اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

العقل الجمعي// يوحنا بيداويد

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

يوحنا بيداويد

 

عرض صفحة الكاتب 

العقل الجمعي

يوحنا بيداويد

 

أن مصطلح «العقل الجمعي أو الوعي الجماعي» حديث لا يعدو عمره أكثر من قرن ونصف، غير مستخدم إلا عند المختصين بسبب قلة مداولته. سنحاول في هذا المقال تعريفه والتطرق عليه محاولين توضيح جوانبه وأهميته والأخطار المحدقة بنظام المجتمع في حالة زواله.

 

«العقل الجمعي» هو مصطلح يصف السلوك الجماعي لمجموعة بشرية أو «القطيع» حسب علماء الاجتماع، الذي توجد روابط مهمة بينهم مثل اللغة والوطن والدين. هو بمثابة قرار جماعي عبر اتفاق غير مباشر بينهم، مهمته هي النظر في كل الاختبارات أو الاحتمالات وجمع وتشريع ونقل المعرفة من جيل إلى جيل الذي يتبعه. عن طريق العقل الجمعي بنيت حضارات على انقاض حضارات عبر التاريخ، فهو خزين الأول لثقافة أي مجتمع وانتاجه الفكري وكل عمليات الابداع التي تسبب التطور، لان تطور وتقدم أي مجتمع يتم من خلال نشاط العقل سواء كان فردياً أو جماعياً، الذي يتراكم خلال فترة طويلة من الزمن.

 

يعد العالم الفرنسي غوستاف لوبون 1841-1931 (1)) لدى كثير من العلماء والباحثيين الأب الروحي لفكرة «العقل الجمعي أو الجماعي» والتي تهتم بدراسة سيكولوجية الأقوام المختلفة حسب وضع كيان المجتمع من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. كانت كل مؤلفات لوبون ودراساته تتمحور حول سلوك الجماعات (سواء كانت مجتمعات قديمة أو حديثة)، حول طريقة بناء انظمتها وكيفية انقلاب سلوكها عكس مبادئها في حالة سقوطها أو تقهرقرها. حسب أقواله حينما يضعف (ينهزم) راس الهرم المتمثل برئيس النظام السياسي أو الرئيس الروحي الديني، الفريق الرياضي، أو المؤسسة المالية، يبدا انحلال في المجتمع والذي يعني تدمير منتوج العقل الجمعي. غالباً يحدث ذلك بسبب انحراف المسؤول الأول عن مهمته المقدسة، عن المباديء والعلاقات التي تربط أفراد المجتمع مع بعضهم، التي كان صاغها العقل الجمعي خلال قرون !! (2).

 

نحن نعلم أن المجتمعات البشرية الأولى ظهرت في التاريخ، حينما بدأ أفراد العائلة الواحدة تتكاثر ويزداد عددها نتيجة التزاوج فيما بينها، ثم ظهر مفهوم القبلية أو العشيرة، التي تربطهم رابطة الدم القوية نتيجة الشعور الغريزي. بمرور الزمن اضطرت هذه التجمعات (العشائر والقبائل) إلى تكوين كيانات اجتماعية مغلقة، تحكمها الأعراف والتقاليد والعادات، تصل هذه المفاهيم أو المبادئ إلى مرحلة القداسة يكون متفق عليها من قبل الجميع. من أجل حماية الأنا الفردية والأنا الجماعية، ظهر مفهوم الهوية (القومية)، ووضع القوانين المدنية المتمثلة بمبادئ أخلاقية وعادات وتقاليد وثم الطقوس الدينية بالإضافة إلى تبني وطن وتطوير لهجة أو لغة خاصة بهم. لم تأت هذه المفاهيم والقوانين فجأة إلى الوجود، وإنما صيغت عدة مرات، لحين تم تصفيتها والاستقرار على صيغة نهائية التي هي متبعة من قبل المجتمع فيما بعد (3). كما قلنا ذلك لا يتم بين ليلة وضحاها وإنما من خلال الفكر أو الوعي الجماعي لهذه المجموعة البشرية عبر مئات بل آلاف السنين.

 

إن إقامة أي دراسة اليوم عن علاقات الفرد مع الدولة أو المجتمع المحيط به، يجب ان تتطرق بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى كيفية تطور الفكر الجمعي أو الوعي الجماعي عبر التاريخ مع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ان العلاقات الاجتماعية حسب بعض الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين وعلماء النفس مثل جان جاك روسو، جون ستورانت مل، غوستاف لوبون، هربرت سبنسر وكارل ماركس واوغست كونت وفرويد، هي أهم العوامل التي يقف عليها السلم والاستقرار الاجتماعي لأي مجتمع، كما ان رفاهية المجتمع وتطوره يعتمد على مرونته مع حرية الفرد. لا ننسى ان ابن خلدون (1332-1406) سبقهم جميعا في التطرق إلى دراسة سلوك وطبائع المجتمعات والأمم والشعوب، حيث كتب في مقدمته أفكاره عن أطباع الشعوب والمجتمعات قبلهم بعدة قرون.

 

حسب العالم غوستاف لوبون صاحب الكتاب (سايكلوجية الجماهير)، ان «العقل الجمعي» هي عملية الحشك في الحشد أو الاستجابة لرغبة الجماعية من غير تفكير (من غير وعي)، وهو أمر قد يبدو غير عقلاني ولكن بالتاكيد ان فرويد، مؤسس علم النفس التحليلي قد وضع هذا القرار ضمن نشاطات العقل غير الواعي(4). بالاختصار هي الموافقة على قرار الجماعي من دون الدراسة والتمعن بالعواقب، والعامل الحاسم هنا هو المزاج الجماعي أو العام، الذي يعطي تاكيد بان القرار هو صائب.

 

أما عالم الاجتماع الفرنسي ايميل دوركايم (1858-1917)، الذي يعد من الأوائل الذين درس دور مفهوم «العقل الجمعي»، حيث قام بصياغة عدة تراكيب وأوصافاً له، أهمها على انه اندماج المشاعر وتكاثفها على قواسم مشتركة، يتفق مزاج نسبة عالية من أي مجتمع على صيغة موحدة، لتشكل نظاماً مقبولاً عند عامة ذلك المجتمع، وبمرور الزمن تصبح هذه القواعد أو الأفكار ملزمة لجميع أفراده، بل تسموا إلى مرتبة قدسية التعاليم الدينية أو الأعراف حيث يقول دوركايم: «أن المعاني والمبادئ العقلية هي نتاج الفكر المجموعي، فإنها كلية ثابتة إلى حد ما ضرورية لتنظيم المجتمع ، وأن المبادئ تعلو على الفكر الشخصي، كما يعلو المجتمع على الفرد»().

 

في الختام نلخص بعض النقاط الإيجابية والسلبية المهمة لظاهرة «العقل الجمعي، أو الوعي الجماعي»:

إن وظيفة أو مهمة العقل الجمعي ظهرت في التاريخ، نتيجة حاجة الإنسان لأخيه الإنسان لصراعه مع الطبيعة، الذي تطور لاحقاً ليصبح صراعاً بين الأمم والشعوب بسبب الموارد الطبيعية مثل الأرض والماء والمراعي، الصراع الديني (عدم خضوع إلى مبادئ العقل الجمعي للطرف القوي!) وأخيراً المال والعبيد وسبي النساء.

 

على الرغم من الايجابيات الكثيرة للعقل الجمعي، مثل استقرار المجتمع وظهور الأديان وسن قوانين المدنية والاندماج الفكري بين الأمم والشعوب، لكن الزامه الإنسان الالتزام بمسؤولياته الأخلاقية والدينية والإنسانية والاجتماعية بصورة محكمة تعتبر ظاهرة سلبية نوعا ما ، لان البعض يشعر انه مكبلة لحرية الإنسان، وبالتالي تقضي على امال الفرد وتطلعاته، فيقل الابداع والتطور والتقدم والتجدد لدى المجتمعات القديمة أو المغلقة على نفسها، لان أفرادها تخاف من الحرم الذي يقع عليها في حالة خروجها من صف القطيع، بينما المجتمعات المتحررة كانت ولا زالت هي التي تخترع وتكتشف وتبدع وتتطور، لان الافق مفتوح أمام افراده لابراز عن ذاته، عن كيانه الذاتي، بهذا تحصل الأمة أو الدولة على ثمار جهوده، وبالتالي تقدمها يتم حسمه من خلال الابداع والطموح الفردي والاعتراف والدعم والتمجيد الذي يلاقيه هذا الشخص.

 

في العقود الأخيرة استخدمت المؤسسات الإعلامية طرق خبيثة في تحريف « العقل الجمعي» في المصالح التجارية عن طريق الإعلانات المزيفة البعيدة عن الحقيقة، مثل نشر أفكار تسمم مشاعر الجماهير كي يسهل خداعها. لهذا منذ أكثر من قرنين لا زالت صافرات الانذار تدق كما تدق صافرات المختبرات المراقبة لضربات الزلازل في المدن الكبيرة.

 

كثير من الناس تتاثر عاطفيا، لهذا من السهل انقيادها في القطيع، هكذا تثور الشعوب المكبوتة فجاة من خلال شرارة بسيطة كما حصل في الربيع العربي الذي بدأ من تونس.

 

في العقدين الأخيرين أصبح واضحاً وظيفة «العقل الجمعي» قد اخترق وان جدرانه قد اهتزت نتيجة تشريع قوانين مخالفة للعقل الجمعي، لصالح الفردي باسم الديمقراطية التي التي تكاد تفشل في بعض الاحيان.

 

1-     البعض ينسبه الى غابرييل دي تارد (1843 - 1904)

2-     غوستاف لوبون، سايكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم خشام صالح، دار الساقي، بيروت لبنان، 1991، ص 20.

3-     لا تقف عند حد معين وإنما يستمر التغير بصورة بطيئة، لأن العقل الفرد الفردي يغذي العقل الجمعي بتجارب وأفكار دائماً.

4-     غوستاف لوبون، سايكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم خشام صالح، دار الساقي، بيروت لبنان، 1991، ص 12.

5-    تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، مكتبة الدراسات الفلسفية، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة - مصر، 1966، ص 433.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.