اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

وليمة العيد العراقية// محمد عارف

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

وليمة العيد العراقية

محمد عارف*

 

نفدت بسرعة تذاكر أمسية باحثة أنثروبولوجيا الطعام العراقية «نوال نصرالله» في «المتحف السامي» بجامعة هارفارد، حيث تقدم وصفات وأطباق عراقية يعود تاريخها إلى العصر السومري، قبل سبعة آلاف عام، وتُعزفُ الموسيقى السومرية. وعندما طلبتُ من «نوال» أن تعوّضني «عيدية» وصفات العيد، سألتني «وماذا لا يُقدمُ في العيد». والعيد كتابها «لذائذ جنائن عدن» الذي يقع في نحو 700 صفحة من القطع الكبير، ويعرض في 21 فصلاً و116 مقطعاً 800 وصفة لطبخ الرز، والمرق، والبقول، واللحوم، والدجاج، والأسماك، والفطائر، والحلوى، والمثلجات، والمربيات، والمخللات، والمحشيات، والمشروبات التي كان السومريون يقولون عنها «الطعام هو الشيء، والشراب هو الشيء». ولذائذ العيد ليست في المآكل فحسب، بل في طقوس تناول الطعام، وآدابه، ومسامراته، ونوادره التي يزخر بها الكتاب الحاصل على أعلى الجوائز العالمية «غورماند»، وتلخصها عبارة حفيد الرسول الحسن عليه السلام «أطيلوا الجلوس على الموائد وأكثروا من الحديث فإنها أوقات لا تُحسبُ من أعماركم».

وفي أكثر بحوث نوال علمية تضحكنا ظرافتها البغدادية، حتى في عناوينها، مثل «في البداية لم تكن هناك مُسَّقَعَة»، وتبحث «الحالة الغريبة لتحولات الأطعمة». وفي بحثها «الكليجة العراقية والبحث عن الهوية» تكتشف أصول «الكليجه» المرتبطة بإلهة الحب السومرية «عشتار»، واسمها مقتبس من وحدة وزن عباسية، يتردد بلغات عدة، بالإيرانية «كلوجه»، وبالروسية «كوليج» وبالبلغارية «كولاج»، وبالأوزبكية «كاليجا». وتروي نوال كيف كانت أمها تحرصُ على إعداد «الكليجة بكميات كبيرة قبل العيد بأيام قليلة، وإلاّ فالأطفال سيأتون عليها قبل أن يأتي العيد!.. ولا عيد دون «الكليجة» بأشكالها وحشواتها المختلفة، كالتمر، والجوز والسكر والهيل، والقرفة، ويسميها العراقيون «دارسين».

ولا مائدة طعام عراقية في العيد أو غير العيد من دون الخبز، الذي قال عنه «جلجامش» بطل أول ملحمة في التاريخ «كُلِ الخبز ومجِّد الحياة». وعرف العراقيون القدماء 300 نوع من الخبز والمعجنات، وبعضها لا يزال يُخبزُ، كالخبز المُسطح، وخبز الشعير، و«لحم بعجين»، والفطاير، والسميط، و«عمامة السلطان» المعروفة منذ العصر الأكدي باسم «كوبوشو»، وأشهر المعجنات معروفة عالمياً بأسمائها العراقية القديمة، وبينها «الكيك»، وكان الأكديون يسمونه «كوكو»، و«كراكر» وكان العباسيون يسمونه «أقراص».

و300 وصفة للسلطات، والمقبلات الحارة والباردة أغربها «مُخللْ الجراد»، الذي «يصاد حياً، ويُخنق بالماء المملح، ثم يُرصف بالملح والتوابل داخل مرطبان، ويُعادُ رّشَ مائه المملح فوقه لتغطيته. ويُختمُ المرطبان بالطين ويُوضع جانباً كي يُخلل. هذه الوصفة المذكورة في «كتاب الطبخ العباسي» تتعقب نوال أصولها إلى العهد البابلي، وهي كعشرات الوصفات ووسائل الطبخ وأدواته، وحتى تسمياته تشكل الحلقة المفقودة في تاريخ العراق ما بين العصور القديمة والوسطى، وبعضها يُعتقدُ خطأً أنها فارسية، و«نوال» تقتفي أصولها البابلية والسومرية.

ولا طعام عراقي من دون «مرقة»، واخترتُ للعيد «السُمّاقية»، وهي مرقة لحم دسم تُطبخُ بعصير«السُمّاق»، تُسمى أيضاً «الهارونية» نسبة إلى هارون الرشيد وكانت أكلته المفضلة، يروي تفاصيل إعدادها «كتاب الطبيخ للبغدادي»، من القرن الثالث عشر ميلادي، وفيها تُغلى قطع اللحم الدسمة حتى تستوي تقريباً، وتضاف شرائح جزر، وبَصَل، وكُرات، وباذنجان، ويُغلى في وعاء آخر السُماق بالملح ولباب الخبز، يُصّفى، وتضاف إليه كرات اللحم المُتّبَل بالكُزبرة الجافة، والكمّون، والفلفل، والزنجبيل، والقرفة، وغصينات نعناع طازجة. ويذكرُ كتابُ طبخ إيطالي من القرن الخامس عشر الميلادي هذا المرق، مع أنواع المرق الحامضة الحلوة، مثل «مرقة الرُمّانية»، و«مرقة الليمونية»، و«مرقة المأمونية»، نسبة إلى الخليفة العباسي المأمون. وتستدعي «نوال» في ذكرها أغنية موصلية تُشّهي وتحذر من دسامتها «يا سُمّاق يا سُمّاق، أكله دهينة ما تنذاق»!

 

 

* عندما سلّمت هذه المقالة للنشر وقعت جريمة الكرادة، التي لها منذ الطفولة أجمل الذكريات، فليكن ما كتبته هنا تحية للراحلين والباقين في كرادة الحب واللذائذ، التي بقيت في أسوأ الأيام كرادة أطيب المطاعم وكاليرهات بيع أعمال الفنانين العراقيين.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.