كـتـاب ألموقع

• 14 تموز 1958 في الذاكرة

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل يونس دمان

14 تموز 1958 في الذاكرة

كنت طفلاً اتهيأ لدخول المدرسة ، عندما عاد عمّي كامل مسرعاً الى البيت والدهشة تعقد لسانه ، والفرحة ترتسم على محياه ، ليقول " لقد انقلبت الدنيا ! " . في حينها سرى خوف في اوصالي وانا احلل كلامه في مخيلتي الصغيرة التي صورت المسألة كأنها انقلاب في كل شيء ، ولكن سرعان ما هدأ روعي ، عندما شاهدت عمي يحتضن والدي ويتعانقان ، ثم يحثان جدّتي لتحرير بعض الفليسات المخبأة لايام الشدة ، اخذ عمي مبلغاً قدره 600 فلساً ليعود بعد قليل وبيده بطارية جافة كبيرة نسبياً . كان المذياع ( الراديو ) قد صمت في بيتنا اشهراً بسبب الافتفار الى المال اللازم لشراء بطارية جديدة ، والذي يمدّنا بالاخبار والاغاني ووقتذاك لم يكن الكهرباء قد دخل البلدة بعد . عبر ذلك الجهاز العجيب ، اخترق موجات الاثير صوت ليس كباقي الاصوات ، مجلجل ، مهيب ، مبشرٌ بثورة 14 تموز المجيدة .


افاق العراقيون على نبا الثورة ، فأشاع البهجة في مدنهم ، قراهم ، شوارعهم ، وبيوتهم ........ في تلك السنة المباركة دخلت مدرسة العزة الابتدائية في القوش ، ولم تمض فترة حتى شرعت ادارة المدرسة بتطبيق نظام التغذية لجميع الطلاب وتوزيع اللوازم المدرسية بالمجان وكذلك بدلات خاصة موحدة . علمني استاذي الاول رحيم عيسى كتو الابجدية الاولى وكتب على السبورة ووجهه يشع نوراً " 14 تموز " ، ونحن الصبية لا نعرف كنه ما كتب ، ولكنها انسابت حروفاً جميلة خطها بعناية المدرس ، ليقول ونحن نردد معه " عاشت ثورة 14 تموز " . ارتفع العلم العراقي ليرفرف فوق مدرستنا ، وغطت صور الزعيم عبد الكريم صور الملك في كل صف من صفوف المدرسة .

لقد شهدت فرح الثورة ، ومع الايام اغتبط الناس بها وبمسيرتها التي تبشر خيراً ، فأقيمت الاحتفالات وازدانت الشوارع الرئيسية والسوق والدوائر الرسمية كالمدارس والمستوصف الجمهوري ومحكمة بداءة القوش ومركز الناحية ( قشلــة) . على طول الشارع الممتد حتى الموصل عبر القرى : شرفية ، تلسقف ، باقوفا ، باطنايا والبلدة تلكيف ، اقامت جميعها الاعراس خصوصاً على جانبي الطريق الرئيسي .
في القوش ، نصبت هياكل حديدية على شكل اقواس على جانبي الطريق ، وزينت باغصان الاشجار التي غطت الهيكل واعطته شكل بوابة خضراء يتوسطها شعار الجمهورية وصورة الزعيم . اقيمت اول بوابة في مدخل البلدة ثم توالت البوابات الاخرى على مسافة حوالي 200 متراً ، وكانت الاخيرة امام مركز الناحية . ارتفعت الشعارات واللافتات الملونة على جانبي الشارع ، ثم بدأت المسيرة الجماهيرية والتي سبقها رتل من سيارات الاجرة بالوانها المختلفة وهي تطلق العنان لمنبهاتها ، ويباشر ساعور الكنيسة موسى قوجا بسحب حبال ناقوس الكنيسة ، وظل مدة يهتز بتلك الضربات الرنانة المتتالية ، وتصل اسماعها الى كافة اطراف البلدة والى اعلى جبلها الوديع الذي يشرف على سهل خصيب كالسندس الخلاب.
انضمت الى الاحتفال وفود الفلاحين من القرى المجاورة والكل يزهو بملابسه ورقصاته الخاصة ، فتقاطرالآشوريين اولاً بازيائهم الشعبية وصدورهم المطرزة بالاوراد شبانا وشابات في اعمار الازهار وعلى رؤوسهم تعتمر القبعة المخروطية المائلة منتصبا على جانبها الريش الزاهي بألوانه ، ووصل بعده الوفد الايزيدي بملابسه الناصعة البياض ويشاميغهم الحمراء ، واخيرا وصل وفد الاكراد المعتني جيدا بهندامه ، وليعقدوا جميعا حلقات رقص رائعة على انغام الزورنة والطبل ، ويطلقوا ايضا اغانيهم واناشيدهم في الهواء الطلق .


كان على راس المسيرة التموزية الرائعة شباب الثانوية المتقد حماسا ، والمعلمون رواد العلم والثقافة ، وكان معلمي جرجيس اسحق زرا في مقدمة المسيرة ، ومعلمي الاخر سعيد ياقو شامايا قد رسم صورة كبيرة لزعيم الثورة ، وفي احدى مراحل المسيرة عزمت على الهتاف وجدتي تقاوم رغبتي ، وانا بذلك الالحاح الطفولي سَمِعَنا استاذي الجليل جرجيس زرا فقال " ليس فيها شيء يا اُمي " ، وناولني يده ليسحبني الى صخرة عالية نسبيا فتصمت المسيرة واطلق هتافي بحياة الثورة ويحدث تصفيق ، فيما يحمر وجهي لما اقدمت عليه ويغمرني فرح طفولي لن انساه ابداً .


انجزت الثورة العديد من المشاريع في بلدتي منها تبليط ازقة البلدة ، واعادة تبليط الشارع الرئيسي المؤدس الى الموصل والذي بلط لاول مرة عام 1950 في عهد مدير الناحية عبدالله صديق الملاح ، مد شبكة المياه الى كل بيت مع نصب خزان في اعلى البلدة لتوزيع المياه . وانشأت بعض المشاريع الخاصة مثل معمل الدواجن لصاحبه منصور كجوجا ، معمل طحن الحبوب لصاحبه الياس الصفار ، ورشة تصليح السيارات لصاحبها صبري نكَارا ، معمل الثلج لصاحبه توما توماس ، كما وبنت الحكومة بناية المسلخ ولكنها اهملت وكانت في حينها اجمل بناية والان باق ٍ منها اطلالها فقط . تشكيل نقابة السواق وفتح مقر لها وانتخاب أول رئيس وهو يوسف عربو الملقب كُتي ، تشكيل رابطة المرأة وانتخاب أول رئيسة وهي صلحة حميكا( ام الشهيد فؤاد شمعون كردي) ، وتشكيل منظمة الشبيبة الديمقراطية وأتحاد الطلبة العام .

لقد خضنا نحن الطلبة اول ممارسة ديمقراطية وكان الاضراب عن الدوام احتجاجا على اعتبار يوم الاحد دوام رسمي في القرى والبلدات المسيحية ، ففي ذلك الجو السلمي الذي اوجدته الثورة ، وقف الطالب حافظ نعيم كَولا ليهتف في ساحة المدرسة ( لا دوام يوم الاحد من الآن الى الابد ) ، فردد الطلبة هتافه وخرجوا باتجاه مدرسة مار ميخا ، وسار الجميع في شوارع البلدة مرددين الاناشيد الوطنية ، وبعد ساعات جاء الجواب من بغداد ، يعتبر يوم الاحد عطلة في المناطق التي فيها الاكثرية مسيحية .
في آذار 1959 قامت مؤامرة الشواف في الموصل ، فوجهت حكومة الثورة نداءا ً عبر المذياع الى كل الغيارى والشرفاء للاسهام في اعادة اوضاع الموصل الى طبيعتها ، فهب رجال القوش الشجعان حاملين اسلحتهم الى الموصل وادوا واجبهم في قمع تلك الحركة التي اريد منها غرق العراق بالدماء ، ويقال ان بسلاء القوش اندفعوا لعبور الجسر القديم ليصلوا الى البلدية قبل غيرهم وليربطوا الجانب الايسر بالصوب الابعد ويسهم ذلك في سرعة انتهاء التمرد . وفي صيف ذلك العام عرضت مسرحية فشل مؤامرة الشواف في ساحة مدرسة العزة وبمناسبة الذكرى الثانية للثورة ، فيما غنت فتاة جميلة اغنية هندية ( هامايا هاجان ) نالت الاعجاب .


في اجواء الثورة تلك ونظرا للمكانة التي تحتلها القوش في المنطقة ، فقد تشكل وفد شعبي ليتوجه على الفور الى عشيرتي الشيخ نوري والحاج ملو المتنازعتين لقرابة العقدين من السنين من اجل المصالحة بينهم . ولكن للاسف لم تكتمل تلك المهمة الشريفة ، فقد سقط بين ايديهم الشاب هرمز اسرائيل بجوري متوفيا بالسكتة القلبية وهم في طريقهم الى قرية ( بيدا ) لمقابلة عبد العزيز الحاج ملو ، فتحملوا صعاب حمله في المسالك الجبلية الوعرة حتى مكان توقف السيارات . شارك لاحقا بمراسيم دفنه في القوش عبدالعزيز الحاج ملو ( وقد قتل في نفس العام على يد سعيد ربتكي ) ومعه مجموعة من المسلحين ، واسلتحهم منكسة وهم يشاركون في مراسم التشييع للراحل هرمز بجوري .


آخر احتفال بعيد الثورة كان في صيف 1962 ، حيث تواصلت الاغاني والاناشيد والدبكات امام المركز ( قشلة ) ، وكان ابرز متظمي الاحتفال طلبة ثانوية القوش ، وفي المقدمة سعيد يوسف اسطيفانا . بعد غياب الشمس انتشرت اشاعة مفادها ، ان مسلحين اكراد يتقدمون من الجبل لاحتلال البلدة ، فحدثت بلبلة بين الناس وانسب الحشد الكبير بشكل مضطرب الى بيوتهم ، وكذلك ارتفعت بعض الاصوات تدعوا الرجال الى حمل اسلحتهم . اتذكر جيدا كيف اسرع والدي الى البيت ونحن لازلنا في ساحة الاحتفال ليجد ابواب بيتنا موصدة ولم يصبر حتى رجوعنا مع المفاتيح ، فكسر باب الغرفة وانتشل بندقيته الانكَليزية ليصعد الجبل مع باقي المسلحين ، ويتم احتلال الجبل دون العثور على شيء . يبدوا ان ظلال الشجيرات في القمة اوحت للناس وكأنها مجاميع متجهة صوب البلدة ، وسبب ذلك الارباك ، ولكن قادة الاحتفال صمدوا في مكتنهم وواصلو الحفل حتى وقت متأخر من الليل .


بقيت ايام تموز محفورة في الذاكرة رغم مرور عشرات السنين ، وقد ارتسمت معالم الفرح الحقيقي على وجوه العراقيين الطيبة ، ومنذ ان غيّب تموز( دمّوزي ) ، لم يشهد العراق نعيما ولا استقرارا بل عاش ليلا طويلا من الاحزان والمآسي والكوارث ، ولكن الامل لم ينته ، ولازال يحدو الجميع بان ينهض وطننا ويقلب الدنيـــا رأساً على عقب ! ليطلق العنان لحصان ثورة 14 تموز الجامح نحو الافق البعيد .