اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• 14 تموز 1958 في الذاكرة

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

نبيل يونس دمان

14 تموز 1958 في الذاكرة

كنت طفلاً اتهيأ لدخول المدرسة ، عندما عاد عمّي كامل مسرعاً الى البيت والدهشة تعقد لسانه ، والفرحة ترتسم على محياه ، ليقول " لقد انقلبت الدنيا ! " . في حينها سرى خوف في اوصالي وانا احلل كلامه في مخيلتي الصغيرة التي صورت المسألة كأنها انقلاب في كل شيء ، ولكن سرعان ما هدأ روعي ، عندما شاهدت عمي يحتضن والدي ويتعانقان ، ثم يحثان جدّتي لتحرير بعض الفليسات المخبأة لايام الشدة ، اخذ عمي مبلغاً قدره 600 فلساً ليعود بعد قليل وبيده بطارية جافة كبيرة نسبياً . كان المذياع ( الراديو ) قد صمت في بيتنا اشهراً بسبب الافتفار الى المال اللازم لشراء بطارية جديدة ، والذي يمدّنا بالاخبار والاغاني ووقتذاك لم يكن الكهرباء قد دخل البلدة بعد . عبر ذلك الجهاز العجيب ، اخترق موجات الاثير صوت ليس كباقي الاصوات ، مجلجل ، مهيب ، مبشرٌ بثورة 14 تموز المجيدة .


افاق العراقيون على نبا الثورة ، فأشاع البهجة في مدنهم ، قراهم ، شوارعهم ، وبيوتهم ........ في تلك السنة المباركة دخلت مدرسة العزة الابتدائية في القوش ، ولم تمض فترة حتى شرعت ادارة المدرسة بتطبيق نظام التغذية لجميع الطلاب وتوزيع اللوازم المدرسية بالمجان وكذلك بدلات خاصة موحدة . علمني استاذي الاول رحيم عيسى كتو الابجدية الاولى وكتب على السبورة ووجهه يشع نوراً " 14 تموز " ، ونحن الصبية لا نعرف كنه ما كتب ، ولكنها انسابت حروفاً جميلة خطها بعناية المدرس ، ليقول ونحن نردد معه " عاشت ثورة 14 تموز " . ارتفع العلم العراقي ليرفرف فوق مدرستنا ، وغطت صور الزعيم عبد الكريم صور الملك في كل صف من صفوف المدرسة .

لقد شهدت فرح الثورة ، ومع الايام اغتبط الناس بها وبمسيرتها التي تبشر خيراً ، فأقيمت الاحتفالات وازدانت الشوارع الرئيسية والسوق والدوائر الرسمية كالمدارس والمستوصف الجمهوري ومحكمة بداءة القوش ومركز الناحية ( قشلــة) . على طول الشارع الممتد حتى الموصل عبر القرى : شرفية ، تلسقف ، باقوفا ، باطنايا والبلدة تلكيف ، اقامت جميعها الاعراس خصوصاً على جانبي الطريق الرئيسي .
في القوش ، نصبت هياكل حديدية على شكل اقواس على جانبي الطريق ، وزينت باغصان الاشجار التي غطت الهيكل واعطته شكل بوابة خضراء يتوسطها شعار الجمهورية وصورة الزعيم . اقيمت اول بوابة في مدخل البلدة ثم توالت البوابات الاخرى على مسافة حوالي 200 متراً ، وكانت الاخيرة امام مركز الناحية . ارتفعت الشعارات واللافتات الملونة على جانبي الشارع ، ثم بدأت المسيرة الجماهيرية والتي سبقها رتل من سيارات الاجرة بالوانها المختلفة وهي تطلق العنان لمنبهاتها ، ويباشر ساعور الكنيسة موسى قوجا بسحب حبال ناقوس الكنيسة ، وظل مدة يهتز بتلك الضربات الرنانة المتتالية ، وتصل اسماعها الى كافة اطراف البلدة والى اعلى جبلها الوديع الذي يشرف على سهل خصيب كالسندس الخلاب.
انضمت الى الاحتفال وفود الفلاحين من القرى المجاورة والكل يزهو بملابسه ورقصاته الخاصة ، فتقاطرالآشوريين اولاً بازيائهم الشعبية وصدورهم المطرزة بالاوراد شبانا وشابات في اعمار الازهار وعلى رؤوسهم تعتمر القبعة المخروطية المائلة منتصبا على جانبها الريش الزاهي بألوانه ، ووصل بعده الوفد الايزيدي بملابسه الناصعة البياض ويشاميغهم الحمراء ، واخيرا وصل وفد الاكراد المعتني جيدا بهندامه ، وليعقدوا جميعا حلقات رقص رائعة على انغام الزورنة والطبل ، ويطلقوا ايضا اغانيهم واناشيدهم في الهواء الطلق .


كان على راس المسيرة التموزية الرائعة شباب الثانوية المتقد حماسا ، والمعلمون رواد العلم والثقافة ، وكان معلمي جرجيس اسحق زرا في مقدمة المسيرة ، ومعلمي الاخر سعيد ياقو شامايا قد رسم صورة كبيرة لزعيم الثورة ، وفي احدى مراحل المسيرة عزمت على الهتاف وجدتي تقاوم رغبتي ، وانا بذلك الالحاح الطفولي سَمِعَنا استاذي الجليل جرجيس زرا فقال " ليس فيها شيء يا اُمي " ، وناولني يده ليسحبني الى صخرة عالية نسبيا فتصمت المسيرة واطلق هتافي بحياة الثورة ويحدث تصفيق ، فيما يحمر وجهي لما اقدمت عليه ويغمرني فرح طفولي لن انساه ابداً .


انجزت الثورة العديد من المشاريع في بلدتي منها تبليط ازقة البلدة ، واعادة تبليط الشارع الرئيسي المؤدس الى الموصل والذي بلط لاول مرة عام 1950 في عهد مدير الناحية عبدالله صديق الملاح ، مد شبكة المياه الى كل بيت مع نصب خزان في اعلى البلدة لتوزيع المياه . وانشأت بعض المشاريع الخاصة مثل معمل الدواجن لصاحبه منصور كجوجا ، معمل طحن الحبوب لصاحبه الياس الصفار ، ورشة تصليح السيارات لصاحبها صبري نكَارا ، معمل الثلج لصاحبه توما توماس ، كما وبنت الحكومة بناية المسلخ ولكنها اهملت وكانت في حينها اجمل بناية والان باق ٍ منها اطلالها فقط . تشكيل نقابة السواق وفتح مقر لها وانتخاب أول رئيس وهو يوسف عربو الملقب كُتي ، تشكيل رابطة المرأة وانتخاب أول رئيسة وهي صلحة حميكا( ام الشهيد فؤاد شمعون كردي) ، وتشكيل منظمة الشبيبة الديمقراطية وأتحاد الطلبة العام .

لقد خضنا نحن الطلبة اول ممارسة ديمقراطية وكان الاضراب عن الدوام احتجاجا على اعتبار يوم الاحد دوام رسمي في القرى والبلدات المسيحية ، ففي ذلك الجو السلمي الذي اوجدته الثورة ، وقف الطالب حافظ نعيم كَولا ليهتف في ساحة المدرسة ( لا دوام يوم الاحد من الآن الى الابد ) ، فردد الطلبة هتافه وخرجوا باتجاه مدرسة مار ميخا ، وسار الجميع في شوارع البلدة مرددين الاناشيد الوطنية ، وبعد ساعات جاء الجواب من بغداد ، يعتبر يوم الاحد عطلة في المناطق التي فيها الاكثرية مسيحية .
في آذار 1959 قامت مؤامرة الشواف في الموصل ، فوجهت حكومة الثورة نداءا ً عبر المذياع الى كل الغيارى والشرفاء للاسهام في اعادة اوضاع الموصل الى طبيعتها ، فهب رجال القوش الشجعان حاملين اسلحتهم الى الموصل وادوا واجبهم في قمع تلك الحركة التي اريد منها غرق العراق بالدماء ، ويقال ان بسلاء القوش اندفعوا لعبور الجسر القديم ليصلوا الى البلدية قبل غيرهم وليربطوا الجانب الايسر بالصوب الابعد ويسهم ذلك في سرعة انتهاء التمرد . وفي صيف ذلك العام عرضت مسرحية فشل مؤامرة الشواف في ساحة مدرسة العزة وبمناسبة الذكرى الثانية للثورة ، فيما غنت فتاة جميلة اغنية هندية ( هامايا هاجان ) نالت الاعجاب .


في اجواء الثورة تلك ونظرا للمكانة التي تحتلها القوش في المنطقة ، فقد تشكل وفد شعبي ليتوجه على الفور الى عشيرتي الشيخ نوري والحاج ملو المتنازعتين لقرابة العقدين من السنين من اجل المصالحة بينهم . ولكن للاسف لم تكتمل تلك المهمة الشريفة ، فقد سقط بين ايديهم الشاب هرمز اسرائيل بجوري متوفيا بالسكتة القلبية وهم في طريقهم الى قرية ( بيدا ) لمقابلة عبد العزيز الحاج ملو ، فتحملوا صعاب حمله في المسالك الجبلية الوعرة حتى مكان توقف السيارات . شارك لاحقا بمراسيم دفنه في القوش عبدالعزيز الحاج ملو ( وقد قتل في نفس العام على يد سعيد ربتكي ) ومعه مجموعة من المسلحين ، واسلتحهم منكسة وهم يشاركون في مراسم التشييع للراحل هرمز بجوري .


آخر احتفال بعيد الثورة كان في صيف 1962 ، حيث تواصلت الاغاني والاناشيد والدبكات امام المركز ( قشلة ) ، وكان ابرز متظمي الاحتفال طلبة ثانوية القوش ، وفي المقدمة سعيد يوسف اسطيفانا . بعد غياب الشمس انتشرت اشاعة مفادها ، ان مسلحين اكراد يتقدمون من الجبل لاحتلال البلدة ، فحدثت بلبلة بين الناس وانسب الحشد الكبير بشكل مضطرب الى بيوتهم ، وكذلك ارتفعت بعض الاصوات تدعوا الرجال الى حمل اسلحتهم . اتذكر جيدا كيف اسرع والدي الى البيت ونحن لازلنا في ساحة الاحتفال ليجد ابواب بيتنا موصدة ولم يصبر حتى رجوعنا مع المفاتيح ، فكسر باب الغرفة وانتشل بندقيته الانكَليزية ليصعد الجبل مع باقي المسلحين ، ويتم احتلال الجبل دون العثور على شيء . يبدوا ان ظلال الشجيرات في القمة اوحت للناس وكأنها مجاميع متجهة صوب البلدة ، وسبب ذلك الارباك ، ولكن قادة الاحتفال صمدوا في مكتنهم وواصلو الحفل حتى وقت متأخر من الليل .


بقيت ايام تموز محفورة في الذاكرة رغم مرور عشرات السنين ، وقد ارتسمت معالم الفرح الحقيقي على وجوه العراقيين الطيبة ، ومنذ ان غيّب تموز( دمّوزي ) ، لم يشهد العراق نعيما ولا استقرارا بل عاش ليلا طويلا من الاحزان والمآسي والكوارث ، ولكن الامل لم ينته ، ولازال يحدو الجميع بان ينهض وطننا ويقلب الدنيـــا رأساً على عقب ! ليطلق العنان لحصان ثورة 14 تموز الجامح نحو الافق البعيد .

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.