عبد الامير الركابي
علم الثورات اللاارضوية الكبرى؟ -1
عبد الامير الركابي
ظلت الظاهرة المجتمعية معلقة ادراكا، برغم ماقد اقدم عليه الغرب من اعلان عن ولادة "علم الاجتماع" الذي وجد في حينه ليتحول الى تحد معرفي، يتعدى النطاق المباشر المعاين للظاهرة المقصوده، هذا مع العلم انه كان من المفترض في حينه ان يكتسب "العلم الاخير" صيغة "العلمية" بان يعتبر مايقوم به محاولة ابتدائية اولية على طريق طويل وشاق يتعدى مبدا (التجمع + انتاج الغذاء) بعيدا، بما يوجب ثورة عقلية كبرى، ماكانت اسبابها متاحه ولا قابله للتحقق في حينه.
على سبيل المثال، ومن باب توخي النموذجيه، وبحكم اللحظة ومارافقها من متغيرات انقلابيه غامرة، انعدم النظر في واحده من الظواهر غير العادية، وفوق الاستثنائية، دلاله على الانحيازية المسبقه للحاضر، على العكس كانت الظاهرة المذكورة توضع خارج العملية المجتمعية والتاريخيه الفعاله، فلم يحاول احد ان يفسر كيف يمكن لشخص مثل النبي محمد الامي، الذي لايجد قوت يومه، يعتاش على امراه كانت متزوجه قبله لعدة مرات، تزوجها وهي تكبره ب خمسة عشر عاما، في موضع صحراوي، في زاوية بعيده معزوله، ان ينتج مفهوما وكتابا ينتهي بالوصول الى الصين والهند شرقا، واسبانيا فيحتلها غربا، وليظل ماثلا في التضاعيف الحياتيه للشعوب والامم التي وصلها حتى اللحظة، بعد ان تغيرت تلك الامم حتى في التعبير عن ذواتها فغدت من يومها ابراهيميه، ومنها وابرزها، موضع الامبراطورية الفارسية الاسلامي الشيعي اليوم.
طبعا يعتبر ماقد حدث وقتها وكانه احتلال امبراطوري، واكراه للامم بالقوة علما بان الحفاة الجزيريين وقتها، لم يشكلوا سوى قشه قصمت ظهر البعير، من مائتي الف مقاتل هزموا اعظم الامبراطوريات، الروماينه والفارسية واعرقها، لا عسكريا، بل كينونة، فتكرست الابراهيمة الاولى المسيحيه في اوربا وماتزال، وانتهت فارس "الفارسية" من حينه، بما لا يمكن اعتباره الا من قبيل التطور الطبيعي المتوقع والمنتظر من نمطية مجتمعية امبراطورية بعينها، الى نمطية اخرى مختلفة مزدوجة بوضوح.
قبل هذا الحديث كان لشخص اعزل ماخوذ لكي يعدم من امبراطورية محتله عاتية، بلا سلاح ولا اي نصير، هو السيد المسيح، تحول الى مجتمعية اختراقية مضادة كاسحه في قلب المجتمعية الحاكمه المحتله، مخترقا الموت، ومتعاليا على احكام الملموس والارضوي، بما جعل الوثنين في الغرب يعتبرون سقوط روما عائد الى المسيحية وفعلها (1)، وهذا الحدث مقارنة على سبيل المثال بالثورة الفرنسية اليوم (2)، لابد ان يثير التعجب الاستثنائي اذا نظر الى مايعرف بالثورة التي يقتل فيها ثمانمائة الف مواطن، في بلد تعداده في حينه 26 مليونا خلال 10 سنوات من الاحتدام الجنوني، ينتهي بما يعرف بالنظام الديمقراطي الذي يعزز ويبرر الاستعمار والهيمنه على الشعوب، والاستغلال والنهب الساري الى اليوم. هذا غير الثورة "الاشتراكية" التي قتلت الملايين على يد جزار مثل ستالين، لتنتهي منهارة اخيرا خلال اقل من قرن من الزمن، متهاوية وممسوحه من السجل الوقائعي التاريخي، وهاتان هما الثورتان اللتان تعتبران دالتين كبريين على مايعرف ب "العصر".
شيء حري هنا بالاهتمام، هو "نفي الازدواج" قصورا وعجزا، فالمجتمعية هي الملموسات باعتبارها "المادية"، مع ان الظاهرة الطبيعية والمجتمعية ليست مادية بالمعنى الملموسي، ولو كانت كذلك لانتفت وغابت عن الوجود، لانها لاتعيش ولاتكتمل حيويا الا بالمادية الشامله المتعدية للملموس والمرئي، بما يجعل من تعريف المادية نفسه قاصرا ومتدنيا، ويختلف النظر هنا من منطقة الاحادية الجسدية التي ترى الكائن البشري كجسد فقط لاغير، ملحقة به العقل باعتباره عضوا من اعضائة مثل اليد والانف، لا ككينونه جوهر واصل في كيان مزدوج (عقل/ جسد) يبدا خلال مساره عبر ملايين السنين جسديا من دون حضور للعقل، فيخضع لمسار ذاهب الى تحقق وبروز الجوهر بعدان يتحول الكائن الحيواني الى الانتصاب واستعمال اليدين، فاذا بالعنصر الاصل والاساس المحور الذي به تتمثل العملية الحياتيه، قد ظهر بصيغته الاولى، ليبدا من يومها عصر "الانسايوان" الانتقالي هو الاخر، مابين متبقيات الحيوان و"الانسان العقل" المتحرر من الجسد، والمستقل عنه.
ان الفاعل الرئيسي في الحياة البشرية وفي المجتمعية هو العقل المستقل عن الجسد والذاهب الى مابعده، والى التخلص منه ومن اشتراطاته، وهو في حال تشكل ونمو خلل التفاعليه المجتمعية، بعدما تخلص من الهيمنه الجسدية الحيوانيه المطلقه، وصار حاضرا، وهو ما تتمثل فيه الظاهرة المجتمعية، باعتبارها العتبه التفاعليه العقلية الاخيرة الذاهبة بالكائن البشري الى "الانسان"، بما يقلب ويبدل كليا اجمالي مايعرفه الكائن البشري، بالاخص في الاطوار الاخيرة الانقلابيه الاليه، بخصوص المسالة الاجتماعية، وجوهر هذه الظاهرة المحكوم عليها حتى الان بالجسدية وهيمنتها المطلقة.
لايوجد الكائن البشري متفقا ولا متوافقا مع الاشتراطات الانتاجية اليدوية الاولى الناظمه للعملية المجتمعية ابتداء، ومع ان العقل يكون وقتها مضطرا للرضوخ الى حد بعيد لاشتراطات الحاجياتيه، ونمطية الانتاجية المتاحة، الا ان ذلك لايعني الاستسلام الكلي للمفروض اشتراطا يدويا، خصوصا وان الطبيعة والبيئة العنصر الاساس في تشكل المجتمعية بالتفاعل البدئي، لا تترك المجتمعات محكومه لمجرد الصيغة الجسدية الحاجاتيه من المجتمعات، ويوم تتبلور الظاهرة المجتمعية في بداياتها في منطقة الشرق المتوسطي نهريا، فانها تظهر ابتداء بصيغتين مجتمعيتن، واحدة جسدية ارضوية صرفة، متوافقة مع اشتراطات الرضوخ لحكم اليدوية تكون ارض النيل هي بؤرتها، يقابلها تكوين اخر مختلف كليا ينبثق في ارض الرافدين والنهرين، حيث الاشتراطات البيئية الطاردة والذاهبه بالمنتج الى الانتاجية الاصطراعية لدرجة العبش على حافة الفناء، سواء بالعلاقة بالنهرين المدمرين العاتيين وانفتاح الجهات الثلاث الشرق والغرب والشمال على السيول البشرية الارضوية النازله نحو ارض الخصب من الجبال الجرداء والصحاري، او جمله الحال المناخي، بما يجعل من البديهي ذهاب العقل الى البحث عن مسرب، وعن معوض يصل حد طلب الملجأ المضاد للمعاش، وهو مايتجلى سماويا بحكم النمطية التي تنشأ هنا، خارجه عن النموذجية الارضوية الجسدية الاولى، سالفة الذكر، بصفتها "لاارضوية"، هي حكما مشروع صدام اصطراعي لايتوقف، مع ماتحمله نمطيا ونوعا سيول السلالات البشرية الهابطة الى مابين النهرين، بمايعني قانونا وكينونه بنيوية تاريخيه، ونوع مجتمعية، هي نموذج وبؤرة الازدواج (اللاارضوي/ الارضوي)على مستوى المعمورة.