كـتـاب ألموقع
شخابيط ذات معنى: الطبيعة البشرية بين الذات والحقيقة// د. عامر ملوكا
- المجموعة: عامر ملوكا
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 04 نيسان/أبريل 2025 21:22
- كتب بواسطة: د. عامر ملوكا
- الزيارات: 733
د. عامر ملوكا
شخابيط ذات معنى: الطبيعة البشرية بين الذات والحقيقة
د. عامر ملوكا
يميل الإنسان بطبيعته إلى الانحياز لذاته، مدفوعًا برغبة غريزية في تعزيز صورته أمام نفسه وأمام الآخرين. ينظر الكثيرون إلى أنفسهم في مرآة أذهانهم بصورة مثالية، مقتنعين بأن تقييمهم لأنفسهم هو الأصدق، بينما يرون في أحكام الآخرين قصورًا أو تحاملًا. هذه النزعة النفسية ليست مجرد وهم فردي، بل هي جزء من الطبيعة البشرية التي تتجلى في مختلف جوانب الحياة، من القرارات الشخصية إلى العلاقات الاجتماعية وحتى كيفية تقديم الإنجازات والتفاخر بها.
لطالما سعى الإنسان إلى إحاطة نفسه بمن يؤكدون صحة أفكاره ويشاركونه رؤيته، مما يعزز قناعته بأنه دائمًا على صواب. يتجلى هذا الوهم بشكل خاص في القادة والمفكرين، الذين قد يكونون واثقين تمامًا بصحة قراراتهم، غير مدركين أن الزمن وحده هو القاضي الأخير. فالتاريخ مليء بأشخاص اعتبروا أنفسهم عباقرة أو مصلحين، لكنهم اكتشفوا لاحقًا أن حكم المجتمع عليهم لم يكن كما تخيلوا. على سبيل المثال، هناك مفكرون لم يُقدَّروا في حياتهم، لكن بعد رحيلهم، ومع زوال الضغوط الاجتماعية والمصالح الشخصية، تغيرت نظرة الناس إليهم، وتم تقييم إرثهم بصورة أكثر موضوعية.
إن تقييم الإنسان في حياته يكون محكومًا بمشاعر متضاربة، من الحب والولاء إلى الغيرة والحسد، ومن الإعجاب الأعمى إلى التشكيك القاسي. لكن بعد الرحيل، حين يغيب التأثير الشخصي، تبدأ الحقيقة في التشكل. مثال على ذلك، فنسنت فان كوخ، الذي عاش حياة مليئة بالمعاناة وسوء الفهم، ولم يبع سوى لوحة واحدة في حياته. لم يكن العالم مستعدًا لتقديره آنذاك، حيث كانت نظرة المجتمع إليه مشوشة بالمفاهيم السائدة عن الفن والجنون والابتكار. لكن بعد وفاته، أُعيد تقييم أعماله بعيدًا عن تلك الأحكام المسبقة، ليصبح واحدًا من أعظم الفنانين في التاريخ.
في المقابل، هناك شخصيات حكمت شعوبها بقبضة من حديد، وأحاطت نفسها بالمديح والتبجيل في حياتها، لكنها بعد رحيلها وجدت نفسها أمام مراجعة قاسية من التاريخ، حين زال الخوف، وانطلقت الأصوات بحرية، وظهرت الحقيقة المجردة. لكي يكون التقييم عادلًا، يجب أن يتحرر من المؤثرات التي تعكر صفوه، والتي تشمل المصلحة الشخصية، حيث يمدح البعض أو يذمون بناءً على منافعهم الخاصة، والخوف من الضغوط الاجتماعية التي تمنع الأفراد من التعبير عن آرائهم الحقيقية، بالإضافة إلى الغيرة والحسد اللذين قد يدفعان البعض إلى التقليل من شأن الآخرين، والتأثير العاطفي الذي يجعل الحب أو الكراهية يشوهان الحكم العادل.
لكن بعد وفاة الإنسان، تبدأ هذه العوامل في التلاشي، ويصبح التقييم أكثر موضوعية. يُسمع صوت من أحبه ومن لم يحبه، وتتجلى الآراء بصورتها الأكثر صدقًا. هنا فقط يصبح بالإمكان رؤية الإنسان كما هو، مجردًا من الأوهام والمجاملات والمصالح الشخصية. الحقيقة ليست ملكًا لأحد، ولا يمكن للإنسان أن يكون القاضي الوحيد لنفسه. إن إرث الإنسان الحقيقي لا يكمن فيما يقوله عن نفسه، بل فيما يتركه في قلوب الآخرين وعقولهم بعد رحيله. وفي النهاية، تبقى الأعمال وحدها الشاهد الصادق على قيمتنا الحقيقية، إما لترفعنا فوق الزمن، أو لتكشف زيف ما كنا نظنه حقيقة.
المتواجون الان
598 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع