قراءة في ديوان (أسوار بلا أبواب) للشاعر سينو أبراهيم// مراد سليمان علو

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

مراد سليمان علو

 

عرض صفحة الكاتب 

قراءة في ديوان (أسوار بلا أبواب) للشاعر سينو أبراهيم

مراد سليمان علو

 

كما عهدناه، يواصل الصديق الكريم (عادل مروان)، صاحب دار لينا للنشر، دعمه لأدباء شنكال، فاتحًا لهم باب طبع ونشر نتاجاتهم في زمنٍ باتت فيه بعض دور النشرـ داخل العراق وخارجه ـ أشبه بغولٍ لا يشبع، يلتهم جهد الكاتب وجيبه معًا. ومن هذا السياق، خرج هذا الديوان (أسوار بلا أبواب) في (106) صفحة، شاهدًا على الإصرار والإبداع.

 

تولّى الصديق الشاعر (قاسم حسين) تدقيق الكتاب لغويًّا، وهو ممّن يُشار إليهم بالبنان، لما يمتلكه من حسّ لغويّ رفيع، وقدرةٍ على تهذيب النصوص، بل كتابتها، وهو أكاديمي لغوي وبالتالي قادر أن يضع اللغة على سكّتها الصحيحة. نحن الذين لا نتحدث بها في بيوتنا، وهي ليست لغتنا الأم، لكننا نحبّها ونخلص لها، علّنا نبلغ بها ما نطمح إليه من جمالٍ وصدق.

 

لست هنا لأتناول كل تفاصيل الديوان، ولا لأفكك نسيجه نصًّا بعد نصّ، بل لأتأمل موضوعًا تكرّر كنبضٍ خفيّ بين السطور، موضوعًا شدّني بصدقه، وبما فيه من رغبةٍ صافية في البوح، وهو حديث الشاعر عن (الأم).

 

تمتدّ معرفتي بالشاعر سينو إبراهيم إلى عدة سنواتٍ خلت، كان خلالها يراسلني أحيانا ويطلب رأيي في بعض ما يكتب، ولم يُبدِ يومًا اعتراضًا على النقد الذي كنت أوجّهه إلى نصوصه. وأرجو أن يظلّ صدره رحبًا في تقبّل الملاحظات التي أطرحها هنا، ليتفادى السلبية منها في أعماله القادمة، فهو في بداية الطريق، وهو يسير على مهل بالاتجاه الصحيح.

 

العنوان (أسوار بلا أبواب) مقبول من حيث الإيقاع، لكنه لا يُفهم بمعزل عن النصوص، إذ لا يمنح القارئ تلميحًا واضحًا عمّا ينتظره داخل الديوان. ومع ذلك، فهو يعكس حالة وجدانية تتراوح بين الحزن والعزلة واليأس، وهي حالة تختلف من فرد إلى آخر، خاصة بين أدباء الإيزيدية الذين تخطّى بعضهم مرحلة الفرمان، بينما لا يزال آخرون يعيشون أثرها العاطفي والنفسي.

 

وبعد أحد عشر عامًا مما يسمى بغزوة (داعش) علينا، يُطرح السؤال التالي: هل ما يزال الشاعر سينو أبراهيم يعيش ذلك الشعور؟ ربما، لأن هذا عمله الأول المطبوع، وأراد أن يُفرغ ما في جوفه دفعةً واحدة، ولهذا جاءت مواضيع الديوان متنوّعة، تتناول جوانب مختلفة من الحياة. ومع أن هذا التنوّع مفهوم وجدانيًّا، إلا أن توحيد الموضوع الشعري كان سيمنح الديوان تماسكًا فنّيًا أكبر.

 

مفتتح الديوان قصيدة عن الصديق الشهيد الخالد الشاعر والمترجم (شاهين الرشكاني) الذي أستشهد في الموصل سنة (2017) أثناء تحريرها من (داعش) ومحاولته الناجحة في إنقاذ فتاة. القصيدة تتكون من سبعة أجزاء قصيرة، ولكن عادة عندما نريد أن نوفي أحدهم حقه ونرى بأن قصيدة واحدة لا تكفييكون الخيار الأمثل كتابة نص يتضمن شذرات فيه مساحة من الحرية تجعلنا نقول ما لم نستطيع أن نخبره عندما كان بالقرب منا، وهذا ما يحدث لمعظم الشعراء.

 

الشاعر يتحدث عن مواضيع مهمة وكثيرة في كتابه مثل: الحب والعشق، العراق بجانبه المظلم والآخر الذي نحبه ونشتاق إليه، وعن الأب، ومواضيع وجدانية أخرى، وبعض تلك القصائد تحتوي على مقاطع عدة كما الحال مع القصيدة الأولى. الشاعر في هذا الديوان في صراع دائم مع الخوف من جهة والأمل من جهة أخرى، وعدم الاستقرار في الوطن، وأمانيه أن يكون في يوم ما آمنا...

 

ما يهمني في هذه القراءة الدخول في عالم (الأم) إلى تلك القصائد التي كتبت عنها ولها، وهي على الأقل عشرة قصائد:

ـ قصيدة (لحن الخطى) في الصفحة (30) وهي أربعة أبيات يقول فيها:

صوت مشية أمي

موسيقاي المفضلة

صوت مشية أمي

لحن لم تكشفه آلة.

ربما كان يقصد في البيت الأخير (لحن لم تكتشفه آلة) ويمكن أن نقول إن صوت المشيهو(هسهسة الخطوات)، فتصبح: هسهسة خطوات أمي ... وإذا علمنا إن القصيدة لا تنتمي إلى الشعر الكلاسيكي الموزون. أي كان بالإمكان أفضل مما كان، ولكن هذا لايهم فالرسالة في النهاية كانت مفهومة وعاطفيةبامتياز.

 

ـ وفي الصفحة (39) نقرأ قصيدة (عيون ساهرة):

القصيدة هي قصة جندي يحرس الحدود؛ لأن أعداء الوطن كثيرون والذي جلبهم هم الحكام أنفسهم. وهذه مفارقة لا تحدث إلا في البلدان المتخلفة.

وهذا يحرس الحدود ليس حبا بالحرب وإنما هي الوظيفة المتاحة ليطعم أطفاله، أيضا صورة من القسوة والبعد عن العدالة الاجتماعية لبلد يجلس فوق محيط من البترول.وهذا المحارب لا يأبه لسوء الأحوال الجوية، ولا للمعاناة التي يواجهها أثناء تأدية الواجب؛ لأنه على يقينٍ بأن أمه ساهرة، تدعو له بالسلامة.

 

ـ القصيدة التالية هي بعنوان: (حين يصير القبر أمنية) في الصفحة (46):

وهي مقارنة مذهلة بين أمنيات الأم العادية وبين أمنية الأم الأيزيدية الوحيدة. ابنها مفقود وأمنية الأم الأيزيدية الوحيدة هي أن تعثر على عظام ابنها كي يدفنها. تريد قبرا لأبنها كي تبكي عليه بسلام. القصيدة تقطر ألما.

 

ـ في الصفحة (51) قصيدة (جثة من مقبرة حردان):

 الحب والحنين جارفان ويطغيان على القصيدة فهي تحتوي على أربعة مقاطع يريد الشاعر فيها أن يقول الكثير عن الموت وعن شنكال وعن السبية وعن الأموعن (حردان) القرية التي ربمّا ينتمي إليها الشاعر نفسه ـ لا أدري ـ وفي نهاية القصيدة، أو في المقطع الأخير يتجلى العجز البشري بأجل صوره عندما يقول:

قالت: واخيبتي أين أنتم؟

إرجعوني إليكم.

فقالوا لها

نحن في الخيم ننزف

بل إننا نحسدكم!

أذن إنه رد من الأحياء الناجين، الذين يعيشون في مخيمات النزوح أو مدن اللجوء، ينزفون ألمًا، فقرًا، فقدًا، وربما خيانةً للذاكرة.

 

"بل إننا نحسدكم"

مفارقة لا تجدها إلا عند الأيزيديين الأحياء ساكني المخيمات الذين يحسدون الموتى على موتهم، لأنهم ارتاحوا من النزيف، من الخيام، من الذل، ومن الغياب.

في هذه القصيدة ـ برأي ـ كان صوت الأم هو الحبل الذي يشدّ الروح من هاوية الغياب وهو الأساس الذي بني عليه هذه القصيدة لأن الحياة ـ وحسب أدوات الشاعر ـ تصبح وجدانية ولا علاقة لها بالواقع والمنطق.

فهل استطاع الشاعر أن يعبر عن المأساة الجماعية لشعبه بهذه القصيدة؟ عليك أن تقرأ القصيدة لتكتشف ذلك بنفسك!

 

 ـ (أمومة معلقة على صخرة) قصيدة نجدها في الصفحة (56):

هذا النص ليس مجردقصيدة بلسردقصة، وهي بالتالي صرخة وجودية، كل أم فقدت وليد لها، وهن كثيرات فقد شاهدت ذلك بنفسي في الأسبوع الأول من الفرمان على الجبل. كل أم سترى نفسها وستتذكر وليدها، وهذه القصة ـ القصيدة ليست سوى مرآة للخذلان، خذلان للأمومة حين تُكسر، وللطفولة حين تُترك، وللإنسان حين يُجرّد من حقه في البكاء.

عاش الشاعر المأساة لغويا وجعلنا نتورط فيها عاطفيا، وبالتالي القصيدة أو القصة القصيرة أو الحكاية الواقعية هي دوامة نفسية.

القصيدة هي قصة أمّ لا تستطيع أن تُرضع طفلها، ولا تقدر على حمله. وهي بالتالي لا تستطيع أن تغفر لنفسها، ولا تقدر أن تموت مع طفلها، ولا أن تدفنه، إنها صورة تُجسّد انكسار الأمومة. نصّ يترك أثرا لا يمحى بسهولة وأسئلة وجودية في زمن الفرمان دون أجوبة. حتى أعمق كتب الفلسفة الأخلاقية لن تجد بين صفحاتها جوابا. الشعر نفسه وفقط الشعر يعطيك فسحة للراحة والتأمل.

والآن عليّ أن اخرج لأتنفس، وساترك الكتابة إلى وقت لاحق.

 

ـ (بين قلبين أضيع) على الصفحة (62):

هذا النص مكتوب بلغة مشحونة، متوترة، لا تهدأ، تُشبه زفرات متقطّعة تعتمد على التتابع وتراكم الألم. الأم هنا ليست أم بيولوجية فقط بل رمز للحنان، وتمثل الوطن، وذاكرة خضراء تشبه شنكال. مثلما الزوجة هي البيت المضيء وهي أمل الرجوع للبيت كل يوم، والأمان فيه.

 

ـ وقصيدة (رحم ينتظر النور) في الصفحة (72):

في هذه القصيد الممتعة نرى بأن عالم الأم مقلوب رأسا على عقب، فهي أم ولكن لا طفل لها، وبالتالي يفتقد البيت للدفْ وكركرة الطفل، وزمنها كأم لا ولادة فيه فأي حياة تعيشه وأي أم هي.

يتكرر قولها:

"أنا أمّ"

وهو تكرار ليؤكد الشاعر نقيض ذلك، في البيت، أو في السوق، أو في الشارع، هذه الأم تعيش على أمل حدوث معجزة الولادة، ولكن يطغي عليها شعور الانتظار، وتواجه الحلم الذي لا يتحقق.

 

ـ (ولادة بلا ميلاد) على الصفحة (85):

هذه القصيدة عبارة عن ومضة، صرخة، برقية، فقط لتعلم ماحدث في لحظة، وتعيش الحدث في لحظة، وتتمدد تلك اللحظة لتصبح عمرا بأكمله من التوق:

ماتت وهي تلد

فلا نعمت بالأمومة

ولا هو ذاق حنانها

رحلا معا في لحظة واحدة

هي إلى القبر

وهو إلى الوهم المسمى حياة

الفقد واحد لكن طريقتي الموت مختلفتان.

أذن هو مزيج من الحزن العميق، والحنين إلى شيء لم يعرفه الأبن ابدا وكأن لسان حاله يقول: لم أعرفك يا أمي ولكنك تسكنيني مثلما حملت اسمي قبل أن أنطقه.

 

الصدمة الأولى والمباشرة في الحياة كانت موتا وليس دفئا. أي أن نبدأ الحياة بغياب من هو كان يجب أن يكون جنبنا هي خسارة في التواجد في هذه الحياة.

هنا، أعتمد الشاعر على الصدمة العاطفية التي غالبا ما يعول عليها الشعراء الشباب. ولكن من وجهة نظر نيتشوية وهي المدرسة التي أهتم بها: يمكن أن نعتبر هذه التراجيديا مواجهة شجاعة مع الألم. وأن نقول: نعم للحياة رغم كل شيء. ولكن للأسف هذا التفكيك لا يتماشى مع عقلية القطيع. بل يؤدي إلى الخواء والضياع ويمكن أن نرى ذلك في مخيمات النزوح بعد الفرمان الأخير علينا حيث معظم الشباب الصاعد وخاصة أولئك الذين تضرروا جراء عنف الدواعش، وفقدوا ذويهم، نراهم ملحدين أو شبه ملحدين وتتميز أفعالهم بالعنف والرفض ويشعرون بالضياع في أي مكان يذهبون إليه. وتتميز حياتهم بالإهمال لهذا تراهم يتابعون مباريات كرة القدم ويلعبون القمار ويدخنون... الخ من الظواهر السلبية.

 

 

ـ (رسالة من أم صلاح إلى وطن لا يسمع):

وهي القصيدة التي تلي ولادة بلا ميلاد، وأيضا شبيهة لها ولكن بأدوار معكوسة أي إن الأبن هنا هو الفقيد وهو شاب والأم هي الثكلى. وهي عبارة عن مقاطع تخاطب فيها الأم الوطن الذي أخذ ابنها بدلا من أن تهتم به. وبالمناسبة القصائد عن الوطن كثيرة في هذا الديوان.

 

ـ قصيدة (في قلبي جبهة لا تهدأ) وربمّا هي القصيدة الأخيرة التي تتحدث عن الأم. وتكون في الصفحة (103) من الكتاب. تقول كلماتها:

رغيف واحد على الطاولة

تنظر إليه كمن يوزع الحياة بعدل على موتى

كل مساء

تغني لأطفالها أغنية

تعلم جيدا إنها لا تشبع الجوع

لكنها تسكت الألم

أنا تلك التي أختارها القدر

لتكمل الحرب وحدها

بأطفال لا يفهمون لماذا

أبوهم لا يعود حتى في الحلم.

قصيدة موجعة تنبض بالحقيقة بل القصيدة مشهد من الواقع الذي نشاهده ونعيشه كل يوم، أرملة ـ وعلى الأكثر أيزيديةـ تقف على حافة الانهيار ولكنها لا تنهار.

وقبل أن استرسل بتحليل وتفكيك هذا النص الذي أعجبني أكثر من غيره دعني أقدم حالات مشابهة عشتها، وتعاملت معها حين كنت أعمل مع منظمة (وارفين)حيث في ربيع (2014) سنحت لي فرصة للانضمام إلى مكتب منظمة (وارفين) في شنكال كباحث ميداني. وهي منظمة متخصصة في قضايا المرأة.

كانت مهمتي تغطية (400) حالة للأرامل في عموم حوض جبل شنكال، ولمدة أقصاها ستة أشهر. وكانت الدراسة تقتضي الاطلاع على ظروفهن المعيشية، والصحية، والنفسية.. الخ. وفق جداول مهيئة لذلك.

لم يكن الأمر صعبا، فبالإمكان إيجاد ضعف هذا العدد من الأرامل، وتسجيلهن في أسبوع، ولكن التحدي كان، أن تكون الأرامل من اللواتي قد (استشهد) أزواجهن، وكذلك العيّنة يجب أن تتضمن جميع القرى والقصبات في عموم حوض جبل شنكال، ومن ضمنها القضاء نفسه.

الفرصة كانت ذهبية بالنسبة لي، ومن فوري بدأت برسم خطة خاصة للعمل، وباشرت بتنفيذها مع فريقي المكوّن من مساعدة، وسائق. وخلال تلك الفترة توصلت إلى استنتاج واضح، وهو موثق ومؤكد بالأرقام والتقارير والصور الميدانية عن كيفية تشبث الأرامل الشنكاليات بالحياة من أجل أطفالهن، وعوائلهن رغم رحيل أزواجهن. ووجدت خمسة أرامل فقط من مجموع (400) بحاجة للمساعدة النفسية، وتداخل طبي فوري، وإلى مدّ يد العون من الناحية المعيشية. وذكرت في تقارير تلك الحالات التي قدمتها للمنظمة: (...على الأغلب العوز والفقر المدقع كان هو السبب المباشر لتردي حالتهن النفسية والصحية...). 

لنرجع إلى القصيدة وهي مثل غيرها تنبض بألمٍ أموميٍّ صامت، حيث يتحوّل رغيف الخبز إلى رمزٍ للعدالة المستحيلة في زمن الحرب. ويذكرنا هذا بانتظار الشعب الأيزيدي لقدوم (شرفدين) وتحقيقه العدالة الاجتماعية للناس بعد أن امتلأت بالظلم والجور.

الأم هي البطلة كالعادة وفي هذه القصيدة نرى مقاومة لا نجدها عند غيرها من النساء، فرغم إنها تقف على حافة الفقد، وتوزّع الحياة على موتى، وتغني لأطفالها أغنيةً لا تُشبع الجوع، لكنها تُسكِت الألم، وكأنها تمارس طقسًا يوميًا من المقاومة العاطفية.

يتجلّى في النص ثنائية الغياب والحضور: غياب الأب حتى عن الحلم، وحضور الأم كجدارٍ أخير في وجه الانهيار. القصيدة لا تصرخ، بل تهمس، وتُحمّل كل كلمة بوزنٍ وجوديٍّ عميق، حيث الفرمان ليس فقط في الخارج، بل في قلب الطاولة، في نظرة الأم، وفي أغنيةٍ تُغنّى كل مساء.

إنها قصيدة عن النجاة المؤقتة، تذكرني بشخصية (ليلى) في روايتي التي عنوانها على اسم الشاعر. هذه المرأة تكمل الحرب وحدها، لا كضحية، بل كشاهدةٍ على ما لا يُحتمل.

 

أبارك للصديق الشاعر سينو إبراهيم صدور كتابه الأول، فهو يشبه ولادة الأبن البكر للشاعر، على أمل أن يكتب لنا أشياء جميلة أخرى قادمة.