اخر الاخبار:
توضيح من مالية كوردستان حول مشروع (حسابي) - الأربعاء, 27 آذار/مارس 2024 19:18
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل السابع)- (علاء)... عسر البقاء!// محمود حمد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل السابع)

(علاء)... عسر البقاء!

محمود حمد

 

كان (علاء) في الخامسة من العمر...عندما اعتقل أخيه "عروة" الذي كانت تطارده السلطة منذ تخرجه قبل أشهر...وأمضى في السجن وأقبية التعذيب تسعة أشهر وأطلق سراحه بعفو عام إثر فشل انقلاب قاده مجموعة من الضباط البلداء المحيطين بالرئيس...الذين من فرط غبائهم طلبوا العون لدعم انقلابهم من حُماة الرئيس في القاهرة وواشنطن!

 

بعد خروجه المفاجئ من السجن ذهب يبحث عن عنوان سكن أهله المجهول في بغداد بـ (مدينة الثورة) المترامية الأكواخ والمآسي...يجهل عناوين من يعرفهم من الأقارب...بعد أن تخلى عنهم الجميع خشية انتقام السلطة منهم بتهمة صلتهم بـ(أُسْرَةِ متآمرة على الحكومة!).

 

بعد فشله في العثور على عنوان سكنهم عاد خائباً إلى مقهى صغير في مدخل شارع السعدون... يتذكر عمه (أبو نوري) الذي يعمل (حارساً ليلياً) في منطقة البتاويين...جلس في مقهى (أبو ابراهيم) حيث يلتقي (حكماء الصعاليك!) منتظراً غروب الشمس!

 

هطلت الظلمة على المدينة...جال في شوارع البتاويين عسى أن يلتقيه...بعد مضي ساعات صادف حارس ليلي آخر واقفاً تحت عمود الكهرباء الشاحب الضوء...لما سأله عن عمه أجابه بنبرة ملؤها الوِدِّ ودعاه لضيافته في بيته عندما تنتهي مناوبته عند منتصف الليل، أبلغه أن مناوبة (أبو نوري) تبدأ بعد منتصف الليل.

 

جلس على إحدى المنصات الخشبية لأحد الدكاكين المغلقة في سوق الخضار تحت ضوء عمود الكهرباء، عملاً بنصيحة (الحارس الليلي) كي لا يشك أحدٌ بنواياه وهو يتجول ليلاً في الأزقة الخالية من المارة...حينها لم يسبق له أن رأى عمه (أبو نوري) ...لكن صورة (أبو مهدي) الأخ الأكبر لـ(أبي نوري) الذي طالما زارهم في كوخهم، واستمتع بأحاديثه المُلْبِسَةِ حكايات الأرض بخرافات السماء، وملأ دفاتره هو واخيه (فاخر) بتخطيطات مختلفة لوجهه المتجلد وجسمه النحيل وحركته الواهنة...التي لم تبارح ذاكرته!

 

توهجت تلك الصورة في ذاكرته بملامحها المُستَلَبة العافية، واستدل بها وهو يتأمل الشبح القادم من خلف ستار الظلمة في الشارع المؤدي إلى (مسرح المدينة)!

 

حالما التقيا وجهاً لوجهٍ احتضنه (أبو نوري) بحرارة الأبوة سائلاً إياه:

أأنت "فاخر"؟!

أجابه بذات الودِّ:

أنا “عروة" الأصغر منه يا عم!!

 

أمضى الليل معه يتجولان في أزقة (حي البتاويين) إلى حين انتهاء مناوبته عند الفجر، وشروق الشوارع بوجوه النسوة الايزيديات الجميلات، وصياح الأطفال يستعدون للذهاب إلى المدارس...

 

رافقه (أبو نوري) إلى مسكن أهله...فوجئوا به واستقبلوه بالدموع...احتضنوه الواحد تلو الآخر...طافت عيناه في البيت تبحث عن اخته الصغيرة (ليلى) ابنة السنوات الخمس...التي لم يفارق وجهها روحه في زنزانته... سألهم إن كانت نائمة، فانفجروا بالبكاء:

ماتت (ليلى) بالسحايا!

 

عرف أن أهله لم ينقلوها إلى المستشفى خشية من ملاحقة رجال الأمن لهم في مَخبئهم بالعاصمة، دون أن يدركوا حجم المصيبة التي كانت تنتظرهم...ما تسبب ذلك من شعور بالذنب له لازمه طيلة أيام حياته!

كأن العاصمة استلبت منهم طفلتهم وخشوا أن تختطفهم الواحد تلو الآخر، فعادوا إلى موطن بؤسهم (مدينة الماء والسماء)!

 

نُقل "عروة" للتدريس في (مدرسة المنصور) ...

في اليوم الأول عند دخوله للصف الأول الابتدائي فوجئ بأخيه (علاء) جالساً خلف الطاولة الأولى في الفصل الدراسي...انتابه شعور بالبهجة وغمره أريج الاعتزاز بالنفس عندما سمع ثناء المعلم الذي سبقه في الفصل الدراسي على أخيه (علاء) دون أن يعرف الصلة بينها:

هذا (علاء) فارس الصف!

 

قاد (علاء) منذ طفولته فريق" كرة القدم " للصبيان في الساحة الترابية التي تتوسط الحي الفقير الذي يقطنون فيه...صار حضوره مؤشراً لفوز الفريق الذي يلعب ضمنه كمدافع صلب عن هدفه...لكنه أهمل حياته الدراسية، فتراجع ترتيبه في النتائج بين زملائه!

 

لم تكن سنوات مراهقة (علاء) يسيرة عليه ولا على أسرته...كون جدران البيت الأربعة شهدت احتدام أفكار وميول وسلوكيات خمسة أخوة ناقمين على الحكومة، لم يخرجوا بعد من فضاء المراهقة العاصف... كل ٌبطريقته، وبحجم تفاقم الأفكار والأحلام في رأسه، في زمن مضطرب بالصراعات والتناحرات السياسية والاجتماعية الداخلية، وحياة عائلية عسيرة، وجيل مشتت الأفكار غامض الأفق، وخوف مُفتَرس يمزق نفوس الناس ومدنهم!

 

في حجرة الضيوف المطلة على الشارع الترابي افترش إخوَّة (علاء) الكبار وضيوفهم البسط الصوفية الملونة بأصباغ باذخة النقاء والإشراق...صاروا يتجمعون طيلة ساعات النهار والليل...وجوه يعرفها (علاء) وأخرى تطرق الباب لأول مرة...يستمعون إلى صخب المذياع في أكثر من محطة إذاعية...يتابعون تداعيات الأحداث والاضطرابات في المدن الإيرانية...يتبادلون السخرية من جنوح الاذاعات الغربية التي كانت بالأمس تتغنى بإمبراطورية الشاه، وصارت اليوم تسمي (غوغاء) الأمس ثواراً!

 

لم يكن (علاء) مهتماً بالسياسة لكن نُذِرِ الفوضى المتأججة في محطات الإذاعة التي أدمنت أُسرته على الاستماع لها في كل الأزمنة...جعلته يصغي إلى الحوار الساخن بين أصدقاء طفولة أخيه "عروة"... (الشيخ المعمم “حمزة المحَنّا" المناهض للسلطة) مع مدرس التاريخ (جابر المشَرْشَبْ...اليساري الذي اعتادت أجهزة الأمن اعتقاله قبل كل مناسبة سياسية)!

 

شخصيات كثيرة غيرهم كانت في ضيافة أخيه...جميعهم مأخوذين بشغف المعرفة بما يجري حولهم، أو بنوازع الفضول لما يتفاقم من اضطراب في محيطهم قد يعصف بحياتهم الخاصة!

 

يصغي (علاء) بانتباه إلى تمنيات الحاضرين:

أن يمتد الحريق الذي يلتهم نظام الشاه إلى أذيال النظام المستبد الذي يحكمهم!

 

كان (علاء) يجلس في زاوية الحجرة يتأمل وجه (الشيخ حمزة) وهو يُمَسِّدُ لحيته الكَثَّةِ بباطن كفه...يخفق في حبس انفعالاته المبتهجة بـ(الثورة الاسلامية!) التي قام بها (علماء الدين)!

 

لكنه التفت بانتباه مصغياً لأخيه الذي تحدث للحاضرين عن جذور الاحداث المتسارعة في إيران، بمنهجية المتابع لأحداث التاريخ المتراكمة وتداعياتها، مفصحاً عن:

جوانب من (الثورة البيضاء!) الاصلاحية التي أطلقها الشاه عام 1963 واستمرت لحين سقوطه، تلك (الثورة!) التي استهدفت قطع الطريق أمام (الثورة الحمراء!)، التي كانت شعاراتها منذ (ثورة مصدق) في الخمسينيات، تدعوا إلى (الدولة المدنية الديمقراطية) ذات المضمون الاجتماعي التقدمي، وتآمرت عليها المخابرات الرأسمالية الدولية والمحلية الرجعية وشيطنتها بالتخويف منها والتحذير من قرب انفجارها في إيران!

ورغم مقاطعة (الشيخ حمزة) المستهجنة لما يقوله...واصل حديثه:

فعلى الرغم من دور تلك (الثورة البيضاء!) في تحقيق (التحول) الاقتصادي والتكنولوجي غير الريعي وزيادة دخل الفرد الذي شهدته إيران خلال أكثر من ربع قرن، ألا أن حكومة الشاه بسياساتها القمعية وخنقها لحرية الرأي الحر والارتهان للشركات الأجنبية، مهدت لإعادة انتاج نمط العلاقات الاجتماعية (الاقطاعية) السائدة أصلاً في المجتمع، وبثوب طائفي (مطرز!) بالشعارات المطلبية الملحة لملايين الناس... وساهمت في تأجيج ونشر المشاعر الطائفية الاقصائية الانتقامية لأكثر القوى التقليدية المحافظة بين رجال الدين، وخلقت ذرائع لسرقة ثمار عقود طويلة من نضالات وتضحيات القوى المدنية التقدمية!

رد عليه (الشيخ حمزة) ساخطاً:

لا تلبس الحق بالباطل...فعلماء الدين المجاهدين قدموا الشهداء وامضوا سنين طويلة في السجون لمقارعة نظام الشاه منذ حكم ابيه رضا بهلوي!

قاطعه (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ):

انت تكرر علينا (علماء الدين!) ...هل لك أن تبين لي ما هو العلم الذي جاء به (علماؤك) هؤلاء من (المتاجرين بالدين)؟!

الذين يعتاشون منه كـ(وظيفة!) يتربحون منها...

يستغفلون الفقراء اليائسين من رحمة الدنيا فيوعدوهم بالجنة في الآخرة؟

استشاط (الشيخ حمزة) غضباً مستوقفاً (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) بأداء الخطيب المفوه:

لقد علَّم (علماء المسلمين) أوربا أسرار الكون وظواهره وبواطنه...

مما أوصلها إلى ماهي عليه الآن!

ردَّ عليه (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) بنبرة ساخرة مريرة:

كل الذين تعنيهم من العلماء الذين تدعي أنهم علموا أوربا...كُفِّروا واتهموا بالزندقة وقتلوا وسجنوا وأحرقت كتبهم بفتاوى صادرة من (فقهاء المسلمين)!

 

كان (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) يحدثه كأنه يقرأ نصاً مكتوباً حفظه عن ظهر قلب ويكَرّرِ ترديده...مستعرضاً أسماء العلماء الذين أثروا الفكر الإنساني...ويسرد له وقائع مصائرهم المأساوية على يد (فقهاء المسلمين!) طيلة قرون قمعية مديدة من الزمن!

احتقن وجه (الشيخ حمزة) غيظاً ملتفتاً إليه:

هل تشكك بسلامة عقول (ملايين) الناس الثائرين الذي يملؤون شوارع المدن في إيران ضد نظام الشاه؟!

اجابه:

يا (شيخنا!) ...أنا لا أشكك بعقول (الملايين) من الناس...بل اشكك بنوايا أولئك (المعممين) الذي يضللون (الملايين) بالأوهام ويسوقونهم كقطعان مستلبة الإرادة إلى دوامة لا تتوقف من البكاء على الماضي والانتقام الدموي من الآخر المختلف معهم في الحاضر!

 

تَسَمَّر (علاء) في مكانه وهو يستمع بذهول إلى حديث (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) الذي عصف ما سمعه منه بيقينه الذي قرأه في الكتب المدرسية عن أولئك (العلماء)...دون أن تذكر تلك الكتب مصائرهم!

خاصة أنه سمعه من مدرس التاريخ (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ...المفصول من العمل!) الذي يُعْرَفُ عنه أنه حبيس المكتبة...مدمن القراءة...الذي يحترمه شباب المدينة الباحثين عن (المُخْتَلَفِ عليه) في النصوص الحديثة والقديمة... الشباب المقيمين دائماً بقاعات القراءة في المكتبة المركزية بالمدينة من أجل اللقاء به!

 

استساغ (علاء) اختلاط حديث السياسة بشؤون الدين، اتسعت فضاءات معرفته لمداخلات (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) و"عروة" الهادئة ولردود (الشيخ حمزة) المُحَصَّنة بالنصوص المقدسة!

 

تمضي السنوات الطويلة على عائلة (أبو عروة) عسيرة عجاف ومُفترسة، تكالبت فيها عليهم:

ملاحقات السلطة، نفور الناس منهم خوفاً على أنفسهم من السلطة، وانقطاع الأمل بزوال النقمة عنهم... و"عروة" غائب في المجهول من جديد...تبحث عنه السلطة!

 

كان (علاء) في السادسة عشر من العمر... عندما انقطع عن الذهاب إلى المدرسة...تبددت حياتهم بسعير الخوف وقفراء العوز...بعد اعتقال وتعذيب أبيه لمرات عدة ولأشهر متعددة، مطالبين إياه بتسليم ابنه "عروة" للسلطة مقابل إطلاق سراحه!

 

استمع (علاء) إلى حديث أبيه بعد إطلاق سراحه آخر مرة...وهو يئن من آثار التعذيب.. قائلاً:

في اليوم الأخير قبل إطلاق سراحنا...احتجزونا في مستودع كبير كان أحد اصطبلات الخيول العسكرية، مع آلاف (الرهائن) من الرجال والنساء والأطفال الذين جاؤوا بهم من معتقلات وسجون مختلفة من كافة أنحاء البلاد!

طالبني (فاضل) مدير الأمن العام وهو يُلَوِّحُ بمسدسة في وجهي...أن أكشف له مكان اختفاء أخيكم "عروة"...أو أُقْتَلْ!

عندما قلت له (لا أعرف مكانه ......!) صرخ بوجهي...قائلاً:

أنا أعرفه...التقيته في موسكو...أين هو الآن بعد عودته؟!

أي نوع من الآباء أنت؟!

هل يعقل أن الأب لا يعرف أين هو مكان ابنه؟!

قلت له يائساً:

هو رجل تجاوز الثلاثين...وله حياته...و...!

لكمني حارسه على وجهي...نظرت بوجهه وأنا أمسح الدم عن فمي...واظلَمَّتْ الدنيا من حولي، أوشكت روحي أن تخرج من جسدي من شدة غيظي...سألته بازدراء:

هل يعرف أباك أين أنت الآن...وأنت في عمر "عروة"؟!

طأطأ رأسه للأرض ونادى على الشخص الذي ينتظر دوره بعدي للتحقيق...

وتناولني حراسه بالركلات!

 

خرج (علاء) إلى دروب المدينة المُعَفَّرةِ بالبؤس والنفايات...متجنباً اللقاء بأي واحدٍ من أصحابه الذين يشاركونه في الساحات الترابية لكرة القدم في الأحياء الفقيرة، ويحترفون التملص من فصول الدراسة... كإنه يبحث عن (عصبة شديدة البأس!) تشاركه رغبة الانتقام من السلطة الحاكمة لاسترداد كرامة أبيه!

 

كان (علاء) يلعب مع الفتيان الذين التقاهم عند استئجارهم للدار المصبوغة بلون العشب الظامئ في الحي العسكري...لاحظ تعليق مجموعة من المسلحين يتقدمهم (أدهم المسلول) لافتة كبيرة كتب عليها:

جئنا لنبقى!

ركض إلى داخل الدار يخبر أخيه عن المسلحين المتجمعين في ركن الزقاق!

هكذا تعودوا منذ الطفولة يهرعون إلى البيت للإبلاغ...عن كل ما يثير الريبة من نوايا السلطة!

أو إن شاهدوا سلاح السلطة ومسلحيها يمرون في الشارع!

لقد رضعوا الاحتراز والخوف من السلطة منذ ولادتهم!

 

جلس (علاء) يستمع الى حوار أخيه مع (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) بعد أن علموا بنص العبارة التي غطت جدار البيت الكبير في ركن الشارع...انتشر الخبر كالنار في الهشيم بين السكان كوعيد وتهديد يُذَكِرَهم بأبشع أساليب القتل والتعذيب والتغييب التي مارسها ذات الانقلابيين عندما نُصروا في انقلابهم عام ثلاثة وستين وتسعمائة وألف!

 

كان (الأستاذ جابر المشَرْشَبْ) ذو قدرة إلقائية وأسلوب معرفي تعليمي ممتع يجذب ويشد المستمعين إليه...قال لهم بنبرة ساخرة:

قَبْلَهم توهموا في العهد الملكي أن «دار السَّيد مأمونة» لكنها انهارت على رؤوس من فيها!

هؤلاء (البُغاة) يتوهمون أنهم باقون إلى الأبد!

 

في تلك الآونة كانوا يستمعون إلى أناشيد وخطابات (إسلامية!) حماسية من الإذاعات الإيرانية الموجهة للعراق والخليج...تُحَرِّضُ على (تصدير الثورة للشعوب المُستضعفة!).

 

نهض (علاء) إلى جهاز الراديو ليدير مؤشر الصوت...صمت الجميع وهم يستمعون إلى برقية (الخميني) الموجهة إلى (السيد محمد باقر الصَّدر) الذي اعتقلته حكومة (صدام حسين) قبل ذلك بيومين:

(سماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت بركاته علمنا أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث.

إنّني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلامية وإنّني قلق من هذا الأمر آمل إن شاء الله إزالة قلق سماحتكم ...والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)

 

بعد أيام نقل لهم (الشيخ حمزة) عن (مصادر موثوقة!) ما قاله النقيب بإدارة الأمن العام (خيري سعيد الحيالي):

(في اليوم الثاني "بعد برقية الخميني" جاءت الأوامر مباشره من "صدام حسين" بإعدام "الصدر وأخته"، وقد تم التنفيذ في مبنى الأمن العام من قبل النقيب "شاكر أبو شيماء" والعميد "سعدون" بطلقات من مسدس كاتم للصوت لكل منهما طلقه في رأسه)!

وبعد ليلتين فقط من اعتقالهما عادت جثتيهما...إلى من حيث جاؤوا بهما ودفنا بشكل سري في آخر الليل بمقبرة (دار السلام) بالنجف!

 

في22 سبتمبر سنة ثمانين وتسعمئة وألف...قطعت جميع محطات الإذاعة والتلفزيون العراقية برامجها فجأة، وبدأت تذيع أغنية (ركبنا على الحصان) لـ “المطرب فهد بلان" ثم اغنية (الله أكبر) للمطربة المصرية "فايدة كامل"!

حدث ذلك قبل أن يُستَدعى مدبجو الأغاني والعازفون والمنشدون إلى حدائق دار الإذاعة والتلفزيون... لصناعة (صخب حربي تحريضي!) لدعم ضجيج جبهات القتال المشتعلة!

 

كان تخطيط القيادة العراقية لـ(حرب الثمان سنوات) مع إيران بأنها ستكون حرب خاطفة قصيرة تحقق أهدافها خلال ستة الى ثمانية أسابيع!

 

في آذار سنة واحد وثمانين وتسعمئة وألف سيق (علاء) الى الخدمة العسكرية الإلزامية حيث كانت المعارك في أوجها عندما بلغ الثامنة عشر من العمر، وزُجَّ في جبهة القتال مع العديد من أصدقائه الذين أداروا ظهورهم للمدارس مُحبَطين، وولوا وجوههم صوب المستقبل الغامض!

 

خلال تصنيفهم داخل المعسكر التدريبي اختير (علاء) إلى صنف القوات الخاصة، للياقته البدنية العالية وقوامه الرجولي الفارع!

 

شهدت تلك الأشهر واحدة من أشد المعارك التي تمكنت فيها القوات الايرانية من الالتفاف على القوات العراقية في (منطقة البسيتين) حيث تم أسرُ أكثر من ثلاثة آلاف منهم وقُتِلَ معظمهم في الأسر!

 

بعد معارك تقهقر القوات العراقية من المحمرة...عاد (علاء) ليس ككل مرة يأتي بها في الإجازة الدورية الشهرية...متأخراً أسبوعين عن موعد عودته...جاء دون صديقيه (متعب الدليمي) و(شاويس اليوسفي) اللذين عادة يأتيان برفقته...يتناولان وجبة الغداء معه في البيت، ويواصلان الرحلة إلى عوائلهم في الأنبار والسليمانية!

 

تمدد (علاء) على الأرض ووضع رأسه في حضن أمه وأجهش بالبكاء...دون أن يخلع ملابسه العسكرية المتربة الملطخة بالدماء...تجمع أخوته والجيران حوله محزونين...أدركوا أنه فقد صديقيه بمعركة الاندحار في المحمرة...وتكفل بنقل جثمانَيهِما إلى عوائلهما قبل أن يعود محطم الروح إلى البيت!

 

كانت وحدات (القوات الخاصة) التي ينتمي لها (علاء) تُنقل جواً من جبهة مشتعلة الى أخرى أكثر اشتعالاً...في تلك الآونة باغتت القوات الايرانية القوات العراقية الخاصة في جبهة (جبل كردمند) في التاسع والعشرين من تموز عام ثلاثة وثمانين وتسعمائة وألف بعد أن تم إنزال تلك الوحدات على السفح الغربي للجبل!

 

لم تتوقف وسائل الإعلام العراقية عن إذاعة بيانات وأناشيد النصر الصاخبة...صارت الأمهات تعرف جغرافية المعارك خوفاً على أبنائهن المنتشرين في البراري والمستنقعات والجبال المشتعلة...يحصين الدقائق والساعات بانتظار عودتهم في إجازاتهم الشهرية!

 

كان الشارع الذي يقع فيه بيت (أبو عروة) تلك الليلة مغموراً بالوحل ومياه الأمطار التي لم تتوقف منذ يومين...تستبد الظلمة بالمكان بعد قصف محطة كهرباء المدينة وتدميرها بغارة جوية إيرانية...

 

العوائل محتجزة في بيوتها المنتهكة السقوف بخرير المطر و(أم عروة) ينتهشها القلق لتأخر (علاء) عن موعد إجازته الدورية!

طُرِقَت باب البيت الحديدية بقوة...

هرعت (أم عروة) إلى الباب...فتحتها بسرعة مذعورة...

باغتها مشهد سيارة الأجرة وفوقها تابوت مغطى بـ(العلم الوطني)!

صرخت من قرارة روحها:

علاء... علاء... علاء...!!!!

وسقطت على الأرض مغشياً عليها!!

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.