الاسرة الفرعونية الثالثة 2780 – 2270 ق.م(8) . وظهور في عهدها اقدم وثيقة في تاريخها ، والتي جاءت كتوصية من قبل سيدة باسم (نب – سنت) التي توصي بانتقال ملكية أراضيها الى أولادها في حالة وفاتها .

       وكذلك كان الرجل الى عهود متأخرة من الحضارة المصرية القديمة يتنازل لزوجته في عقد زواجه عن جميع املاكه ومكاسبه المستقبلية .

       ومما يؤكد من نبل المرأة المصرية ضمن الحضارة الفرعونية المكانة الأولى، هو وصولها الى عرش مصر ومنهن (حتشبسوت) وكيلوباترا ونفرتيتي وغيرهن .

       بمعنى ان الحضارتين الرافدينية والمصرية ، كان تسيير وإدارة الاسرة والمجتمع نابع من ارجحية العقل الإنساني المتطور وليس للقوة العضلية التي يتمتع بها الرجل . وخاصة ان المرأة البابلية كان ينظر اليها ككائن رقيق وهادئ ، وهذا ناتج من التوجه العام للعقل الثاقب الذي تمتع به المجتمع البابلي ككل وتفضيله العمل في مجال العلم والمعرفة والفلسفة . مما أدى الى بروز دور المرأة كعنصر انساني هادئ الطبع وشديد الصبر . عكس المجتمع الاشوري الذي مال الى العقلية العسكرية وانشغل قادته بالفتوحات والحروب المستمرة ، فكان دور المرأة في القرون المتأخرة مهمشا كليا تقريبا .

5- مكانة المرأة الرافدينية والشرائع القديمة :

       إذا تابعنا تقادم الزمن مع ظهور الانظمة المركزية ذات الضوابط والالتزامات المثبتة ضمن لوائح ومسلات عديدة تنص على تنظيم الحياة اليومية في عمق الحضارة الرافدينية وفق قوانين وشرائع خاصة بها ومنها حسب قدمها وهي:

1- شريعة اورنمو - وهو مؤسس سلالة اور الثالثة ما بين 2111 – 2003 ق.م وتعتبر اقدم شريعة عرفها التاريخ تمكن اورنمو من توطيد العدل وازالة البغضاء والظلم ، وما يخص مكانة المرأة فهناك احكام تخص الاحوال الشخصية , كالزواج والطلاق والارث والتبني . بمعنى لم تكن مكانة المرأة مهملة بل حددت تلك الاحكام حقوقها وواجباتها تجاه الرجل وكذلك حقوق وواجبات الرجل تجاهها . ويعتبر اول تنظيم للاسرة يظهر قانونيا عبر التاريخ لم يسبقه احد من قبل .

2- شريعة اش - نونا : وهي مجموعة قوانين صدرت في بلاد وادي الرافدين في القرن السابع او الثامن عشر ق.م وقانون (اش - نونا) مدون باللغة البابلية وبالخط المسماري.

وينسب هذا القانون الى سلالة حكمت في مدينة اش - نونا حوالي 2020 الى 1750 ق.م والتي تقع في حوض نهر ديالى على بعد ((40 كم شرق بغداد وتسمى اطلالها حاليا باسم)  تل اسمر) واشهر امرائها المستقلين هما ابق ادد الثاني) 1830 ق.م ) و(دادوشا) نحو 1800 ق.م والمواد القانونية التي تخص المرأة وحياتها الزوجية في هذه الشريعة بلغت العشر وهي (17-18-25-26-27-28-29-30-31)والمادة (59)  التي تنص بطرد الزوج الذي يتزوج زوجة ثانية وطلقها ويحرم من كل ثروته.

بمعنى ان الفارق الزمني بين الشريعتين يمتد حوالي الى الثلاثة قرون ونصف قرن رغم ان المدة تعتبر طويلة نسبيا قياسا بواقعنا الحالي, الا انه يعتبر في حينه طفرة كبيرة تحدد مكانة المرأة في الاسرة والمجتمع بعدد كبير من المواد القانونية.

3-  لبت عشتار : هو الملك الخامس من سلالة)  أيسن)  1934 – 1924 ق.م كتبت الشريعة بأسمه وباللغة السومرية وهو غير سومري جاء في مقدمة شريعته تحقيق العدالة وردع الظلم والعصيان المسلح وهو راعي مدينة نفر ولم يذكر في شريعته مادة قانونية تخص حياة المرأة مباشرة . بأعتبار ان تحقيق العدالة وردع الظلم يشمل الرجل والمرأة في الحياة العامة والخاصة وحمايتها من الظلم اذا وقع .

4- شريعة نيصابة وهاني : وهي الشريعة التي خصت بمسالة الزواج والتحكم به(10)، وفي عهد سومر قبل التوحيد بحدود الربع الاخير من الالف الثالث ق.م وبما انها تخص الزواج بمعنى تخص مكانة المرأة في الاسرة وعلاقتها بالرجل.

5-  قوانين حمورابي:  حمورابي هو سادس ملك من سلالة بابل الاولى والذي حكم من 1792 الى 1750 ق.م .خلف هذا الملك اشهر شريعة واوسعها مكتوبة بالخط المسماري على شكل مسلة حجرية كبيرة احتوت على (282) مادة قانونية ومنا ما يخص حياة المراة من الحقوق والواجبات فاقت كل الشرائع السابقة ولم تسن من بعدها ضمن الحضارة الرافدينية حتى سقوط نينوى سنة 612 ق.م وبابل 539 ق.م وبلغ عدد مواد تخص المرأة كزوجة وام وعاملة وتاجرة وغيرها  (78)مادة.  بدءا بالمادة الخامسة عشر وبشكل مواد متفرقة واخرها (214) وأشهر مواد الشريعة تنصف المرأة كزوجة وهي المادة  (124) والتي تنص اذا سيد تزوج امرأة واصيبت بمرض واراد ان يتزوج ثانية فله ان يتزوج ولا يجوز له ان يطلق زوجته الاولى بسبب مرضها انها تسكن في البيت الذي بناه وعليه ان يعيلها طالما هي على قيد الحياة.

       اما المادة(149)  فتقول اذا هذه المرأة لا تريد ان تعيش في بيت زوجها عليه ان يعطيها كل جهازها الذي جلبته من بيت والدها ولها ان تذهب .

6- المرأة في الحضارة الاغريقية :

       لو ترجلنا قليلا ودخلنا العهد الاغريقي ، تلك الحضارة التي اختصت بالفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى ، وجاءت بعد زوال عدة امبراطوريات في الشرق الأوسط والتي مثلت عدة حضارات ومنها حضاري وادي النيل وتكلمنا عنها ما يخص المرأة. وثم حضارة وادي الرافدين موضوع بحثا بالذات ومكانة المرأة في جميع مراحلها منذ الالف الثالث قبل الميلاد الى القرون الأخيرة من الالف الأول قبل الميلاد . ترى ان الفرق الشاسع زمنا حضاريا يفوق الثلاثة الاف عام قدما على الحضارة الاغريقية ، والتي ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد ، كان علماؤها وفلاسفتها باتصال دائم بعواصم وكبرى مدن الحضارتين المذكورتين وخاصة بابل التي قدمت للبشرية خدمة معرفية وعلمية مالم تتمكن اية عاصمة ومدينة أخرى من تقديمها الى يومنا هذا ، مع فارق الزمن وميزة كل عصر من عصورها .

       اما موقع المرأة في الحضارة الاغريقية ، فلا يمكن مقارنته إيجابيا بأية فترة ، او زمن اية سلالة من سلالات الملوك الذين حكموا وادي الرافدين من شماله الى وسطه وحتى جنوبه . فكانت المرأة في تلك الحضارة (الاغريقية) مهمشة (اجتماعيا خاصة) وكانت مسلوبة الإرادة داخل البيت وخارجه . حيث كانت محجبة (11) بالكامل جبرا خارج البيت ، وهذا مطابق الى الفترة القصيرة من حياة المرأة في العصر الاشوري المتأخر ، حيث كان القانون والعرف الاجتماعي يلزم المرأة بارتداء الحجاب(12) وتفضح غيرها من المرأة الرقيقة والعاهرة في حالة ارتدائهن الحجاب . عكس البابلية كانت غير محجبة ، مما يدل ان الفترة الاشورية المذكورة ساد فيها النظام الاجتماعي القبلي وزاد الضغط على المرأة بصورة كبيرة . علما ان المرأة الاغريقية كانت تنعت بـ(السليطة) .

       اما الاغريقية فليس هناك ما يبرر مجتمعها بالانغلاق على المرأة بهذا الشكل المظلم ، مما يؤكد ان حضارة وادي الرافدين بدءا بالسومرية مرورا بالبلبية والاشورية والكلدانية ، كانت حضارة إنسانية تقييم المرأة بالدرجة الأولى منذ القدم قياسا لما حولها من الشعوب المتناقضة لها .

7- حرية المرأة في بابل ونينوى:

       كان تعدد الزوجات موجودا وخاصة لدى ملوك بابل ورغم ذلك كانت نساؤهن يشاركن ازواجهن في جميع المناسبات والولائم وهن غير محجبات ويتناولن شرب الخمر في اوان خاصة وكانت احدى الزوجات تختار كملكة من بينهن وتنال تلك الزوجة الاحترام والخضوع لها من قبل باقي الزوجات وبعد ذلك يتم مخاطبتها بسبب تخصص مكانتها الاجتماعية والرسمية داخل الاسرة المالكة وهو سبق زمني بالاف السنين لما هو قائم في جميع دول العالم حاليا اذ تعتبر زوجة الملك وزوجة الامير اميرة وزوجة رئيس الدولة سيدة البلاد الاولى .

بمعنى ان البابليين سبقوا البشرية بمكانة المرأة وقدسيتها كرمز انساني تمثل نصف المجتمع ويؤكد ذلك في سفر دانيال (5 :1-4) الذي يؤكد فيه حضور زوجات وسراري الملك _ بيلشامر ابن الملك نبوخذ نصر وليمة عظيمة وشاركن المدعوين من شرب الخمر بأواني ذهبية.

كما ارتقت المرأة البابلية الى صنف الكاهنات ومنهن الكاهنة الكبرى (انتو) ENTU وتعني بالسومرية زوجة الالهة ثم الكاهنة (ناديتوم) NADITUM والكاهنة الثالثة  (الشاكيتوم SHUGTUM ( الى جانب ذلك كانت هناك تقاليد في كل قرية يتم فيها كل سنة جمع الفتيات البالغات , ويجتمع حولهم الرجال الراغبين بالزواج وتجري عملية انتقاء الزوجة وشرائها (اي دفع المهر) كما هو حاصل لدى شعوب الشرق خاصة - ومنها المجتمع العراقي بكل مكوناته ومعتقداته الدينية وغيرها .

فان المهر يعتبر ذا قيمة تراثية وامتداد اجتماعي من تلك الايام .رغم اختفائه لدى بعض شرائح مجتمعنا كليا او نسبيا ويتوقف على الحالة الفكرية والثقافية (التحرر الاجتماعي للعائلة) لدى الشرائح المعنية ثم يأتي دور باقي الفتيات من الباكرات والثيب والتي تكون من حظوظ رجال من طبقة الفقراء .علاوة على مفهوم الجمال ومقدار العمر لكل فتاة ثم كل ينفرد بفتاته لاتمام المراسيم القائمة آنذاك.

الى جانب كل هذا فان الاب لم يكن له اية صلاحية لاختيار الزوج لابنته بمعنى انه رغم وجود ظاهرة التجمع والشراء فأن الفتاة اقرب الى حرية اختيار الزوج وليس التجمع الا مسرحية لتمكن المحبين مسبقا الالتقاء معا وفي يوم ولا اعتراض عليه (أي عملية شرعية .

ويجب ان نذكر ان كان هناك نوع اخر من الفتيات يرتادون المعابد يوميا بعلم ذويهم ويجلسن في أماكن خاصة بهن ، ولا يغادرن لحين قدوم اليهن رجل غريب (سائح) ويلقي في حضونهن نقودا قائلا ((اني اوصي بك الالهة ميليتا MYILTTEL))  . ولا يجوز رفض المبلغ لأنه في نظرهن مقدس . ثم تتبع الفتاة الرجل ، وبعد ذلك توفي للآلهة نذورها باختلائها بالرجل الغريب ثم يسمح لها بالعودة الى دارها . وتسمى هذه الفتيات بـ(العاهرات المقدسات)(13) . او البغي المقدس (غاديشتو GADISHTU) . وهنالك ما يمثل هذا العرف الاجتماعي بالضبط حاليا لدى الطائفة الشيعية والذي يسمى بـ(زواج المتعة) . وهو عقد قصير ومقابل مبلغ معين ، وقد يكون طول العقد ساعات او أيام او شهر وحسب الاتفاق الطرفين . وممكن القول ان هذا العرف أيضا هو امتداد لما ورد سابقا لفتيات المعبد . ولانه يخص الطائفة الشيعية دون غيرها من الطوائف الإسلامية .

ولان غالبية سكنه وسط وجنوب العراق من الطائفة المذكورة .

وكانت الزوجة في العهد الاشوري المتأخر والبابلي الحديث قد تحررت نوعا ما من عملية الشراء والبيع. وان كان باقيا كتقليد ذات قيمة نظرية في محيط اجتماعي ضيق.

هناك نص مسجل باسم سيدة تدعى ( نختشارا) اشترت امرأة تدعى(  تنليلها تسبنا) لتصبح زوجة عملية لابن – نختشارا وكان المبلغ المدفوع يساوي ستة عشر شاقلا من الفضة والغيت هذه الصفقة فيما بعد الا ان المبلغ المدفوع بمثابة مهرها مقدما .

وظهر تعامل خاص مع المرأة الارملة فكان مضاجعتها من قبل الرجل خلال فترة سنتين فيعتبر ذلك مطابقا لعقد الزواج لغير الارملة ومعترف به.

بمعنى ان المرأة في مثل هذه الحالة - الارملة - سبقت العالم الغربي والمتقدم بمفهوم الزواج المدني حيث لازال الزواج المدني يعتبر ارتباطا وقتيا بين الطرفين ، بعد فترة يتم الاتفاق بينهما على زواج غير قابل للانفصال، حيث يعقد عقدا وفق طقوس ومراسيم كنائسية بالنسبة للمسيحيين وكل حسب عقيدة مذهبه.

ومن حقوق المرأة في العهد الاشوري المتأخر- سرجون الثاني 722 – 705  ق.م للزوجة الحق في دار زوجها في حالة وفاته ان كان لديها اولاد منه.

وهذا مطابق لقانون الاحوال المدنية الحالي (بان يكون للزوجة حق في قيمة 1\8 الممتلكات)  اما الارملة في حالة وفاة زوجها الثاني ولها اولاد من كلا الزوجين فيتحمل اولادها من الزوج الاول مسؤوليتها وحقوقه .واذا لم يكن لها أولاد ، فلا يتحمل مسؤوليتها احد . فتذهب حيث تشاء .

الخلاصة :

       نستدل مما ورد في متن البحث وعلاقته بعنوانه الخاص بمكانة المرأة عبر المسيرة الطويلة لحياة الانسان على سطح هذا الكوكب وتمتعها ببعض الامتيازات التي جاءت مقارنة مع غيرها في غير الوسط الجغرافي الذي عاشته وتحرينا بصورة خاصة مسيرة المرأة عبر الحضارتين التوءمين الجارتين ارضا وزمنا ، وحضارة وادي الرافدين وحضارة وادي النيل ، هاتين الحضارتين اللتان ساهمتا بصورة مباشرة وبشكل ابداعي لا مثيل له عبر التاريخ لحضارة أخرى في مجال سن تشريعات وقوانين تعود الى اكثر من أربعة الاف عام من التاريخ الحالي ، واستقينا دور المرأة الإيجابي ومكانتها المرموقة على ارض الواقع الحالي في مراحل زمنية سباقة لمكاسب لأية امرأة أخرى جغرافيا من الحضارتين المذكورتين رغم ارتقاء الحضارة المذكورة فكريا وثقافيا وبالعمق الفلسفي يشار اليه بالبنان الى يومنا هذا . الا ان المرأة في الحضارة المذكورة كانت مقهورة ومهمشة بصورة كليا (قياسا مع فارق الزمن الكبير) لموقع ومكانة وحقوق وواجبات المرأة في الحضارتين المذكورتين ، وخاصة المرأة في الحضارة البابلية بالدرجة الأولى مرورا بالفرعونية (وادي النيل) ثم الاشورية ضمن وادي الرافدين شمالا.

       ونأتي الى نهاية بحثنا هذا معتزين بماضينا التاريخي الحضاري واثره على الكثير من التجمعات البشرية منذ القدم الى الان وخاصة وجود ارتقاء المرأة الى صفوة ومكانة لائقة بها كأم وعاملة ومهندسة وطبيبة وفلاحة متحررة من كل القيود التي لا تليق بمكانتها اجتماعيا وثقافيا .

المصادر :

1- فريديريك انجلس (اصل العائلة والملكية الخاصة (الدولة) دار الفارابي ص32 .

2- المفهوم التاريخي لقضية المرأة – عزيز سيد جاسم ص13 .

3-  فريديريك انجلس – المصدر السابق ص55 – 105 .

4- المفهوم التاريخي لقضية المرأة – عزيز سيد جاسم ص17 .

5- فؤاد يوسف قزانجي – جريدة بهرا العدد 440 /22/6/2008 .

6- فريديريك انجلس – المصدر السابق ص88 – 89 .

7- نظام العائلة في العهد البابلي القديم – رضا جواد الهاشمي ص36 .

8- عادات وتقاليد الشعوب القديمة – د.فاضل عبد الواحد و د.عامر سليمان ص202.

9- نظام العائلة – المصدر السابق – ص42 .

10- المرأة في شريعة حمورابي – سهيل قاشات – ص133 .

11- فاضل القريشي – جريدة العراق / العدد 7612 /29/5/2002 .

12- عادات وتقاليد - المصدر السابق - ص76 .

13- نظام العائلة – المصدر السابق – ص88 .

اتنتقل الى الصفحة الثالثة

 

 


 

بحث فكري

سابعا - قدسية الماء واهميته عبر الادب الرافديني القديم

1- المقدمة :

       لقد تفحصنا الادب الرافديني  القديم منذ عهد سومر مرورا ببابل واشور ، لرأينا انه ينقسم الى نوعين من الادب ، لا يضاهيه على الأرض بقدمه ونوعيته ادب اخر ، والذي يمتد الى اكثر من (3000)عام ق.م . قد نجد بعض التشابه لابل الاقتباس منه في الادب الاغريقي والذي يعتبر حديثا بالنسبة للأدب الرافديني والذي ظهر في القرن الرابع او الخامس قبل الميلاد ومنها قصة الالياذة واوديسا وغيرها وذات طابع فلسفي ، ولا يرتقي الى مستوى الادب الرافديني الذي قلنا في البدء ، انه ينقسم الى نوعين من الادب ، ومنها كقصص ملحمية واسطورية ، تفوق في معناها وواقعها الخيالي ، الفكر الإنساني الحالي .

       اذ بعضها كملحمة او قصة لا دلالة لها في علم التاريخ والاثار . اما الأسطورة ففي طابعها الفلسفي تعتمد على سبق الاحداث زمانا ومكانا ، وان منطقها مقترن بحجج قوية بلاغة ومعنى . وان شخصياتها تجمع ما بين الإنسانية والالوهية والتي تلد وتموت كالبشر .

2- تشخيص اهم القصص والملاحم الأسطورية الرافدينية :

       ولابد من الإشارة الى اهم القصص والملاحم التي تخص عنوان بحثنا هذا ولها علاقة مباشرة بقدسية الماء من عمق التاريخ ، ومنها قصة الخلق التي جاءت على شكل قصيدة واسطورة أدبية على لسان بطلها في النص البابلي – اتراخاسيس – وفي النص السومري – اوتانابشتم – وجاء في أولى كلماتها (اينمو ايليش) أي عندما في العلى – والتي تدور احداثها بين مكونين للكون – آبسو – المياه العذبة والخصبة وتيامات المياه المرة والمالحة . أي الأولى الأنهر والجداول الجارية والثانية البحار والمحيطات وما تمخض من زواجهما ، بولادة مجموعة الهه ، ومنها – لاخمو ولاخامو(1) – والتي لم يتم التمييز بينهما لانهما هجينين ولدا من مادتين غير متجانستين . بمعنى ان المياه في الحالتين تعتبر مصدر الحياة . وقد امتد الزمن بأجيال من الالهة لنفس الفصيلة المذكورة .

       حتى ظهرت مجموعة الالهة السبعة القوية (ايكيكي) ثم صدور قرارهم القاضي بهلاك الجنس البشري الذي ازعج الالهة السبع بضوضائه . وتم ذلك بواسطة فيضان عارم لم ينج من الاحياء أحدا بما فيها الانسان .

       غير ما اصطفى وانتخب منها وحسب أوامر وتوجيهات آله – آيا – وابلاغه لربان السفينة اوتانبشتم بذلك . فان استخدام الماء كأقوى سلاح فتاك له خاصية وميزة مدمرة . وسبب ذلك ان مساحة الماء على سطح الأرض والى هذا التاريخ تساوي خمسة اضعاف مساحة اليابسة . فيمكن ان يحصل مد كبير وامواج عاتية في البحار والمحيطات بسبب هطول امطار غزيرة ولأيام معدودة وتصاحبها زوابع ورعود واعاصير ، فلابد ان تؤدي الى غرق وهلاك غالبية ان لم نقل جميع الكائنات الحية ومنها الانسان والحيوان والنباتات . مالم تكن هناك مسبقا قد احتيط لبعضها بفعل الانسان . للتخلص من هذا الغضب العارم ، فلولا سفينة اوتانبشتم الوارد ذكرها في قصة الطوفان لهلك جميع الاحياء بما فيهم الانسان ، وليس بعيدا عنا ، ولازال دور مياه المحيطات والبحار وبسبب الأعاصير التي تضرب سواحل القارات ولمدة أيام عديدة وبسرعة خيالية ، أدت الى هلاك الكثير من البشر ودمار الكثير من المدن والقرى الساحلية وحتى في عمق القارات ، وكما حصل في جنوب شرق اسيا في محيط جزر اندونوسيا قبل عدة سنوات الاعصار المسمى (تسونامي) وكانت اضراره هلاك قرابة نصف مليون من البشر وتشريد الملايين منهم غير الاضرار المادية الكبيرة التي لحقت بمدنهم ومزارعهم ، غير الأعاصير التي ضربت وتضرب باستمرار سواحل اليابان والصين وبنكلادش وامريكا الشمالية وأستراليا والى هذا التاريخ .

وهنا لابد ان نقف ونقول :- الم يكن بمقدور الالهة السبع ان يستخدموا أسلحة متنوعة أخرى لمعاقبة البشر بدلا من سلاح الماء والفيضان المدمر ؟ وما ذنب غير البشر بهلاكهم أيضا . فهناك الزلازل والبراكين والتي لازالت تحدث وتثور في كثير من بقاع  الأرض ، وتؤدي الى هلاك غالبية سكانها ومواردها الزراعية ومدنها وقراها . ولكن هذا السلاح لا يمكن استخدامه وبشكل قاطع على مجمل مساحة عالمنا لأنها فقط تشمل بعض المناطق وبفترات متباعدة . وليس كما جاء في قصة الطوفان بشموله كافة البشر والأرض اليابسة آنذاك كما اعتقد .

(1) المعتقدات الدينية في بلاد الرافدين – رينيه لابات – ص34 ، 1988 .

3- قدسية الماء عبر الملاحم والاساطير الرافدينية :

       ان اختيار الالهة الماء كسلاح قهار ، يعني ذلك اكتشاف عظمة نتائجه بقرار صدر من مجمع الالهة الكبار ، وتحت اشراف ومتابعة كل من آيا إله الماء وأدد آله الزوابع والعواصف . واذا اخذ فعل الزوابع والعواصف كسلاح أيضا . فلا يكون ذات محصلة شاملة على نطاق الكون كما جاء أعلاه في قصة الطوفان ، بل يمكن كسلاح متمم لعملية الفيضان لا غير ، والزوابع والاعاصير بحد ذاتهما هي ثورة مياه البحار والمحيطات ، ففي هذه الحالة يمكن اعتبار عظمة الماء وتأثيره على جميع الاحياء ذات مكانة وقدسية لا تضاهيها قدسية أخرى .

       فاذا تأكد لنا ان منشأ الحياة هو الماء . فأيضا ففي  حالة نفاذ الماء من سطح الأرض يعني موت جميع الاحياء بدون استثناء . وما التصحر الحاصل في بعض القارات الا نتيجة الجفاف التام لمصادر المياه كالأنهر والابار وانقطاع سقوط الامطار عدة فصول او سنين .

       فكيف لا يكون الماء مقدسا ومميزا عن غيره . ومن المفردات التي جاءت في قصة الطوفان وتقر بقدسية الماء . فقد ورد في النص البابلي في عملية خلق الانسان ما يلي (1) :-  كان على آله – آيا – ان ينجز طقوسا معينة تتضمن – الاغتسال والغطس في الماء المقدس ، وفي أيام معينة من الشهر – اليوم الأول والحادي عشر والخامس عشر قبل احضار الطين المقدس لخلق الانسان ، يذبح اله – وي – الا – WE – ALLA) الذي هو قائد قوات تيامات المعادية لمجموعة الالهة – ايكيكي – بقيادة اله مردوخ – وكما هو مبين أيضا في قصة الخلق ، حين تم تخصيص احد الالهة الكبار لتولي شؤون الماء ضمن سبعة الهة وهو اله – أيا – والد اله مردوخ – بمعنى ان الماء كان الأهم والاجل والاقدس من أي مكون اخر من مكونات الكون ، وهنا لابد ان نربط ما بين ما ورد في عملية خلق الانسان في قصة الخلق والاغتسال والغطس . وبين ما هو قائم لدى الديانة المندائية الاقدم . والتي هي الامتداد للموروث العقائدي للديانات القديمة لوادي الرافدين وموقعها الخاص في جنوب العراق الحالي . محافظتي البصرة والميسان وامتدادها الى منطقة الاحواز ضمن الأراضي الإيرانية حاليا . أي – منطقة الاهوار – حيث تمارس – الغطس – في المياه الجارية والاغتسال بها سنة وطقس مقدس لديها .

       وهناك تأكيد اخر على قدسية الماء الجاري والوارد في كتاب – اساطير شعبية(1) وجاء ما يلي :- (ان ماء الجنة مجسد باسم – (ملكا برياويس) موجود في جميع مياه الأرض) . بمعنى ان مياه البحار والمحيطات لا تعتبر مقدسة لانها ليست عذبة وخصبة وانها ليست جارية أيضا . وهي الكمية الأكبر على سطح الأرض . وان ورود كلمة (قليلا من هذه – اليردنة) بمعنى مياه الأنهر فقط . أي المياه الجارية ، والتي فعلا تعتبر قليلة قياسا بمياه البحار والمحيطات وان نهر الفرات الذي هو احد الروافد العظيمة لوادي الرافدين ، يكمل تسمية وادي الرافدين معه النهر الخالد – دجلة – وبقدسيتهما لدى البابليين تعبيرا عنهما بالشعار الذي يمثل الاناء النذري ، وان نهر الفرات يعتبر من الأنهر المقدسة لدى انسان الرافدين وفي زمن العموريين (2) في مدينة ماري في أواسط الالف الثالثة ق.م . وان المندائيين سموه بالنهر – الأبيض – والاسلام سماه بنهر الجنة الرابع .

       وغالبا ما يذكر النهران بـ (الفراتين) أي مياه عذبة . ثم نعود ونقول ان قصة الطوفان(3) الملحمية بالذات ، تعتبر خير وثيقة تاريخية عظيمة...تؤكد على قدسية الماء في وادي الرافدين وسبب ذلك ، لان قصة الطوفان وبالنصوص الثلاثة – السومري – البابلي – والآشوري – وهي ناتج ثلاث حضارات رافدينية .

       والطوفان كما هو مؤكد تاريخيا حصل في جنوب وادي الرافدين بدءا من مدينة شروباك وكان ذلك قبل قرنين من ظهور كلكامش عام 2900 في اوروك او الوركاء(4) .

       وهناك نص اخر في ملحمة كلكامش(1) ورد فيه ما يلي :- (قال اوتانبشتم الى اورشنابو – خذه – أي كلكامش ، ياورشنابو الى مكان الغسل واحضره ليغسل بذوره في الماء ، ليغدو نظيفا مثل الثلج) . أي بمعنى ليتطهر بالماء المقدس . واذا اعتبر ان قدسية الماء واهميتها ليس وفق ما ورد ذكره وتقديسه عبر القصص والملاحم الرافدينية فقط . بل فقط كان الأمير كوديا ، الملك الثاني عشر من سلالة لكش الثانية 2144 – 2114ق.م في كل جولاته وزياراته لمدن مملكته ، كان يقدم (الخبز والماء البارد) ولجميع المعابد لتلك المدن – وهنا جاءت كلمتا – الخبز – والماء البارد – فان هاتين المادتين تعتبران المادة الأساسية لغذاء الاحياء . ففي كل مكان وزمان فان الخبر بأي حال كان هو مخبوز من الحبوب المتوفرة في تلك البيئة الحياتية . كالحنطة والشعير والأرز والذرة الصفراء وغيرها . ولا حاجة لتكون درجة حرارته مرتفعة او منخفضة نسبيا . اما الماء فان فان استخدامه لغرض ارواء العطش فلا يمكن تناوله وهو مكتسب درجة حرارة عالية ، لان معدل درجة حرارة جسم الانسان بيولوجيا لا تتعدى ال (39) فيجب ان تكون حرارة الماء قليلة أي (يكون الماء باردا) .

نسبيا وخاصة في المناطق الحارة كوسط وجنوب وادي الرافدين . ولهذا فان الماء البارد اخذ مكانة أساسية كمادة غذائية للجسم وبحالة مقبولة في تناولها كي تتعادل درجة الحرارة والرطوبة في الجسم .

(1) الطوفان – الدكتور فاضل عبد الواحد ملي ص52 / 1975 .

(1) اساطير – الليدي دراور ص83 .

(2) مفصل العرب واليهود في التاريخ – د. احمد سوسا ص156 .

(3) الطوفان = د. فاضل عبد الواحد علي ص60 و 140 .

(4) طه باقر – كلكامش .

(1) المصدر السابق .

 

4- قدسية الماء عبر القصائد الدينية تاريخيا وحاضرا

       لابد ان يقر بأن الماء الجاري بشكل خاص يعتبر الحجر الأساسي في طقوس غالبية العقائد الدينية القديمة والمندثرة منها والباقية ، او المحصورة في مواقع جغرافية معينة وضيقة . ومنها ضمن وادي الرافدين الديانة المندائية بشكل واضح وجلي . والتي تعتبر الماء الجاري المادة الرئيسية للتطهر من الذنوب والآثام ، ويجب التعميد به منذ ان يولد المندائي حتى مماته ، مارا بطقوس الزواج الفردي والجماعي ، والتي تقام في ضفاف الأنهر ذات المياه العذبة الجارية . ولكل الجنسين ولمختلف الاعمار وبحضور الكهنة للديانة المذكورة هذا ما يخص الديانة المندائية ذات القدم التاريخي في وادي الرافدين . فلابد ان نعرج على قدسية الماء بصورة خاصة لدى الديانتين المسيحية والإسلام . السماويتين ، اللتين يمثل وادي الرافدين أيضا جزءا مهما لمركز اشعاعها منذ القرن الأول لانتشار كل ديانة وميزتها في الطقوس والمراسيم للديانات الثلاث المذكورة أعلاه .

       الا ان الانسان الرافديني سبق غيره في طقوسه ومراسيمه الدينية والاجتماعية بتقديس المياه .

       وهذا ما أكدته اسطورة الخلق وقصة الطوفان بصورة خاصة حين استقر الفلك على جبل نصير (اورارات) وخرج اتانبشتم منه وقدم القرابين للآلهة وسكب الماء المقدس(1) على زقورة أي (قمة الجبل) كما جاء في الأسطورة .

       وفي ملحمة كلكامش يذكر ، حينما اجتاز كل من كلكامش وانكيدو غابة الأرز قبل ملاقاتهما عفريت الغابة (خمبابا) عند غروب الشمس حفر كلكامش بئرا وقرب أي ملأ قريته منها وارتقى الجبل وسكب الماء المقدس ثم قدم الطعام(2) . كما جاء في الملحمة المذكورة .

       وقد اعتبر النهر حاكما في شريعة الملك اورنمو مؤسس سلالة اور الثالثة والذي حكم من عام 2111 – 2003 ق.م وجاء في المادتين العاشرة والحادية عشر من شريعته على أساس قدسية النهر وماؤه الجاري كما يلي :-

 

1- المادة العاشرة :

       اذا اتهم رجل رجلا اخر... والمشتكي جلب المتهم الى النهر الحكم – ولكن النهر الحكم اثبت براءته....اي لم يغرق بماء النهر .

2- المادة الحادية عشر :

       اذا اتهم رجل زوجة رجل اخر بالزنا ولكن النهر الحكم اثبت براءتها أي لم تغرق بماء النهر .

       وأخيرا لابد ان اضيف الى قدسية الماء وتمييزه كارث اجتماعي شعبي وهو : حين كانت جيوش البابليين تعود منتصرة من الحروب . كان الشعب يستقبلها بالزغاريد والأهازيج الشعبية الى جانب نثر البذور كالحنطة والشعير والرز وغيرها على القادة والقطعات المارة في شارع الموكب . ثم يرشونهم بالماء تيمنا بقدسيته ، وليتطهروا من دماء الأعداء العالقة بهم وبأسلحتهم . لان الماء هو المادة الطبيعية التي يتطهر الانسان والحيوان والنبات به . الى جانب كونه عنصر ديمومة الحياة وازدهارها . وكذلك رش الماء على الجنود ليكسر ضمائهم الطويل بسبب هول الحروب والحرمان الطويل من الاغتسال وشرب الماء النقي .

وقد اصبح لهذا اليوم قدسية منذ القدم وذات طابع شعبي وديني لدى جميع مسيحي العراق خاصة . وسمي بعدة تسميات ومنها يوم الرشاش (ميسردي) باللهجة السريانية العامة المحكية.

ويقع هذا اليوم في الثالث من شهر تموز من كل عام ويعتبر امتدادا لموروث شعبي تاريخي حضاري لوادي الرافدين فعلا . 

(1) ملحمة كلكامش ، طه باقر – اللوح 11 ، ص161 ، بغداد / 2002.

(2) نفس المصدر السابق ، ص109 .

الخاتمة :

       ومن خلال ما ورد في قصة الخلق بعد زواج آبسو (المياه العذبة) بتيامات (المياه المالحة) التي هي مكونات المحيطات ثم ولادة مجموعة آلهة ومنها (لاخمو ولاخامو) لم يتم تمييز بينهما ، وبعدها ولادة الالهة السبع – ايكيكي – ذات شخصيات قوية بزعامة اله مردوخ ودخوله المعركة الفاصلة مع تيامات والقضاء عليها وذبح قائد قواتها (وي – الا WE –ALLA) وخلط دمه بالطين المقدس وخلق الانسان .

       تمر الاحداث ويعقد مجلس الالهة جلسته الاستثنائية ويقرر هلاك الجنس البشري بواسطة الفيضان العارم . الذي أدى الى موت جميع الاحياء التي تعيش على سطح الأرض . بما فيها الانسان . وظهور شخصية اتانبشتم بطل قصة الطوفان السومرية . ونجاة كل من جنس من الاحياء زوجان بواسطة السفينة (الفلك) الذي أمر الاله – آيا – ببنائه .

       فتدور الاحداث في وسط جغرافي مائي ، وظهور الطقوس الدينية التي تقوم على أساس قدسية الماء ضمن قصتي الخلق والطوفان وملحمة كلكامش ، وامتداد قدسية الماء لدى المجتمع البشري الى هذا اليوم وفق طقوس ومراسيم دينية ذات ارث تاريخي متصل بحضارة وادي الرافدين منذ القدم وهي الديانة المندائية ، وما هو حاليا في سنن الديانتين السماويتين المسيحية والإسلامية وقدسية الماء لديهما . فلا مثيل للديانات الثلاثة أعلاه على وجه البسيطة غير الديانة البرهمية في الهند .

       بمعنى ان ميزة قدسية الماء لها جذور تاريخية ليس فقط في جغرافية وحضارة وادي الرافدين ، بل في مناطق أخرى ولازالت طقوسها ومراسيمها حية أيضا . فالديانة البرهمية قد حددت نهري الكنج والبراهمبوترا من الأنهار المقدسة لديها وتقر طقوسها بنثر رفاة موتاهم بعد حرقها في احدهما .

       وفي الديانة المسيحية كما هو معلوم لا يعتبر المولود من ابوين مسيحين مالم يتم تعميده (غسله) بالماء المقدس .

       وفي الديانة الإسلامية لا يجوز الصلاة قبل الوضوء بالماء الطاهر ، وكذلك بغسل جسمه بعد الجنايات .

 

 

المصادر

1- المعتقدات الدينية في بلاد الرافدين – رينيه لابات / 1988 ص34 .

2- الطوفان د. فاضل عبد الواحد علي / 1975.

3- اساطير ، الليدي دراور ص83 .

4- مفصل العرب واليهود في التاريخ . د. احمد سوسا ص156 .

5- الطوفان ، د. فاضل عبد الواحد علي ص60 – 140 .

6- طه باقر ، كلكامش .

7- طه باقر ، ملحمة كلكامش / 2002 ص161 .

8- نفس المصدر ، ص109 .

 

بحث تاريخي

ثامنا - الحضارة السومرية موطن الاساطير والملاحم الأولى تاريخيا

1- المقدمة

       بدءا لابد ان نقول ان تكوين النسيج المجتمع الإنساني منذ القدم ، مر بتفاعلات ومخاضات عسيرة ، ولم يستكن فكريا واجتماعيا بالدرجة الأولى. بل بقي هذا التفاعل الذي هو وليد التناقضات الناتجة عن الصراع الطبقي والفكري لحركة المجتمع الديناميكية والتي لا توقف لها . ويجب ان نبحث عن كنوزها الأدبية والفكرية التي ظلت قرونا تحت الاطلال ، ونقول ان ما خلفته الحضارات الإنسانية القديمة في الملاحم والاساطير والقصص الخيالية والمعتقدات الدينية والروايات المدونة على رقم طينية واوراق البردي والرق وغيرها . والمنقول منها شفاها عبر الاسلاف ، كل ذلك ليس الا تواصل الفكر الإنساني لتحقيق طموحات أساسية لجميع مراحل الحياة نسبيا ، تمثل له رصيدا آنيا لمستقبل قادم . الى جانب تلك التناقضات التي تتحكم في تطوره وتنقله من حالة الى أخرى افضل . فهي خاصيته الاجتماعية ووعيه وادراكه لما في بيئته الجغرافية وحسب حاجته زمانا ومكانا . وتميزه عن غيره من الكائنات الحية والتي لا تهتم الا بإدامة بني جنسها باستنساخ ذاته طبيعيا ، من غير أن تؤثر او تتأثر بوسطها الجغرافي المعايش وفق قوانين التطور الطبيعية ضمن الصراعات المذكورة أعلاه ، وتكون النتيجة البقاء للأفضل .

2- البعد الفكري والفلسفي للأديب السومري :

       نعود ونقول انه لم تكتب وتدون لتلك الاساطير والملاحم عبر التاريخ القديم بدافع رغبة شخص او مجموعة اشخاص ذوي كفاءة لغوية وادبية بتركيب نسيجها بلاغة ومعنا فحسب ، بل تجاوز الاديب السومري في بعده الفكري كافة ميادين ومقومات الحياة لبيئته زمانا ومكانا أيضا بجعله من ذلك التاريخ ولحد الان لكثير من المفكرين والعلماء والباحثين والفلاسفة ان يقفوا بكل احترام واجلال امام ما تفتق ذهنه عبر مجموعة أقلام مجهولة الأسماء ،معلومة الانتساب الحضاري ، وبتحديد زمن موثق غير ما منسب من هذه الملاحم والاساطير الى عهود حضارية من عمق التاريخ ، وفي مواقع ومساحات جغرافية محدودة . وبلغة وخط بلغ بقلة من علماء اللغات والاثار صعوبة فكها وترجمة مضمونها الى لغات حية . ومنها ما كتب كمقاطع وصور رمزية او ما يسمى بالخط المسماري بالنسبة لما اكتشف في حوض وادي الرافدين جنوبا ووسطا وشمالا . وما احتوته هذه الملاحم والاساطير من مفاهيم اجتماعية واقتصادية وعقائدية وحتى علمية . وكثير منها هي مكامن لمفاهيم فلسفية لا زالت بعيدة التشخيص والتحليل وفك رموزها كاملة وبشكل واضح . او مؤطرة كالواح فكرية إنسانية (ميثالوجيا) غاية التعقيد وبعيدة التحقيق ومعايشة عصرها . ولا نريد حصر جميع ما ورد من مختلف الحضارات القديمة . ومنها الفرعونية (وادي النيل) والسومرية (وادي الرافدين) خاصة بحثنا هذا ، والاغريقية (اليونانية القديمة) والرومانية والاوغارتية (سواحل بحر الأبيض المتوسط شرقا وشمالا) . غير وادي السند في الهند والنهر الأصفر في الصين. هذا ما في العالم القديم ، عدا ما قام من الحضارات في حوض نهر المسيسبي والامازون في العالم الجديد (الأمريكيين) الشمالية والجنوبية ومنها حضارة (المايا – والانكا) وغيرهما بعراقتها قدما . عدا حضارة وادي الرافدين بامتدادها الواسع وما توصلت اليه حملات التنقيب والاكتشافات في مواقع اثرية منذ اكثر من قرن ونصف قرن .

وما تمخض منها والعثور على الكثير من الرقم الطينية والخزفية والذهبية والبرونزية بأشكال واحجام مختلفة ، غير التماثيل والقصور والمعابد ذات التصاميم المعمارية الرائعة غير المسبوق انشاؤها في أي مكان اخر . تعبر عن الواقع الاجتماعي والفكري والفني لمجتمعاتها والتي ملات غالبية المتاحف العالمية بها ومنها الاوربية ، واشهرها البريطانية والفرنسية والألمانية والروسية وغيرها . الى جانب متاحف أمريكا الشمالية وخاصة الولايات المتحدة .

3- المصادر الحضارية التاريخية :

       ان ما نتناوله في بحثنا هذا والتي استلت غالبية طروحاته من صلب الاساطير والملاحم الواردة في كثير من الرقم الطينية (الصلصال) والمسلات الحجرية المكتشفة في غالبية المواقع الحضارية مكتوبة بالخط المسماري او الرمزي لبلاد سومر واكد وبابل واشور ، ولا زالت بعض اطلال منها شاخصة للعيان ، ومنها – اريدو – اول عاصمة للحضارة السومرية ، واور – والوركاء (اورك) ونفر – وبابل – ولكش جنوبا ، مرورا بنينوى واشور ونمرود (كالح) ودور شروكين (خورسباد) ومعلثايا شمالا . وابرز هذه المأثر التاريخية قصة الخلق والمعركة الفاصلة بين تيامات (المياه المالحة) وكبير الاله مردوخ . ثم ملحمة كلكامش الذي توصفه كائن عملاق ثلثيه اله وثلثه انسان ، وقصة الطوفان وبنصوصها الثلاثة السومرية (+-)3000 ق.م . والبابلي 1894 – 1594 ق.م والاشوري 964 – 745 ق.م . غير ما عثر على مسلات وشرائع في ازمنة مختلفة على شكل قوانين تخص تنظيم الحياة اليومية لمجتمعاتهم وفق ضوابط اجتماعية (أخلاقية) واقتصادية وعقائدية وغيرها . ومنها المسلة الجامعة لحمورابي 1792 – 1750 ق.م والتي تحتوي على 282 مادة قانونية . وسبقتها شريعة اش نونا في مملكة حوض نهر ديالى 2120 – 1750 ق.م وثم بعدها شريعة لبت عشتار (الملك الخامس من سلالة أيسن 1934 – 1924)ق.م . وشريعة نيصابا وهاني التي تخصصت بمسألة الزواج والحياة الزوجية في عهد سومر قبل التوحيد . وتعتبر اقدمها جميعا لان التوحيد (أي توحيد المدن) حصل على يد سرجون الاكدي 2334 – 2279 ق.م ويعزز هذا التراث ما احتوته مكتبة اشور بانيبال 665 – 626ق.م كأعظم ثروة ثقافية في التاريخ مكتشفة لحد الان والتي احتوت على ما يقارب 30000 ثلاثين الف نسخة من الرقم الطينية المفخرة وبحالة جيدة . والكنز الثقافي الثاني المكتشف في مدينة سبارا قرب مدينة المحمودية جنوب بغداد وحاليا يدعى (تل أبو حية) .

4- صدى الاكتشافات التاريخية الأدبية والفكرية :

       يعود الفضل الى ما ذهبنا اليه لما قدموه لنا وبجهود مضنية مجموعة من العلماء المستشرقين وباحثين ومنقبين غربيين وعراقيين ومنهم (مولر ، جورج كونتنيو ، هنري لايارد ، طه باقر ،فوزي رشيد ، د. سامي سعيد الأحمد ، والدكتور فاضل عبد الواحد علي وغيرهم) من الوثائق الأدبية والفكرية ، وترجمت الى اغلب لغات العالم ، ومنها اللغة العربية ، وكان لهذه الملاحم والاساطير صدى واهمية كبيرة وضرورة دراستها وتحليلها ومقارنتها بما توصل اليه الانسان في عصرنا الحاضر في شتى العلوم الطبيعية والإنسانية . وكثير منها كانت في نظرنا سباقة لزمانها ومكانها . أي ان ما ورد في تلك الملاحم والاساطير ومجموعة القوانين والشرائع المذكورة وغيرها من الادبيات ، تجاوز فيها الانسان الرافديني واقع نشاطه الاجتماعي والفكري . وكان بعيدا عنه بألاف السنين معايشة . ولهذا يمكن الجزم بانه كل ما توصل اليه الانسان العراقي ضمن الحضارة السومرية عبورا الى الاكدية والبابلية والاشورية ، كان فكرا خياليا بحتا في حينه . علميا وفلسفيا حاليا بصيغ ملاحم أدبية رائعة ونادرة في بلاغتها وحبكتها ومعناها ، معبرا عن شرعية تواصل الفكر الإنساني في تحقيق طموحات لحياة ارقى مستقبلا . بمعنى اخر ان جميع تلك النتاجات الملحمية الأدبية والفكرية كانت تصب في بوتقة لمجموعة مفاهيم تخص مستقبله ، وليس لحاضره المليء بالصراعات العقائدية والاجتماعية والقبلية والطبقية . ويجب ان يعلم أسبابها والغاية منها والتحكم بها حتى امتد هذا التطلع الى ضرورة فهم الى جانب حركة المجتمع الديناميكية . حركة الكون بكواكبه السيارة واجرامه السماوية غير القابلة للإحصاء ، ونسب اليها قصص وروايات تفوق ادراك الانسان الحالي .

5- ماهية الملحمة والاسطورة الرافدينية وتأثيرها التاريخي :

       يمكن ان نعرف الملحمية بانها بانوراما أدبية تاريخية يتسم منطوقها بالحبكة والبلاغة اللغوية والمعنوية ، لان احداثها وعقائدها غير مألوفة في كل زمان ومكان. تنقل قارئها الى عمق التاريخ مشدودا اليها بكل احاسيسه وكأنه يعيشها حية وكما وقعت . وهناك تقييم فلسفي لعصر الملحمة والاسطورة الرافدينية للجهد الذي بذله الانسان في بابل خاصة ومن قبله سومر في السعي لتفسير ظواهر الطبيعة ومتابعة النجوم . وما ورد في الادبيات التاريخية ومنها ملحمة كلكامش وقصتي الطوفان والخلق ، فيقول الفيلسوف الاغريقي افلاطون 427 – 322 ق.م في نشأة الفكر الفلسفي في مجاورة طيماؤس ما نصه :-

لو لم نر النجوم والشمس والسماء ما نطقنا كلمة واحدة مما قلناه عن الكون . اما الان فان توالي الليل والنهار ، وتعاقب الأشهر ودورات السنين ، قد خلقت الاعداد ومنحتنا فكرة الزمن وقدرة البحث في الطبيعة والكون ، ومن هذه المصادر استتبعنا الفلسفة ...

       وان اول تنظيم لملحمة كلكامش كان في زمن سرجون الاكدي 2334 – 2229ق.م كما يعزى تنظيمها أيضا الى زمن حكم الملك نرام سن اخر ملك قوي لسلالة اكد – 2244 – 2207ق.م وصولا الى زمن الملك شولكي الثاني من سلالة اور الثالثة السومرية 2093 – 2046 ق.م كما ان اقدم نسخة للملحمة ثم استنساخها في العصر البابلي القديم الموثق لـ1950 – 1550 ق.م . كان عام 1933 – 1934 ق.م من قبل التاريخي (كوآيا) . وان اول اكتشاف للألواح الأولى للملحمة كان في نينوى (تل قوينجو) من قبل الأستاذ – جورج سميث – وقدم محاضرة حولها في جمعية اثار الكتاب المقدس عام 1872م واخرج نصوصها المسمارية الأستاذ – بول هيت –لأول مرة ضمن الفترة 1884 – 1895م ثم جرى ترجمتها الى لغات كثيرة . إضافة للمعلومات ان تاريخ (2700)ق.م هو المحدد لحكم كلكامش في مدينة اوروك (الوركاء) وفق وثائق من (فارا) . وهناك ذكر لاسم (لوكال بندا) بصفتهما مؤلهين ، كما جرى في الكتابة الصورية (الكتابة الشبيهة بالصور) التي وجدت في مدينة – شروباك – فارا – الان . ويرجع زمنها الى أواخر عهد جمدة نصر ، أي عصر فجر السلالات في حدود 2600 ق.م .

       كما تشير جماعة الأدلة الكتابية والاثرية الى ان كلكامش كان احد حكام دول المدن السومرية  في نفس العصر أعلاه الممتد ما بين 2800 – 2400ق.م رغم الاختلاف الحاصل في التواريخ أعلاه . بمعنى انه لا يوجد نص ملحمي او اسطوري موثق من قبل هذا التاريخ وفي أي مكان كان .. وهناك عدة ملاحم أدبية ذات قدم تاريخية ومنها ملحمة (رامايانا) الت كتبها الشاعر الهندي (فالمبكي) باللغة النسكريتية وترتقي الى عام (500 ق.م) واساطير أخرى جاءت بعنوان (اساطير اغريقية ورومانية) تأليف – غريزكوبر – ترجمة غانم الدباغ – قد لا تكون أقدم من ملحمة (رامايانا) الهندية ، لان الحضارة الاغريقية تمتد من 600 – 400ق.م تقريبا . والرومانية حديثا بما سبق . وان شخصية كلكامش قد ظهرت بأسماء كثيرة في عدة ملاحم ومنها – الالياذة والاوديسة) للشاعر الاغريقي (هوميروس) وكذلك الشاعر اللاتيني (فرجيل) الذي يتغنى بقصة (ايناس) الرجل الشبيه بشخصية كلكامش بقطعه المسافات عبر البحار بحثا للخلود .

       ولابد ان نشير الى الشاعر الإنكليزي – ميلتون – الذي يلعن – الفردوس المفقود – عدا شخصية – هرقل في الاساطير اليونانية المطابقة في اوصافه وشجاعته شخصية كلكامش أيضا وغيرها .

 

الخاتمة :

       حقا ان الحضارة السومرية الرافدينية هي الحضارة السباقة في احتضان ، لا بل بولادة أولى الملاحم والاساطير فيها ، والتي تحكي قصة رجال عظام لا مثيل لهم في سلوكهم وتصرفاتهم وشجاعتهم واحجامهم سابقا ولاحقا . وانها سبقت الحضارة الفينيقية التي كانت جسرا بعبور جميع ملاحم واساطير لحضارة سومر وبابل في منطقة بحر ايجا وما يحتويه من الجزر العديدة وسواحله الغربية المتمثلة بالدولة اليونانية حاليا . ومعها الفراعنة والاغريق والرومان في سبقهم أيضا .

المصادر :

1- قصة الطوفان – طه باقر .

2- الطوفان – د. فاضل عبد الواحد علي .

3- ملحمة كلكامش – طه باقر .

4- الحياة اليومية في بلاد بابل واشور – جورج كونتينيو .

5- نوافذ تاريخية وفلسفية – يوسف زرا – اصدار وار الشرق وزراة الثقافة العراقية – 2000م.

 

تاسعا بحث / من الادب العراقي القديم

العلاقة الجدلية والميثولوجيا بين قصة الخلق وملحمة كلكامش

1- المقدمة :

       يعتبر ادب وادي الرافدين القديم من اعرق الآداب التي ظهرت في المجتمع الإنساني ، وله مكانته المميزة باعتباره خلد قصصا وملاحم من عمق التاريخ تعود الى الاف الرابع قبل الميلاد . رغم انها مدونة على شكل الواح طينية بعدة لغات . وهي السومرية والبابلية والاشورية ضمن البقعة الجغرافية لحضارة هذا الوادي ، بعد انتقالها عبر الاف من السنين على السن أجيال واجيال ، وقد تمكن التاريخيون والباحثون والمترجمون من تحديد تاريخ تدوين ملحمة كلكامش وقصة الخلق ضمن الفترة الزمنية الممتدة ما بين عام (2000) الى عام (1500) ق.م الفترة التي سميت بالعهد البابلي القديم ، الذي امتاز بكثرة التأليف وتصنيف العلوم والمعارف والآداب ، وقد حدد المختصون ان تاريخ ظهور ملحمة كلكامش النهائي في حدود عام 1250 ق.م على يد الجامع الذي جاء اسمه (سين – ليفي – اونني)(1) . علما ان الملحمة نصا وروحا لأدلة لها في علم التاريخ والاثار .

2- تقييم القصة والملحمة :

       لا يمكن لأي باحث او كاتب ان يضيف شيئا ما لتقييم ادب العراق القديم لان اية لغة معاصرة تعجز عن التعبير لما بلغه الادب المذكور من بلاغة القصة والقصيدة الشعرية ، أي ملحمة كلكامش بالذات التي جاءت على نمط شعر موزون لم يبلغه ادب اخر على وجه الأرض . وذلك الادب الذي ترجم الى جميع لغات العالم القديم وبالخط المسماري كما يرد ذكره على لسان الكثير من الادباء والمترجمين اذ ظهرت نصوص من ملحمة كلكامش من المأثر الحثية (الاناضول)(2) .

وكذلك في بلاد الشام موطن الاراميون وفي عيلام امتدادا الى مصر القديمة ، ومنها قصة ادابا التي وجدت في الموقع الاثري المسمى (تل العمارنة) في مصر الوسطى.

       وأيضا هناك الكثير من الملاحم الأدبية التي ظهرت بعد عدة الاف من السنين بعد ظهور الملاحم الأدبية في وادي الرافدين، ومنها الادب في الحضارة الاغريقية ممثلا بملحمة اوديسا والالياذا وابطالها تكاد تكون نفس ابطال ملحمة كلكامش مع تغيير الاسم فقط .

(1) ملحمة كلكامش ، طه باقر ص36 .

3- خصائص الادب الرافديني :

       من خصائص الادب السومري والبابلي بجميع قصصه وملاحمه الشعرية وبشكل يفوق عقل الانسان الحالي كما اعتقد . تمكن الاديب السومري ان يسبق الواقع الحياتي زمانا ومكانا وبأسلوب اسطوري فلسفي (ميثولوجي) طورا . وبنظرة خيالية الى الأشياء المحيطة به طورا اخر بعبارة أخرى عبر من مظاهر الكون والحياة وبشكل فني ادبي والتي جاءت من نسيج افقه الواسع . ومن خلال تأملاته العميقة ودونها كرسوم على لوحات طينية . او على شكل قطع نحتية ذات طابع محلي ادبي وفلسفي في نفس الوقت . فاذا كانت قصة الطوفان تبدأ بوشاية (اله – آيا – الى شخصية اوتانبشتم (سد سدره) او (اتراخاسيس) كما جاء في النص البابلي . بقرار مجمع الالهة السبع (ايكيكي) بهلاك الجنس البشري ، الا انه في زبدة القصة  وعصارتها التي تؤدي الى خلود الانسان ممثلة بشخصية اوتانبشتم وزوجته نشتين . ليس لأي سبب الا انهما تمكنا من صنع الفلك كما امره آيا – وفي نهاية الطوفان يخرج قائد الفلك ومن معه ويقدمون القرابين للآلهة التي قررت هلاك جنسه . وهذا تناقض صارخ بين قرار مجمع الالهة وإعطاء منزلة الالوهية لمن خالف القرار .

       وهناك في ملحمة كلكامش ما يشبه هذا التناقض أيضا اذ انه – انليل – قد عين العفريت الساحر (خمبابا) حارسا لغابة الأرز . وان اله الشمس اعان كلكامش وانكيدو على قتل الحارس – خمبابا – الذي كانت تمثل سطوته على ارض الواقع كعباب الفيضان (3) . بمعنى ان الانسان له القدرة العقلية والادراك العميق في خلق عدة وسائل لمقارعة الغريم (قوة الشر) مهما بلغت سطوته . وان خمبابا يمثل الظاهرة القوية في الطبيعة التي يمكن لأنسان ما مثل كلكامش وانكيدو التغلب عليها . أي بدء تسخير الطبيعة واستغلالها . لمنفعته . اذ كان خشب الأرز من اغلى الاخشاب واندرها التي تدخل في بناء المعابد والقصور الضخمة .

       وهنا وفي الحالتين نرى التداخل الحربي بين محتوى القصة ومضمون الملحمة والتي تؤكد على أهمية الترابط الجدلي وضرورته في النصين الادبيين. نقول اذا كان الطوفان يمثل عقوبة للبشر لكثرة نزاعاته وصخبه مما أدى الى ازعاج الالهة السبع الوارد ذكرهم سابقا . فلابد ان يرد سؤال مهم ومحرج لمؤلف قصة الطوفان الذي يطرح نفسه ويقول :- فما ذنب باقي الكائنات الحية من النباتات والطيور والحيوانات البرية التي اهلكها الطوفان(4) .

       وهنا يجب الوقوف امام هذا السؤال مليا واستعراضا الفكر الانساني الخلاق عبر التاريخ من اشارته بصورة مبطنة وبأسلوب ادبي وبصفة جدلية مقنعة رغم بلاغة المعنى وقوة التعبير والذي ينوه فيه الى وجود مجموعة قوانين وأنظمة في الطبيعة تتحكم في تنظيم الحياة على وجه الأرض بشكل مستمر ودون ان يدركها الانسان . ومنها قانون توازن الاحياء في الطبيعة . وهو القانون الذي ظهر على شكل ظواهر طبيعية مدمرة غير قادر المجتمع البشري سابقا ولاحقا التخلص منها او التصدي لها . ومنها الفيضانات والزلازل والبراكين وانتشار الأوبئة وغيرها . الى جانب الأعاصير التي تحصل في البحار والمحيطات ، كل هذه الظواهر خارج قدرة وتحكم الانسان . مهما بلغ تطور تكنلوجيته النبوئية وتسخير الطاقات التي توصل اليها كالنووية وغيرها.

الى جانب كل ذلك ورغم تقدم العلوم الإنسانية والطبيعية ، لا زالت هذه الظواهر عصية على الانسان في تحديد زمن ومكان وقوعها . الا ان اله – آيا – حدد موعد حدوث الفيضان لاتانبشتم كظاهرة طبيعية أيضا .

       والى جانب هذه العوامل الطبيعية ، هناك عوامل اجتماعية مرتبطة أيضا جدليا بقانون (نزعة البقاء والبقاء للأقوى وللأفضل) . ومنها النزاعات الداخلية والحروب المستمرة عبر التاريخ بين الاقوام والشعوب . والتي تؤدي الى موت الملايين من البشر ، الى جانب الدمار الكبير بالاقتصاد الحضاري والعمراني وغيره . كلها تعمل على (انتقاء النوعية الأكثر مقاومة للأحداث أعلاه) .

       وهناك عوامل أخرى تعمل الفعل الإيجابي في ترقية وتطور الاجناس الحية والمجتمعات البشرية بصورة خاصة وهي ظاهرة (الاصطفاء النوعي الطبيعي) وهذا يدخل في مسار الظواهر الطبيعية كما قلنا . أي ضمن قانون توازن الاحياء في الطبيعة . ومنها قصة الطوفان وفعلها بالنسبة لباقي الاحياء .

       اما ظاهرة (الاصطفاء النوعي والاصطناعي) الذي هو ناتج من تدخل الانسن في انتقاء وتطوير اجناس في النباتات والحيوانات ، وحتى من بني جنسه وفق مواصفات خاصة . فهذا ترابط جدلي اخر في نفس ما جاء بقصة الطوفان . اذ امر – آيا – بإدخال من كل جنس من الكائنات الحية الى فلكه أي (استنقاء الأفضل) بسبب (اصطفاء النوعي الاصطناعي) وهو فعل الانسان . ليسود من بعد الطوفان التزاوج بين الاجناس كناتج افضل من سابقه الذي هلك بسبب الطوفان .

(2) المصدر السابق .

(3) كلكامش ، طه باقر ، ص75 .

(4) كلكامش ، طه باقر ، ص125 – 145 .

 

4- الادب الملحمي والزمن :

       يستدل من هذا السرد المقتضب نسبيا ، ان الاديب والكاتب السومري والبابلي عبرا معا من خلال هذه الملاحم التي جاءت كقصص ذات صفات ميثولوجيا (اسطورية) وذات تعبير فلسفي . انه سبق زمني ومكاني لعقل الانسان الرافديني القديم ، وحتى للإنسان المعاصر . وان ادراكه لهذه الظواهر ومنها الطبيعية (كقصة الفيضان – ملحمة كلكامش) ودورها في تقديم وارتقاء سلم الحياة . الى جانب ادراكه لابل اكتشافه نصوص القوانين المذكورة كحالة عقلية فكرية الهامية . لم يسبق انسان ، عبر الحضارات القديمة والحديثة الوصول اليها كظاهرة بيولوجيا في دماغه . لابل تعتبر ابداع عظيم جاء على شكل قصص وقصائد شعرية اشغلت الكثير من العلماء والفلاسفة عقودا من السنين في قراءتها وتحليلها وترجمتها الى جميع لغات العالم والخروج بمفاهيم ومعلومات ومعاني غير مألوفة وغير مستطرقة سابقا . ولابد ان نعود قليلا الى ملحمة كلكامش ثانية . وظهور انكيدو كحيوان في البرية وتحوله الى انسان ودورالشمخا) وبذلك حين تقوله له . كل الخبز يا انكيدو فهو جوهر الحياة . اكل انكيدو الخبز حتى شبع . أي ان انكيدو وصل الى حالة الاستقرار النفسي وزوال القلق عندما شبع من تناول الخبز ، أي اطمأن على مستقبله الاني ، وحثه على مواصلة الحياة والعمل بجد . ثم تواصل شمخا تدريبه الى ان تحول الى انسان بطبعه وسلوكه ، ونفرت منه بقي الحيوانات .

       وهذا لابد ان نقف قليلا ونقول : ان تأكيد لقدرة الانسان على اختزال الزمن وتحقيق طفرة نوعية في دور العمل في تحويل كائن بري الى انسان اجتماعي ، فهو بحد ذاته يعتبر عمل اسطوري يفوق الخيال وادراك الانسان في حينه .

       هذا من جانب ومن جانب اخر ، عندما يأمر كلكامش ملك اوروك جميع الرجال وحتى النساء القيام بمشاريع ذات نفع عام للمجتمع او لحاشيته ، بمعنى اخر ظهور استغلال الانسان للإنسان باستلاب قوته البدنية بدون مقابل أي ظهور طبقة او فئة مستغلة ونظام اقتصادي جديد . وهي مرحلة ظهور طبقة العبيد . أي ان نظرية المادية التاريخية كقانون لتطور الحياة . اصبح موضع التطبيق العملي داخل المجتمع الإنساني : وكذلك عندما يفرض كلكامش التجنيد الاجباري على الشباب . وهذا سبق زمني وتاريخي في بادرة تنظيم نوع من الوحدة البشرية مدربة على القتال وحفظ الامن ، اما لغرض توسيع نطاق حكمة على ما حوله من التجمعات البشرية ، او هو سبق زماني ومكاني لتقسيم المجتمع الى مجموعات متخصصة ضمن نظام حكم لا مثيل له في التاريخ بظهور الدولة الكبرى (الإمبراطورية) . وثبات شريحة من الرجال للقيام بدور الدفاع عن هذه الدولة ونظامها الإداري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي . ولابد ان تتواجد شريحة او ظهور فئة أخرى متخصصة تتولي محاسبة المخالف والمتمرد على النظام القائم . تعمل هذه الفئة كقضاة دائمين أيضا . (أي رجال القانون) منفصلون عن باقي شرائح المجتمع ، ضمن حاشية الملك المكونة من الاستشاريين واداريين وغيرهم كل يعمل حسب تخصصه وموقعه الوظيفي .

       بمعنى يمكن ربط ذلك بطموح الانسان من عمق التاريخ بقيام دولة ينقسم فيها المجتمع الى شرائح مستقلة بواجباتها وثابتة في اعمالها . أي تنظيم افضل العلاقات داخل المجتمع الإنساني . وهذا أيضا سبق زماني ومكاني لألاف السنين كما جاء في جمهورية افلاطون او المدينة الفاضلة التي تتسم بتقسيم المجتمع كما جاء أعلاه . وكان ذلك قيام دولة المدن المحددة زمنيا بعصر فجر السلالات 2800 -2400 ق.م.

       ومنها السلالة الأولى التي حكمت مدينة اوروك باسمها القديم والتي تنقسم الى قسمين رئيسين هما (كلاب) والثاني (أي – أن م) ويعني بيت السماء .

المصادر

1- ملحمة كلكامش ، طه باقر ص36 .

2- ملحمة كلكامش – طه باقر ص75 .

3- ملحمة كلكامش – طه باقر ص75 – 145 .

4- ملحمة كلكامش – طه باقر ص30 – 31 .

 

                                                               2008

 

 

الخاتمة

       وأخيرا لابد ان نشير الى ما احتوته البحوث التسعة من العنواين المختلفة لغويا ، متجانسة ومتباينة فكريا . كلها تشير الى مراحل زمنية ومواقع جغرافية (مكانية) من عمق التاريخ . والذي ظل الانسان يخوض في محيط لا بداية ولا نهاية له .

       أي دائم التغيير والتحول (غير مستقر) من حالة الى أخرى وفق قوانين وأنظمة ضمن مجرى الحياة ، فمنها طبيعية ثابتة خاضعة لمعادلات فيزيائية ، وأخرى ناتجة عن علاقات اجتماعية واقتصادية وفكرية مختلفة غير ثابتة ، أي تواكب مجرى ومسيرة حياة الانسان وما نتج من تفاعلها اليومي وفق حركة ديناميكية لا توقف لها .

       ولابد ان نشير الى ما ذهب اليه احد فلاسفة الاغريق عن هذه الظواهر والتي قد نسميها قوانين او ضوابط او روابط اجتماعية أخلاقية دينية وغيرها .

       اذ يقول ارسطوطاليس (كل شيء في الكون صور للمادة بشكل متغير) . أي ان المادة هي ماهية هذا المنطوق الفلسفي والعقلي والعلمي وجوهره . وكل ما جاء عبر الاساطير والقصص الأدبية لجميع الحضارات القديمة . هي محصلة الفكر الإنساني المستقطب بوجود تفسيرين فلسفين لما تقدم من الأفكار . كأدلة بوجود مجموعة قوانين تنظم الكون والاحياء معا وفق فلسفة المادية التاريخية .

       ويقابلها فكر فلسفي مثالي والذي يقول :

       بوجود قوى او كائن خالق لهذا الكون ومنظمه غير قابل للأدراك من قبل الانسان منطقيا ، بل تصوره عقليا فقط .

 

                                                       المؤلف

الأستاذ يوسف زرا المحترم

تحية طيبة ...

       بعد مطالعة مؤلفك (منطلقات فكرية) ذكرني هذا البحث وخاصة (دراسة نقدية لكتاب ادلة وجود الله) في زياراتي لمكتبة في السويد ابحث عن المجهول في حياتي واذا لفت نظري لمجلد باللغة الإنكليزية (بعنوان لغز الكون) كان بحجم 30×40 وبوزن حوالي 7كيلو تصفحت محتوياته وجلبته للبيت لأرى اعدادا كبيرة جدا من الصور الحقيقية الملونة التقطتها السفن الفضائية بأحدث تكنولوجيا . حينها فقدت عقلي وشعرت انني اصغر من ذرة رماد في اعظم تسونامي على كوكبنا عليه قمت برسم عشرة لوحات منها وجلبت منها الى مسكني في القوش حاليا .

       بقي ذهني شاردا في ذلك اللغز المحير وزاد شكي في وجود الله اذا اين هو؟؟ هل اصدق هذه الصور كما يقول العلم ام ابقى خاضعا لما موجود في كتب الأديان الثلاثة .

       اذا متى وكيف ولماذا نصدق السماء والأرض ونزول الأنبياء في ارضنا التي لا تساوي ذرة واحدة من المجموعة الشمسية وان هذه المجموعة لا شيء بالنسبة للمجموعات الأخرى في الكون كما اظهرتها تلك الصور وربما ذلك جزءا من الكون لا شك؟؟

       من هنا رأيت مطالعتك ونقدك لذلك الكتاب بأن لك كل الحق ونبقى ونبقى في دوامة ما ينتجه عقلنا وما يقبله المنطق من ذلك العقل وكلها مترابط بعجلة الزمن الذي يبقى ويكتشف الطبقات الأخرى من العقل ربما يبرهن حقائق الكون هذا اذا بقيت الطبيعة ولم يتغير الوجود .

       من هنا نؤيد ما جاء بنقدك العلمي وكما قال العالم في المذاهب والاقتصاد إبراهيم كبه رحمه الله (اذا تزاوج منهج الدماغ مع منهج المنطق (العلمي) هو ذا يحسم الشك باليقين وقال أيضا انك تستطيع ان تقول ان الله هو كتلة نار يفوق الشمس او عاصفة قاتلة او نور لا يجوز رؤيته .

       او أي مسمى لله وهنا لغز يجعلك تزيح شيء من الشك.

عموما انك يا سيدي فقد ابدعت في التحليل والنقد وبقية مواضيع بحوثك التاريخية وما ارجوه ان يطالعه المثقفون بدقة لعمق الأداء والنقد والتحليل في ذات الموضوع .

       شكرا لك يا أبا كادح على هذه الجهود الكبيرة في البحث والتأليف ولك الصحة والتوفيق.

                                                                   اخوك

                                                       صبحي حداد   

                                                       20/1/2015 

 

                                                           القوش