مقالات وآراء

كثر الفقد… فصار قلبي أرضًا تمشي عليها الأرواح// رانية مرجية

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

رانية مرجية

 

للذهاب الى صفحة الكاتبة 

كثر الفقد… فصار قلبي أرضًا تمشي عليها الأرواح

رانية مرجية

 

كثر الفقد يا أحبّتي، حتى صار يشبه المطر في مواسم الشتاء القاسية؛ يهطل بلا استئذان، ولا يمنحنا الوقت الكافي لنبحث عن مظلة أو عن كتف.

ومع كل فقدٍ يطرق بابي، كنت أرتجف أول الأمر، ثم أندهش… كيف يمكن لغيابٍ واحد أن يوسّع القلب بدل أن يضيّقه؟ وكيف يمكن للروح أن تتعلّم الطيران بعد أن تفقد أجنحتها؟

 

لم أعد أنظر إلى الفقد كجدارٍ يسدّ الطريق، بل كنافذة تفتحني على نفسي.

علّمني أن الإنسان لا يعرف جوهره إلا حين يقف وحيدًا أمام ما لا يُعاد.

وأننا لا نُختبر بالفرح بقدر ما نُختبر بقدرتنا على أن ننهض بعد أن نجثو طويلًا أمام الغياب… وأن ننهض برحمةٍ لا بحقد، وبسلامٍ لا بتشوه.

 

الفقد لغة… لكنه ليس صوت رحيل، بل نداء بعث

 

في الليالي التي كانت تختنق فيها جدران البيت من صمت الراحلين، كنت أسمع شيئًا آخر؛ همسًا يشبه دعاءً يُتلى من مكان لا يعرفه إلا القلب.

كنت أشعر أن الأرواح التي غادرتنا لا تفنى، بل تتحوّل إلى نورٍ يتسلل إلينا بلا ضجيج.

نورٌ يُربّت على الذاكرة، ويقول لها: “اهدئي… لسنا بعيدين. نحن فقط في شكلٍ آخر.”

 

التصوف لم أتعلمه من الكتب، بل من هذا النور.

من اللحظات التي شعرت فيها أن قلبي، رغم هشاشته، يظلّ قادرًا على أن يرى ما تعجز عنه العينان.

وعرفتُ أن الفقد ليس عقابًا، ولا امتحانًا قاسيًا كما يظنه البعض… إنه باب.

بابٌ يختار الله أن يفتحه لنا حين يعلم أننا مستعدون لنرى ما وراء العالم الظاهر.

 

كبرتُ بالفقد… وكبُر قلبي حتى صار بيتًا لمن رحلوا

كنتُ أظن نفسي صغيرة، ضعيفة، تنكسر من أول غياب، لكني اكتشفت أن داخلي امرأة أخرى، أعرفها ولا أعرفها:

امرأةٌ تجمع شظاياها كلما تكسرت، وتعيد ترتيب قلبها كما تُرتّب الأمّ شعر طفلتها قبل النوم.

امرأةٌ تُحبّ حتى الوجع، وتوجع حتى النور، وتؤمن أن كل حزنٍ يحمل في داخله بذرة حياة.

 

كثُر الفقد فكبرتُ معه، حتى صارت روحي أكثر اتساعًا.

صار للغياب عندي معنى يشبه معنى الصلاة:

إخضاع القلب لرحمة الله، وتسليمه لما لا نفهم، وثقته بما نُبصره بالقلب لا بالعين.

 

الراحلون… لم يرحلوا

أعرف اليوم أن الذين تركونا لم يذهبوا إلى مكان بارد أو بعيد.

لقد عادوا إلى الله… ومن عاد إلى الله لا يغيب.

إنهم يعيشون فينا، في كلماتنا، في هدوئنا، في قوتنا التي لا نعرف مصدرها.

وأحيانًا، حين يشتد بي الحنين، أشعر أنهم يضعون يدهم فوق روحي ويقولون:

 “تقدّمي يا رانية… فالطريق الذي كتب لك لم يكتمل بعد.”

الحمد لله… على الفقد الذي صار طريقًا إلى النور

 

أقولها بطمأنينةٍ لم أعرفها من قبل:

الحمد لله على من أخذ… والحمد لله على من أبقى… والحمد لله على ما علّمنا من خلال كليهما.

لقد جعلني الفقد أكثر إنسانية، أكثر قربًا من الله، أكثر رحمةً بالناس، وأكثر فهمًا لمعنى أن نعيش حقًا.

 

إنني اليوم لا أخجل من دموعي، ولا أخاف من حزني، ولا أهرب من ظلال الذاكرة.

فكل ما فيّ صار شاهدًا على أن القلب إذا صدق، فإن الله يرفعه من بين الأنقاض، وينفخ فيه من نوره، ويرسل إليه من يقول:

هلمي… فهذا الفقد لم يأتِ ليهزمك، بل ليكشف لك ما لم تكوني لتريه في النور.