كـتـاب ألموقع

ظاهرة إغتراب المبدعين العراقيين خارج وداخل وطنهم -//- د. هاشم عبود الموسوي

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

د. هاشم عبود الموسوي

ظاهرة إغتراب المبدعين العراقيين خارج وداخل وطنهم

أحيانا يتسائل المثقفون ، وحتى المواطنون العاديون ،  وأنا واحد منهم ، عن ما حل ببعض المبدعين العراقيين من علماء وكتاب وأدباء معروفين ، ممن لازالوا على قيد الحياة ، والذين إختفت أخبارهم ، وقل ظهور أسمائهم في محافل الإبداع  أو في  وسائل الأعلام المختلفة ، ولا حتى على صفحات المواقع الألكترونية . وقد أخبرني بعضهم بأن الشعور بالإغتراب  هو الدافع لإنزوائهم  ، وغيابهم عن الساحة  ؟

بلا شك فإن الإغتراب ظاهرة إنسانية يمكن رصده لدى الأفراد المبدعين ، وكذلك لدى مجموعة أو مجتمع من البشر، عبر الملامح السلبية التي تلوح في سلوكهم وسياق حياتهم , وترسم الإفرازات الموضوعية ملامح الطرف المغترب وتكشف عن آلياته ، حيث يرتبط إغتراب (الإنسان ) عموما بشكل أو بآخر بإبتداع عوالم وبيئات تتخذ أشكالا مختلفة ، تتبع الشكل الذي يحدث به الإغتراب و أسبابه ، كما يرتبط أيضا بإبتداع العديد من النتاجات الإنسانية التي أثرت مسير الحضارة الإنسانية ، وحيث يرتبط الإغتراب بالميل نحو تكوين عوالم أخرى ، أوبيئات خاصة ، أوكيانات ، يعيش فيها الطرف المغترب ، وأعتقد بأن هذا الميل أجبر عليه الكثير من المثقفين والمبدعين العراقيين ، سواء كان ذلك الإغتراب تلقائيا أو مفروضا ، بسبب الإحباطات الكبيرة التي واجهتهم و لعقود طويلة. وتبدو هذه العوالم التي يعيشها هؤلاء ، وكأنها البدائل التي يحقق من خلالها المغتربون حالة  ( اللا إغتراب )، أو ما يعرف بالوضع المقابل ، ويتخذ سلوكهم خارج تلك العوالم آليات متنوعة يحاولون من خلالها المحافظة على ديمومة تلك العوالم ، ويرسمون بها العلاقة مع ( الآخر ) الذي يغتربون عنه ، سواءاً كان ذلك هي السلطة الحاكمة أو الوطن برمته .

ويمكن تصنيف هذه الآليات الى نوعين :

-         آليات التمحور حول الذات : ومنها العزلة والإنغلاق على الذات أوتمييز تلك الذات بالتطرف ، بل وأحيانا تدميرها ، أو البحث عن كينونة أو هوية أخرى لها يعتقد أنها مفقودة ، فتنقسم (الذات) على نفسها ، فتبدو حينئذ وكأنها ( الآخر ) بالنسبة للمغترب .

-         آليات رفض  (الآخر ) : وتعتمد على الحركة وعدم الإستقرار ، وهي إما أن تتخذ شكلا يقوم على زعزعة إستقرار الآخر ، والإضرار به ، أو تلجأ الى الميل نحو الحركة وعدم الإستقرار الذاتيين ، بما يمنع الإرتباط بالآخر ، مهما كانت صفته ، وقد زار بعض من زملائي في المنافي عددا من المبدعين ، الذين سبق وأن ذاع صيتهم ، فوجدوهم بحالة يرثى لها ، وهم يحاولون أن ينقطعوا حتى مع مواضيهم .

لقد سبق وأن حفلت مسيرة الحياة الإنسانية بأمثلة عديدة لظاهرة الإغتراب لدى الأفراد ، وظهر ذلك من خلال  سياق الحياة ، أو من خلال الأعمال التي يقدمها أو يقدم عليها ، وتقدم نصوص  الحضارات القديمة إنموذجين معروفين للأفراد المغتربين ، أحدهما ترويه ( ملحمة كلكامش ) البابلية العراقية ، وهي قصة الملك السومري (كلكامش) ، ملك الوركاء ( أوروك ) في عصر فجر السلالات (2800- 400 ق.م)، الذي أصابته حالة شديدة من الإغتراب بعد موت صديقه " أنكيدو " ، فإرتاع من أن يكون الموت مصير الإنسان ، لذا قام برحلة طويلة وشاقة بحثا عن سر الخلود ، عاد منها بالإخفاق ، بعد أن أيقن بأن الآلهة قدرت الموت لبني البشر و إستأثرت بالحياة لنفسها ، وإن من العبث أن يبحث الإنسان عن الخلود ، حتى لو كان نصف ‘له مثله، وأن خلود الإنسان يقع في أعماله ، فإنصرف بعد عودته من رحلته الفاشلة الى إعمار مدينته التي أهملها  .

أما الأنموذج الآخر فهو : أخناتون(أخن أتون) (1367-1350 ق.م) ,ذلك الملك الفرعون –من الأسرة الثامنة عشرة- الذي إغترب هاجرا ( طيبة ) عاصمة أسلافه ، ومعه دين آبائه، سعيا لعبادة إله واحد ، هو إله الشمس (آتون) ، مقيما عاصمته الخاصة ( أختاتن )المعروفة بموقع (العمارنة). ورغم وجود تحفظات على مدى نجاحه في نشر دعوته ، وإختلاف الآراء في أسبابها ، فإن تلك الدعوة لتوحيد الإله كانت الأولى من نوعها في تاريخ البشرية . وفي عصره ، عرف الفن الفرعوني شكلا مختلفا عن سياقه التقليدي .

وتبدو العلاقة وثيقة بين إغتراب الأفراد و إمتلاكهم مقدرة التعبير عما في دواخلهم ، وقد شخص ذلك الباحثون والمفكرون . وما يمكن رصده اليوم من إغتراب لدى بعض من مبدعينا بإعتباره ( الإنفصال المقترن بالتنافر والسلبية ) من خلال معاني العزلة والتنحي ، في سلوك الأفراد المبدعين ، في مقابل ما تقدمه ملكاتهم من تعبيرات في الفلسفة والأدب والفن . والخوف كل الخوف من تصاعد مشاعر الإحباط لديهم ووصولهم الى ميول الإنتحار .

وما دعاني الى طرح هذا الموضوع ، هو إني منذ بدأت أنشر على المواقع الإلكترونية في عام 2001 ، كنت أتواصل و أتمتع بقراءة نصوص وأخبار نتاجات  بعض المبدعين العراقيين من علماء وكتًاب وأدباء وفنانين ، ممن لا  أجد لهم اليوم وجوداً ، بعد أن  إختفوا  وغابوا عن الساحة ، وقل ظهورأسمائهم على مختلف المواقع الشبكة الإلكترونية .. وبإعتقادي أن الإحباط الذي لازمهم  وأصابهم من جراء إنتظار طويل لأملٍ صار بعيدا عن أعينهم ، بأن يروا ما يتمنوه لوطنهم من خيرٍ  قد تضاءل  حد اليأس .