اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

المجنون والبحر– مسرحة القصيدة العربية// دراسة وتحليل د. رندة زريق

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. رندة زريق-  صباغ

 

المجنون والبحر– مسرحة القصيدة العربية

للشاعر الأديب: وهيب نديم وهبة

دراسة وتحليل: الناقدة، الدكتورة رندة زريق-  صباغ.

كاتبة ومستشارة ثقافية

 

هل هي قصيدة تمسرحت؟ لأن مجنونها رفض إلا أن ينقل الحياة إلى المسرح لأنه وبجنونه "العبقري" يرى الحياة كلها مسرحًا كبيرًا نلعب نحن عليه أدوارنا – فتمسرح بها.

 

إذا تساءلتم لماذا المجنون؟ فلأن مابين الجنون والعبقرية شعرة، هذه الشعرة قد تكبر أحيانًا، فتجعل الفرق بين الاثنين شاسعًا. ولكنها في معظم الأحوال، سرعان ما تتلاشى فلا نعود نميز بين المجنون والعبقري.

ومن هنا فان كثيرًا من عباقرة الحياة يفضلون أن ينعتوا أنفسهم قبل أن ينعتهم الآخرون بالمجانين.

 

أما لماذا البحر؟ فهذا ما أنصحكم باستنتاجه بعد قراءة هذه الإبداعية الرائعة حيث من الممكن أن يختلف التفسير من شخص لآخر، وهنا تكمن العظمة، كما هو الحال مع الرسم التشكيلي، الذي قد نفهمه تمامًا كل بطريقته طبعا - وقد لا نفهم منه أي شيء.

 

البطل الثالث هو هالة... المحبوبة - رمز كل ما هو نظيف وجميل في هذه الحياة، وصفها باليمامة والأهم من ذلك إنها رمز الأمل والتفاؤل.

فهالة هي النور الذي يحيط بالقمر فيزيد جمالًا وروعة.

 

"قالَ  الْمجنونُ: "لأنَّ هالةَ تستيقظُ على

شطآنِ الْفرحِ مثلَ يمامةٍ، وأخافُ على

الْيمامِ الْهاربِ منَ الْاستعمارِ والاستعبادِ...

وقيودِ الْقبائلِ، وجنازيرِ الْمشانقِ... وكلِّ

الْقوانينِ الّتي تمارسُ خنقَ الْعصافيرِ...

هالةُ تسكنُ صدري، الْمفتوحَ على الْبحرِ                        

بحريّةٍ، والْبحرُ لي."

قال لها أيضا:

(ما دام العالم أسود... فكوني أنتِ فرح اللّيلةِ وقنديل الصّباحِ) فهو يأخذها معه كسراج إلى كل مكان معتم يذهب إليه.

 

ما الذي يطالب به هذا المجنون؟

يتضح لنا من خلال القراءة أن هذا المجنون يريد عالمًا مثاليًا، عالمًا لا يجده في الواقع - كالمدينة الفاضلة التي أرادها أفلاطون - لكن كل بأسلوبه وبطريقته طبعًا، هو يطالب بإلغاء الطبقية والشرائع والتعصب الديني. كذلك فانه حانق جدًا على هذه الحياة الغابة التي يعيش فيها الإنسان ويتمنى كما تتمنى هالة تغيير الوضع مع أنها تتساءل مذعورة:

هالةُ: "وأنا سيّدي، ماذا؟ لمنْ تتركُني في هذا الزّمنِ الْغابةِ؟"

 

ونتيجة لكل هذه الأوضاع التي لا تعجبه فقد اختار البحر ليكون فيها عالمه الخاص، وقد ظن انه سينجح لكن الأمر لم يكن كذلك.

 

بنى خيمة هناك ليسكنها وحبيبة قلبه هالة.

لكنه عاد فحطمها بعد ذلك لأنه أدرك أن مثل هذه الخيام تملأ العالم... إذن فهو لم يأت بابتكار جديد... فهو يريد عالمًا خاصًا به بكل ما فيه.

الْمجنونُ: "أنا الْهاربُ منَ الْأرضِ إلى الْبحرِ،

أحملُ الْموتَ في جسدي، قميصي الْأخيرِ، وحينَ تدخلُ الْحياةُ في شراييني تعلو أمامي

ألفُ خيمةٍ وخيمةٍ... والْبحرُ ينظرُ بصمتٍ.

لا أريدُ يا هالةُ، الصّمتَ والْخيمةَ، ولا مساكنَ الْمقابرِ. نصفُ الْعالمِ الْعربيِّ، يا هالةُ، يعيشُ في دورِ الْمقابرِ والْخيامِ، وها هوَ الْبحرُ، ينظرُ بصمتِ الْأمواتِ."

 

يقول الشاعر والأديب وهيب نديم وهبة في بداية الكتاب:

ليسَ منَ السّهلِ،

أصبحتِ النّزاهةُ عارًا والدّعارةُ علمًا

والْخداعُ تجارةً والْكذبُ مهنةً...

تحرّكَ الْمجنونُ في دَاخلي.

ليكنِ الْجنونُ بدايةَ الْبدايةِ.

 

"بينَ الْحُلمِ، والْوهمِ، والْخيالِ...

بينَ الْعشقِ الْعاديِّ...

والْعشقِ الْممْزوجِ بالدّمِ،

والْخيانةِ والنّفاقِ، هذا الْوهمُ الْقاتلُ...

الّذي يجعلُ للْمادّةِ قدمينِ وكفّينِ ويحملُ الْأرضَ...

على كفّ هاويةٍ."

 

معظم الوقت كان المجنون يسمع صوت الوهم... حتى تأتي هالة لتوقظه بكلامها لأنها تدرك بأن الوهم لا يتحقق لأنه كالقصر المبني على الرمال ومن يعيش في الوهم سيدمره يومًا.

الحلم، ذلك العنصر الضروري لتطور حياتنا... ومن ليس له حلم وطموح... فهو ليس بإنسان.

 

أما الخيال فهو الذي يساعد الإنسان على الاستمرار في الحياة... وهو الذي يساعد الإنسان على تحقيق أحلامه.

 

المجنون على قناعة تامة بأن الفرح موجه عابرة وان الحزن هو سيد العالم... وأننا نسرق الفرح والسعادة ونحتلها احتلالًا وذلك بسبب كل ما نمر به من ضغوط اجتماعية نفسية فكرية اقتصادية... الخ.

كذلك فأن طمع الإنسان لنيل الأفضل والأحسن يجعله يمل ما حصل عليه من سعادة طالبًا المزيد.

 

كما قال جبران: (وما السعادة في الدنيا سوى شبح / إذا صار جسمًا مله البشر)

 

أساليب البديع والغريب من نوعه في توظيف العبارات والكلمات كقوله:

(1)    كانَتِ الشّمسُ برتقالةً تموتُ...

 

(2)  جلسَتْ فوقَ صخرةِ الْقتلِ، الصّيدِ، وبكَتْ.

تلكَ الْمرّةُ الْأولى الّتي يحفرُ فيها

نهرُ الدّمعِ بحيرةَ الْأجفانِ.

تلكَ الْمرّةُ الأولى الّتي تسقطُ فيها

دموعُ الْحريرِ فوقَ الرّملِ.

 

(3)  ينهضُ، يجمعُ كلَّ زجاجاتِ الْحزنِ،

ويركضُ، ويركضُ حتّى الْبحرِ...

يرمي واحدةً، وأخرى، وعشْرا... ويرمي...

ويرمي... يغرقُ الْبحرُ بالْأحزانِ.

ينهضُ، يجمعُ كلَّ مياهِ الْبحرِ...

ويضحكُ... ويضحكُ... الْآنَ الْبحرُ في زجاجةٍ.

وأنتَ خارجَ الزّجاجةِ - منْ أينَ يأتيكَ الْفرحُ؟

 

قد نضطر أحيانًا لإعادة القراءة أكثر من مرة إما لان الجملة أعجبتكَ جدًا ويدهشكَ هذا التوظيف الجميل للكلمات او لأنكَ تتعجب كيف يمكنه أن يعبر عما بداخله من مشاعر وأفكار بهذه الجمالية التي تعجز عنها أنتَ بالرغم من انك تفكر مثله تمامًا.

 

"الْآنَ، قدْ يكونُ...

وأنتَ داخلَ الزّجاجةِ، أنتَ تستلُّ لقمةَ الْعيشِ الصّعبةِ منْ بينِ أنيابِ أسماكِ الْقرشِ والتّماسيحِ الّتي لا تعرفُ الدّموعَ.

الْآنَ، منْ منّا أكثرُ واقعيّةً – أنتَ،

أمِ الْمجنونُ الْخارجُ منْ ذاتي إلى

الْبحرِ الْكبيرِ"

 

إما أن يكون الإنسان متفائلًا ويرى النصف المليء من الكأس وإما أن يكون متشائمًا فيرى النصف الفارغ من الكأس أما مجنوننا فانه يأبى إلا أن يرى النصفين في آن معًا حتى في أكثر المواقع رومانسية فها نحن نقرأ "قمران عيناكِ" فنتوقع أن تليها جملة غزل أخرى لكن هذا لا يحدث بل نقرأ:

قمرانِ عيناكِ وهذا الْمساءُ...

شاحبُ الْألوانِ، باهتٌ،

يرسمُ على ضفافِ الْحلمِ الْورديِّ،

الشّفّافِ، جفافَ الْعمرِ"

 

فأن سعادة المجنون لا تكتمل كما لو انه يخاف أن يصل ذروة السعادة ولا يتمكن من التغاضي عن نصف الكأس الفارغ... "لكن السؤال: بماذا نصف ذلك؟ بالواقعية أم بالتشاؤم"

بعد أن اتفقا على العودة معًا ها هي تستيقظ صباحًا فلا تجد المجنون... تجلس هالة قرب متاع الرحيل وتبكي بكاء عاصفة خرساء، تلك المرة الأولى.

هجرَتْ عالمَ الْيابسةِ، ولمْ تبكِ.

تركَتِ الْأهلَ والْأصدقاءَ، لمْ تبكِ.

 

نقف حائرين مشدوهين فعلًا... لماذا... لماذا... قرر المجنون فجأة أن يهرب من جديد...؟

لماذا قرر أن يترك هالة وحيده على الشاطئ بعد أن تركت كل شيء ولحقت به؟! وأين تراه يذهب؟! هل سيطر عليه اليأس وانتحر؟ بالطبع لا.

 

فقد قال لها مره: (معكِ أتحدى النزعات الطائفية... والعنصرية... والتعصب... والجهل)

"لنْ أهربَ بعدَ الْآنَ، ولنْ أدخلَ دوّامةَ الْإحباطِ."

 

ليس هو بالهروب كما نفهمه... بل هو محاولة تحرر وانعتاق جديدة... فقد تحرر من شيء ما لينعتق في مكان آخر.

غيابه في النهاية غير مضر، وهنا يمكن الجمال أيضًا حيث ينطلق عنان كل قارئ ليتخيل أين وكيف ولماذا يهرب وهل يعود... ولكن السؤال متى وكيف ولماذا أيضا؟

افليس الإنسان مسيرًا وليس مخيرًا في معظم الأحيان؟

 

هذا الوضع يؤدي إلى ضياع ذواتنا في ذواتها.. فنصبح في حيرة من أمرنا لا نعرف كيف نتصرف أو ماذا نفعل، فما هو الحل في مثل هذه الحالات إذن؟ معظمنا يكيف نفسه مع الظروف حتى يستمر في حياته.. أما من يتصف بنوع من الجنون العبقري فانه يبحث عن ذاته... والبحث عن الذات قد يكون بعيدًا بعيدًا عن كل شيء وعن كل شخص... ومن هنا جاء هروب المجنون أخيرًا.

 

إنها غيبة سيعود بعدها حيث يتأكد من اكتشاف ذاته. ليس هروبًا نتيجة ضعف بل هو محاولة تحرر وانعتاق جديدة.

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.