اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ألمكتبة

• مدخل الى الاشتراكية العلمية .. الجزء الرابع والاخير - الصفحة 4

 4- قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية وأنماط الإنتاج

 

 

كل منتَج يصنعه الإنسان هو ناتج دمج عناصر ثلاث هي: موضوع العمل وهو مادة أولية أنتجتها الطبيعة مباشرة أو مداورة، وأداة العمل، وهي وسيلة إنتاج متطورة إلى هذا الحد أو ذاك خلقها الإنسان (من قضبان الخشب الأولى ومضارب الحجر المقطوع إلى الماكينات الآلية الأكثر تطورا حاليا، والذات القائمة بالعمل، أي الشغيل. ولما كان العمل دائما اجتماعيا وغير فردي بالدرجة الأخيرة، فإن الذات العاملة تدخل حتما في علاقة إنتاج اجتماعية.

وحتى لو كان موضوع العمل وأداة العمل عنصرين لا غنى عنهما لكل إنتاج، لا يمكن تصور علاقات الإنتاج الاجتماعي بصورة «مشيأة» أي لا ينبغي النظر إليها كما لو كانت تتعلق بعلاقات بين الأشياء، أو بين ناس وأشياء. إن علاقات الإنتاج الاجتماعية تتعلق بعلاقات بين البشر، وفقط بعلاقات بين البشر. وتشمل مجموع العلاقات التي يعقدها الناس فيما بينهم أثناء إنتاج حياتهم المادية. ولا يعني «مجموع العلاقات» العلاقات في أمكنة العمل بحصر المعنى («at the point of production») وحسب، بل كذلك العلاقات التي تتعلق بتداول مختلف عناصر الناتج الاجتماعي الضرورية لهذا الانتاج المادي، وبتوزيع تلك العناصر، لاسيما الطريقة التي تصل بها موضوعات العمل وأدوات العمل إلى المنتجين المباشرين، والطريقة التي يحصل بها هؤلاء على معاشهم، الخ.

يتوافق عموما مع درجة محددة من تطور قوى الإنتاج، مع مقدار محدد من وسائل إنتاج، ومع تقنية عمل وتنظيم له محددين، علاقات إنتاج تلائمها. فلقد كان صعبا في عصر الحجر المقطوع تخطي الشيوعية البدائية للجماعة أو القبيلة. إن الزراعة على أساس الري أو بواسطة أدوات حديدية تنتج فائض إنتاج دائم مهم يؤدي إلى ولادة مجتمع طبقي (المجتمع العبودي ومجتمع نمط الإنتاج الآسيوي، الخ). وتخلق الزراعة على أساس إراحة الأرض مرة كل ثلاث سنوات أسس المجتمع الإقطاعي المادية. أمّا ولادة استخدام الآلات فكفلت نهائيا صعود الرأسمالية الحديثة. إنه لصعب أن نتصور التأليل المعمم دون زوال الإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، أي خارج مجتمع اشتراكي مكتمل التطور ومستقر.

لكن إذا كان هنالك توافق عام بين درجة تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية، فهذا التوافق ليس مطلقا ولا دائما. يمكن أن ينتج فيما بينها اختلال مزدوج في التمفصل. فعلاقات إنتاج محددة يمكن أن تصير معيقات لانطلاق قوى الإنتاج، وتلك هي أوضح علامة على أن شكلا اجتماعيا معينا محكوم عليه بالزوال. على عكس ذلك، يمكن لعلاقات انتاج جديدة انبثقت من ثورة اجتماعية ظافرة أن تكون متقدمة على درجة تطور قوى الإنتاج في البلد المعني. تلك كانت حال الثورة البرجوازية الظافرة في هولندا في القرن السادس عشر، والثورة الاشتراكية الظافرة في روسيا في أكتوبر 1917.

ليس صدفة أن تتعلق هاتان الحالتان الرئيسيتان من اختلال التمفصل بفترات تاريخية تشهد هزات اجتماعية عميقة وثورات اجتماعية. ويمكن لاختلال التمفصل أن يحدث كذلك بمعنى تراجع دهري لقوى الإنتاج، كما في عصر انحطاط الإمبراطورية الرومانية في الغرب، أو انحطاط الخلافة المشرقية في الشرق الأوسط.

إن الدياليكتيك بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية هو الذي يحدد في القسم الأكبر توالي العصور الكبرى في التاريخ الإنساني، وهذا أصح من تصور التفاعل فيما بينها كما لو كان توافقا آليا. كل نمط إنتاج يمر بمراحل متتالية من الولادة والصعود والنضج والانحطاط والسقوط والزوال. هذه المراحل تتوقف في التحليل الأخير على الطريقة التي تلائم بها علاقات الإنتاج -التي تكون في البدء جديدة، ثم تتوطد، ثم تدخل في أزمة- إنطلاق قوى الإنتاج، أو تسمح به، أو تعيقه يوما بعد يوم. إن التمفصل بين هذا الدياليكتيك والصراع الطبقي أمر بديهي، فعبر عمل طبقة اجتماعية أو عدة طبقات اجتماعية معينة وحسب، يمكن لعلاقات انتاج محددة أن تُدخل أو يحافظ عليها أو يتم قلبها.

إن كل تشكيل اجتماعي، أي كل مجتمع في بلد محدد وفترة محددة، يتسم دائما بمجموعة علاقات إنتاج، فتشكيل اجتماعي ليس فيه علاقات إنتاج هو بلد لا عمل فيه ولا إنتاج، أي بلد لا سكان فيه ولا مجتمع. إلاّ أن كل مجموعة من علاقات الإنتاج الاجتماعية لا تستتبع بالضرورة وجود نمط إنتاج مستقر، ولا تجانس علاقات الإنتاج المشار إليها.

إن نمط انتاج مستقر هو مجموعة علاقات إنتاج تعيد إنتاج ذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك، عبر سير الاقتصاد بالذات، أو الحركة العادية لإعادة إنتاج قوى الإنتاج، مع وجود دور ملائم، مهم إلى هذا الحد أو ذاك، تتولاه بعض عوامل البنية الفوقية الاجتماعية. كانت تلك هي الحال خلال قرون عديدة، وفي بلدان كثيرة، مع نمط الإنتاج الأسيوي، والعبودي، والإقطاعي، والرأسمالي، كما كانت تلك هي حال نمط إنتاج الشيوعية القبلية، خلال آلاف السنين. إن نمط إنتاج هو بهذا المعنى بنية لا يمكن تعديلها بشكل أساسي عن طريق التطور، أو التوفيق أو الإصلاح الذاتي، إذ لا يمكن تخطي منطقه الداخلي إلاّ عبر قلبه.

بالمقابل، يمكن أن نشهد في فترات تاريخية من الخضات الاجتماعية العميقة مجموعات علاقات إنتاج ليست لها طبيعة نمط إنتاج مستقر، والمثال النموذجي على ذلك هو عصر سيطرة الإنتاج البضاعي الصغير (في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في هولندا وإيطاليا الشمالية ثم إنكلترا) حيث لا تتفوق العلاقات بين السادة والأقنان، ولا علاقات الرأسماليين والمنتجين المأجورين، بل علاقات المنتجين الأحرار غير المفصولين عن وسائل إنتاجهم. والأمر ذاته بالنسبة لعلاقات الإنتاج المميزة للدول العمالية المبقرطة اليوم، ففي كلا الحالين لا نجد نمط إنتاج مستقرا. في كل مجتمعات مراحل الانتقال تلك، لا تكون علاقات الإنتاج الهجينة بنى تعيد إنتاج ذاتها بذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك. يمكنها أن تقود إما إلى إعادة المجتمع القديم أو إلى قيام نمط إنتاج جديد. هذا الخيار التاريخي تحسمه مجموعة من العوامل التي يدخل فيها على وجه الخصوص الانطلاق الكافي أو غير الكافي لقوى الإنتاج، ونتيجة الصراع الطبقي في البلد المعني وعلى المستوى العالمي، وتأثير عناصر تابعة للبنية الفوقية وذاتية (دور الدولة، دور الحزب، مستوى كفاحية الطبقة الثورية ووعيها، الخ).

من جهة أخرى حتى حين يوجد نمط إنتاج مستقر، لا تكون علاقات الإنتاج متجانسة بالضرورة، لا بل لا تكون كذلك أبدا. ثمة دائما في كل تشكيل اجتماعي ملموس، إدغام بين علاقات إنتاج مميزة لنمط إنتاج قائم، ورواسب لم يتم امتصاصها كليا لعلاقات إنتاج سابقة تم تخطيها تاريخيا منذ زمن طويل. إن كل البلدان الإمبريالية ما تزال تعرف عمليا، على سبيل المثال، رواسب الإنتاج البضاعي الصغير (فلاحون صغار، مالكون يعملون دون اللجوء ليد عالمة مأجورة)، لا بل رواسب علاقات إنتاج إقطاعية (كالمزارعة). إنه لمبرر أن نتكلم في تلك الحالات على نمط إنتاج مستقر حين تكون سيطرة علاقات الإنتاج المميزة له قوية لدرجة إعادة إنتاجها آليا، وفرض سيطرة منطقها الداخلي وقوانين تطورها على مجمل الحياة الاقتصادية.

إن المثل المميز لعلاقات إنتاج هجينة يسيطر فيها نمط إنتاج مهيمنة هو مثل التشكيلات الاجتماعية المسماة «عالمثالثية» (نسبة للعالم الثالث أو البلدان المتخلفة، أنظر الفصل السابع). تتجاور هنا علاقات إنتاج سابقة للرأسمالية، ونصف رأسمالية، ورأسمالية، مندمجة بصورة جامدة تحت ضغط بنى الاقتصاد العالمي الإمبريالية.رغم هيمنة رأس المال، ورغم الانخراط في النظام الامبريالي، لا تتعمم علاقات الإنتاج الرأسمالية (وقبل كل شيء العلاقة «عمل مأجور-رأس مال منتج»)، رغم أنها قائمة وتتمدد ببطء. إلاّ أن هذا الواقع لا يبرر أبدا اعتبار هذه التشكيلات الاجتماعية كما لو كانت «بلدانا إقطاعية» ولا فرضية هيمنة علاقات الإنتاج الإقطاعية أو نصف الإقطاعية داخلها، وهو خطأ نظري يقترفه العديد من المنظرين الستالينيين أو الماويين.

 

5- الحتمية التاريخية والممارسة الثورية

 

المادية التاريخية مذهب حتمي. فموضوعته الأساسية تؤكد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي. وتاريخ المجتمعات الإنسانية قابل للتفسير وليس عرضيا أو اعتباطيا، فمسيرته لا تتوقف على نزوات غير متوقعة للتحولات الوراثية، أو لبعض «الرجال العظام» أو لحشد تعرض للإشعاعات الذرية، وهو يفسر في التحليل الأخير بنية المجتمع الأساسية في كل عصر محدد وبالتناقضات الجوهرية لتلك البنية. وطالما بقي المجتمع منقسما إلى طبقات، فهو يفسر إذا بالصراع الطبقي.

بيد أنه إذا كانت المادية التاريخية مذهبا حتميا، فهي كذلك بالمعنى الديالكتيكي للكلمة لا بالمعنى الميكانيكي، إذ الماركسية تستبعد الجبرية. ولمزيد من الدقة، فإن كل محاولة لتحويل الماركسية إلى جبرية أو إلى تطورية آلية، إنما تزيل منها بعدا أساسيا.

ومع أن خيارات البشرية تحددها مسبقا ضغوطات مادية واجتماعية لا يمكنها أن تتلافاها، فهي قادرة على أن تصنع مصيرها في إطار هذه الضغوطات. إن الناس يصنعون تاريخهم، فإذا كانوا نتاج شروط مادية محددة، فهذه الشروط المادية هي بدورها نتاج ممارسة الناس الاجتماعية.

هذا التخطي للمثالية التاريخية القديمة («الأفكار، أو الرجال العظام، يصنعون التاريخ») وللمادية الميكانيكية القديمة («الناس نتاج الظروف») هو بشكل ما وثيقة ولادة الماركسية. نجده في «الموضوعات حول فيورباخ» التي تشكل خلاصة «الأيديولوجية الألمانية» لماركس وإنجلز.

يعني هذا بين ما يعني أن نتيجة كل عصر كبير من التشنجات الاجتماعية في التاريخ غير أكيدة، فقد تؤدي إلى انتصار الطبقة الثورية، وقد تؤدي إلى الانحلال المتبادل لكل الطبقات الأساسية في المجتمع المعين، كما كانت الحال في نهاية نمط الإنتاج العبودي القديم. فليس التاريخ مجموع تطورات مستقيمة، والكثير من التشكيلات الاجتماعية الماضية زالت دون أن تترك آثارا، لاسيما بفعل غياب طبقة ثورية قادرة على شق الطريق إلى التقدم، أو بفعل ضعفها.

إن الانحطاط الواضح للرأسمالية المعاصرة لا يصب في انتصار الاشتراكية الجبري، بل في الخيار بين الاشتراكية والبربرية. فالاشتراكية ضرورة تاريخية للسماح بانطلاق جديد لقوى الإنتاج موافق لإمكانات العلم والتقنية المعاصرين. وهي ضرورة إنسانية على وجه الخصوص، للسماح بكفاية الحاجات التي أيقضتها تطورات العالم الثقنية لدى الناس، ولكفاية هذه الحاجات ضمن شروط تضمن تفتح كل الطاقات البشرية الكامنة، لدى كل الأفراد، من كل الشعوب، دون تدمير توازن البيئة. إلا أن ما هو ضروري لا يتحقق حتما، فأمل البروليتاريا الثوري والواعي وحده هو الذي يضمن انتصار الاشتراكية، وإلاّ فإن الطاقة الإنتاجية الضخمة الكامنة للعلم والتقنية المعاصرين ستظهر في شكل أكثر فأكثر تدميرا للحضارة والثقافة والانسان والطبيعة، لا بل للحياة على كوكبنا.

إن ممارسة الناس الاجتماعية هي التي تخلق البنى الاجتماعية التي تحتويهم فيما بعد، وبالممارسة الاجتماعية الثورية يمكن قلب هذه البنى بالذات. والماركسية حتمية بقدرما تؤكد أن هذه الخضات لا يمكن أن تحصل في أي من الاتجاهات، فعلى أساس القوى الإنتاجية المعاصرة تستحيل إعادة إدخال الإقطاعية أو شيوعية جماعات صغيرة مكتفية ذاتيا من المنتجين-المستهلكين. إنها حتمية بمعنى أن ثورات اجتماعية تقدمية («fortschrittliche») غير ممكنة إلاّ إذا نضجت داخل المجتمع القديم الشروط المادية المسبقة والقوى الاجتماعية التي تسمح بخلق تنظيم اجتماعي أعلى.

إلاّ أن الماركسية ليست جبرية لأنها لا تفترض أن مجيئ هذا المجتمع الجديد سيكون الناتج الحتمي لنضج الشروط المسبقة المادية والاجتماعية الضرورية لظهوره. فهذا المجيء لا يمكن أن ينجم إلا عن نتيجة الصراعات القوى الاجتماعية الحية. إنه ينتج إذا في التحليل الأخير عن درجة فعالية العمل الثوري. فإذا كان هذا بدوره مشروطا جزئيا بظروف وموازين قوى اجتماعية، يمكن للعمل الثوري أن يقلب بدوره تطور هذه الظروف وموازين القوى أو يكبحه أو يسرّعه. حتى موازين قوى ملائمة للغاية يمكن أن «تخربها» نقاط ضعف ذاتية لدى الطبقة الثورية. بهذا المعنى يلعب «العامل الذاتي التاريخي» (الوعي الطبقي والقيادة الثورية للبروليتاريا)، في عصرنا عصر الثورات والثورات المضادة، دورا رئيسيا في تحديد نتيجة المعارك الطبقية الكبرى، لتقرير مستقبل النوع البشري.

 

6- الاستلاب والتحرر

 

لقد عاشت البشرية طوال آلاف السنين حياة التبعية الشديدة لقوى الطبيعة الهوجاء. لم يكن في وسعها إلاّ أن تسعى للتكيف مع بيئة طبيعية معينة، وكل تجمع بشري صغير مع بيئته الخاصة به، وكانت أسيرة أفق ضيق ومحدود حتى ولو استطاعت مجتمعات بدائية عديدة أن تطور بعض الإمكانات البشرية بشكل مرموق (كالرسم الباليوليتي مثلا).

ومع تطور قوى الانتاج تتوصل البشرية شيئا فشيئا إلى قلب علاقة التبعية المطلقة تلك، وتنجح في إخضاع قوى الطبيعة أكثر فأكثر، وفي الإشراف عليها وتدجينها واستخدامها بوعي بهدف زيادة إنتاجها وتنويع حاجاتها وتطوير طاقاتها، وتوسيع علاقاتها الاجتماعية التي تخلص إلى شمول كل كوكبنا وإلى احتمال توحيد البشرية جمعاء.

لكن كلما تحرر الناس حيال قوى الطبيعة كلما استلبهم تنظيمهم الاجتماعي الخاص بهم. فبقدر ما تزيد قوى الإنتاج، ويتقدم الانتاج المادي، وتصبح علاقات الإنتاج علاقات مجتمع منقسم إلى طبقات، لا تعود البشرية تشرف على مجمل إنتاجها ولا على مجمل نشاطها الإنتاجي، ولا تعود تشرف بالتالي على مصيرها الاجتماعي، وفقدان الإشراف هذا في المجتمع الرأسمالي يصبح كليا. إن البشرية التي تتحرر من الخضوع لجبرية الطبيعة، تبدو أكثر فأكثر خضوعا لجبرية تنظيمها الاجتماعي. كما لو أن مصيرا أعمى يحكم عليها بأن تخضع، لا للنتائج الحتمية للفيضانات والزلازل والأوبئة وتموجات الجفاف، بل لنتائج الحروب والأزمات الاقتصادية والديكتاتوريات الدموية والتدمير الإجرامي لقوى الإنتاج، لا بل الإبادة النووية. ويوحي الخوف من هذه الكوارث بقلق أعظم مما كان يوحي به الخوف من الصواعق والمرض والموت.

إلاّ أن التطور الجامح ذاته، على صعيد قوى الإنتاج، الذي يدفع إلى الحدود القصوى استلاب الإنسان حيال إنتاجه ومجتمعه الخاصين به، يخلق في ظل الرأسمالية إمكانية تحرر حقيقي للإنسان، كما سبق وأشرنا في نهاية الفصل الثاني. وينبغي أن نتصور هذه الإمكانية بمعنى مزدوج، فالإنسانية سوف تصبح أكثر فأكثر تمكنا من الإشراف على تطورها الاجتماعي كما على خضات البيئة الطبيعية التي يحدث ضمنها، ومن التحكم بذلك كله ذاتيا. سوف تتمكن أكثر فأكثر من تفجير كل امكانات التطور الفردي والإجتماعي التي يخنقها أو يشوهها إلى الآن تقصيرها في الاشراف على قوى الطبيعة وعلى التنظيم والصيرورة الاجتماعيين.

ويستتبع بناء مجتمع غير طبقي، ثم قيام مجتمع شيوعي، تحرر العمل أو تحرر الانسان من حيث هو منتج. يصبح الشغيلة أسياد منتجاتهم وسيرورات عملهم، فيختارون بحرية سلم الأولويات في توزيع الناتج الاجتماعي، ويقررون جماعيا وديموقراطيا أعباء الإنتاج والتضحيات بأوقات الفراغ وبالاستهلاك الجاري، التي سوف تتحكم بعملية التوزيع.

هذه الخيارات ستظل تتم بالطبع في إطار لا يخلو من الإكراه، فما من مجتمع بشري قادر على أن يستهلك أكثر مما ينتج، من دون أن يحد من احتياطيه ومن موارده الإنتاجية، أو أن يحكم على نفسه بالحد لاحقا من استهلاكه المعتاد، مذ يبلغ نفاد الاحتياطي والحد من الموارد الإنتاجية مستوى معينا. بهذا المعنى فإن عبارة فريديريك إنجلز، التي ترى أن الحرية هي الاعتراف بالضرورة، تبقى صحيحة حتى بالنسبة للإنسانية الشيوعية. وقد يكون استبدال تعبير «الاعتراف بالضرورة» بتعبير «الاضطلاع بأعباء الضرورة» أصح، لأنه كلما زاد إشراف الإنسان على شروط وجوده الطبيعية والاجتماعية كلما زادت أشكال الردود الممكنة على الشروط الاكراهية وكلما تحرر الإنسان من واجب تبني شكل واحد من الرد.

إلاّ أن هنالك بعدا ثانيا لتحرير الإنسان من الاستلاب يوسع بصورة فريدة دائرة الحرية الإنسانية، فعندما تتم كفاية كل حاجات الناس الأساسية، وعندما تتأمن إعادة إنتاج هذه الوفرة، يتوقف حل المشكلات المادية عن أن يكون المهمة الأولى أمام البشرية، ويتحرر الإنسان من استعباد العمل الآلي غير الخلاق، ويتحرر من ضرورة الوزن الوضيع لاستخدام وقته، وتخصيصه للإنتاج المادي على وجه الخصوص. يتفوق إذاك تطوير النشاطات الخلاقة لديه وشخصيته الغنية، وتطوير علاقات إنسانية أوسع فأوسع، على المراكمة المتواصلة لخيرات مادية أقل فأقل نفعا.

إن الممارسة الاجتماعية الثورية سوف لا تكتفي مذاك بقلب علاقات الإنتاج، بل ستقلب كل التنظيم الاجتماعي، وكل العادات التقليدية، كما ستقلب ذهنية الناس ونفسيتهم. وتذبل الأنانية المادية وروح المنافسة بعد أن تكون التجربة اليومية والمصالح العظمى توقفت عن مدهما بالغذاء.

وسوف تخص البشرية بيئتها الجغرافية، وتبدل شكل الكرة وطبيعة المناخ، وتوزيع احتياطات المياه الكبرى، في حين تحفظ التوازن البيئي أو تعيده، لا بل ستهز إلى الأعماق أساساتها البيولوجية الخاصة بها. وهي لن تتمكن من انجاح هذه المراهنات بصورة إرادية مطلقة، بالاستقلال عن شروط مسبقة وبنية تحتية مادية كافية. لكن ما أن تتأمن هذه البنية التحتية حتى تصبح البشرية الفاعلة، والأكثر فأكثر حرية في خياراتها، الرافعة الرئيسية لخلق إنسان جديد، الإنسان الشيوعي الحر والمتخلص من الاستلاب. بهذا المعنى يصح أن نتكلم على أنسية ماركسية وشيوعية.

*********

أضف تعليق


للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.