اخر الاخبار:
سقوط طائرة مسيرة "مفخخة" في أربيل - الخميس, 19 حزيران/يونيو 2025 19:42
الخارجية العراقية تخلي موظفيها في إيران - الخميس, 19 حزيران/يونيو 2025 10:50
دوي انفجارات جديدة في طهران - الأربعاء, 18 حزيران/يونيو 2025 19:01
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

شخابيط ذات معنى, الأعمال الخالدة: بين خدمة الأنا وخدمة الاخر// د. عامر ملوكا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. عامر ملوكا

 

عرض صفحة الكاتب 

شخابيط ذات معنى, الأعمال الخالدة: بين خدمة الأنا وخدمة الاخر

د. عامر ملوكا

 

حين نتأمل مسار التاريخ الإنساني، لا يدهشنا حجم ما شُيد من إمبراطوريات، ولا ما صرف من أموال، بل ما يظل حيا في الذاكرة الجمعية هو تلك الأعمال التي وُلدت من رحم العطاء والايثار، لا من شهوة التملك. فالعظمة، في حقيقتها، لا تُقاس بكثرة ما نملك، بل بمدى ما نمنح. إنها لا تُسجل في دفاتر المصارف، بل في ضمائر الناس وقلوبهم، حيث لا تزول ولا تطمس.

 

كم من رجال أعمال صنعوا المجد المالي، وأقاموا معامل ومصانع، وارتفعت أسماؤهم على ناطحات سحاب، لكنهم انطفأوا لحظة موتهم، كما ينطفئ ضوءٌ بلا حرارة. لا يعود أحد لذكرهم، لأنهم عاشوا في قوقعة الأنا، ورأوا في نجاحهم امتيازا شخصيًا لا مسؤولية مجتمعية. بنوا ثرواتهم ليخدموا دوائرهم الضيقة: أنا، عائلتي، شركائي. اختزلوا المعنى في التوريث، متناسين أن الثروة التي لا تصنع فرقًا في حياة الآخرين، لا تورِّث اسما ولا تخلد ذكرا..

 

في إحدى زياراتي لقرية نائية شمال العراق، أخبرني شيخ مسن عن رجلٍ لم يكن يملك شيئًا سوى كتب قديمة، فتح بها صدور الصغار على عوالم جديدة. لم يكن مشهورا، لكنه حيّ في قلوبهم حتى اليوم. حينها فقط أدركت الفرق بين من يترك عقارا ومن يترك أثرا. "ولهذا كلما ابتعدنا عن دائرة الانا كلما كبرت دائرة الناس الطيبين من حولنا وقد تمتد لتشمل العالم كله.

 

في السياق العربي، لا نفتقر إلى الأمثلة. نتذكر أحد كبار رجال المال، الذي امتلك العقارات والبنوك وتسيّد السوق لفترة طويلة، لكنه لم يُعرف عنه يوما تبرعٌ لمستشفى، أو دعمٌ لمؤسسة تعليمية، أو حتى برنامج إنساني واحد. بعد وفاته، تفككت إمبراطوريته بين الورثة، وتلاشت سمعته مع غبار الأيام. أما الناس، فلم يبكوه، لأنهم لم يعرفوا له اية اعمال خيرية تستحق البقاء في الذاكرة.

 

في المقابل، تبرز نماذج مضيئة، لم تكن الثروة فيها نهاية الطريق، بل بدايته. تأمل سيرة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي لم يكتفِ ببناء دبي كعاصمة اقتصادية وثقافية، بل أطلق مؤسسات إنسانية، ومدّ يد العون لعشرات الدول عبر مبادرات في التعليم والصحة والغذاء. لم ينظر الى المال كغاية، بل وسيلة لبناء مجتمعات نابضة بالكرامة والمعرفة. اسمه اليوم يتردد في مدارس أفريقيا كما يتردد في مراكز البحث العلمي في الشرق الأوسط، لا لأنه جمع المال، بل لأنه أعاد توجيهه حيث الحاجة..

 

على الصعيد العالمي، نجد كارنيجي، الذي أنفق الجزء الأكبر من ثروته لبناء مكتبات عامة ومراكز ثقافية، لأنه أيقن أن المعرفة لا تموت. وعلى النقيض تمامًا، الأم تيريزا، التي لم تكن تملك شيئًا، لكنها أغنت العالم بمعناها، وظلها، ومثالها.

 

ربما يبدو القول المتداول "ما من مال كثير جُمع إلا وخلفه خطيئة" قاسيا بعض الشيء، لكنه يسلط الضوء على واقع مرير: في زحمة السعي المحموم نحو الربح، كثيرا ما تدهس القيم، وتُغفل العدالة، وتخدر الضمائر. غير أن الفارق كل الفارق، أن بعضهم ينتبه في لحظة صدق، فيعيد النظر، ويختار أن يُخلّف أثرًا لا يُمحى، أن يُقال عنه بعد الرحيل: "مرّ من هنا رجل، فغيّر شيئا في هذا العالم."

 

والواقع أن المجد الإنساني لا يُكتب بأحرف ذهبية فقط، بل بأفعال بسيطة قد لا تلتقطها عدسات الإعلام. طبيب يخصص من وقته يوما لعلاج الفقراء، شاب يبني مكتبة في حيّ شعبي، رجل أعمال يموّل منحة دراسية لطالب مهدد بترك مقعده الجامعي... كل هؤلاء يكتبون أسماءهم في السجل الأبقى: ذاكرة الناس.

 

إن من بنى مدرسة في قرية نائية، أو دار أيتام في حي منسي، أو حفر بئرا في أرض عطشى، ترك أثرا أبقى من القصور. هؤلاء تُردّدهم الألسن بعد رحيلهم، وتترحم عليهم الأرواح التي استفادت من عطائهم.

 

هناك من يرحلون دون أن يتركوا خلفهم سوى أرشيف بنكي... لا روح، لا ذكرى، لا دعوة صادقة من قلب عرفهم: فهم يموتون مرتين مرة حين يتوقف نبضهم، ومرة حين تُطوى سيرتهم في صمت لا رجعة فيه.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.