محمد علي محيي الدين
الناقد والقاص سلام حربة
صوتٌ نقدي وقلمٌ سردي في المشهد الثقافي العراقي
محمد علي محيي الدين
في المشهد الثقافي العراقي، تبرز أسماء استطاعت أن تشكل حضورًا متفردًا عبر التراكم النوعي لأعمالها، وعبر المزاوجة بين الإبداع السردي والنقدي من جهة، وبين الانخراط في الحراك الثقافي والإعلامي من جهة أخرى. ويُعد سلام محمد عباس خضير حربة، المولود في مدينة الحلة (محلة الوردية) في الأول من تموز عام 1955، واحدًا من هذه الأسماء التي جمعت بين الموهبة والتجربة، بين الإنتاج المتنوع والانخراط الفعّال في الوسط الثقافي العراقي.
نشأ سلام حربة في مدينة الحلة، المدينة التي رفدت الثقافة العراقية بعشرات الأسماء اللامعة في الأدب والفكر. تلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط والإعدادي فيها، ثم التحق بكلية الطب البيطري في جامعة بغداد، وتخرج منها سنة 1977. لكنه لم يتوقف عند حدود التخصص الأكاديمي، إذ سرعان ما غادر الوظيفة ليتجه إلى العمل الحر، مستثمرًا حريته في تأسيس شركة "برج بابل للإنتاج السينمائي"، ليكون بذلك شاهدًا ومشاركًا في تجربة الإعلام العراقي المعاصر، خاصة في الجانب البصري والدرامي.
مارس سلام حربة الكتابة بمختلف أشكالها، وكان قلمه حادًا في النقد، حالمًا في السرد، مشبعًا بالتجريب في المسرح، وواعياً في السيناريو والدراما. يكتب بوعي المثقف الملتزم بقضايا مجتمعه، وبلغة تجمع بين الصنعة الفنية والحمولة الفكرية. تنوعت مؤلفاته بين القصة والرواية والمسرح والنقد والدراما، ليقدم مشروعًا ثقافيًا متكاملًا قلّ أن نجد له نظيرًا من حيث التعدد والانغماس في تفاصيل المشهد الثقافي العراقي.
-ساعات وعقارب" (2000): مجموعة قصصية تكشف عن قدرة عالية على التقاط التفاصيل اليومية، وإعادة إنتاجها بصيغة فنية تجمع بين الواقعية والرمزية.
-أبواب" (2004) و"كسارات الحجر": مسرحيتان تمثلان اهتمامه بفن الخشبة، واستغلاله للحوار والبنية الدرامية للتعبير عن قضايا وجودية واجتماعية.
-ألوان مائية" و"قيلولة" (2022): روايتان حملتا بصمته الخاصة في السرد، من حيث الغوص في النفس البشرية، وتفكيك العلاقات الاجتماعية والسياسية.
-إضافة إلى أعمال درامية وسينمائية بارزة مثل: "حرائق الرماد"، "الأسرار"، "ألوان الرماد"، "شارع 40"، "صندوق الأسرار"، و"الحاج نجم البقال"، والتي كتب لها القصة والسيناريو والحوار، مما يدل على امتلاكه لأدوات متعددة في بناء العمل الدرامي بكل مكوناته.
سلام حربة ناقد يحمل موقفًا فكريًا، لا يكتب من برج عاجي، بل يخوض في تفاصيل المشهد الثقافي، متابعًا التحولات التي تطرأ على الذوق العام، ومستقرئًا آثار الأزمات السياسية والاجتماعية في بنية النصوص الأدبية. مقالاته النقدية والسياسية المنشورة في الصحف والمجلات العراقية تؤكد هذا الانشغال العميق بقضايا الوطن والمجتمع، وتحمل رؤى تحليلية رصينة للنتاج الثقافي والفني.
كما أن مشاركته في الندوات والمهرجانات في محافظات عدة تدل على حضوره الفاعل، والتقدير الذي يحظى به في الأوساط الثقافية، وهو ما يُعزز من مكانته بوصفه مثقفًا عضويًا لا ينكفئ على ذاته.
حظي سلام حربة باهتمام عدد من النقاد والباحثين الذين كتبوا عنه وأرّخوا لإسهاماته. فقد ورد اسمه وأعماله في كتب وموسوعات أدبية عدة، منها:
-أدباء وكتاب بابل المعاصرون" للدكتور عبد الرضا عوض (ج3/ص113)، حيث يُدرج ضمن أبرز الأسماء الثقافية في بابل، مشيرًا إلى منجزه السردي والنقدي والدرامي.
-معجم المؤلفين والكتاب العراقيين" (كوركيس عواد وميخائيل عواد، ج3/ص330)؛ وهذا الإدراج شهادة موثقة على تنوع عطائه وأهميته في الخارطة الأدبية العراقية.
-موسوعة أعلام الحلة" للدكتور سعد الحداد (ج1/ص138)، التي تعزز الصورة الثقافية لشخصيته وتوثق مسيرته المهنية والفكرية.
-النهضة الفكرية في الحلة" للدكتور صباح المرزوك (ص145)، حيث يُشار إلى دور سلام حربة في تحريك الوعي المحلي والوطني من خلال أدوات الفن والثقافة.
سلام حربة عضو في اتحاد أدباء وكتاب بابل، وعضو في النقابة الوطنية للصحفيين، ما يضعه في قلب المشهد الثقافي والإعلامي العراقي، مشاركًا وفاعلًا ومنتجًا، وليس مجرد متلقٍ أو ناقد من الخارج.
و من أبرز أعماله الروائية رواية "قيلولة" التي صدرت عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر في بابل سنة 2022، ونحاول تحليلها نقديًا من حيث الموضوع والبنية والأسلوب.
بين القيلولة الجسدية واليقظة الوجودية
تمثل رواية قيلولة امتدادًا لسياق اشتغال سلام حربة على اليوميّ والهامشيّ والمكبوت، لكنه في هذه الرواية يتقدم خطوة أبعد نحو التماس مع الجرح العراقي العميق، مستثمرًا فضاءً سرديًا هادئًا في الظاهر، لكنه متوتر تحت السطح، ينضح بأسئلة الإنسان العراقي المعاصر بعد أن جرفته التحولات الكبرى.
وتدور الرواية، كما يدل عنوانها، في زمن "الهدنة المؤقتة"، أو ما يُشبه الانسحاب من صخب الخارج إلى الداخل، إلى عالم القيلولة التي تمثل حالة رمزية للهروب من صدمة الواقع، لكنها ليست هروبًا سلبيًا، بل تأملًا وجوديًا في ضوء الخراب الاجتماعي والسياسي.
يسائل البطل وجوده عبر استدعاء ماضيه الشخصي وماضي المكان، وكأن الرواية تسير على إيقاع مزدوج: إيقاع الحاضر الكسيح، وإيقاع الذاكرة التي ما تزال حيّة على الرغم من انطفاء أبطالها.
أما بناء الرواية الفني فالرواية ذات بنية سيكولوجية داخلية، لا تعتمد على حبكة بوليسية أو تسلسل تقليدي للأحداث، بل تنمو عبر التداعي الحر والارتداد الزمني، ما يجعلها قريبة من تقنيات الرواية الحديثة التي تركز على الذات وتحليلها.
سلام حربة يكتب هنا بذات متأملة، غير عجولة، ولا تستعرض عضلاتها اللغوية، بل تنحت المعنى من هامش اللغة وتفاصيل الأشياء، كأن العالم يُقرأ من نوافذ الحنين أكثر مما يُعاش.
ولغة الرواية مقتصدة لكنها مشحونة بالدلالة. لا يجنح الكاتب إلى الزخرفة، بل يُبقي لغته قريبة من نبض الحياة، مع ومضات شعرية خافتة تمنح النص بُعدًا إنسانيًا عميقًا. وتتخلل الرواية مقاطع حوارية قصيرة، مكثفة، تشبه المونولوجات النفسية، ما يُعمق الطابع التأملي، ويجعل القارئ شريكًا في المعاناة والبحث.
أما أبرز الثيمات في قيلولة هي:
-الخسارة والغياب: سواء في فقد الأحبة، أو انطفاء الأمكنة، أو خيانة الأحلام.
-الزمن: يتجلى الزمن بوصفه عبئًا لا يسير نحو المستقبل بل يعود إلى الخلف، إلى طفولة مجهضة، أو حنين إلى ماضٍ أفضل.
-المكان: يظهر المكان كبطل مرافق، لا كخلفية جامدة. الحلة ليست مجرد مدينة، بل كائن حي يشكو ويئن ويذكر.
وقيلولة رواية تحمل رؤية نقدية عميقة للمجتمع العراقي، لكنها لا تسقط في المباشرة أو الوعظ. الكاتب لا يدين أحدًا، بل يكشف العطب من الداخل، عبر شخصيات تبدو عادية لكنها مرآة لانهيارات كبرى. وسلام حربة لا يكتب برؤية أيديولوجية، بل برؤية إنسانية، منحازة للناس البسطاء، للمهمشين، للذين يسيرون على هامش الضوء ولا تُكتب أسماؤهم في الصحف.
رواية قيلولة تمثل نموذجًا ناضجًا في سرد سلام حربة، وقد تكون أهم أعماله الروائية من حيث العمق والتركيب، حيث تكشف عن نضج فني ومعرفي، وتضعه بين كتاب الرواية الذين يتقنون كتابة الداخل العراقي بأدوات فنية راقية
أخيرا يمكن القول إن تجربة سلام حربة تمثل نموذجًا للمثقف الذي استطاع أن يُمسك بخيوط متعددة من الإبداع: من القصة إلى الرواية، من المسرح إلى السيناريو، ومن النقد إلى الصحافة، دون أن يفقد توازنه الفني أو وضوح رؤيته. لقد قدّم من خلال أعماله المتنوعة شهادة على قدرة المثقف العراقي على تجاوز العقبات والتحديات، وعلى البقاء فاعلًا رغم كل ما مرّت به البلاد من أزمات وتحولات. وأثره لن يُقاس فقط بعدد مؤلفاته، بل بتلك البصمة التي تركها في نفوس قرائه، وفي ذاكرة الثقافة العراقية المعاصرة، كمبدعٍ متجددٍ، وناقدٍ يقظ، وساردٍ يكتب من قلب الحياة.