اخر الاخبار:
محافظ نينوى يزور مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:33
زيارة وفد هنغاري الى دار مطرانية القوش - الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2024 10:32
طهران تتراجع عن تصريحات عبداللهيان - الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2024 11:24
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

حكاية ونَص: هل توجد بلد في الدنيا ليس به فقراءٌ من ميسان؟!// محمود حمد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمود حمد

 

 

عرض صفحة الكاتب 

حكاية ونَص:

هل توجد بلد في الدنيا ليس به فقراءٌ من ميسان؟!

محمود حمد

 

منذ ولادتي تحت سقف كوخ القصب اليابس، الذي ما أن تَهطل عليه مِزْنَةٌ مَطرٍ حتى تغمره المياه فتعوم في وحلها:

أسلابَنا، وكيس الطحينَ، وحَلاّنةَ التَمر، والكتبَ المدرسية، ووثائقَ (الانتماء للعراق)!

 

عند طفولتي الخاوية عرفت أنني من مدينة كتب (الله) و(السلطة) عليها أن تكون مأوىً للفقراء المُعدَمين، يَنفِرُ الناس البؤساء منها من فرط الجوع إلى هوامش المدن الأخرى الأقل بؤساً... ليخدموا فيها كـ:

زبّالين في الطرقات، وفرّاشين في الدوائر الحكومية، وحُراس ليليين في الأحياء القديمة، وبستانيين في حدائق الشوارع! 

 

ما أن طَرَّ شاربي حتى أغوتني قراءة الكتب الممنوعة، بعد أن عشقت الرسم على الطين قبل أن اتعلم كتابة الحروف على الورق، فصارت المعرفة الممنوعة جزءاً من شغفي التي عصفت بكوخنا، ولَوَّحت عقولنا بالتساؤلات المُحَرَّمةِ الشائكة، وأمسى الكتاب منجاتي من الغرق في طوفان التخلف المتوارث والمتناسل ومعتصمي من التجهيل السلطوي الممنهج، ومن (الدجل المجتمعي المقدس!) ... تعلمت أن الناس الذين ينشؤون ويرحلون بصمت من المدينة، هم وَجَعُها الذي سيزيد من آلام المدن الأخرى التي سيعشعشون فيها!

 

لما انتميت للفكر الممنوع من السلطة، واتخذت المعرفة سبيلاً للاعتراض، ومعولاً لفضح الفاسد المستور في بيئة البؤس، أدركت أنني مثل غيري من أبناء مدينتنا الذين يتسلل الضوء إلى عقولهم واليقظة إلى ضمائرهم، سيطيرون منها يوماً، مُحَلِّقين مع الأسراب المهاجرة، حالما ينبت الريش بديلاً للزغب في أجنحتهم، وتلك عِلَّةٌ فرضها (الوعي) عندهم، وغصبهم عليها قمع السلطة لهم، وليس هوى للتشرد والاغتراب في أنفسهم!

 

عندما هاجرت أيقنت أني احترف الغربة، لكني رغم ذلك أخفق في الاندماج فيها... ووجدت في كل منعطف في الأرض تأخذني الرياح إليه... هناك (فقراء من ميسان)!

 

طيلة سبعين سنة ونيف لم تبرح مدينة (الماء والسماء) وعيي أو تنأى عن مخيلتي، كلما اضع الفرشاة على سطح القماش لايرسم، أو أمسك بالقلم لادون أوجاعي... رغم تعرض ذاكرتي لأعاصير إزاحة شديدة القسوة والوحشية، لكنها لم تستطع اقتلاع نخلات باسقة راسخة على ضفاف دجلته!

 

كلما تذكرت وفاء الأبناء لمدينتهم المنكوبة... يظهر أمامي الدكتور (داود روبين كبّاي) أشهر أطباء مدينة العمارة، الذي جاء مع أبيه الطبيب من بغداد مطلع القرن الماضي، ليستقر في مركز مدينة العمارة... واشتهر في المدينة باسم (داوود كبّاية)!

 

الرجل الشغوف بحب الناس والإخلاص لهم، والصبور على بلوى المضايقات التي تعرض لها اليهود، لإجبارهم على الهجرة إلى إسرائيل، منذ خمسينيات القرن الماضي، ألا أنه رفض الهجرة إلى إسرائيل... لاعتزازه بوطنه وأهله... وتشبثه بأزقة العمارة ووجوه قرويها الذين يستغيثون به من الأمراض التي تفتك بهم دون مُغيث!

 

وظلت الحكاية التي يتداولها أهل (مدينة العمارة) مركز (محافظة ميسان) وذاع صيته بها عالقة في ذهني:

عندما كان (الدكتور داوود كبّاي) في أحد الأيام جالساً في المقهى... لاحظ طفلة قروية فاقده للبصر تجلس مع والدها على الرصيف المقابل، فنادى الدكتور (كبّاي) على والدها وعرض عليه أن يَجري لها العملية مجاناً... وأجرى العملية بنجاح وأعاد النظر لتلك الطفلة!

 

عندما فتح عيادته في (محلة التوراة) بـ(مدينة العمارة) ... كان يكشف على مرضاه الفقراء مجاناَ، ويصرف لهم الدواء مدفوعاً من جيبه، فازدحمت عيادتهِ بالقرويين من أطراف المدينة، حيث كانوا يزوروه حتى في الليل!

 

أعده أهل المدينة (مَلاكاً هَبَط عليهم من السماء!) لأنه بنظرهم (الدكتور المتخصص بعلاج جميع الأمراض!)، فكان يعالج جميع المرضى من كبار السن، والأطفال، وحتى النساء عند الولادة!

 

عندما اضطر الدكتور (كبّاي) نتيجة ملاحقات السلطة واستفزازات حثالتها للانتقال من العمارة إلى بغداد عام أربع وستين وتسعمئة وألف... افتتح له عيادة هناك وخصص يوم الجمعة فقط لمراجعي (مدينة العمارة) الذين كانوا يأتون إليه بأعداد كبيرة قاطعين مئات الكيلومترات للقدوم إليه... حتى كانت نساء المدينة يَضَعْنَّ (الحِنّاء) على باب عيادته!

يتَبارَكْنَّ بها كما يفعلن في ضريح الإمام الكاظم (باب الحوائج)!

لأنه اكتسب محبة فقراء الناس بأخلاقه الرفيعة وقِيَمِه الإنسانية!

 

بعد مجيء حزب البعث للسلطة عام ثمان وستين وتسعمئة وألف تم سجنه في (قصر النهاية) لمدة عام، وتعرض خلالها لأبشع أنواع للتعذيب، ومنعَ عنهُ الغذاء والماء عدة أيام حتى اضطر أن يشرب من بوله لشدة العطش المميت!

 

حال خروجه من (قصر النهاية) هرب إلى إيران سيراً على الأقدام لعدم توفر المال لديه لدفع أجور النقل، بعد أن أنكر أحد معارفه وجود الأموال التي تركها أمانة عنده! ومنها هاجر إلى لندن التي عاش فيها مُعدماً حتى رحيله عام ثلاثة وألفين!

 

في سنوات الدكتاتورية وحروبها وحملات قمعها المتواترة، لم تكف (ميسان) عن ولادة أجيال من الفقراء المبدعين والمناضلين المعترضين الذي تعصف بهم نوبات القمع، لكنهم يهاجروا منها مُجْبَرين لا مُخَيَّرين، ويتشتتوا في كل بقاع الأرض...

 

شعراء يمتهنون غسل الصحون في المطاعم، وفنانين يجمعون النفايات في محطات المترو، وكتاب يوزعون الوجبات السريعة على الدراجات، وأكاديميين يغسلون السيارات على الأرصفة، وأطباء ينظفون صالات المستشفيات، ومهندسون ينقلون البضائع على ظهورهم من الحاويات إلى الناقلات!

 

وغيرهم تختفي أخبارهم في حقول المزارع المجهولة...وقليل منهم أولئك الذين يجدون مظلة تَقِيهِم حَرَّ الصيفِ وقَرَّ الشتاء... لكنهم جميعاً لم يفقدوا سيمائهم كـ (فقراء من ميسان)!

لذلك تساءلت:

هل توجد بلد في الدنيا ليس به فقراءٌ من ميسان؟!

تسألُني (حريةُ) بائعةُ الفِجْلِ بسوقِ "الميمونةِ":

عن سِرِّ القَحْطِ المُستَشري فينا مٌنذُ ولادَتِنا ...

نَنْقُلُهُ كالطاعونِ بأجسادِ المُدُنِ الأخرى!

تَستَدرِكُ:

هل توجدُ بَلدٌ في الدنيا لَيسَ بها فقراءٌ مِنْ ميسان؟!

هَلْ هذا الداءُ الكامِنُ فينا... مِنّا؟

أمْ... مِنْ رَبِّ العَرشِ الخالقِ أرزاقاً ...

وسيوفاً تَفْتِكُ فينا؟!

****     

أسألُها:

هل تعرفُ "اوروك" ...

بَلدٌ لم تَعرف ذاكرةُ الإنسانِ بلاداً قَبْلَهْ ...

بَلدٌ أنشأها الأهلُ بهذا الإقليمِ من العالمِ ...

هذي (ارضُ الرُزِّ الوحشيةِ برعايةِ أوتو) (1) ...

أطلَقَها (انكي دو) في الألفِ الثالثِ قَبلَ الميلادِ ...

واليومُ بلا رُزٍ نأكلُهُ!!

****

ضَحَكت (حريةُ) قائلةً:

إنّي لا أعرفُ بلداً غيرَ (الميمونةِ)!

تومِئُ لـ “الزوري"(2) المُتَنافرِ في "مشحوفِ"(3) الصيادِ اليافِعِ ...

كصفيحِ الفِضَّةِ يَغلي ...

وبِكَفَيها باقَةَ فِجلٍ يانِع ...

تَهمسُ... تَتَغشى خَجَلاً بعباءتها:

هذي خيراتُ الميمونةِ!

****     

أتَرَبَعُ تَعِباً بجوارِ شريعةِ أهلِ الأهوارِ ...

أشربُ شاياً ممزوجاً في نعناعِ "الدفّاس" (3) ...

أخبرُها عن ابنِ مَدينتِها "جلجامش" ...

تسألُني:

هَلْ كانَ وَلياً عادل؟!

أَمْ مِثل لصوصِ الأكفانِ ببغداد؟!

****

أُقَلِّبُ أوراقاً كالجَمْرِ بخاصرةِ السُلطَةِ...

أقرأُ مِنها سَطراً للرَجُلِ القادمِ تَواً من (ماطورِ سليمَة) (4) ...

يَجعلُها حِرْزاً بينَ(الصايَةِ) (5) والأضلاعِ ...

يَصعد بـ(الماطورِ) العائدِ لـ(أم جومة)! (6)

****

"كاظم" فلاحٌ من أبناءِ (الحلفايةِ)... (7)

خَتم القرانَ بِخَمسة أشهرٍ في بيتِ (المُلاّ دراغ) ... (8)

قَدَّمَ شكوى ضَدَ المَجْهولِ الـ يَقطَع رِزْقَه ...

اصطَفَّ الناسُ بصمتٍ حَولَه ...

قالَ طبيبُ البلدةِ:

النفطُ تفاقَمَ في جوفِ الأرضِ ...

صارَ نَزَيزاً ...

طَفَحاً ...

يَقْتُلُ كُلَّ حياةٍ!!

****

صاحَت زوجةُ "كاظم" بابنتها:

الدُنيا ظلامٌ يا سعدية!

تَصرخُ ابنتُها في سُخطٍ:

لا توجَدُ قطرةَ نَفطٍ في فانوسِ البيتِ!

****

اصطَكَّ رجالُ القريةِ صَوْبَ القِبلَةِ ...

سَجَدوا ...

رَفعوا أيديهِم بدعاءِ الحائرِ:

رَبِّ أنقذ أرضي من شَرِّ النفطِ... وبلاءِ النَفطِ!

 

(1) النص مقتبس من ملحمة جلجامش، و"اوتو" الإله الذي يحمي جلجامش.

(2) الزوري: الأسماك الصغيرة.

(3) الدفاس: سيد له قبر في أطراف مدينة العمارة.

(4) سليمة: بركة في وسط اهوار العمارة.. يقال انها تبتلع من يدخل اليها (مثل مثلث برمودا).

(5) الصاية: زي رجالي شعبي عراقي.

(6) أم جومة: منطقة في الهور بين الناصرية والعمارة والبصرة.

(7) الحلفاية: مدينة صغيرة على ضفاف الهور.

(8) الملا دراغ: صاحب أقدم مدرسة تُعَلِّمْ الأبجدية بنصوص قرآنية في أطراف مدينة العمارة، في الربع الأول من القرن الماضي... وهو خال أم "عروة"!

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.