اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

سَامِحِينِي// مارتن كورش تمرس

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

مارتن كورش تمرس

 

عرض صفحة الكاتب 

سَامِحِينِي

مارتن كورش تمرس

محامي وقاص

 

هنَّ المدن في أنظارِ ساكنيها، يسندنَ ويدعمنَ بعضهنَّ البعضِ، كأنهنَّ فتيات مؤدبات، يخلصنَ لمَنْ يخلصُ في حبه لإحداهنَّ... هنَّ في نظر الوطن كما البنات في نظر الأب، تراهنَّ جميلات يشبهنَ الزهور وقد غرسهنَّ الوطن في تربته حتى جلسنَ في قلوب آبائهنَّ.

 

هذه واحدةٌ من بينهنَّ هي (بغداد) التي أُغتصِبتْ على يد جيش الاحتلال الأمريكي، كما أُغتُصِبتْ إثرِ ذلك بعدة سنين، وسُبيتْ فتيات أيزيديات على أيدي مجرمين إرهابيين بعد الرابع عشر من حزيران 2014. بغداد العاصمة التي بَدَتْ حزينة ومتألمة وهي تقفُ بين يدي السيد الوطن كي تروي قصتها له:

-     اخترته من بين العديد من الشُّبَّانِ، لأَنَّهُ كان من أعز أصدقاء شقيقي البِكر، وثقتُ به وملَّكته قلبي وجعلتَه أعز من نفسي ولم أعرف غيره من بعد أن صارَ كل شيءٍ في حياتي. كَبُرَ حبي له، ما عدتُّ معه أخشى أحدًا. لذلك عزمتُ على أن لا أفارقه أبدًا على الرغم من سماعي مناوشات كلام جارح من حاسديه وهم ينعتونه باعتماده في معيشته على المدخولات الشهرية لشقيقاته، لكنني ما كنتُ أعيرُ أهمية لكلامهم، لأنني كنتُ أعلم بأنهم يكذبون، بل منهم مَنْ تمنى أن يُقبِّل أطراف أصابع يدي كَيْ ينال قربي، لكنه لم يحظ، لذلك صاروا يضمرون الشرَّ متأملين فرصةً سانحةً قد يغيبُ فيها مَنْ أحببته فينقضون عليَّ. دام حبي له سنينًا لم أخشَ فيها على أن تظهر علامات الكبر في ملامح وجهي، كنتُ مطمئنة من أن الذي اخترته يستحق أن يكون رفيقًا للعمر، لا يهجرني! لأَنَّهُ على علمٍ بأن الجمال زائلٌ.

 

كان السيدُ الوطن الأب يصغي لما تقوله مدينة من أجمل بناته، دون أن يلتفت يمينًا أو شمالًا، بينما تدوي على خارطته أصوات الانفجارات. أكملتْ كلامها:

-     دون سابقِ إنذارٍ من غير وداعٍ غابَ الذي أحببته!! لم أصدّق أبدًا لكنني صدّقتُ عندما التف حولي رجال غرباء لم أراهم حتى في الأحلام! وجوههم بشعةً كأنهم ذِئابُ جائعة. حملوني عنوةً حتى صرختُ بأعلى صوتي: ((أين أنتَ يا من وثقتُ بكَ؟)) ضحكوا كلهم بصوتٍ عالٍ ليقولَ واحدٌ من بينهم ساخرًا : ((غابَ القطُّ فلنلعبْ نحن... هه هه هه)).

 

أجابها الوطنُ الأب:

-     سمعتكِ! يوم صرختِ لكنني لم أقوَ على نجدتكِ، لأن جيش الاحتلال قيَّدَ معصميَّ وقدميَّ بالأغلالِ والأصفادِ، سامحيني يا بنيتي... لطفًا أكملي سردكِ.

-     حملوني دون أن أقاوم، لأنني وجدتُ أن لا جدوى من المقاومة فهم كُثرٌ. هل تَقدر فتاة باكر أن تقاوم مجموعة رجال وإن كانوا عُزل من السلاح؟ هل تقدر أية مدينة بَلَغَ عَدَدُ سُكَّانها ثَلاَثِينَ مَلْيُون نَسَمَة من مقاومةِ جيش عرمرم مدججًا بسلاح الدمار الشامل؟ هل تقدر لبوة أن تُقاومَ قطيعًا من الضباع؟ هل تمكنت أية فتاة أيزيدية من حماية نفسها من مسلحي زمر الإرهاب؟

 

سكتتْ لتمسح دموع عينيها بثوبها الذي حاكته على شكل علم العراق، قالَ لها الوطنُ:

-     لا عليكِ يا فلذة كبد تُربتي... لا عليكِ يا بنيتي... صدقيني لو اغتصبكِ كل الأشرار حول العالم، ثقي سأهرع إليكِ كأبٍ حنون، أحملكِ من تحتهم وأغسل دمائكِ بدموع نهريَّ، أضمدُ جراح كرامتكِ التي أهانوها بطيبة أَرْضي. أنا لستُ وطنًا فحسب، بل أنا أبٌ أيضًا. هيَّا يا بنيتي أكملي سردكِ كي تسمعكِ كل أُنْثَّى، حينئذٍ سيخجل منكِ كل ذكر.

 

-     أُوثقُوا يديَّ ورجليَّ وحملوني على أكتافهم ثم ساروا بي إلى خارج قصرنا، بينما أهلي وناسي حاضرون، لكن دون أن يتطوع أي واحد من بينهم للدفاع عني! قادوني إلى بيت مطلية جدرانه بلون أحمر قاتم! ثم أدخلوني إلى غرفة مستديرة كأنها كهف فيها مرآة كبيرة، مكسورة من بعض أطرافها ومن غير إطار مسمرة على الحائط، فيها سريرٌ يشبهُ خارطة الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأَمريكِيَّة، عليه فراش من حرير ووسائد من ريش البلابل كسرير (شهريار). بعد أن مزقوا ثيابي بأظفارهم، دخلتْ عليَّ عجوز شمطاء تشبه (مادلين أولبرايت) وزيرة خارجية الوِلَايَات المُتَّحِدَة الأَمرِيكِيَّة بدأتْ بتجفيف دموعي، ألبستني ثوبًا مِنَ القَزِّ رَادِعًا أحمر اللون ثم قامتْ بتبريجي كأنها تُحضِّرُ عَرُوسًا للزِفافِ، سألتها: ((لماذا تفعلون هذا بيَّ؟)) لَمْ تَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، خَرَجَتْ بعد أن أكملتْ عملها، لم تمض لحظات حتى دخلَ عليَّ رِجَالٌ مدججون بالسلاح.

 

لم تقو على إكمال قصتها فاغْرَوْرَقَت مآقيها ببكاءٍ عميقٍ، سمعتها كل شقيقاتها المدن، التي تم اغتصابهنَّ قبلها بسنين، هنَّ [سِمِيلِ (شِمْ ئيل)، صورية وحلبجة] وأعقبتهن (نينوى) وسهلها، وغيرهنَّ على الطريق عديدات! ربتَ السيدُ الوطن الأبُ على كتفها، وقالَ لها:

-     ثقي يا ابنتي بِأَنَّكِ ستبقين كما كنتِ قبل تلك الليلة، لن أترككِ كما خانَكِ مَنْ أحْبَبْتِه، اطمئني يا وردة في بُستاني. لن ألجأ معكِ إلى جريمة غسل العار كما يفعل معظم أولياء الأمور في الشرق بمَنْ اغتصِبن من بناتهم، بل سأنحتُ لك تمثالًا على خارطتي، فكلما مرَّ به رجل سيطأطئ رأسه خجلًا مما اقترفه أقرانه. هيَّا يا بنيتي اغلبي حزنكِ، فأنتِ أجمل مدينة من بين بناتي، هيَّا أكملي سردَ قصتكِ.

 

-     بينما لم يزلْ أولئك الرِجَال المسلحين واقفين في الغرفة، دخلتْ عليَّ مجموعة من عَمَالِيق لم أراهم حتى في الأحلام، بملابسهم الداخلية، فعلوا بي فعلتهم... يا الله هل سمعَ أيُّ وطنٌ بفرمانٍ يخص اغتصاب مدينة؟ هل سمعَ أيُّ أبٍ بفرمانٍ يخص اغتصاب فتاة؟ أم سمعَ أيُّ أحد منهما بفرمان شنق طفلة من عائلة فقيرة وهي في الثَّامِنَةُ من عمرها، لأنها سرقتْ قطعة حلوى؟ قلتُ لهم: ((هل اغتصاب فتاة يعتبر عندكم نصرًا؟ ما الذي جنيتموه من فِعلتكم الشنيعة هذه؟)).

-     هل تتذكرين وجوههم؟

-     بعضهم، أما البعض الآخر فلا! بعد أن أكملوا فعلتهم المخزيةِ التي أصبحتْ عارًا في جبين كل شريرٍّ، نهضوا وارتدى كل واحدٍ منهم عباءة تشبه عباءة شهريار. ظلوا يصرخون على مرأى من كل العالم عبر فضائياته: ((أهنَّاها... أهِينوها... أهنَّاها)).

 

لم يكن بيد الوطن الأبُ سوى أن يحتضنها بذراعي نهريه دجلة والفرات، ولم تمض عدة أيامٍ حتى عرفَ الوطن أولائك المغْتَصِبِين حقَّ المعرفةِ، أرسلَ كل روافد نهريه للبحثِ عنهم وإلقاء القبضِ عليهم. أتوا بهم وهم مغلولي الأيادي، يحملون وصمة العار في أجبنتهم وتم سجنهم على حدود الوطن، وها هم ينتظرون محاكمة عادلة من الشعب وفق (مسلة حمورابي).

المحامي والقاص

مارتن كورش تمرس لولو

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.