اخر الاخبار:
غوتيريش يحذر من اقتراب "الدمار" المناخي - الخميس, 06 تشرين2/نوفمبر 2025 20:33
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

قراءة في القصة القصيرة للأديب عامر عودة// رانية مرجية

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

رانية مرجية

 

عرض صفحة الكاتبة 

“حقدٌ دفين” — مرآة النفس حين يختنق الفرح بالحسد

قراءة في القصة القصيرة للأديب عامر عودة

رانية مرجية

 

1. العنوان كنافذة للهاوية النفسية

منذ العنوان، يُلقي الكاتب عامر عودة القارئ في قلب التناقض الإنساني الأكثر شراسة: الحقد.

كلمة قصيرة، لكنها تفتح على هاوية من الانفعالات، من تراكمات الغيرة، ومن انكسارات الذات.

أما وصفه بـ“الدفين”، فهو ليس مجرد نعتٍ بل تشخيصٌ لمرضٍ دفن في أعماق النفس، يغلي بصمت حتى ينفجر في لحظةٍ اجتماعيةٍ ظاهريًا بسيطة — حفلة زفاف.

 

إنه عنوان يعمل كجرسٍ إنذارٍ مبكر: وراء كلّ ابتسامة قد يسكن غيظ، ووراء كلّ تصفيقٍ قد يتوارى قلبٌ مثقل بالمرارة.

 

2. الفرح كمسرح للانكشاف

اختيار الكاتب لقاعة الأفراح كمسرح للأحداث عبقري في بساطته.

الفرح، الذي يُفترض أن يكون ذروة الاحتفاء بالحياة، يتحوّل في القصة إلى مختبر اجتماعيّ ونفسيّ.

تحت الإضاءة الكاشفة، تتعرّى النفوس.

ففي الوقت الذي يرقص فيه العريس سعيدًا ببساطته وإنسانيته، تجلس تلك المرأة الخمسينية، تتغذّى على سمٍّ داخلي، تشرب الغيرة كما يشرب الآخرون نخب المحبة.

 

إنّ القاعة التي تعجّ بالموسيقى والأهازيج، هي في الحقيقة ساحة مواجهة بين الفرح الأصيل والفرح الزائف، بين القلب الذي يفرح لأنّه يحب، والآخر الذي لا يستطيع أن يحب لأنّه مريض بالأنانية.

 

3. المرأة الحاقدة: ضحية مجتمع أم قاتلة للبهجة؟

هذه الشخصية ليست شريرة بالمعنى التقليدي، بل ضحية مجتمعٍ يربط الكرامة بالمال والمكانة.

هي امرأة فقدت قدرتها على التذوّق العاطفي، فصارت لا ترى في الفرح سوى مقارنةٍ حسابيّة بين ما أنفقته هي وما أنفقه الآخرون.

تقول في داخلها:

 

“في عرس ابني كانت المأكولات أفضل والمشروبات أرقى…”

 

بهذه الجملة يُظهر الكاتب لنا نفسًا تقيس الفرح بالمتر وبالعملة، لا بالمحبة.

لقد تحوّلت إلى مرآةٍ مشروخة تعكس تشوّهات مجتمعٍ استبدل الإنسانية بالمظاهر.

 

وحين يصف الكاتب لحظتها الأخيرة — لحظة رميها الجاكيت على العريس — فإنه في الحقيقة يصوّر الانفجار النفسي لشخصٍ كتم أحقاده طويلاً.

إنها لحظة الذروة: لحظة تفريغ السمّ، حين يتحوّل الكلام إلى خنجرٍ مطليّ باللطف.

 

4. الجاكيت: الرمز الذي ارتدى الحكاية

الجاكيت في هذه القصة ليس تفصيلًا عرضيًا.

إنه رمزٌ طبقيٌّ وثقافيٌّ في آن واحد.

يمثّل ما يسميه بيير بورديو بـ”رأس المال الرمزي” — أي ما يضفي على صاحبه قيمة اجتماعية زائفة.

 

حين تنظر المرأة إلى الجاكيت وتقول في نفسها “حتى بدلته اشتراها له زوجي”، فهي لا تتحدث عن قطعة قماش، بل عن هوس السيطرة، عن رفضها الاعتراف بقدرة الآخر على امتلاك الجمال من دون إذنها الطبقي.

 

لكنّ المفارقة الجمالية تبلغ أوجها حين يردّ أحد الحاضرين قائلًا:

“عريسنا أجمل بدون بدلات.”

 

في تلك اللحظة، ينهزم الرمز أمام المعنى، وتنتصر البساطة على الزيف، ويستعيد الإنسان جوهره الطبيعيّ: أن يكون محبوبًا لأنه صادق، لا لأنه متأنّق.

 

5. لغة السرد: الاقتصاد في التعبير والثراء في الإيحاء

لغة عامر عودة تنتمي إلى مدرسة الواقعية الإنسانية الجديدة: بسيطة، مباشرة، لكنها مشحونة بطاقةٍ رمزيةٍ هائلة.

يكتب كما لو أنه يرسم لوحةً بالكلمات؛ كل جملة تحمل ظلًّا نفسيًا، وكل صمتٍ يقول أكثر مما تقوله العبارات.

لا خطابة، لا شعارات، بل عين تلتقط تفصيلًا صغيرًا وتحوّله إلى مفتاحٍ وجودي.

 

تتجلّى براعة السرد في المونولوج الداخلي للمرأة، الذي يشبه مرآةً مكسورة تتحدّث.

فالقارئ لا يسمع صوتها فقط، بل يسمع معها تكسّر إنسانيتها تحت وطأة المقارنة والغرور.

 

6. الحقد كمرضٍ اجتماعيّ

القصة ليست فقط عن امرأة، بل عن مجتمعٍ كاملٍ مريضٍ بـ”القياس”.

مجتمعٍ يُربّي أبناءه على أن النجاح هو ما يُرى، لا ما يُحَسّ.

وحين يفشل في الوصول إلى السعادة، يُعلن الحرب على سعادة الآخرين.

 

الحقد هنا ليس نزعةً شخصية، بل تجسيد لثقافةٍ عربيةٍ مأزومة:

نحن لا نكره الفقير لأنه فقير، بل لأنّ فرحه يذكّرنا بفشلنا في أن نكون بسطاء.

 

في ذلك المشهد الأخير، حين يُرفع العريس على أكتاف أقربائه، ينتصر الفرح الجماعي على الحقد الفرديّ، وكأن الكاتب يقول لنا:

الإنسان لا يُشفى من سُمّه إلا حين يشارك الآخرين الضوء.

 

7. البنية الفنية والنهاية المفتوحة

تُبنى القصة على تصعيدٍ تدريجيٍّ دقيق: من الهدوء الخارجي إلى العاصفة النفسية.

كل تفصيل فيها — الطعام، الرقص، النظرات، البدلة — يعمل بوصفه لبنة في تصعيد الصراع الداخلي حتى الانفجار الأخير.

 

لكن رغم ختامها الظاهري المشرق، تبقى النهاية مفتوحة:

هل انتهى الحقد فعلاً؟

أم أنّه سينتقل إلى شخصٍ آخر، إلى امرأةٍ أخرى، إلى مناسبةٍ أخرى؟

 

يترك الكاتب هذا السؤال معلّقًا، كجرسٍ داخليٍّ في ذهن القارئ.

 

8. الرسالة الأخلاقية والفكرية

“حقد دفين” ليست مجرد قصة قصيرة تُروى، بل تجربة وعي.

تدعونا إلى مراجعة أنفسنا، إلى الاعتراف بأننا — في لحظاتٍ كثيرة — كنّا تلك المرأة، نظرنا إلى الآخرين بعين المقارنة بدل عين الحب.

تذكّرنا القصة أن الكرامة لا تُشترى، والفرح لا يُقاس بثمن الجاكيت، وأن من لا يفرح لفرح الآخرين، يعيش ميتًا حتى وإن كان يرقص.

 

9. في الخلاصة

تُعدّ قصة “حقد دفين” نموذجًا راقيًا للقصة القصيرة الحديثة في الأدب العربي الفلسطيني.

باقتصادٍ لغويّ، وبتركيزٍ دراميّ محكم، وبفهمٍ عميقٍ للنفس البشرية، يقدّم عامر عودة نصًا إنسانيًا متوهّجًا، يذكّرنا بأنّ أعظم الحروب ليست تلك التي تُخاض في الشوارع، بل التي تُشنّ في القلوب.

 

إنها قصة تُقرأ في صمت، وتُغلق بعدها الصفحة لتبقى مفتوحة في الذاكرة.

فثمة فينا جميعًا شيءٌ من تلك المرأة، وشيءٌ من ذلك العريس، والكاتب بذكاءٍ لا يدين أحدًا، بل يدعونا إلى التطهّر

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.