محمد علي محيي الدين
شريف هاشم الزميلي: شاعرٌ بنكهة الأسطورة وناثرُ حلمٍ لا يشيخ
محمد علي محيي الدين
في مدينةٍ تتجاور فيها سدةُ الماء مع سدةِ الحرف، وُلد الشاعر والناقد شريف هاشم الزميلي عام 1945، في سدة الهندية، وفتح عينيه على مشهد النهر والبساتين والكتب، ثم مضى في دروب الحلة طالبًا للعلم والحكمة، حتى تخرج في كلية التربية بجامعة بغداد عام 1968، حاملًا شهادة في اللغة العربية كمن يحمل وعدًا شعريًا لا يخلفه.
لم يكن الزميلي مجرد معلمٍ للغة، بل كان حارسًا على أبوابها، وراعيًا لأسرارها، فقد مارس التدريس بعين العارف، وأدار المؤسسات التربوية بقلب المثقف، وعين الناقد، حتى تقاعده في أواخر التسعينيات، بعد أن شغل مناصب تربوية عديدة، كان أبرزها رئاسته لقسم اللغة العربية في معهد إعداد المعلمين ومعاونته له.
لكن الحكاية لا تبدأ من وظيفة، بل من القصيدة. فمنذ منتصف الستينات، شرع شريف الزميلي في نقش اسمه على جدران الشعر العراقي، مشاركًا في المهرجانات والندوات، ناشرًا قصائده في صحف ومجلات كانت آنذاك مرآة حقيقية للمبدعين، كـ"التآخي" و"الثقافة الجديدة" و"العراق" و"بابليون" و"طريق الشعب"، وغيرها من المنابر التي احتفت بصوته المتفرد، العميق، والصافي كجدول في ربيع الحلة.
لم يكن الزميلي شاعرًا فحسب، بل حمل حسّ الناقد، وراح يسبر أغوار النصوص، متسلّحًا بعدةٍ معرفية، وروحٍ طليقة لا تخشى الاقتراب من عوالم الأسطورة والرمز، فأنجز كتابه النقدي المهم "جماليات التأويل في النقد الأسطوري" (2022)، والذي عُدّ من النقاد مداخلةً جريئة في الحقل النقدي العراقي، لما فيه من غوص في بنية الأسطورة بوصفها مرآة تتكثف فيها أحلام الجماعات البشرية، ومجساتها الأولى للفكر والكون والمصير.
وقد كتب أحد النقاد عن هذا المنجز قائلاً: "أن تناولا كهذا يشترط قواعد رصينة قادرة على الكشف عن مصادر الإشعاع في الفكر الأسطوري... وهذا ما يبينه شريف الزميلي عبر مقدمته الرصينة وفصوله الاثني عشر، التي تتداخل فيها الأحلام والسحر الواقعي والخيالي، والعلوم والأدب، لتشكّل عالمًا من المعرفة الشاعرية، والنقد الحالم."
الشاعر الذي نشر ديوانه الأول "تجليات القارة الثامنة" مشتركًا مع الشاعر عبد الهادي عباس عام 1988، ثم أتبعها ب إيقاعات قلب أعزل" عام 2003، ظلّ يكتب بقلبه، لا بقلمه فقط. فهو لا يطرق الأبواب المألوفة، بل يفتح شبابيك الروح على عوالم القصيدة، يجعل من اللغة قاربًا يعبر به إلى ضفاف الحلم، ومن الصور مجساتٍ تلتقط المعنى قبل أن ينفرط في الزحام.
وتنتظر المطبعة الآن صدور أعماله الأخرى: "عربة الأحلام"، و"أجراس ملوّنة"، ومجموعة في الشعر الشعبي، تؤكد كلها تنوع صوته، وتعدد أنفاسه بين القصيدة والنقد، بين الرؤية والأسلوب.
ولأنه كان يرى في الثقافة مسؤولية لا هواية، أسس مع نفر من أقرانه اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، وندوة عشتار الأدبية، وجمعية الرواد الثقافية المستقلة، مؤمناً أن لا نهضة للأدب دون مؤسسات حاضنة تخلق الديمومة والتواصل، وتحمي الإبداع من العزلة.
لم تقتصر عطاءاته على الشعر والنقد، بل كتب مقاربات نقدية رصينة لكتب مهمة في الحقل العراقي الثقافي، كأعمال أحمد الناجي وناجح المعموري ولاهاي عبد الحسين وصلاح السعيد وفلاح رحيم وسلام أمان وغيرهم. وكان في قراءاته ناقدًا يضيء النص من الداخل، لا يعيد رسمه فحسب.
ترجم له، وكتب عنه العديد من الباحثين، فنجده في معجم كوركيس عواد وميخائيل عواد، وفي موسوعة أعلام الحلة، وكتب د. صباح نوري المرزوك، ود. سعد الحداد، ود. عامر صباح المرزوك، وغيرهم، بوصفه واحدًا من أولئك الذين رافقوا التجربة العراقية الحديثة، شعريًا ونقديًا، دون أن ينخرطوا في صخبها المفتعل، بل تركوا أثرهم بعمقٍ، وخطوا حضورهم بهدوء الكبار.
شريف الزميلي، شاعرٌ ما زالت أحلامه تمشي في الأزقة القديمة للحلة، باحثًا عن صورةٍ جديدة، أو استدارةِ معنى، أو صدى أسطورة. رجلٌ يحمل في قلبه توازن اللغة، وفي عقله شغف الحفر في النصوص، وفي سيرته إيمان لا يشيخ بالقصيدة، حتى وإن غابت طويلاً، تعود إليه كما تعود الطيور لدفء العشّ الأول.
فمن يعرف الزميلي، لا يقرأه في ديوانه فقط، بل يراه واقفًا عند تخوم الأسطورة، حاملًا "عربة الأحلام"، يقرع أجراسًا ملونة في ذاكرة المدينة، ويهمس: "إنني شاعرٌ... لكنني لا أكتب لأحيا، بل لأشهد أن اللغة ما زالت حيّة، وأن القصيدة لا تموت."