رواية (ذاكرة التراب)- الفصل السادس عشر: ليلة وصول (فيدل)!// محمود حمد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمود حمد

 

للذهاب الى صفحة الكاتب 

رواية (ذاكرة التراب)- الفصل السادس عشر: ليلة وصول (فيدل)!

محمود حمد

 

لمناسبة المهرجان العاشر لجريدة "طريق الشعب"

رواية (ذاكرة التراب)

نشرت الرواية عام 2024

 

قبل ثلاثة أيام نُقِلت مطبعة جريدة (طريق الشعب) من قبرها القسري الذي وضِعَتْ فيه لإخفائها عن أعين السلطة لسنوات طويلة... إلى مبنى كبير مهجور ...كانت السلطة قد صادرته من المعارضة قبل عشر سنوات، وأعادته لأصحابه بموجب توجهات الحكومة نحو التهدئة مع قوى المعارضة.

كان المبنى مصطخباً بأصوات فرق التنظيف والصيانة التطوعية،تمهيداً لإصدار (الجريدة اليومية) إثر منح السلطة ترخيصاً لها بالصدور؛ وحمالو سوق الشورجة المتعاطفون مع اتجاه جريدة (طريق الشعب)، ينقلون أجزاءها الثقيلة المغمورة بالتراب والزيوت الناضحة من مفاصلها، إلى قاعة تطل على الشارع المقابل لمبنى القسم السياسي بالإدارة العامة للأمن ...ذلك المبنى ذو الطابقين فوق سطح الأرض والطوابق اللامتناهية في عمق الأرض، الذي لم يسبق أن زُجَّ به معارض للسلطة وسُمِعت أخباره فيما بعد.

يعمل (أبو ثائر) بهمة ومثابرة وهو يندفع يميناً وشمالاً بجسمه الضخم وصمته العميق، دون أن يلتفت إلى صراخ كبيرهم ومعلمهم (الاسطة أبو زياد) الذي يُعَدُّ واحداً من أمهر عمال المطابع في تشغيل وصيانة مكائن الطباعة في البلاد...الرجل الذي أمضى سنوات طويلة من حياته في تشغيل وصيانة المطابع أو نزيلاً في السجون.

بعد ساعة لم يبق في المكان أحدٌ من حمّالي سوق الشورجة المفتولي العضلات، أولئك الرجال المُطبِقو الأفواه للضرورة، المُتَيقظون بالفطرة، الذين جاؤوا بالمطبعة في حلك الليل من مكان مجهول إلى تلك القاعة المعلومة.

كانت الرياح الباردة تزفر من البوابة الحديدية الواسعة للقاعة إلى جوفها، حيث يعملون...يتطاير عليهم شرر وعيدٍ من نوافذ مبنى الأمن العام الجاثم إزاءهم كالذئب متربصاً بانتظار غفلة الراعي ليَنقَضَّ على القطيع...تَتَّقِدُ حجارة مبنى الأمن العام بعيون خُزَّرٍ لا تغفوا، ترصد كل دبيب في مبنى المطبعة...في تلك الساعات الطويلة لم يأبه العمال بالتعب الشديد الذي أغرقهم بالعرق رغم برودة الجو من فرط حماسهم وتسابقهم مع الوقت المحدد الذي وضعوه وَعداً في ضمائرهم.

امتلأت أنفاس "عروة" برائحة التراب الرطبالمشبع بزيوت المحركات، متأملاً أولئك الرجال المثابرين الذي كانوا يتعاملون مع أجزاء المطبعة الملوثة بالتراب الزيتي بأيدٍ حريصة حذرة كأيدي قابلة تُمسك بوليد يوشك أن يخرج للحياة لأول مرة وتخشى أن يصيبه ضرر يلازمه طول العمر.

في القاعة الخلفية الواسعة تقف شاحنة تُفْرِغُ حمولتها من رول الورق الواصل للتو من ميناء ام قصر في البصرة... يظهر في نهاية القاعة شباب وعجائز يتحركون بحذر من بعضهم البعض، إلاّ نفر منهم يتهامسون بِوِدٍّ فيما بينهم ينم عن معرفة عميقة انقطعت قسراً لسنوات طويلة لتُعاد بوهج المنتصرين المتوجسين، خوفاً مما تخفي الجدران التي تحيط بهم، وما يضمره المبنى المعتم الجاثم أمامهم، الذي اختفت أجيال منهم في أقبيته المظلمة.

لم يكن بين القادمين والمغادرين من يعرف "عروة" أو هو يعرفهم...كانوا كلما مَرَّ نفر منهم يرمقه باستغراب ويتهامس مع صاحبه، فيجيبه بأن يَمُطَّ شفته استفهاماً...ليس بين الحاضرين من تبدوا عليه علامات الكسل أو التردد...لكنه وجد نفسه بلا عمل وسط رجال منهمكين بأثقل الأعمال وأشدها عُسراً لاستكمال تنظيف ونصب المطبعة وتشغيلها، لأن الوقت يحاصرهم ويُلزمهم وَعدَهُم بتشغيلها في وقت بعينه، لأمر لا أحد يُفصِح عنه!

بين ساعة وأخرى كان يصل شخص يسأل عن:

متى تتوقعون تشغيل المطبعة؟!

ويختفي..

لا أحد يجيبه لكنهم يردون عليه بابتسامة الواثقين...

وقف "عروة" إلى جوار الهيكل الرئيسي للماكينة، سأل (أبو ثائر) إن كان يحتاج إلى مساعدة..ابتسم له ورمى نحوه قطعه قماش من بقايا قميص كان يرتديه (الأسطة أبو زياد) ...وباشر التنظيف معهم...وبعد أكثر من ساعتين صار واحداً منهم...يعمل بصمت...لأنه محضور عليهم وفق ثقافتهم وسلوكهم سؤال بعضهم البعض:

من أنت؟!

قال له (الأسطة أبو زياد) بابتسامته الصارمة:

يبدوا أنك تعمل لأول مرة في المطابع؟!

خذ بعض الوقت للراحة واكتفي بالنظر إلينا كيف نعمل...وسننادي عليك عندما نحتاج اليك!

كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة فجراً...

استلقى "عروة" على رول الورق وأوشك أن يستبد به النوم، فهو لم يذق طعم النوم منذ وصوله بالقطار من البصرة ليلة أمس، وليس له عنوان أو سكن أو معارف في العاصمة، يركن إليهم ليستريح قبل الالتحاق بالمطبعة، أو بعد الانتهاء غير المحدود من العمل.

في ذلك الوقت الذي خَيَّمَ فيه على المكان سكون بارد...لم تُسمع فيه سوى خشخشة احتكاك خرق القماش بالجسد الفولاذي للمطبعة...تناول "عروة" ورقة كانت مرمية على الأرض وأزاح عنها التراب، أخرج قلمه الذي لا يفارقه، وبدأ يرسم بخطوط حادة رشيقة مشهد الرجلين المنهمكين بتركيب قطع المطبعة...دون أن ينتبها له...لكنه شعر بقشعريرة من شدة البرد، فتَلَحَفَ بنضيد من ورق المقوى الكبير، واستسلم لخدر الإعياء وأخذته غفوة سرت به إلى مكامن ذاكرته:

بعد منتصف الليل كان المطر غزيراً والطريق الضيق الذي يقع فيه المنزل قد أغرقته المياه والوحول...استيقظ على طرق رتيب متفق عليه على باب المنزل أبلغه صديقه (أبو مراد):

يجب أن تتجنب العودة بالطريق البري من الفاو إلى البصرة، لأن هناك معلومات عن نِيَّةِ جماعة مشبوهة تريد الاعتداء علينا عند "كوت عقاب"، وعرفنا أسماء القَتَلًّة.

يومها...اتخذ زورقاً بحرياً بمساعدة صديق طفولته (الكابتن فيصل) كوسيلة له للهروب عبر شط العرب...ومع أول رحلة بالقطار الصاعد إلى بغداد شد رحاله ووصل مساء اليوم التالي إلى العاصمة.

عندما التقى صديقه (خدر) القادم الى بغداد من قرية بسفوح (جبل شنكال) في نينوى، في مساء اليوم التالي لوصول "عروة" الى بغداد، أبلغه بالإسراع إلى الالتحاق بالفريق الذي يعد لتركيب وتشغيل المطبعة في مبنى دار الاخبار القديمة لإصدار جريدة الطريق اليومية.

أيقظه صوت العمال الشباب الذين بدأوا يدحرجون رول الورق الثقيل من القاعة الكبيرة إلى بوابة القاعة الصغيرة التي يجري تركيب قطع المطبعة فيها...التأم مجموعة من الشباب عند أبواب الغرف التي فتحت بعد سنوات من الإغلاق وهيمنة الغبار وأعشاش العناكب عليها...كان أكثرهم حركة ونشاطاً شاب طويل يميل إلى الشقرة ذو شاربين كَثَّيْنِ ، يبدو عليه أنه يعرف الجميع ويعرفه الجميع ، يتنقل بين الشباب المتأبطين أوراقاً وحقائب صغيرة توحي بأنهم محررين وكُتاباً...يتحدث بود مع عمال المطبعة...يقف بين الحين والآخر يتكلم مع رجل ذو نظارة سميكة وصوت عميق ونظرة مُرتابة.

عرف منه أن ذو النظارة السميكة هو (مدير التحرير) ...كانت بيده كل خيوط لعبة العمل...تغافل مدير التحرير عن وجود "عروة" رغم مروره غير مرة إلى جانبه.

انتابه الشعور بالغربة لأنه أحس بأن الحاضرين على اختلافهم ينتمون إلى أزمنة مشتركة حاضرة أو ماضية...هو الشاب الفقير القادم من بيئة جنوبية مهَمَّشة، مقتحماً مهنة صحفية يحكمها الغموض... حالِماً أن يكون نغمة في سيمفونية المعرفة، وهو مازال بالنسبة لهم كينونة في طور التكوين بلا مسمى معلوم أو اسم لامع في حاضر أيامهم أو ماضيها.

وسط الصتيت واضطرام الحركة في كل مكان اقترب منه (ليث الحمداني) الشاب الأشقر ذو الشاربين الكثّين، سأله:

هل تناولت طعاماً منذ ليلة أمس أم لا؟

قبل أن يرد عليه دعاه (ليث الحمداني) للذهاب معاً لتناول الطعام في حجرة تقع في نهاية الرواق الطويل... مازالت رائحة البلاط المبلل تفوح منها...جلس بين (الخطاط جمال العتابي) الذي بادله نظرة وديه مست شغاف قلبه كأنه يعرفه رغم انه يلتقيه اول مرة... ومعهم (المصمم الشهيد سامي العتابي)، وشاعر وخطاط كهل ذو ملامح ناعمة...يصغون إلى حديث رجل عجوز نحيف فارع الطول يتحدث إليهم بنبرة المعلم الخبير عن اللغة وقواعدها...قدمه (ليث الحمداني) له بأنه (أبو تائه) "مصحح في الجريدة" التي ستصدر قريباً جداً...تشعبت الأحاديث وتنوعت بين الحاضرين، تَجَلَّتْ كلها معبرة عن رغبة الجميع في استكمال النصوص وتصميم الماكيتات للعدد صفر من الجريدة بأسرع وقت.

صعد إلى الطابق الثاني من المبنى، الذي تمتد فيه غرف ضيقة ذات واجهات زجاجية واسعة تطل على البيوت الواطئة، الممتدة على طول السدة الترابية التي تفصل بين آخر حي من العاصمة وقطعان الأكواخ، التي تُحَزِّمُ المدينة ببؤسها من جنوبها وشرقها وسميت كناية بالعاصمة.

كانت الغرفة التي تلي السُلَّمِ مباشرة مزدحمة بالرجال حول منضدة يجلس خلفها رجل وقور يصغي الجميع إليه بانتباه شديد، يشير بقلمه إلى مواقع على صفحة بيضاء لجريدة لم تكتب بعد...كأنه يحدد مسالك جيوش تنطلق إلى آفاق لامحدودة...يضع مواقع أبواب الصفحة ونوافذها، التي ستطل بها الأفكار على بصائر القراء...يُقَسِّم الصفحة بخط أفقي إلى نصفين مؤكداً على أهمية أن يظهر موقع عنوان الافتتاحية في النصف العلوي من الجريدة عندما تعرض في المكتبات أو على الأرصفة.

همس (ليث الحمداني) بأذنه:

هذا شيخ الصحفيين... (الأستاذ الونداوي)!

واصلا جولتهما...كأن (ليث الحمداني) يريد ان يُعَرِّفُهُ بالمحيط الذي وجد نفسه خائضاً فيه...ظهر من خلف الزجاج ثلاثة شباب يتحلقون حول رجل قصير يخط برشاقة اسم الجريدة بخطوط متعددة...كان "الخط الثلث" لمسمى الجريدة الأقرب إلى النفس والأشد تحريضاً للذاكرة...فهو ذات الخط الذي رسخ في الذاكرة لـ"جريدةاتحاد الشعب" التي غُيِّبَ وقُمِعَ محرروها وأعدم خيرة كتابها وشغيلتها في انقلاب الثامن منشباط قبل عشر سنوات.

توقفا عند ماكينتي "اللاينو تايب"، استمعا إلى شرح عن تقنياتها الحديثة من عامل "اللاينو تايب" المخضرم (أبو يونس) بلهجته الموصلية العذبة، وهو يتعهد بإنجاز تنضيد النصوص حال ورودها من المحررين بزمن قياسي لضمان صدور العدد صفر من الجريدة دون تأخير.

في الغرفة الكبيرة التي تقع في نهاية الممر بالطابق الأرضي للمبنى، كانت ثلاثة فتيات وأربعة شبان يُعِدّون أماكن أجهزة التصوير ومناضد المونتاج الفلمي والورقي للمطبعة التي ستصل من المانيا الشرقية...اقترب منهم المصور المونتير"شهريار" وشد على يديه مرحباً بحرارة...توهجت في ذاكرته صورة زميله عازف الكمان "شهريار" الذي عاشا معاً لأكثر من عام في القسم الداخلي برصافة بغداد، دون أن تتكون بينهما علاقة مباشرة، لكونهما في اختصاصين مختلفين...في مرحلة سادها التباس المواقف السياسية، وتكاثر المندسين بين معارضي السلطة، وإشاعة تخويف المرء من أخيه وأمه وأبيه.

اهتز المبنى لصوت دوران عجلة المطبعة الصغيرة الصدئة، هرع الجميع إليها مبتهجين...لكن انقطاع التيار الكهربائي عنها أخرسها، وفاحت عنها رائحة الزيت المحترق.

فانفجر (ابو ثائر) غاضباً يلعن يميناً وشمالاً...صرخ به (الأسطة أبو زياد):

ليس لدينا وقتٌ للشتائم والنحيب...يجب أن نعيد المحاولة من الصفر..سنغير الشبكة الكهربائية ونُزَيِّتْ العتلات من جديد!

انضم "عروة" و(ليث الحمداني) وباقي الشباب والعجائز العاملين بمكائن اللاينو تايب ومعهم فنيو المونتاج إلى عمال المطبعة المُنْهكين، لتفكيك المطبعة وإعادة تزييتها، واستبدال كيبل الكهرباء الذي تَفَحَّمَ.

بدأت الحركة تدب في القاعة المجاورة، تمت إضاءة مصابيح الغرف الزجاجية...التي ضَجَّت بالمحررين والمصممين والوجوه المُتعبة التي خرجت للتو من أقبية العمل السري المضني...رافقه (ليث الحمداني) للانضمام إلى ذلك التجمع...جلس بين مجموعة استسلمت مسامعه لأحاديثهم، صاروا يلتفتون إليه بانتظار مشاركتهم الرأي في شأن يهواه من المعرفة...أخذتهم المساجلات عن لغة الشعر التي شغف بها منذ صباه إلى نصوص يألفها وأخرى يستمع إليها أول مرة، قدم جاره اليه نفسه:

انا أبو سرحان...

في الغرفة الملاصقة كان المصمم النحيف (الشهيد سامي العتابي) ذو الابتسامة الساخرة يرمي سهام كلماته المُشَفَّرَةِ إلى ذلك الكهل ذو الملامح الناعمة...لكنه حال انتباهه لدخوله مع (ليث الحمداني) إلى الحجرة الصغيرة ذات المكتبين...نهض مرحباً بابتسامة مبهجة مهذبة ليشد على يد "عروة" ويدعوه للجلوس إلى جانبه...كانت دعوة مفعمة بإلفه من يعرفه من قَبْلُ وكأنه بانتظار عودته إليهم.

وضع (الشهيد سامي العتابي) أمامه مجموعة أوراق بينها نص شعري كتبت كلماته بخط اليد،بحروف سائلة متموجة بذات الإيقاع الذي احتكمت إليه القصيدة...فارتحل "عروة" مستمتعاً بقراءة النص، مرتشفاً جرعة من كأس القصيدة المترعة بِمُسْكِرٍ باردٍ في هجير الصيف... انقطع عن الضجيج والهزار الذي يتردد بين جدران الحجرة الضيقة...تناول ورقة من صف الأوراق السمراء التي دفعها إليه (المصممالشهيد سامي العتابي)، وبدأ يرسم بالحبر الأسود بذات الإيقاع المتموج على سطح الورقة...تارة تتغنى خطوطه بخصلات الشعر المتراقصة مع أنسام الريح على جبين الفتاة، وأخرى يستسلم للرموش التي جعلها الشاعر ملاذاً لغربته...فتَجَلَّتْ ملامحها الفاتنة المتسائلة واحة أمل بين فوضى الخطوط المعصوفة بروحه المكبلة وحزنه العميق المتناسل.

وضع (التخطيط) للقصيدة جانبا، فتلقفته الأيدي وسرى من حجرة إلى أخرى...وجاءه رجل قصير نحيل يتأرجح في مشيته المتخبطة، يداه ترتعشان من فرط النشوة حاملاً إعصار الخطوط السوداء المتفاقم على سطح الورقة السمراء...سائلاً إياه بدهشة المُعْجَبِ:

من أين جئت إلينا بكل هذا الشغف العاصف.. وأنت مازلت كتكوتاً؟!

أخبره المصمم (سامي العتابي) إن (التخطيط) سينشر مع نص قصيدة لذلك "الشاعر المُنتَشي" (أبو علي– رشدي العامل) في أحد الأعداد الأولى من الجريدة.

وصار "عروة" واحداً منهم...!

منكفئاًعنهم...عائم بين شطآن الحروف وضفاف الخطوط التي تغور في أعماق النفس لتخرج أهازيج رفض...تارة، وتارة أخرى تشهق أنفاس شوق تسري في عروق الأزمنة.

قطع توحده بجمال الكلمة، وصخب دوران عجلات المطبعة، وصراخ المبتهجين من العمال والمحررين... وهرع مع المهنئين لأولئك العمال الذي استغرقوا أكثر من ثلاثة أيام بلياليها يصارعون عناد الحديد الصدئ ليخرجوه من صمته ويجعلوه ينطق الحقيقة.

تسابق المحررون وعمال اللاينو تايب وعمال المداورة خلال الساعات التي أعقبت دوران المطبعة لإنجاز أعمالهم في زمن يستجيب لموعد إصدار الجريدة قبل حلول الفجر... وكان ذو النظارات السميكة والعيون المرتابة يحدد للمصمم مساحة واسعة في أعلى الصفحة الأولى لخبر منتظرٌ وصوله بعد منتصف الليل ليتوج العدد صفر من الجريدة...وطلب منه أن يترك عمودين فارغين في يمين الصفحة لافتتاحية العدد!

صار الجميع يتساءلون عن:

ماهية الحدث الذي سَيُنتِجُ لنا خبراً هاماً في أعلى الصفحة الأولى في باكورة أعداد الجريدة بعد احتباس صدورها عشر سنوات؟!

ولماذا لم تُسَلَّم المقالة الافتتاحية لعمال اللاينو تايب لتنضيدها لحد الآن؟!

انسحب الرجال الذين كانوا في الغرفة الأخيرة التي كتب على بوابتها (هيئة التحرير) فجأة، وخرجوا بهدوء ومعهم المصور إلى سيارة تنتظرهم في الشارع الخلفي حال وصول رجل احتفى به الجميع ونظر إليه الشباب بعيون مفعمة بالإعجاب...وغادروا إلى المطار!

ذهب "عروة" و(ليث الحمداني) إلى غرفة هيئة التحرير...الغرفة الوحيدة التي يوجد فيها جهاز تلفاز...

جلسا يتابعان فلم (صائد الفراشات)!

قطع التلفاز الحكومي برنامجه معلناً عن:

الانتقال إلى المطار في نقل مباشر لوصول الرئيس الكوبي (فيدل كاسترو) إلى بغداد!