اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

وارشو الجميلة الصعبة// محمد عارف

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

وارشو الجميلة الصعبة

محمد عارف

مستشار في العلوم والتكنولوجيا

 

نساء بولونيا أجمل النساء، بعد نساء العرب طبعاً. وهل أنسى جمال رعاية وحنان زميلاتي في صحيفة «الأخبار» بالقاهرة، حيث بعثتني جامعة «بطرسبرغ» للتدريب. آنذاك نَشَرتْ مجلة «روز اليوسف» قصتي بعنوان «حانة التمساح في وارسو»، وتبدأ هكذا: «كانت بربارا تنظر إلى وجهها في مرآة المغسلة وتتجشأ وتضحك.. فَكّرتُ بأن أصفعها.. شددتها من شعرها وجذبتها نحوي فاغرورقت عيناها بالدموع، لكنها لم تكُفّ عن الضحك. صرختُ في وجهها: لم تكن أمك المرأة الوحيدة في (معتقل أوشفيتز).. كانت هناك نساء من كل أوروبا. قالت: أوه، كثير جداً. لم يحدث أن اجتمع هذا العدد الكبير من النساء القرعاوات في مكان واحد.. أمي تقول: الألمان كانوا يصنعون حقائب وسجاجيد من شعر النساء. وانحنت نحو المغسلة، أحسستُ بالغثيان فتركتُ شعرها يفلت من يدي».

جرت أحداث القصة خلال دراستي في جامعة وارسو، والآن رغم سقوط النظام الشيوعي في بولونيا، تظل علاقة وارسو الجميلة صعبة مع الاتحاد الأوروبي، وملتبسة مع ألمانيا، مثل «بربارا» في قصتي: «فليأخذكِ الشيطان يا بربارا.. ليأخذكِ الشيطان». كنتُ أريد أن أشتمها بقسوة أكبر. أنا أعرف شتائم فظيعة باللغة البولونية، لكني ابتعدتُ عنها.. تركتها وحدها في غرفة (التواليت)، وأطبقتُ الباب خلفي بقوة. كانت زرقة كثيفة تهوم في صالة الرقص، مشوهة الوجوه، وعلى منصة الأوركسترا كان جيتار أحمر يضيء وحده في الدخان المعتم. وعدتُ إلى مائدتنا. وشعرتُ أن بربارا تحدق بي. كانت تبتسم، سألتني: وهل يرقص العرب مثل هذا؟ قلتُ: لا. سألتْ: كيف يرقصون إذن؟ أجبتُ: ليس بهذا الشكل. أخذتْ بربارا بكفي بين كفيها، وسألت: كيف يرقصون إذن؟ قلت لها: لكنه ليس رقصاً حقيقياً.. إنهم يستعملون صحناً من الجلد يضربون عليه يسمونه الدَفْ. سألتْ: ها.. ها.. كما في أفريقيا؟. قلتُ: لا، أنظري، إنهم يهزون رؤوسهم هكذا ويهمهمون بنغمات رتيبة، ثم تسرع ضربات الدف وتزداد سرعتهم، وهم يهزون رؤوسهم وأكتافهم.. ثم يهزون أجسادهم كلها، ويستغرق الرقص فترة طويلة بحيث يفقد بعضهم وعيه فيركض نحو الجدار ويضربه برأسه، وهو يصرخ بكلمات غير مفهومة. قالت بربارا: أوه.. مدهش! دعنا نجرب الرقص العربي. وأخذت تهزّ رأسها كالدراويش. قلتُ: بربارا، لنفعل شيئاً آخر. أنا لا أحب هذا. قالت ضاحكة: أنت ساذج كالحصان.

وأخذت تضحك بشكل قبيح كما كانت تفعل في غرفة «التواليت». التفتُ مفتشاً عن النادل، كان يعدُّ نقوداً في الزاوية، ولم يكن قد بقي في حانة التمساح غيرنا. سألتُ بربارا أن نغادر، لكنها أخذت تحيطُ لهب الشموع فوق مائدتنا بأناملها وتطفئها. سألتني: هل تعرف شارع (نوفي شفيات)؟. قلت: طبعاً أعرفه.. إنه ليس بعيداً من هنا. قالت: وتعرف ذلك الجدار حيث يوقدون الشموع في يوم ذكرى الأموات؟ أجبتُ: أوه طبعاً.. طبعاً. وناديت ُ على النادل طالباً منه قائمة الحساب. كنتُ أعرف أنها ستبدأ تحدثني عن أبيها البولوني، وتقول: أعدمه الألمان في شارع نوفي شفيات لأنه قاتل في حركة المقاومة.

تناولتُ قائمة الحساب من النادل وسألتُها: وهل حدث هذا في معتقل أوشفيتز؟.. قالت بربارا: أقول لك هذا حدث في وارسو، هنا في شارع نوفي شفيات! قلت: لكنكِ أخبرتِني أن أمك ولدتك بعد سنة من دخولها المعتقل. أليس كذلك؟. قالت: وماذا تريدُ أن تقول؟. لم أجبها.. وبقيتُ أتطلعُ في قائمة الحساب. قالت بربارا: ماذا تريد أن تقول؟ مَدَدَتُ يدي في جيبي لأدفع للنادل، وأخذَتْ بربارا تصرخ: حسناً إنه أبي.. هل تسمعني. أبي. أبي. أبي. ناولتُ النادل نقوده وسحبتُ من فوق المائدة منديلاً ورقياً وأخذتُ أمسح به وجهي».

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.